التأويل وجماليات التلقي: دراسة تمهيدية في نتاج هانز روبرت ياوس


فئة :  مقالات

التأويل وجماليات التلقي:  دراسة تمهيدية في نتاج هانز روبرت ياوس

ـ1ـ

خلال الحرب العالمية الثانية خاض الناقد والمنظر الألماني هانز روبرت ياوس (1921 - 1997) تجربة غريبة لا يعرفها الكثير من مؤرخي النظرية الأدبية. ففي عام 1933 وبعد أن أكمل مراحله التعليمية الأولى في هيدلبرج وصل الحزب النازي NSDAP إلى السلطة في ألمانيا. وعندما بدأت الحرب العالمية الثانية (1939) تطوع ياوس في أهم المنظمات النازية العسكرية وهي قوات الدفاع الشعبي التي تعرف تحت اسم Waffen-SS التي كانت إلى جانب مشاركتها في الحرب تتولى حراسة معسكرات الاعتقال النازية. وقد شارك ياوس في الحرب منذ عام 1941 كضابط احتياط ومنذ عام 1944 كضابط اتصال في مقر فرقة شارمان Charlemagne. ونال عام 1944 وسام الشجاعة الذهبي. ورغم أنّ محكمة نورمبرج قد أعلنت عام 1946 أنّ قوات Waffen-SS تمثل منظمة إجرامية إلا أنّ ياوس قد حصل عام 1947 من هيئة التحكيم على عفو شامل لعدم مشاركته في أيّ من جرائم الحرب. ربما لأجل هذا لم يكن ينكر ماضيه النازي. وقد أعطى في أول سبتمبر 1996 حواراً طويلاً حول ماضيه لجريدة اللوموند الباريسية ذكر فيه دوافع تطوعه بأنه لم يكن يريد أن يعيش على هامش عصره بأن ينغمس في فعل جمالي خالص بينما زملاء الدراسة يجازفون بحياتهم: "لقد كنت آنذاك شاباً صغيراً يريد أن يتواءم مع روح العصر"[1].

وبعد الحرب ونهاية النظام النازي عاد ياوس - وهو في الأسر ـ إلى مواصلة تعليمه، وقد عرف جيله بجيل الطلاب العائدين من الحرب. واختار اللغات الرومانية وأدآبها (خاصة الأدب الفرنسي) مجالاً لدراسته. وبعد انتظامه منذ عام 1947 في الدراسة في جامعة هيدلبرج حرص على متابعة ومراقبة الأعلام من جيل الأساتذة مثل مارتن هيدجر Heidegger وهانز- جورج جدامر Gadamer وكارل ياسبر Jasper الذي كان يدعو منذ عام 1946 لألمانيا جديدة مفتوحة على الفكر العالمي، وليست منغلقة على أفكارها الطوباوية.

وفي عام 1952 أحرز ياوس درجة الدكتوراه في فيلولوجيا اللغات الرومانية بدراسته (Zeit und Erinnerung in Marcel Proust „A la Recherche du temps perdu“: Ein Beitrag zur Theorie des Romans) أي "الزمن والتذكر في "البحث عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست: بحث في نظرية الرواية". وكانت بمثابة نوع من الدفاع عن الأدب في مواجهة ادعاءات الفلسفة، وقد نشرها عام 1955 في سلسلة "أبحاث هيدلبرجية" التي تصدرها جامعة هيدلبرج، وكان يشرف عليها هانز جيورج جدامر وآخرون.

