البحث عن الذات: محطات في الذاكرة

فئة :  حوارات

البحث عن الذات: محطات في الذاكرة

البحث عن الذات: محطات في الذاكرة

د. حسام الدين درويش:

مساء الخير جميعًا؛

الغرض من هذا اللقاء هو أن تقدِّم لنا الدكتورة ميادة كيالي نفسها، لن أقول في صيغة اعترافات، بل في صيغة عرض لمراحل من تاريخها. سنحاول أن ننظر إلى هذه المراحل من أكثر من زاوية، لكن في هذا التقديم الأوّلي ستكون محاولة لرؤية ميادة الإنسانة، والمثقفة، والمفكّرة، والمديرة، والمهندسة، من مختلف الجوانب.

سأبدأ مباشرة بالسؤال الذي اتفقنا عليه، وهو أن كلّ إنسانٍ يمرّ عادةً بمرحلة المراهقة، تلك المرحلة التي يمكن أن نسميها "مرحلة الرفض"، وهي تأخذ أشكالًا وصيغًا ودرجات مختلفة من القوة. إذا حاولنا أن نعرفك من خلال المرحلة الأولى من الرفض، لا سيما فيما يخصّ الفكر عمومًا، وهي المرحلة التي بدأتِ فيها بتكوين شخصيتك، بعد أن تشكّلت مبدئيًّا من خلال التربية، في المراحل الأولى، فماذا تقولين عنها؟

د. ميادة كيالي:

أرى تلك المرحلة بداية تشكّل صوتي الخاص، اللحظة التي بدأتُ أجرؤ فيها على قول "لا"، لا رفضًا عبثيًّا، بل بحثًا عن ذاتي وعن حقّي في الفهم والاختيار. نشأتُ في بيت يسوده التدين الطبيعي، التدين الذي لم يكن قائمًا على التراتب الصارم بين الذكور والإناث، بل على شيء من التعاون والمساواة التي كنت أراها آنذاك أمرًا بديهيًا. لكنني، بطبيعتي الميّالة إلى التساؤل، لم أكتفِ بما تلقيته من إيمانٍ موروث؛ إذ كان في داخلي شعور روحيٌّ قويٌّ، يقابله في الوقت نفسه تمرد على النظرة السائدة للدين. منذ سنوات الإعدادية، بدأت أطرح على نفسي أسئلة لم أجد لها إجابات جاهزة: كيف يكون القرآن متعبَّدًا بتلاوته فقط؟ ولماذا لا أقرأه لأفهم معناه، وأستخلص منه دلالات جديدة؟

في تلك المرحلة، لم يكن تمرّدي مقتصرًا على الأفكار الدينية التقليدية، بل شمل حتى ممارسات العبادات. كنت أختبر الصوم والصلاة وفق ما أقتنع به داخليًّا، أحيانًا في العلن وأحيانًا في الخفاء، كنوعٍ من المصالحة بين إيماني الداخلي وما هو مفروض خارجيًّا. أتذكر أنني صمتُ رمضان كاملًا دون أن أقطع صومي خلال فترة الدورة الشهرية، وكان ذلك بالنسبة إليّ موقفًا شخصيًّا يعكس إيماني بالله أكثر مما يعكس التزامًا بالتقاليد. لم أكن أجرؤ على الإفصاح عنه، لكنني كنت أشعر بفرح خفي؛ لأنني اخترت أن أعيش ديني بما ينسجم مع قناعتي لا بما يفرضه الآخرون. لقد كانت تلك البدايات بذرة وعي مبكر، حملتُها معي فيما بعد، حين صرت أؤمن بأن الإيمان الحقيقي ليس تكرارًا لما ورثناه، بل سعي دائم لإعادة قراءته بروح حرّة وعقلٍ مسؤولٍ.

د. حسام الدين درويش:

التمرد في المسألة الدينية أو في المواضيع المتعلقة بالأفكار الدينية، هل كان هذا تمرّدًا معرفيًّا؛ بمعنى أنه نابع من وجود أمور غير مقنعة أو بلا أسس معرفية يمكن مناقشتها، أم كان تمردًا أخلاقيًّا؛ أي نابعًا من رفض بعض الأحكام كمسألة أن المرأة والكلب الأسود ينقضان الوضوء؟ باختصارٍ، هل كان التمرد نابعًا من أسس معرفية أم أخلاقية أم من كلا الأمرين معًا؟

د. ميادة كيالي:

كان تمرّدي معرفيًّا وأخلاقيًّا في آنٍ معًا. لقد نشأت في بيتٍ منحني، بفضل والدي، شعورًا عميقًا بأنني لست أقلّ شأنًا من أخي الذكر، وأن طاقتي وإمكاناتي تضاهي إمكاناته، وهذا ما جعلني منذ وقت مبكر أرفض أيّ تصور ينتقص من قيمة المرأة، أو يُعيد إنتاج دونيتها. لكن، في المقابل، كان هناك ما لا أستطيع تقبّله من أحكام أو روايات أُريد لنا أن نأخذها على أنها مسلّمات. أذكر حادثة في الصف التاسع حين ناقشت أحد الأحاديث النبوية: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب". واجهني شخصٌ حينها بسؤال بدا بسيطًا، لكنه كان عميق الأثر: "هل ما زال التراب ضروريًا في زمن المطهّرات والمعقّمات؟". في تلك اللحظة، وجدت نفسي أمام مفترق: إما أن أكرّر ما اعتدت عليه من أجوبة جاهزة، أو أن أتحلّى بالشجاعة لطرح السؤال من جديد: هل يمكن أن تظلّ هذه الروايات معزولة عن نقد العقل والتجربة الإنسانية؟

منذ ذلك اليوم، بدأت أتعامل مع الدين لا بوصفه منظومة مغلقة من الأوامر، بل مجالًا مفتوحًا للتساؤل وإعادة النظر. اعترفت لنفسي أوّلًا أنّني ذات كاملة، أملك القدرة على التفكير والتعلّم، وأنّي مسؤولة عن وعيي واختياراتي. ومع تراكم القراءات والخبرة، صار تمرّدي فعلًا معرفيًّا واعيًا، رفضًا لكل ما يُراد له أن يُقدَّم تحت شعار "لا تسألوا". لقد تحوّل هذا التمرد المبكر إلى جوهر مساري الفكري لاحقًا: الإيمان الذي لا يُمحّص بالعقل، ولا يُستنطق بالأخلاق، يظلّ ناقصًا، ويظلّ عاجزًا عن أن يكون إيمانًا حيًّا.

