الاقتصاد السلوكي وإغراء الاستهلاك

فئة :  مقالات

الاقتصاد السلوكي وإغراء الاستهلاك

الاقتصاد السلوكي وإغراء الاستهلاك

تحضر في حياة الناس اليوم مختلف الصور والإعلانان واللوحات الإشهارية التي تقرب الجمهور من هذا المنتوج أو ذاك، إلى درجة صارت مختلف اللوحات الإشهارية تظلل الشوارع الكبيرة والصغيرة في مختلف المدن عبر العالم، وهي نفس اللوحات الإشهارية بصيغة فنية أخرى على شكل كبسولات إشهارية، التي تغزو شاشات الهواتف دون إذن من أصحابها، وهي تحثهم على اقتناء هذا المنتوج أو غيره، وهي نفسها مرة أخرى قد نجدها تمرر بطريقة فنية أخرى عبر مختلف المحطات التلفزية.

صحيح أن مختلف هذه الإعلانات وغيرها لا تكره أحدًا على أن يقبل هذا المنتوج ويعرض عن غيره، لكنها توحي للمتلقي؛ أي جمهور الناس وفق مرحلة عمرية مستهدفة، أن المستهلك يستحق ذلك المنتوج، وهو أولى به دون غيره، وأن حياته ستتغير إلى الأحسن بوجود ذلك المنتوج، وبأنه يضيف قيمة ما لحياته عند حيازته، فأهم ما تقوم به اللوحات الإشهارية والإعلانات التجارية والكبسولات الدعائية لمختلف المنتوجات هو إغراء الجمهور وجذبهم نحو منتوج بعيه دون آخر، في حالة من التنافس الحاد بشكل غير معلن بين مختلف الدعايات لنفس المنتوج المتنوع من جهة النوع أو الشكل. هذا الوضع اليوم المبني على توصيل صورة ذهنية عن الشيء قبل وصوله بذاته إلى يد المستهلك، أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حالة الاقتصاد والمال والأعمال عبر العالم. الى درجة يستحيل معها اليوم تسويق منتج بصيغة أوسع دون أن يمر ذلك عبر عالم الصورة والإعلان والإشهار. السؤال هنا. هل كل هذا الكم الهائل من الإعلانات والدعاية التسويقية لمختلف المنتوجات تمر دون دراسة لمختلف سلوكيات الفئة المستهدفة من جمهور المستهلكين؟ الجواب هو أن مختلف تلك الدعايات تسبقها دراسات وفهم لنفسية المستهلك، وطبيعة اندفاعاته الذاتية في علاقة ذلك بالمحيط والجغرافيا التي يعيش فيها؛ بمعنى الاقتصاد اليوم تسبقه عملية الوعي بمعرفة سلوك المستهلك. ماذا يطلب المستهلك؟ وما هي دوافعه؟ قبل الحديث عن المال والأعمال، وهو ما يسمّيه المختصون بالاقتصاد السلوكي.

الاقتصاد السلوكي هو ذلك الاتجاه في البحث والمعرفة الذي يركز على فهم ودراسة تأثير العوامل النفسية، مثل العواطف والتحيزات الإدراكية، على القرارات الاقتصادية للأفراد والمؤسسات، بهدف معرفة لماذا يتخذ الناس قرارات غير عقلانية في بعض الأحيان، وكيف يمكن استخدام هذه المعرفة لتحسين عملية صنع القرار في مختلف المجالات...يعنى الاقتصاد السلوكي بتحليل القرارات الاقتصادية والمالية التي يتخذها كل من الأفراد والمؤسسات القائمة بوظائف اقتصادية، مثل: المستهلكون، المقترضون والمستثمرون عن طريق دراسة العوامل الاجتماعية والفكرية. المختصون بعلوم السلوك لا يهتمون فقط بآثار الأفراد والمؤسسات على الأسواق، بل يهمهم أيضا قرارات العامة وأفراد المجتمع على الصعيد الاقتصادي. علم الاقتصاد السلوكي هو ذلك الاتجاه الذي حصل فيه نوع من التقاطع بين الاقتصاد وعلم النفس.