وبعد دراسته عن مارسيل بروست بدأ يتحول تدريجياً إلى دراسة أدب العصور الوسطى، وكذلك بدأ يخطو خطواته الأولى نحو تكوين نظريته عن "جماليات التلقي". وفي هذه الفترة اهتم بأعمال كلّ من روبرت جويته Getteiu وفالتر بولست Bulst. وعند الأخير وقع كما قال على جملة مفادها أنه "لا يوجد نص مؤلف لأجل أن يقرأه ويحلله الفيلولوجيون فقط". وقد دفعه تأمل هذه الجملة إلى محاولة البحث عن شكل ومعنى لعمل العصور الوسطى المسمّى (Reineke Fuchs) خارج نطاق الطريقة الفيلولوجية، وذلك عن طريق إعادة بناء توقعات القارئ المعاصر لظهور العمل[2]. وقد تأثر في هذا بآراء الشاعر والمنظر الفرنسي بول فاليري Valéry الذي يدين له بالكثير خاصة فرضية فاليري التي رأى فيها أنّ العمل الشعري مثل النوتة الموسيقية التي تتحول فقط عبر عزفها إلى "عمل"، وأنّ عزفها المتجدد، وهو بمثابة قراءة متجددة، يجعل معناها أغنى ودائم المعاصرة، ومن هنا فالقارئ كالعازف في إنتاج النص[3].

وفي عام 1957 أنهى ياوس دراسته لدرجة الأستاذية عن "راينكا فوكس" ونشرها في توبنجن عام 1959 تحت عنوان: (Untersuchungen zur mittelalterlichen Tierdichtung) أي "أبحاث حول أدب الحيوان في العصور الوسطى"، وقد أصبح في العام نفسه أستاذاً في جامعة مونستر الألمانية. وانتقل في عام 1961 للعمل في جامعة جيسين الألمانية، وهناك ساهم بدور أساسي في تكوين حلقتين بحثيتين ستكون الثانية منهما إحدى أهم الحلقات البحثية الفاعلة والمؤثرة في المشهد النقدي المعاصر في ألمانيا والغرب. أمّا الحلقة الأولى فتدور فاعلياتها حول مجال تخصصه حيث تهتم بالآداب الرومانية في العصور الوسطى وتنشر فاعلياتها في حولية (Grundriss der romanischen Literaturen des Mittelalters) التي كان يصدرها مع أيرش كوهلر Köhler.

وأمّا حلقة العمل الثانية فهي حلقة الدراسات البينية الشهيرة تحت اسم "الشعرية والتأويل" (Poetik und Hermeneutik) التي عقدت أول ندواتها في جامعة جيسين في يونيه من عام 1963. وقد بدأ التفكير في تكوين هذه الحلقة بعد أن عرض كليمنس هيزلهاوس Heselhaus أستاذ الأدب الألماني بجامعة جيسين على ياوس العمل في جامعة جيسين.

اقترح هيزلهاوس على ياوس أيضاً تكوين حلقة بحثية بعنوان "معهد ليسنج للشعرية والنقد الأدبي". ولكن ياوس رأى أنهم بذلك يضيقون على أنفسهم، وأنّ الأجدى أن يجعلوا الاسم عاماً مثل "الشعرية والتأويل" وأنهم بذلك يمكن أن يكسبوا لهذه الحلقة جهد الفيلسوف هانز بلومنبرج Blumenberg أستاذ الفلسفة بجامعة جيسين أيضاً بوصفه خير من يستطيع الربط بين الشعرية والتأويل[4]. وربما عنى بذلك اهتمام بلومنبرج بموضوع التلقي الذي ظهر واضحاً في دراسة نشرها قبل خمس سنوات تحت عنوان "المدخل الحقبي والتلقي". وتلا ذلك انضمام فولفجانج إيزر Wolfgang Iser الذي كان يعمل آنذاك أستاذاً للأدب الإنجليزي في جامعة فورتسبورج وكانت صداقته مع ياوس وهيزلهاوس تعود إلى زمن التلمذة والدراسات العليا في جامعة هايدلبرج. ومعنى هذا أنّ التحول الفعلي في النموذج النقدي المعتاد بدأ تقريباً في عام 1963 وفي جامعة جيسين الألمانية، وليس في جامعة كونستانس التي لم تكن قد أنشئت بعد، وأنّ ذلك قد تمّ على يد مجموعة من الأساتذة الشباب الذين درسوا في جامعة هايدلبرج في الخمسينات.