د. حسام الدين درويش:

وكأن السؤال ممنوع في أمور لا ينبغي التساؤل حولها. يكون التمرّد عادةً في مواجهة مجتمعٍ قامعٍ، فيكون التمرد تمرّدًا على المجتمع. وفي المقابل، يمكن للمجتمع أن يتضمن ما يشجع على التمرد أو يسمح به على الأقل، فهل كان هناك بُعدٌ اجتماعي ساعدك على التمرّد؟ وأقصد بالمجتمع هنا الأسرة الصغيرة والأسرة الكبيرة والجيران وأهل الحارة ... إلخ؛ فمن أيّ جانبٍ أو طرفٍ من هذا المجتمع جاءكِ الدعم؟ ومن أين جاء القمع والضغط السلبي؟

د. ميادة كيالي:

لم يكن تمرّدي وليد لحظة واحدة، بل ثمرة مسار طويلٍ بدأ داخل أسرة متدينة تدينًا طبيعيًّا، بلا تزمت ولا تراتبية بين الذكور والإناث. كنت محاطة بجوٍّ من الطمأنينة، لا يفرض عليّ الخضوع، ولا يصادر حقّي في التساؤل. أما المجتمع السوري في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، فكان يعيش تديّنه ببساطة واعتدال قبل أن تتسرب إليه النزعة الإخوانية. ومع ذلك، لم يكن المناخ العام مشجعًا على التمرّد؛ لأننا كنا جميعًا مأخوذين بخطاب القومية العربية الذي رفع شعار فلسطين، وأغلق في الوقت نفسه باب النظر في واقعنا الداخلي. ثم جاءت أحداث حماة لتكرّس الخوف، وتُغلق أي نافذة على التفكير أو النقد حتى بين جدران البيوت.

في هذا الجوّ الملبّد بالرهبة، كانت لحظة لقائي بالدكتور محمد شحرور حدثًا مفصليًّا في حياتي. كنت طالبة في كلية الهندسة، وحضرت له محاضرة في نهاية العام، كانت صعبة ومليئة بالأفكار غير المألوفة. في ختامها، طلب من الحاضرين أن يكتبوا أسماءهم إن كانوا من طلبته في العملي. خاف أغلب الطلاب، وكتبوا أسماءً مغايرة خشية أن يسألهم لاحقًا عمّا قاله في تلك المحاضرة. أما أنا، فاخترت الصدق، وكتبت اسمي كما هو. فمنحني العلامة الكاملة في مادة العملي، عشرين من عشرين.

كانت تلك العلامة بالنسبة إليّ أكثر من تقييم أكاديمي، كانت لحظة وعي. أدركت حينها أن الصدق ليس قيمة أخلاقية فحسب، بل موقف معرفي يفتح الأبواب المغلقة. ومنذ تلك التجربة، تغيّر مساري الداخلي: من طالبةٍ تتلقى إلى إنسانةٍ تبحث وتفكر وتفسّر. كان شحرور أول من منحني الثقة بأن أقول "لا"، وأن أقرأ بعقلي لا بوصاية الآخرين، وأن أؤمن بأن الجرأة في قول الحقيقة قد تكون أحيانًا مفتاح الحرية. وهكذا، كان تمرّدي ابن بيئةٍ سمحت لي بالتفكير بقدر ما كبحتني بالخوف، وعلمتني تجربتي أن الصدق هو أولى درجات التحرّر، وأن المعرفة تبدأ من لحظة صدق واحدة، قادرة على تغيير مصير إنسان.

د. حسام الدين درويش:

مرحلة التمرّد غالبًا ما تكون مرحلةً هدّامة؛ أي مرحلة رفض أكثر من كونها مرحلة بناء بديل. متى يمكن القول إنك بدأتِ فعلًا بإنتاج معرفةٍ بديلة وبناءٍ جديد، بدل الاكتفاء ب "اللا" ورفض الواقع؟ هل هي مرحلة محمد شحرور؟

د. ميادة كيالي:

لم يكن تمرّدي الأول فعل هدمٍ كاملٍ، بل كان أقرب إلى إزالة الطبقات السطحية التي تغطي حقيقتي. كنتُ أبحث عن أساسٍ صلبٍ أقيم عليه رؤيتي الجديدة. وهنا جاء لقائي بمحمد شحرور، الذي مثّل بالنسبة إليّ تلك "العتبة" التي لا بدّ من المرور بها. في لغة الهندسة التي درستها، لا يمكن إقامة بناء متين إلا بعد أن نزيل ما هو هشّ، ونرصّ القاعدة تحتها جيّدًا. هذا بالضبط ما فعله شحرور في حياتي: أعاد تثبيت القاعدة على أسس عقلية وإنسانية، لأبدأ منها بناءً جديدًا.

كانت النقلة التي منحني إياها شحرور حاسمة؛ فلأول مرة شعرت أن التدين لا يعني الحزن، ولا العيش تحت سيف الذنب والخوف من الحساب، ولا انتظار مصير محتوم ﴿ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ ۝ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ﴾ (سورة الواقعة، الآيتان 13–14). لقد حرّرني من عقدة الذنب التي كبّلت أجيالًا، وفتح أمامي طريقًا أكون فيه مؤمنة وسعيدة معًا، أعيش إيماني كقيمة إيجابية لا كعبءٍ ثقيلٍ. لكن هذا المسار لم يستمر طويلًا بالزخم ذاته. بعد أربع سنوات من صدور كتابه عام 1991، وجدت نفسي أمام منعطفٍ جديدٍ، حيث انتقلتُ إلى لبنان سنة 1994. كان ذلك التحول انتقالًا من فضاءٍ فكريًّ صاخبٍ، أثاره شحرور بحجر ألقاه في مياه المجتمع الراكدة، إلى فضاء حياتي الخاص، حيث تفرغتُ لدوري كزوجة وأمّ تبني أسرتها وتعتني بأبنائها.

وعلى الرغم من أنني في لبنان بدوت وكأنني ابتعدت عن الحراك الثقافي، إلا أنني أؤمن اليوم أن تلك المرحلة لم تكن انقطاعًا، بل تراكمًا خفيًا. كانت سنوات صمتٍ ونضج داخلي، سأعود منها لاحقًا لأكمل مساري الفكري والإنساني. فالأمومة لم تُنهِ في داخلي الباحثة، لكنها منحتها منظورًا آخر، أكثر عمقًا وإنسانية.