هناك كمٌّ هائل من الدراسات والأبحاث في علم الاقتصاد السلوكي يكفي لملء مكتبةٍ كاملة. وجلها تنظر في الدوافع التي تحرِّكنا لاتخاذ القرارات الاقتصادية، وفي مدى خضوعنا للمؤثِّرات الاجتماعية، وكيف ولماذا نرتكب الأخطاء، وكيف نُصيب ونُخطئ في تقييمنا للمخاطر، ولماذا ننزع إلى التفكير على المدى القريب فقط، وكيف تؤثِّر شخصيتُنا وحالاتُنا المزاجية والانفعالية في اختياراتنا وقراراتنا.[1]

وعلى الرغم من تعدد الأبحاث والدراسات في هذا المجال، فصيغة الاقتصاد السلوكي من جهة التعرف على الاقتصاد السلوكي والإحاطة بأبعاده وخفاياه، أمر غير متداول بالشكل الكافي؛ إذا في الغالب من ينصرف الفهم عنما نسمع كلمة اقتصاد إلى جانب المعاملات المالية والعرض والطلب والربح والخسارة والحساب والمحاسبة والبوصة والأسهم... لكن من وراء كل هذا يحضر القرار الذي تتخذه مؤسسة أو شخص بعينه، والقرار بشأن عملية اقتصادية في الغالب يأتي نتيجة دراسة السوق، وخاصة ذلك الجانب المتعلق بالمستهلك وخياراته والمجال والطبيعة وما يقبل عليه الناس اجتماعيا وما يعرضون عنه؛ بمعنى الإحاطة بالسلوك سواء تعلق الأمر بالمستهلك أو المنتج، وهي مسألة حاضرة بشكل مباشر أو غير مباشر في اتخاذ القرار الذي يجلب مصلحة اقتصادية تتعلق بالنمو والربح، أو بالحد من منزلق نحو تراجع في النمو الاقتصادي.

يصف معظم علماء الاقتصاد الأفراد بأنهم ماهرون في الحسابات الرياضية؛ بمعنى أنهم قادرون على حساب تكاليف وعوائد اختياراتهم المالية بمختلف العملات المالية، بكل سهولة وبدقة، ودون التأثُّر بتصرفات الآخرين من حولهم. وينطلق غالبيةُ علماء الاقتصاد التقليديين في تفسيراتهم من افتراض أن سبب ظهور المشكلات الاقتصادية هو إخفاقُ الأسواق والمؤسَّسات الداعمة لها، لا أخطاء يقع فيها الأفراد؛ إذ تُوجد عوائقُ تمنع الشركات الناشئة الصغيرة من دخول الأسواق، في حين تسمح للشركات المحتكرة الكبيرة ذات رؤوس الأموال الضخمة بالسيطرة على الأسواق ورفع الأسعار والتحكُّم في حجم الإنتاج. كما أن المعلومات قد تكون منقوصة.[2]

في حين يستخدم علماء الاقتصاد السلوكي غالبًا التجارب لجمع البيانات، على عكس المنهجية التجريبية التقليدية، التي تستخدم الطرائق القياسية الإحصائية في تحليل البيانات التاريخية المنشورة التي جمعتها الحكومات ووكالات الإحصاء الدولية. في كثير من الأحيان، يحاول علماء الاقتصاد السلوكي استخلاص استنتاجات حول عمليات التفكير والمشاعر لدى الأفراد، حتى دون معرفة العوامل المحددة التي تؤثِّر في عملية اتخاذهم للقرارات. ولا تفيد مصادر البيانات الاقتصادية التقليدية كثيرًا في هذا الشأن؛ لأنها تركِّز على الاختيارات المرصودة ونتائجها (مثل إحصائيات العمالة والبطالة في سياق الاقتصاد الكلي). ويستطيع علماء الاقتصاد السلوكي الاعتماد على البيانات الاستقصائية؛ على سبيل المثال، تُضمَّن الآن أسئلة متعلقة بتقدير الأشخاص لسعادتهم ورفاههم في الدراسات الاستقصائية التي تُجرى على الأسر المعيشية. لكن الاستقصاءات لها بعض أوجه القصور؛ كيف يحدد الباحث العينة النموذجية؟ وكيف يتعامل مع الإجابات الكاذبة أو التي يُعوِزها الفهم على أسئلة الاستقصاء؟ لم يقف علم الاقتصاد السلوكي عند هذا الحد، بل يمكن أن تُسهِم البيانات المستمدة من علم الأعصاب، عند دمجها مع البيانات المستمدة من التجارب، في إلقاء الضوء على بعض العوامل المهمة التي تؤثِّر في عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية.[3]