مثل هذا التنوع من التخصصات ساعد على تكوين حلقة بينية متميزة؛ فهي لم تكن تُعنى بمجرد تبادل النتائج والأدوات فقط، وإنما أيضاً بالحوار بين التخصصات وبإضاءة طرق مميزة للفهم، وذلك رغبة في الحصول على عوامل جديدة ووجهات نظر متنوعة لرؤية الأشياء والقضايا التي تتعلق بالشعرية والتأويل. ومن هنا كان انضمام عضو جديد يعني صوتاً جديداً يفتح أبواباً جديدة للتعامل، ويطرح أسئلة جديدة تكشف علاقات جديدة في التعامل مع النصوص. وهذا ما قدمه حضور كلٍّ من هارلد فاينرش، وبيتر تسوندى، وماكس امداهل، وياكوب توبيس، ويان اسمان، وكارلهاينز شتيرله، وتوماس لوكمان، ونيكلاس لومان، وديتر هاينرش، وأودو ماكفارد، وولفهارت باننبرج، ويورجن ميتلشتراس. وعند عقد الحلقة تمّت دعوة عدد آخر من المنظرين الألمان مثل: هربرت ديكمان، وفرنر كراوس، وزيجفريد كراكاو، وأسماء أخرى كثيرة نجد أعمالها منشورة في مجلدات الحولية التي أصدرتها الحلقة بالاسم نفسه.

لقد كانت هذه الحلقة فرصة مثالية لكي يختبر الفيلولوجيون (ياوس وإيزر وشتيرله ومانفريد فورمان) أفكارهم النظرية لتجديد وتطوير الدراسات الفيلولوجية في الجامعات الألمانية. وفي العام التالي أصدر ياوس المجلد الأول من حوليات حلقة "الشعرية والتأويل" تحت عنوان (Nachahmung und Illusion) أي "التقليد والخيال"، وقد نشر في هذا المجلد مقالته "مبدأ المحاكاة ومصطلح الواقع في نظرية الرواية من ديدرو حتى ستاندال". ولم يكن ياوس أو أي من هؤلاء النقاد يتصور آنذاك أن تستمر الحلقة في العمل والنجاح لأكثر من ثلاثين عاماً، وأن تصدر سبعة عشر مجلداً شهد الأخير منها إعلان ياوس حل الحلقة قائلاً: "إنه من المستحسن كما اتفق أعضاء الحلقة أن تجد الحلقة نهايتها الطبيعية بعد هذا المجلد، وذلك حتى لا تتحجر مقولاتها، وحتى تعطي الفرصة للأجيال القادمة لأن تشق لنفسها طرقاً مغايرة"[5].

ـ2ـ

في نوفمبر من عام 1966 تلقى ياوس دعوة للعمل أستاذاً للآداب الرومانية ولعلم الأدب العام في جامعة كونستانس الجديدة[6]. وقد رأى في هذا فرصة لتطبيق الإصلاحات التي ينادي بها من خلال حلقة "الشعرية والتأويل" لدراسة الفيلولوجيا وعلم الأدب في الجامعات الألمانية. فانتقل للعيش في مدينة كونستانس وسرعان ما لحق به فولفجانج إيزر في عام 1967. ومن هنا ظهر مسمى "مدرسة كونستانس" (Konstanzer Schule) التي أخذت تدعو إلى نوع من الربط بين علمي الجمال والتأويل وبين التقليد والتجديد في علاقات الإنتاج والتلقي والاتصال.