د. حسام الدين درويش:

إذا عدنا إلى ما يمكن تسميته بالمرحلة الثانية، وهي المرحلة البنائيّة، فإنها غالبًا ما تتسم بالمفارقة؛ إذ قد يحصل الانتقال من دوغمائيةٍ إلى أخرى. فهل حصل ذلك معك، أم إنك كنت تدركين في هذا الانتقال نسبيّة المعرفة التي تملكينها؟

د. ميادة كيالي:

لم يكن انتقالي من دوغمائية إلى أخرى، بل كان مساري أهدأ وأكثر انسجامًا مع قناعتي الأولى. فمنذ بداياتي كنت متصالحة مع فكرة الإيمان ووجود الله في حياتي، ولم أشعر يومًا أن عليّ أن أنقض هذا الجوهر لأبني غيره. ما كنت أبحث عنه هو طريق يمنحني الطمأنينة، ويؤكد لي أن علاقتي بالله يمكن أن تكون علاقة صحيّة، صافية، بعيدة عن ثقل الذنب والخوف، ومنسجمة مع إنسانيتي. لقد تطورت رؤيتي مع مرور الزمن، وتغيّرت الأشكال والأساليب التي عبرت بها عن هذا الإيمان، لكن الجوهر ظلّ ثابتًا: أن أكون صادقة مع نفسي، وأن أمارس إيماني بما لا يناقض عقلي ولا قلبي. ومع كلّ تجربة حياتية جديدة، ومع كلّ لقاء مع مفكر أو مجدد، كانت قناعتي تترسخ أكثر، وكان صوتي يصبح أوضح، وقدرتي على الدفاع عن نفسي وعن فكرتي أقوى. باختصار، لم يكن مساري قفزًا من مقلب إلى آخر، بل كان رحلة نمو داخلي، رحلة بحث عن صيغة توازن بين إيماني الفطري، وبين وعيي المتنامي، صيغة تجعلني مؤمنة وحرّة في الوقت نفسه.

د. حسام الدين درويش:

هذه مرحلة البناء، إذا أردنا الحديث عن المراحل الفرعيّة؛ أي بعد انطلاقنا من مرحلة الرفض، فقد وصلنا إلى مرحلةٍ بدأت فيها بناء أفكارك، واعتقاداتك، وقناعاتك. وهذه هي المرحلة الأولى التي عرفتِ فيها شحرور، أليس كذلك؟ ماذا عن المرحلة التي بعدها؟

د. ميادة كيالي:

بعد مرحلة الدفاع عن إيماني الداخلي، لم أعد أكتفي بأن أحمي نفسي من الانزلاق إلى دوغمائية جديدة، أو من الاستسلام للشعور بالذنب. شيئًا فشيئًا، تحوّل هذا الوعي إلى مشروع أكبر، مشروع يفتح المجال لغيري أيضًا، كي يعبروا من مرحلة الرفض إلى مرحلة بناء جديدة. كنت أحمل حبًّا كبيرًا لهذه الفكرة، وأؤمن بعمق أن للدين دورًا إيجابيًا في حياة الإنسان والمجتمع، وأن هذا الدور يجب أن يُستعاد بعيدًا عن الاستغلال أو التوظيف الضيق. كنت أبحث دائمًا عن موقع المرأة داخل المؤسسة الدينية، لا كمُتلقية مهمشة، بل كفاعلة كاملة الحقوق. فإيماني بعدالة الله جعلني مقتنعة أن من حقّي أن أكون مبشرة، وداعية، ومؤمنة، ومدافعة، بل حتى إمامة إن شئت؛ فهذا كله لا يتعارض مع جوهر الإيمان، بل يعبر عن حقيقته.

وعندما انتقلت من لبنان إلى الإمارات، كانت تلك المحطة نقطة تحوّل نوعية. هناك لم تعد الفكرة مجرد قناعة شخصية، بل تحوّلت إلى مؤسسة، إلى عملٍ جماعي منظم، أُتيح لي من خلاله أن أشارك مع آخرين الهمّ نفسه: همّ الإصلاح الديني والفكري، وفهم العلاقة العميقة بين الدين والمجتمع. معًا استطعنا أن نبلور دراسات ومشاريع تُترجم تلك الأفكار إلى فعلٍ ملموسٍ، وأن نضع حجر الأساس لمسارٍ معرفي جديد سيُثمر لاحقًا.

د. حسام الدين درويش:

سأعود إلى فكرة المؤسّسة، لكن دعينا نسترجع المثال الذي طُرح حول الهندسة. كيف يمكنك تفسير هذا الانتقال أو التحوّل من مجال الهندسة، الذي يبدو للكثيرين، وأنا منهم، مجالًا تقنيًّا ماديًّا، إلى مجال الفكر الإنساني والإيماني؟ وهل كانت لديك في مرحلة الهندسة بذورٌ فكرية أو توجّهاتٌ أثّرت في هذه المرحلة؟ ثمّ هل ما زالت مرحلة الهندسة حاضرةً بطريقةٍ ما فيما بعد مرحلة الهندسة؟

د. ميادة كيالي:

حين اخترت دراسة الهندسة، كنت أظنّ أنني أحقق حلمي الشخصي بالعمل في الميدان، وأمارس المهنة بكل تفاصيلها العملية. لكنني اكتشفت لاحقًا أن العقل الهندسي لم يكن مجرد أداة لممارسة مهنة، بل قاعدة ساعدتني كثيرًا في المراحل الفكرية اللاحقة. فقد عملت بالفعل في الهندسة بضع سنوات، وكان ذلك متزامنًا مع لقائي بمحمد شحرور بعد التخرج وقراءتي لكتابه، حيث قدّم لي رؤية مختلفة تفيد أن العقل الهندسي يمكن أن ينفتح على آفاق فلسفية، وأن الفلسفة ليست حكرًا على العلوم الإنسانية، بل هي ضرورة لتطوير كلّ عقل علمي وتقني.

هنا اكتشفت ثغرة كبيرة في جامعاتنا؛ إذ تُقصى الفلسفة عن التخصصات العلمية، مع أنها الأداة التي تمنح العقل الرياضي الهندسي قدرةً على النقد والتجاوز. ولعل هذا ما يفسر المفارقة التي رأيتها في حياتنا: كثيرون يحملون شهادات علمية عالية، ومع ذلك يظلون أسرى مسلّمات غيبية، لم يجرؤوا على إخضاعها للتحليل المنطقي. لقد منحني شحرور تلك الدفعة الأولى لأتجاوز هذه المفارقة، ولأتحول من مجرد مهندسة تمارس عملها، إلى باحثة تملك الثقة لتخوض غمار مشروع معرفي أوسع.

من هنا بدأت رحلتي مع تأسيس مركز الدراسات، ومع قيادة فريق من الباحثين والمفكرين. كنت المديرة، نعم، لكنني شعرت أنني الروح المؤسسة لهذا العمل، وعليّ أن أكون قريبة من الفريق لا بعيدة عنه. وقد تزامن ذلك مع حلم قديم لوالدتي بأن أتابع دراستي العليا، ومع تحدٍّ وضعني شحرور لمواجهته حين قال لي يومًا: "من الطبيعي وأنتِ تقودين هذا العمل، أن تكوني حاملةً لشهادة عليا، مثل من حولك من المفكرين والباحثين". كانت تلك الكلمات تحدّيًا حقيقيًّا بالنسبة إليّ، رغم أنني كنت أدرك وأثق بمهاراتي وإمكاناتي في إدارة العمل، ولكن بطبعي أحتاج إلى التحديات كي أصنع المستحيل.