والحقيقة أن علم الاقتصاد السلوكي ليس أمرًا جديدًا وغير غير مسبوق، فجل علماء الاقتصاد يتحدثون ويستحضرون في مختلف تحليلاتهم موضوع «الحوافز». فالحوافز هي العامل الرئيسي في التحليل الاقتصادي، فعامل الحوافر في بعده الاجتماعي والثقافي وفي علاقة كل ذلك بمختلف طباع وميول الناس، يكون لها أثر مباشر على اتخاذ القرار في الإقبال على شراء هذا المنتج دون غيره، وهي مسألة لا يغفل عنها المختصون في عالم المال والأعمال، فالحوافز المالية والاجتماعية والسلوكية تكون من وراء حركة الأسواق التي تستجيب لمختلف حوافز الأفراد والشركات المختلفة، والحوافر في جانب مهمٍّ منها تعود إلى ما يرتبط بسلوك وطباع وخيارات الفرد أو الجماعة.

يقسم علماء الاقتصاد السلوكي التأثيرات على قراراتنا واختياراتنا؛ أي الحوافز أو الدوافع إلى دوافع داخلية ودوافع خارجية. الدوافع الخارجية ترتبط بالحوافز والمكافآت المنبعثة من خارج ذواتنا كأفراد؛ على سبيل المثال عندما يشجعنا العالم والأشخاص الموجودون حولنا على فعل شيء كنا سنتردَّد في فعله لولاهما. في هذه الحالة، تتأثَّر أفعالنا بشيءٍ خارج عن ذواتنا؛ أي إننا نحتاج إلى دافعٍ خارجي في شكل حافز للقيام بها. وتعكس الدوافع الداخلية تأثير أهدافنا ومواقفنا الذاتية على أفعالنا. قد يشجِّعنا دافعٌ ذاتي على بذل الجهد من أجل أنفسنا لا من أجل تحصيل مكافأةٍ خارجية. وعندما نستمد الدافع من شيءٍ داخل ذواتنا، كالفخر الوظيفي أو الشعور بالواجب أو الولاء لقضيةٍ ما أو المتعة من حل لغز أو المتعة من النشاط البدني، فإننا لا نحتاج إلى حوافزَ خارجية. عندما نلعب لعبة الشطرنج أو الورق أو ألعاب الكمبيوتر.[4]

المشكلة هنا أن الاقتصاد السلوكي اليوم في عالم الرقمنة والذكاء الاصطناعي، من السهل حصر غايته في تحقيق كل ما يخدم السوق ويوسع دائرة الاستهلاك؛ إذ تصل مختلف الإعلانات ومختلف الحوافر إلى ملاين الهواتف، بشكل يتوافق مع اهتمام وميول كل شخص حسب عمره وما يقبل، السؤال هنا هل الاقتصاد السلوكي يراعي القيم أخلاقية مع المستهلكين؟ بدل التلاعب بمشاعرهم ودفعهم لاتخاذ قرارات غير عقلانية، وهو سؤال لا يمكن الجواب عنه بشكل عملي إلا من خلال طبيعة وعي المستهلك فهو سيد القرار، إما أن يعي مخاطر ومنزلقات الاقتصاد السلوكي، وهنا نتحدث عن المستهلك الواعي بمصلحته، وهو سيد الموقف، أو يصبح جزءًا من دائرة الاستهلاك غير الواعي.

[1] ميشيل باديلي، الاقتصاد السلوكي، ترجمة أسماء الطيفي، مراجعة سارة ياقوت، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط.1، 2025م، ص. 18

[2] نفسه، ص. 14

[3] نفسه، ص.17

[4] نفسه، ص. 22