وفي 13 إبريل 1967 ألقى هانز روبرت ياوس محاضرة قدومه الجامعية تحت عنوان: (Was heißt und zu welchem Ende studiert man Literaturgeschichte?) أي "ماذا يعني تاريخ الأدب ولأي هدف يدرسه المرء؟" وهي نوع من محاولة التواصل مع محاضرة قدوم فريدريش شيللر Schiller إلى جامعة يينا Jena عام 1789، وكانت بعنوان "ماذا يعني التاريخ العام، ولأي هدف يدرسه المرء؟". وفي هذه المحاضرة قدّم ياوس فرضياته السبع المعروفة لإعادة كتابة تاريخ الأدب وتدريسه، ومن ثمّ كانت بمثابة بيان نظري لطريقة تدريس الآداب المختلفة في جامعة كونستانس الوليدة: الاهتمام بالدراسات البينية أي تداخل التخصصات، وبالمناهج على أعلى مستوى عصري وبنغمة دولية.

وقد تمحورت هذه الفرضيات حول مسلمة تقول إنّ العمل الأدبي يكتمل عبر تلقيه، ويُفهم بطرق مختلفة بسبب اختلاف آفاق التلقي والحوار معه. فكلما تغير أفق التلقي تغير معنى العمل نفسه، والتفسير هنا لا يخبر عن النص فقط، وإنما عن إيديولوجية متلقيه أيضاً، ومن هنا فتاريخ أدب ما هو تاريخ تلقي هذا الأدب.

وفي العام نفسه أعاد ياوس تنقيح محاضرته ونشرها في سلسلة محاضرات جامعة كونستانس Konstanzer Universitätsreden[7] تحت عنوان: (Literaturgeschichte als Provokation der Literaturwissenschaft) أي "تاريخ الأدب كتحد لعلم الأدب". وقد أدى النجاح الكبير لهذا الكتيب إلى ترجمته في وقت قصير إلى معظم اللغات الأوروبية[8] وبالتالي جلب الشهرة لصاحبه، وللاتجاه النقدي الجديد الذي يحاول تطوير النظرية النقدية بإضافة البعد الجمالي للتلقي، وهذا ما جعل ياوس يطلق عليها مُسمّى "نظرية جماليات التلقي" (Rezeptionsästhetik)[9]. ومنذ ذلك الوقت كانت مدرسة كونستانس تعمل بعدة محركات دافعة كرستها على المستوى الدولي؛ فإلى جانب حولية "الشعرية والتأويل" و"محاضرات جامعة كونستانس" ومجلة Poetica أي "الشعرية"[10] ظهر جيل ثان مثله كل من: بيتر تسوندي، وماكس امداهل، وكارلهاينز شتيرله، وهذا الأخير يشغل الآن المنصب نفسه الذي شغله ياوس في جامعة كونستانس.

ومنذ بداية السبعينيات واصل ياوس تقديم مساهماته لتكريس نظريته عن طريق الاهتمام بالتجربة الجمالية، ودورها المأمول في كتابة تاريخ جديد للأدب؛ فأصدر في عام 1972 كتيباً بعنوان: (Kleine Apologie der ästhetischen Erfahrung) أي "دفاع محدود عن التجربة الجمالية". ثم قدم في الفترة ما بين عام 1977 وفي عام 1982 دفاعه الموسع في المجلدات الثلاثة لكتابه العلامة: (Ästhetische Erfahrung und literarische Hermeneutik) أي "التجربة الجمالية والتأويل الأدبي"، وفيه قدّم محاولته لوضع مبادئ عامة شاملة لعصور الأدب على أساس مفهومه للتجربة الجمالية، وطرق تحققها في تاريخ الفنون، وما يمكن أن تقدمه لأجل اكتساب القدرة على فهم وتفهم الفنون المعاصرة. وقد جاء الجزء الأول (1977) تحت عنوان: (Versuche im Feld der ästhetischen Erfahrung) أي "محاولات في حقل التجربة الجمالية". وفي هذا الجزء هدف إلى البحث عن طريقة جديدة لتقديم صياغة تركيبية جديدة لمواقف التلقي الجمالي (Katharisis)، أي علاقة المؤلف/القارئ، مع إدراك العالم الموصل جمالياً (Aisthesis)، أي علاقة القارئ/العمل، وقدرة الإنتاجية الجمالية (Poiesis)، ي علاقة المؤلف/العمل. فهو يفترض أنّ التجربة الجمالية يمكن وصفها ظاهراتياً، وفهمها تاريخياً من خلال هذه الأفعال الرئيسة الثلاثة. وبذلك يمكن توضيح ووصف العلاقة بين الموروث الشعري وجوانب الفعل الجمالي الإبداعية والاستقبالية والتواصلية.