وهكذا، لم تكن الهندسة بالنسبة إليّ مجرد مهنة عابرة، بل كانت البذرة التي جعلتني أتعلّم كيف أرى المنطق في الأشياء، وأربط بين البناء المادي والبناء الفكري. ولا تزال تلك المرحلة حاضرة في داخلي حتى اليوم، كأرضية صلبة لكل ما بنيته لاحقًا في مساري الإنساني والفكري.

د. حسام الدين درويش:

لماذا اخترتِ الهندسة أصلًا؟ هل لإرضاء أهلك، أم تماشيًا مع المعايير الاجتماعية، أم لأنكِ كنت ترغبين في ذلك فعلًا؟ حدثينا عن عوامل اختيارك للهندسة؟

د. ميادة كيالي:

اختياري لمجال الهندسة لم يكن قرارًا عفويًا تمامًا، بل جاء في سياق ضاغط. بعد نجاحي في البكالوريا، كانت علاماتي تؤهلني لدخول كلية الطب، وهو الحلم الذي كان يراود عائلتي أكثر مما كان يراودني. شعرت يومها أن كلّ فردٍ في العائلة أراد أن يحقق حلمه من خلالي: أختي التي أحبّت الطب، وأخي الذي اتجه إلى الكيمياء، وحتى والدي ووالدتي، جميعهم رأوا في دخولي كلية الطب تحقيقًا لجزء من طموحاتهم المؤجلة. لكنني بطبيعتي المتمردة، رفضت أن أكون انعكاسًا لأحلام الآخرين، وكان رفضي دخول الطب أول إعلان حقيقي عن استقلاليتي في الاختيار.

في المقابل، كنت مولعة بالرياضيات، أحببت منطقها ودقتها، وفي الوقت نفسه كانت لديّ ميول فنية قوية. ولو تُرك لي الخيار وحدي، لاخترت دراسة التصميم وهندسة الديكور؛ لأنها الأقرب إلى روحي. لكنّ العقلية السائدة آنذاك كانت تنظر إلى هذا التخصص نظرة دونية، وترى أنه لا يليق بمعدلاتي العالية، فخشيت أن أصدم أهلي أكثر من اللازم. لذلك، فكرت في الهندسة المعمارية بدايةً كحلٍّ وسط يجمع بين المنطق الرياضي والجانب الفني.

ثم التقيت لاحقًا بأصدقاء نصحوني بالهندسة المدنية، قائلين إنها ستناسبني أكثر، ما دمت أحبّ الرياضيات وأجيدها. وبالفعل اخترتها، ولم أندم على ذلك أبدًا، بل وجدت أن الهندسة المدنية انسجمت مع شخصيتي، وأعطتني ما كنت أبحث عنه من تحدٍّ وعمل دؤوب، لتكون نقطة الانطلاق إلى مراحل أخرى من حياتي الفكرية والإنسانية.

د. حسام الدين درويش:

التنوع في حياتك على الأقل، مقارنة بحياتي في هذه المسألة، أكبر بكثير. فلديك خبرات ومهارات وإنجازات في مجالات متعددة: الهندسة، والتصميم، والرسم، والطبخ، والعمل الإداري والتنظيمي، والكتابة الفكرية، والكتابة البحثية والأكاديمية، والكتابة الإبداعية، ... إلخ. فكيف أمكنك الجمع والتوفيق بين كلّ هذه الأمور؟ وهل التركيز على جانبٍ واحدٍ يمكن أن يفضي إلى إهمال الجوانب الأخرى؟

د. ميادة كيالي:

من الطبيعي أن يكون الجمع بين مجالات متعدّدة على حساب بعضها البعض، وهذا ما اختبرته في حياتي. حين تزوّجت وأصبحت أمًّا، وجدت نفسي مضطرة للتخلي عن ممارسة الهندسة، رغم أنني كنت أبدع فيها وأحبها. وبعد انتقالي إلى الإمارات، تراجع هذا الجانب أكثر فأكثر لصالح العلوم الإنسانية، التي جذبتني بعمقها وأسئلتها. ومع ذلك، لم تختفِ مواهبي الفنية في الرسم والتصميم الداخلي، فقد بقيت تسكنني وترافقني، لكنني لم أتمكّن من تطويرها كما كنت أتمنى، ولا أنكر أن في داخلي غصّة كلما تذكرت ذلك. في المقابل، أخذني البحث العلمي والكتابة الفكرية إلى أفق أوسع، لكن حتى هنا كان للعمل الإداري دورٌ في الحدّ من انغماسي الكامل في البحث. الإدارة والعمل المؤسسي استنزفا وقتي، لكنهما منحاني في المقابل شعورًا آخر بالإنجاز؛ إذ أصبحت أرى نجاحي متجسدًا في كلّ كتاب يخرج إلى النور من مؤسستي، وفي كلّ باحثٍ أو مفكر يجد في هذه المؤسسة منصة لصوته، حيث صار نجاح الآخرين الذين أحتضنهم نجاحي الشخصي.

ومع كلّ هذا، يظل في داخلي حنين إلى لحظات الصفاء الفردي، إلى "الغرفة الخاصة" التي تحدثت عنها فرجينيا وولف، حيث تحتاج المرأة إلى غرفة تخصّها لتكتب، وإلى قليل من المال لتكون حرّة. لقد منحتني الإمارات هذه الفرصة، حيث استطعت أن أكون مستقلة، أؤمّن احتياجاتي، وأكتب، وأتابع مشاريعي. لكنّني أدرك في النهاية أن حياتي كانت دائمًا معادلة بين الشغف والواجب، بين ما تمنحه لي الظروف، وما أستطيع انتزاعه لنفسي.

د. حسام الدين درويش:

دعيني أطرح عليك سؤالًا يوصف عادةً بأنه "ذكوريّ"؛ لأنّه لا يُوجَّه عادةً إلا إلى النساء: كيف وفّقتِ بين الأمومة - وأنتِ "أمٌّ"، وتمارسين دورك الأموميّ بعمقٍ كبير - وعملك؟ كيف تمكّنتِ من التوفيق بين أمومتك وتحصيلك الأكاديمي وعملك الإداري ومسارك المهني عمومًا؟ وإلى أيّ مدى كانت هناك صعوبة في النجاح في هذا التوفيق؟

د. ميادة كيالي:

التوفيق بين الأمومة والعمل لم يكن سهلًا أبدًا، لكنه كان ممكنًا. نحن نتصوّر أن لكلّ إنسان دورًا محددًا، وأن هناك دائمًا من يتولّى الأدوار الأخرى، وهذا تصوّر جميل من الناحية النظرية، لكن الواقع غالبًا أصعب بكثير. ما يعزّيني أن تنظيري اليوم في قضايا المرأة لم ينبع من قراءة الكتب وحدها، بل من تجربة شخصية كاملة، عشتها بكلّ تفاصيلها وتحدياتها. فلقد التقيت بعددٍ كبيرٍ من المفكرين والمجدّدين، وأعجبتني أفكارهم العميقة في قضايا المرأة والحرية والمساواة. لكن أحيانًا كنت أُصاب بالصدمة حين أرى أن بعضهم - وليس جميعهم - لا يطبّقون ما ينادون به في حياتهم اليومية. وهذا التناقض بين التنظير والممارسة كان دائمًا يترك أثرًا كبيرًا في نفسي، ويؤكد لي أن الإنسان الذي يحمل رسالة لا بد أن يجسدها أولًا في سلوكه.

أنا ابنة امرأةٍ حديدية علّمتني أن التعلّم لا يعرف حدودًا. كانت همستها تسكنني دائمًا: تعلّمي، حتى لو لم تَصلي إلى الإبداع، لا بأس. تعلّمي، حتى لو تبقّى من عمرك يوم واحد فقط. لا تتركي يومًا يمرّ بلا معرفة جديدة. وأنا، في لحظات ضعفي، كنت أعود لأحادث نفسي بصوتٍ خافت: ميادة… إذا كنتِ أنتِ التي حملتِ العلم والفكر والإرادة، يصيبك التعب أحيانًا، فكيف تلومين الآخرين إن لم يواصلوا المسير؟ لا عتب عليهم، فكلٌّ يحمل قدره وما يستطيع.

كنت أخشى على "ميادة الأخرى" في داخلي، تلك الفتاة الشفافة، الحكيمة، الصبورة، أن يطالها اليأس، أو أن تفقد طيبتها تحت ثقل التجارب. لذلك كنت أمدّها دومًا بالقوة، أحتضنها كأمٍّ تحتضن ابنتها، وأقول لها: أنتِ قادرة… استمرّي… الطريق لكِ، فلا تتراجعي.

د. حسام الدين درويش:

لنقل إن الأمومة، كون الأنثى هي الأم، هي أحد الأسباب الرئيسة؛ لأنه في كثير من المجالات يُختزل دور المرأة في المعنى الأمومي. وعلى مستوى المفكرين، وهذه مسألة الاتساق بين القول والفعل؛ لنأخذ مثاليْ ماركس وروسو: فماركس كان يريد تغيير العالم، لكن وسطه الأسروي كان سيئًا كثيرًا، ولولا الاعتماد على المساعدات من صديقه، لمات أفراد أسرته جوعًا، فكان عمله الفكري في المجال العام يؤثر سلبًا على دوره كأبٍ في أسرته. وروسو، رغم أنه كتب أعظم كتاب في فلسفة التربية، وضع أطفاله في الميتم. في المقابل، غالبًا ما تُضحّي النساء بمسارهم المهني بسبب الأمومة. فكيف كان الوضع عندك؟

د. ميادة كيالي:

لم أتربَّ في بيتٍ يختزل دور المرأة في الزواج والتفرغ للمنزل. على العكس، كانت أمّي تتألم؛ لأنها رأتني أُضحّي بدراستي وعلمي حين تفرغت لتربية أولادي. قبل وفاتها بعشرين يومًا فقط، قالت لي كلمات لا تزال تحفر في داخلي: "أنا لست غاضبة من شيء، أنا فخورة بك، لكنني حزينة لأنك لم تكملي دراستك وعملك. ميادة ليست من النساء اللواتي يعجزن عن الجمع بين الأمرين." حاولت أن أشرح لها أنني اخترت الأمومة آنذاك، لكنها أعادتني إلى جوهر رسالتها: أن الإنسان إذا جاء إلى الدنيا ومضى دون أن يترك أثرًا يتذكره الناس من بعده، فكأنه لم يولد ولم يعش. هذه الجملة بالذات كانت نقطة انطلاقي الجديدة، منذ عام 2006 وحتى الآن. شعرت أن الله منحني القدرة على صناعة شيء له معنى، وعليّ ألّا أتراجع.

من هنا أرى أن دور الأمّ ليس مقصورًا على الرعاية، بل هو المحرك الأساس للتربية وصناعة الأثر. والأمّ إذا أيقنت أنها قادرة على العطاء داخل المنزل، فهي بالتأكيد قادرة على العطاء خارجه أيضًا. هذه القدرة أشبّهها بما يُعرف اليوم بالتفكير الشبكي؛ المرأة بفضل عاطفتها الأمومية تستطيع أن تربط بين أدوارها المختلفة، أن تفكر في أكثر من بعد في وقت واحد، وأن تُنجز في حياتها الخاصة والعامة معًا. وكنتُ أهمس لنفسي حينها: يا ميادة… لا تدعي الأمومة تتحول إلى قيد، بل اجعليها جسرًا. فالعاطفة التي تجعلك تحضنين أبناءك، هي ذاتها التي تجعلك قادرة على احتضان فكرة، مشروع، أو حلم، وتحويله إلى حقيقة.

د. حسام الدين درويش:

والدليل أن الأمر أصعب مقارنة بالرجل؛ فالوظائف والأدوار التي تقوم بها المرأة أكبر بكثير. إذا انتقلنا إلى منظور آخر، وهو محطة القراءة، يمكن تسميتها: "كلّ كاتبٍ يبدأ بالقراءة"؛ أي ليس فقط تعلم القراءة، بل الاطلاع على مؤلفات الآخرين وكتبهم ونصوصهم. بعدها تأتي مرحلة إنتاج النصوص بدل الاكتفاء بانتقائها. طبعًا، المرحلة الثانية عادة لا تلغي الأولى؛ إذ الطابع الغالب أنه لم يعد يُعرف كقارئ، وإنما ككاتب. حدّثينا: كيف كانت قراءاتكِ في البداية؟ وكيف بدأتِ؟ ثم كيف انتقلتِ إلى مرحلة الكتابة؟

د. ميادة كيالي:

وأنت تسألني عن البدايات عن مرحلة القراءة، لمعت في بالي ذكرى عميقة الأثر، ربما لم أنتبه إليها إلا الآن، تذكرت "دار مطبوعات الكيالي"، والآن شعرت أنني وريثة صناعة "كيالية" بامتياز، وكأنَّ القدر كان يرسم مساره منذ نعومة أظفاري. فبعد أن كانت "دار عبد الرحمن كيالي للمطبوعات" أظن هكذا كان اسمها، نسبة إلى صاحبها عبد الرحمن كيالي - ابن عم والدي - من أهم دور التوزيع لكل أنواع الإصدارات: كتبًا ومجلاتٍ وجرائد، جاء قانون التأميم، فأُغلقت الشركة وتوزع مخزونها من الكتب على جميع أفراد العائلة.