فهذا العمل الضخم، كما يرى كارلهاينز شتيرله، ليس بالدرجة الأولى بناءً نظرياً منظماً، ولكنه دفاع مؤثر وحار عن حق، وضرورة لا يستغنى عنها للتجربة الجمالية التي تعتمد على فن التساؤل الذي يمثل بداية كل قضية فهمية ونهايتها[11].

وصدر الجزء الثاني من هذا العمل عام 1982 تحت عنوان: (Studien zur Hermeneutik von Frage und Antwort) أي "دراسات حول تأويل السؤال والإجابة". واهتم فيه ياوس برسم الخطوط العريضة للتاريخ الوظيفي للسؤال والإجابة، وذلك حتى يتمكن من بحث أهميته الجمالية شعرياً في الاستخدام الإبداعي، وتأويلياً في إعادة بناء أفق معنى أحد النصوص الكلاسيكية الذي أمسى غريباً، بل ويتمكن من رصد التغير الحقبي الذي يتجلى في تغير أفق أحد الأعمال مثل "آلام فرتر" لجوتة.

أمّا الجزء الثالث الذي صدر في عام 1982 أيضاً فجاء تحت عنوان: (Der poetische Text im Horizontwandel des Verstehen) أي "النص الشعري في التحول الأفقي للفهم". وفي هذا الجزء يهتم ياوس بتاريخ قضية مصطلح الأفق (Horizont) والفهم الحواري. ثم يشرح نماذج وأمثلة تواصل الأفق الأدبي والدنيوي، ويقود هذا بالتالي إلى وصف أفعال الفهم الثلاثة في ضوء تغير أفق القراءات المتعاقبة، وهي التي يختبرها بتطبيقها على إحدى قصائد بودلير.

ـ3ـ

وفي الثمانينات عاد ياوس عدة مرات لمحاضرة قدومه إلى كونستانس. ففي منتصف الثمانينات كتب مدخلاً طويلاً عن "جماليات التلقي" للمجلد الثامن من "المعجم التاريخي للفلسفة". وقد مثل هذا المدخل تأسيساً تاريخياً لمقولات نظرية جماليات التلقي. وقد ذكر في هذا المدخل أنّ نظرية جماليات التلقي تنتمي إلى النظريات التي تعاملت بنجاح مع تساؤل جديد. ثم اعترف بأنّ مصطلح التلقي قد استخدم وللمرّة الأولى بعد عام 1950 وتحديداً في الدراسات القانونية واللاهوتية والفلسفية، وبأنه ومنذ عام 1967 وُجد تيار مشابه في مجال الفيلولوجيا. ويصف هذا التيار بأنه يدعو إلى رؤية تاريخ الأدب والفنون كقضية جمالية اتصالية تُعامل فيها عناصر التجربة الجمالية الثلاثة: المؤلف والعمل والمتلقي، سواء أكان قارئاً أو سامعاً أو مراقباً أو ناقداً، بالدرجة نفسها من الأهمية؛ فهؤلاء هم في الوقت نفسه موصلون وناقلون للثقافة الجمالية. ثم قدم عرضاً للمحطات الرئيسة لتاريخ ما قبل نظرية التلقي، فتعرض لعصور تأويل الكتاب المقدّس، ومشاركة كلٍّ من توما الأكويني وجريجور الكبير. وكان الأخير منهما يرى أنّ الكتاب المقدّس ينمو بنمو من يقرؤونه. ثم تعرض لدور: مارتن لوتر، وسبينوزا، وفيشته ومونتنيه، ورأيه الشهير من أنّ القارئ المثقف قد يكتشف في النصوص أشياء مميزة لم يتبينها المؤلف نفسه. وفي النهاية تعرض ياوس لدور بعض الممهدين لنظرية جماليات التلقي مثل: فالتر بنيامين، وسارتر، وبول فاليرى الذي جعل العلاقة بين العمل والقارئ من أساسيات الشعرية. وعندما وصل إلى دور المنظر البولندي رومان إنجاردن Ingarden أشار إلى أنّ مدرسة كونستانس تحاول منذ عام 1967 أن تطبق نوعاً من الجمالية الظواهرية لرومان إنجاردن، وذلك بهدف إعادة تعيين وبناء المعنى أثناء تلقي العمل الجمالي، وكيف تمّ بحثه وتعيينه منهجياً من خلال تاريخ تلقيه، وذلك لأجل فهم جهد الفعل الجمالي من ناحية في نطاق القارئ الضمني (كما فعل فولفجانج إيزر)، ومن ناحية أخرى من خلال تغير أفق الفهم والشرح (كما فعل ياوس نفسه)[12].