كبرتُ بين تلك الكتب، وكثيرًا ما تهتُ في عناوينها الكبرى مثل: هكذا تكلم زرادشت، أحاول أن أقلّد والدي المولع بالقراءة، فأفتح الكتب دون أن أفهم منها الكثير. لكنني كنت أشعر بسحر خفي، كأنني أمارس طقسًا خاصًّا بي، أقترب فيه من عالمٍ أكبر من سنّي. واليوم فقط أدركت أن ذلك السر هو الذي أوصلني إلى ما أنا عليه الآن: أنني عشت محاطة بالكتب، مشبعة برائحتها وأغلفتها وعناوينها، حتى صارت جزءًا من تكويني العميق. والآن أضحك لأن القدر، الذي أخذ من العائلة صناعة النشر ذاتها، أعادها إليّ على نحو آخر؛ لا كإرث عائلي فقط، بل كمصير شخصي أحمله وأواصل به المسيرة، بعدما صارت القراءة والكتابة هي الخميرة التي صنعت عالمي كله.

وحين أصبحت "ميادة الكاتبة"، كانت الكتابة بالنسبة إليّ هروبًا من اللحظة التي اكتشفتُ فيها أنني حصرتُ نفسي في مجال الأمومة، وابتعدتُ عن ذاتي ونسيتُ أدواري الأخرى. ثم جاء رحيل والدتي، ومع تذكّر الرسالة التي تركتْها لي، كانت تلك النجاة؛ لأنها دفعتني لأن أخرج وأفعل شيئًا. وفعلًا، تلك المقالات التي كتبتُها في جريدة العصر عام 2004، في بداياتها، واستمررتُ على مدى سنوات، لم يخطر ببالي حينها أن هذه الكتابات ستتحوّل لاحقًا إلى خميرة أستند إليها، وأنقلها معي كتجربة حين جئتُ إلى الإمارات. كانت بمثابة البذور الأولى التي نَمَت مع الوقت، وأعادت إليّ صوتي الداخلي، لأكتشف أنّ الكتابة لم تكن مجرد فعلٍ للهروب، بل كانت فعلَ ولادة جديدة.

هنا، في الإمارات، أدركت أنّ تلك التجارب الصغيرة التي بدت عابرة، تحوّلت إلى أساس لمشروع حياتي كلّه. الكتابة التي بدأت بالنجاة الشخصية، غدت فيما بعد مشروعًا مؤسسيًّا، وجسرًا للتأثير في الآخرين. ومن رحم الأمومة واليُتم والاغتراب، وُلدت "ميادة الكاتبة" التي تحمل اليوم مشروعًا يتجاوز حدودها الفردية، ليصير مساحة أوسع للتفكير والتجديد.

د. حسام الدين درويش:

قبل الانتقال إلى مرحلة الكتابة، هل هناك أعلام ما، نصوص ما، يمكنكِ تذكّرها؟

د. ميادة كيالي:

أذكر أنني في تلك المرحلة كنت أتابع بعض الكتب، وأقرأ لعددٍ من الكتّاب الذين تركوا بصماتهم في تكويني المبكر، مثل غادة السمان، وألفة إدلبي، وأسيمة درويش، وبيير داكو. ومن الكتب التي أستحضرها بقوة كتاب "المرأة: بحث في سيكولوجية الأعماق"، الذي كان له أثر كبير في داخلي. كان تحليلًا عميقًا ورائعًا للاختلاف بين الرجل والمرأة، وكيف تحوّل هذا الاختلاف الطبيعي إلى أداة للتمايز، ليصبح الرجل هو المعيار، والمرأة هي الطرف الناقص. هذا الوعي الذي أيقظه الكتاب في داخلي ظلّ حاضرًا، خاصة وأنني قرأته في السبعينيات؛ أي في وقتٍ مبكر جدًّا من حياتي، فكان بمثابة الشرارة الأولى التي جعلتني أنتبه إلى قضيّة المرأة، وإلى كيفية تشكّل الصورة الاجتماعية حولها.

د. حسام الدين درويش:

ننتقل إلى مرحلة الكتابة، كيف تطورت وأنتِ قد بدأت منذ 2003- 2004؟

د. ميادة كيالي:

بدأتُ الكتابة رسميًا في جريدة العصر بداية عام 2004 وحتى نهاية 2006، وكانت الكتابة في الجريدة حلمًا شبه مستحيل في تلك المرحلة. ومع مرور الوقت، تحوّل العمود الذي كنت أكتب فيه إلى محطّ اهتمام القرّاء في منطقة البقاع اللبنانية، حيث كانت الجريدة تُوزَّع هناك، ويحمل اسمها طابعًا روائيًّا. كان لي عمود ثابت على مدى ثلاث سنوات، أتناول فيه قضايا المرأة، والرجل، والعائلة، والأخلاق، والعادات. وقد كتبتُ بلغةٍ قريبة من الناس، بلغةٍ سمّتها إحدى الصديقات “حواضر البيت”؛ لأنها كانت قصصًا أؤلّفها لأمرّر من خلالها رسالة هنا وأخرى هناك، ولأفرغ طاقتي المكبوتة، وأنا أبحث عن عالمٍ آخر خارج عالمي المحصور بين أربعة جدران. كانت تلك المقالات متنفّسي الأول، ومساحتي الصغيرة التي أتنفّس فيها الحرية. وما زلت أتذكّر سعادتي حين كنت أكرّر زياراتي إلى أمين مكتبة أنطون في الحمراء، الذي عرفني خلال فترة حملي وما سبقها من سنوات علاج في مشفى الجامعة الأمريكية، حيث كنت أمرّ عليه لأقتني الكتب. كان يقرأ مقالاتي ويشجّعني كثيرًا، فكان لكلماته أثرٌ بالغ في نفسي.

ذات مرة، أرسلتُ بعض مقالاتي إلى الإعلامي والشاعر الكبير زاهي وهبي، وكان يقدّم آنذاك فقرة “قرأتُ لكم” على شاشة تلفزيون المستقبل، وكم كانت سعادتي حين قرأ إحداها على الهواء! شعرتُ يومها بأن صوتي الصغير قد وصل إلى العالم. بعدها انتقلتُ إلى الإمارات، وأخذتُ معي تلك المقالات دون أن يخطر ببالي أنها ستتحوّل يومًا إلى كتاب، أو أنني سأصل إلى مرحلةٍ أُشرف فيها على مؤسسة تُصدر كتبًا، ثم أؤسّس دار نشر تنشر أعمالًا فكرية وبحثية مرموقة، لأهم الباحثين والمفكرين. لم يكن ذلك الحلم في ذهني، لكنّ القدر كان يرسم خطّه بصمت، خطوةً خطوة، حتى وصلتُ إلى ما أنا عليه اليوم.

كلّما عدتُ بذاكرتي إلى تلك المقالات الأولى، أشعر كأنني أرى الخيط الخفيّ الذي نسج مساري كلّه؛ من امرأةٍ تبحث عن ذاتها بين أربعة جدران، إلى ناشرةٍ تفتح نوافذ المعرفة لغيرها. أدركتُ أن الأحلام الصغيرة التي نكتبها بخجل، قد تكون هي البدايات الحقيقية لأقدارٍ كبيرة، فقط إن صدّقناها ومضينا في طريقها.

د. حسام الدين درويش:

على الرغم من أن لديك أسبابًا كثيرة في حياتك الخاصة والعامة، والتي يمكن أن تجعلك نسوية متطرفة، معادية للرجال إلى حدّ الكراهية، تبدو نسويتك معتدلة جدًّا، بل متطرفة في اعتدالها، فكيف توضحين ذلك؟

د. ميادة كيالي:

دائمًا أقول إنني لا أستطيع أن أكون معاديةً للرجل؛ لأنني أؤمن بدوره في حياتي وفي الحياة عمومًا، ثم إنني أمٌّ لتوأم من الذكور، ولا يمكنني أن أكون ضدّهم. على العكس، أشعر بالفخر؛ لأنني نجحت في تربية أولادي على التصالح مع فكرة المساواة، من دون أن يتبنّوا تفوقًا ذكوريًّا، تمامًا كما لم أُربَّ أنا عليه في بيتي.

أنا ضدّ النسوية المتطرفة المعادية للرجل؛ لأنني أرى أن الرجل في مجتمعاتنا هو أيضًا ضحية، مثل المرأة تمامًا. هو الآخر يرزح تحت وطأة القهر وغياب الحرية، ومن غير المنطقي أن نطالبه بتحرير المرأة، وهو نفسه لم يتحرر بعد. لذلك، أرى أن معركتنا الحقيقية ليست بين المرأة والرجل، بل بين الإنسان والظلم، أيًّا كان شكله أو مصدره. ولا أميل إلى الانجرار وراء التنظيرات النسوية المبالغ فيها؛ فالتنظير شيء، والتجربة الحياتية الواقعية شيء آخر. كثير من الخطابات النسوية المعاصرة، كما ألاحظ أحيانًا في مساحات "كلوب هاوس" أو "تويتر"، تنطلق من مفاهيم مجردة عن الطلاق والزواج وحقوق الأطفال، من نساء لم يعشن تلك التجارب فعليًّا، ولم يختبرن مسؤولية أن تكوني أمًّا تحمي أبناءها وسط الأزمات والخلافات؛ تلك التجربة العملية العميقة هي ما يضفي على الوعي النسوي واقعيته وصدقه. وبرأيي، تحتاج النسوية اليوم إلى أن تنزل قليلًا إلى أرض الواقع، لترى كيف تعيش النساء في مجتمعاتنا، وتفهم خصوصية السياق الاجتماعي والثقافي الذي نحياه. لا يمكننا ببساطة استيراد الأفكار التي تطوّرت في أوروبا عبر قرون، وتطبيقها كما هي عندنا؛ لأن الظروف والتاريخ مختلفان.

أنا مع المساواة التامة في الحقوق والواجبات، ومع أن تُصان كرامة المرأة كاملة؛ لأنها إنسانة مسؤولة لا تابعة. كل القوانين التي تجعلها تابعة لأيّ رجل، أرفضها رفضًا قاطعًا. لقد تعلّمت من تجربتي أن المرأة، إذا توافرت لها المعرفة والعمل والاستقلالية، تستطيع أن تشقّ طريقها بثقة، وتحمي نفسها، وتكون سيدة نفسها مثل الرجل تمامًا. لكن المساواة لا تعني الصراع. فليست غايتي أن تُدمّر المرأة الرجل، بل أن ينهضا معًا؛ لأنني، من خلال دراستي للتاريخ، أؤمن أن المرأة كانت دائمًا شريكةً في بناء الحضارة جنبًا إلى جنب مع الرجل، ولن يكتمل مستقبل الإنسانية إلا بهذا التوازن بينهما.

النسوية التي أؤمن بها ليست صراعًا على السلطة، ولا انتقامًا من تاريخٍ ظالم، بل هي وعيٌ عميق بالإنسان في المرأة والرجل معًا. هي مشروع تحرّر مشترك، لا غايته قلب المعادلات، بل استعادة التوازن المفقود بين العقل والعاطفة، بين القوة والرحمة، بين العدل والحبّ. فحين تتحرّر المرأة من دون أن يفقد الرجل مكانه الإنساني، يصبح الاثنان معًا شركاء في إعادة بناء العالم على أسسٍ أكثر عدلًا وإنسانية.

د. حسام الدين درويش:

دعيني أختم بالحديث عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود التي تديرينها حاليًّا، والتي تشهد لها الكتب الصادرة عنها. حدّثينا كيف انتقلتِ من مجال القراءة والكتابة والتأليف إلى العمل الأساسي والظهور الاجتماعي والمؤسساتي والمهني الأساسي في هذه المؤسسة. حدثينا عن هذه المرحلة؟

د. ميادة كيالي:

بلا شك، كانت هذه التجربة هي الأغنى والأكثر عمقًا في حياتي. إنها بحقّ تجربة عمري، خرجتُ من سوريا مهندسة، ومن لبنان أمًّا لتوأمي، وأكتب مقالات في الصحف، ثم وصلتُ إلى الإمارات، فبدأتُ رحلةً جديدة من البحث عن الذات عبر الدراسة والعمل. تابعتُ دراستي حتى نلتُ شهادة الدكتوراه، وأصبحتُ مديرةً لمؤسسة دراسات، ثم مديرةً لدار نشر، ومع مرور الوقت صرتُ أرى أفكاري ومشاريعي تتجسّد في مؤلفاتٍ وبحوثٍ ومبادرات فكرية.

أذكر جيّدًا أنني، عند وصولي إلى الإمارات، شاركتُ الدكتور محمد شحرور في إعداد كتاب «القرآن والأخلاق والعقل النقدي» باللغة الإنجليزية، الموجَّه إلى القارئ الغربي. وكان المترجم والمحرر الأكاديمي د. أندرياس كريسمان هو من تولّى تحريره. أتذكّر أنه سألني ذات يوم عام 2008: "ميادة، ما حلمك في الحياة؟" فأجبته دون تردّد: "أن أرى معهدًا أو جامعة تدرّس هذا الفكر التنويري، وتساعد في إحداث نقلةٍ في العقل العربي، ليصبح فينا من يسمع خطابًا جديدًا متصالحًا مع قيم الحداثة والحرية والإنسان". ولم أكن أدرك حينها أن هذا الحلم سيبدأ بالتحقق فعلًا بعد سنوات قليلة من عملي في الإمارات. فقد وجدت نفسي أؤسس دار نشر، ثم مؤسسة بحثية تُعنى بالدراسات الفلسفية والدينية والفكرية. ومع الوقت، رأيت المشهد الفكري الإماراتي والعربي يتغير: مراكز للدراسات، وجامعات تُدرّس الفلسفة والأخلاق، مثل جامعة محمد بن زايد، وبيت الفلسفة، وغيرها من المؤسسات التي تجسّد الحلم الذي راودني ذات يوم. شعرت حينها أنني جزء من هذا الحلم الكبير الذي صنعته الإمارات بوعيها وثقافتها.