وفي الحادي عشر من فبراير من عام 1987 أعاد ياوس تنقيح هذا المدخل وصياغته، ثم ألقاه كمحاضرة وداع بمناسبة إحالته على المعاش، وقد نشرت هذه المحاضرة أيضاً في سلسلة محاضرات كونستانس تحت عنوان (Die Theorie der Rezeption- Rückschau auf ihre unerkannte Vorgeschichte) أي "نظرية التلقي ـ إعادة نظر على تاريخها السابق غير المعروف".

وفي عام 1987 نشر ياوس مقاله المعروف (Jauss über Jauss) أي "ياوس عن ياوس"[13]، وتناول فيه محاضرة قدومه إلى كونستانس مرّة أخرى، وأشار إلى أنّ التفكير في موضوع هذه المحاضرة، وهذا الكتيب الذي بيع منه حتى ذلك الوقت أربعون ألف نسخة، والذي كان السبب في أن يطلق عليه لقب "والد جماليات التلقي"، قد استغرق قرابة عشر سنوات، أي أنّ بداية التفكير فيه تعود إلى أيام دراسته عند جدامر في جامعة هايدلبرج. وبعد أن يلخص نظرته إلى ضرورة اعتبار القارئ عنصراً ثالثاً في كتابة تاريخ الأدب، يشير إلى أنّ نقده للنظريتين المادية والواقعية قد جعله منذ السبعينيات هدفاً لهجومهما، ثم أبدى سعادته بالصدى الدولي الذي حازته نظرية جماليات التلقي، حتى أنّ الروائي الإنجليزيDavid Lodge قد قدم في روايته الأكاديمية (Small World) أستاذاً من ممثلي مدرسة كونستانس تنطبق أوصافه على ياوس أكثر منها على زميله فولفجانج إيزر.

في سياق تساؤله عن المستقبل الذي يتمناه لنظرية جماليات التلقي يشير ياوس إلى أنه قال كلمته الأخيرة في مدخل "جماليات التلقي" بالمعجم التاريخي للفلسفة، ولكنه كان يجد نفسه المرّة بعد الأخرى مضطراً لفتح هذا الموضوع. ثم صرح بأنه ما يزال يتمنى أن تمكن فرضياته من كتابة تاريخ للفنون يعيد المستوى المفتقد في التاريخانية الكلاسيكية، وأن تنفصل النظرية عنه هو وتكافح عن نفسها، لأنّ الحديث الجدي عن منهج حقيقي يبدأ عندما يكون له شخصيته الخاصة وغير مرتبط بمؤلف ما[14].