أما مؤسسة "مؤمنون بلا حدود"، فهي بالنسبة إليّ ليست مجرد مؤسسة بحثية أو دار نشر، بل كيان أحمله في داخلي كما تحمل الأم أبناءها، لكنها أمومة من نوعٍ خاص، أمومة مسؤولة لا عاطفية مفرطة. فأنا لا أُجاملها كما لا أُجامل أبنائي، بل أواجهها بالحقيقة دائمًا: أن تصيب أو تخطئ، أن تنهض أو تتعثر، لكنّها تظلّ مشروعي الذي أضع فيه إيماني العميق بالمعرفة والإنسان. وقد مرّت المؤسسة، كما تعلم، بمرحلة صعبة بعد جائحة كورونا، شأنها شأن كثيرٍ من المؤسسات الثقافية العربية التي تقلّص نشاطها، وتراجعت إمكاناتها. لكنّني اعتبرت ذلك امتحاني الأكبر: هل أستطيع أن أحافظ على هذا الإرث الفكري الذي بنيناه عبر سنوات؟ وهل أستطيع أن أُبقي على هذا النبض التنويري حيًّا؟ وكان الجواب: نعم، بالإصرار وحده. حافظتُ على النشر وعلى الموقع، ثم أعدنا إطلاق الندوات والحوارات، من داخل البيت كما أقول دائمًا. وعندما أعلنا مؤخرًا عن برنامجنا الجديد، انهالت عليّ رسائل الدعم والفرح من كبار المفكرين العرب: د. أحمد برقاوي، ود. رضوان السيد، ود. عبد الله ولد أباه، ود. محمد بشاري، وغيرهم من الأسماء التي نعتزّ بها جميعًا. كانت كلماتهم تأكيدًا أن "مؤمنون بلا حدود" لم تكن مجرد مؤسسة، بل تجربة فكرية أثّرت بعمق في الحراك الثقافي العربي.

اليوم أرى في كلّ كتابٍ يصدر عن "مؤمنون بلا حدود"، وفي كلّ حوارٍ أو ندوةٍ أو مشروعٍ فكري ننجزه، ثمرةَ حلمٍ بدأ بخطوة صغيرة. لذلك أقول دائمًا: إن هذا المشروع لا يخصّني وحدي، بل يخصّ كل من يؤمن بالمعرفة طريقًا للحرية. وأتمنى من كل من يسمعني أن يشاركنا في مواصلة هذا الطريق، كي نحافظ على هذا التراكم الثقافي والإنساني؛ لأنّ مستقبل "مؤمنون بلا حدود" في رأيي، ليس مجرد مؤسسة، بل فكرة... والفكرة التي نؤمن بها لا تموت.

د. حسام الدين درويش:

سأختم بسؤال من المفروض كان علينا أن نبدأ به: البحث عن الذات، كما يشير عنوان اللقاء. بأيّ معنى يكون البحث عن الذات؟ ما الذات التي تبحث عنها الدكتورة ميادة اليوم؟ هل هي ذات موجودة مسبقًا تحاولين إزالة الغبار عنها، أم ذات تسعين إلى صنعها؟ الذات في مواجهة مَن؟ وما أو من الذي يمنع من إيجادها أو تحقيقها؟

د. ميادة كيالي:

لا شك أن لكلّ إنسانٍ أكثر من "أنا": الأنا الداخلية التي تُشكّل جوهره الحقيقي، والأنا التي يراها الآخرون، ثم تلك "الأنا العليا" التي تفرضها عليه الأعراف والتوقعات الاجتماعية. وفي تجربتي، مررتُ بمراحل شعرتُ فيها أنني أسيرة لتلك "الأنا العليا"؛ فوالدي - كما ذكرت سابقًا - كان دائمًا يرفع سقف التوقعات عاليًا: "ميادة يجب أن تكون كذا، وميادة لا يجوز أن تفعل كذا"، وكأنني مطالَبة دائمًا بأن أكون النسخة المثالية التي تخيّلها عنّي. لكنّ الإنسان، مهما علا سقف التوقعات، يبقى كائنًا يحمل ضعفه وأخطاءه، وله حقّه في الفشل كما له حقّه في النجاح. لذلك، كان بحثي عن الذات هو بحث عن التوازن بين الداخل والخارج؛ بين ميادة الطفلة التي تسكنني، بعفويتها ودهشتها وخوفها من الفقد، وميادة الظاهرة أمام الناس، التي تتولى المسؤوليات وتواجه العالم بقوة وثقة.

وأظن أن سرّ الأمان الذي أشعر به اليوم، هو أن المسافة بين الاثنتين باتت قصيرة جدًّا - لم أعد أحتاج إلى إخفاء واحدة خلف الأخرى. أنا اليوم لا أبحث عن ذاتٍ ضائعة، بل أسعى إلى صون الذات التي وجدتها بعد رحلة طويلة من التناقضات والمواجهات. هي ذاتٌ تصالحت مع ماضيها، وتعيش حاضرها بوعيٍ عميق، وتؤمن أن الطريق إلى الحقيقة ليس خارج الإنسان، بل في أعماقه. ولهذا أقول دائمًا: إنّ أجمل ما في رحلة البحث عن الذات، أنها لا تنتهي؛ لأننا نتجدد كل يوم، ومع كل تجربة نولد من جديد.

د. حسام الدين درويش:

الذات التي تبحث عنها ميادة هي الذات التي تريدها، الذات التي تتناسب معها، وليست بالضرورة الذات التي يريدها الآخرون أو التي يتوقعونها. والتصالح بين الأمرين هو الحلم، نأمل ذلك.

شكرًا جزيلًا لك.

د. ميادة كيالي:

شكرًا جزيلًا لك. ولعلّ هذا التصالح هو ما يجعل الإنسان يولد من جديد في كل مرحلة من حياته. لقد وُلدتُ أكثر من مرة، لكنّ ولادتي الحقيقية كانت حين عرفت من أنا، وحين أدركت أنّ البحث عن الذات لا يعني العثور عليها، بل الحفاظ على نورها مشتعلاً مهما تغيّر الزمان والمكان.