وأخيراً تعرّض ياوس لنص محاضرة قدومه في كتابه قبل الأخير الذي صدر عام 1994 تحت عنوان (Wege des Verstehens)، أي "طرق الفهم" الذي خصصه لما أطلق عليه "معركة التفسيرات" التي اضطرمت في العقد السابق على صدوره. وقد وقف فيه بصلابة أمام الإطلاقيين في كل التيارات، وقدم شهادة تأويلية واضحة ضد الفهم الجذري المتشائم للتفكيكية[15]، ومن هنا فإنّ النغمة السائدة في الكتاب هي ضرورة الحوار بين الأديان والثقافات. وربما لأجل ذلك أُخذ الكتاب مأخذ الجد لأنه يمثل خطوة متقدمة في موائمة التأويلية الأدبية لمستجدات العصر. ولكن من أهم ما يخصنا هنا فصل "حوار سالزبورج حول التأويل الموسيقي والأدبي". ففي هذا الحوار ذكر ياوس لمحاوريه أنه لاحظ ومنذ فترة طويلة أنّ نظرية جماليات التلقي قد لاكتها الألسنة، ورغم ذلك لا يوجد إلا القليل من الدراسات التي تستحق الوصف بأنها تمثل "تاريخ تلقٍ نقدي"[16]. والغريب في هذا الرأي الذي يعود إلى عام 1994 أنه لا يكاد يختلف عن رأيه عام 1967 عندما أشار في أول هوامش الفقرة رقم IX إلى ندرة أمثلة هذا المنهج وذكر أمثلة لا تتعدى الثلاثة.

وبعد وفاته في مدينة كونستانس في الأول من مارس من عام 1997 جمعت آخر مقالاته ونشرت في عام 1999 في سلسلة Reclam تحت عنوان (Probleme des Verstehens)، أي "مشاكل الفهم"، وكان ذلك خير تعبير عن تأويلية ياوس التي وضعت قضية الفهم ومنذ البدء في مقدمة اهتمامات التأويلية الأدبية التي هدفت إلى نوع من ديمقراطية الفهم للعصور السابقة، بل وللثقافات الأخرى.

 

ثبت بالمصادر والمراجع:

-       Fritz-Vannahme, J.: Ethik und Ästhetik. In: Die Zeit, 13 Sep. 1996.

-       Hess, G.: Die Universität Konstanz-Reform als ständige Aufgabe. Konstanz (UVK Univ.-Vlg.) 1968; Gerhard Hess: Gebremste Reform. Ein Kapitel deutscher Hochschulgeschichte. Konstanz (UVK Univ.-Vlg.) 1977.

-       Jauss, H. R.: Epilog auf die Forschungsgruppe „Poetik und Hermeneutik“. In: G. v. Graevenitz & O. Marquard (ed.): Poetik und Hermeneutik Bd. XVII: Kontingenz. Fink Verlag München 1998.

-       Jauss, H. R.: Rezeption, Rezeptionsästhetik. In: Historisches Wörterbuch der Philosophie. Darmstadt 1992, Bd. 8, p. 998.

-       Jauss, H. R.: Wege des Verstehens. Fink Verlag München 1994.

-       Jauss, H. R.: Werksbesichtigung (1): Jauss über Jauss. In: Frankfurter Allgemeine Zeitung, 5.8.1987.

-       Ritte, H.: Jauss über Jauss. In: Frankfurter Allgemeine Zeitung, 11 Sep. 1996.

-       Stierle, K.: Wege des Verstehens, zum Tod von Hans Robert Jauss. In: Neue Zürcher Zeitung. 5. März 1997.


[1] راجع:

Joachim Fritz-Vannahme: Ethik und Ästhetik. In: Die Zeit, 13 Sep. 1996, p. 33. Henning Ritte: Jauss über Jauss. In: Frankfurter Allgemeine Zeitung, 11 Sep. 1996 p. N5.

[2] H. R. Jauss: Werksbesichtigung (1): Jauss über Jauss. In: Frankfurter Allgemeine Zeitung, 5.8.1987, p. 27.

[3] H. R. Jauss: Wege des Verstehens. Fink Verlag München 1994, p. 379.

[4] H. R. Jauss: Epilog auf die Forschungsgruppe „Poetik und Hermeneutik“. In: G. v. Graevenitz & O. Marquard (ed.): Poetik und Hermeneutik Bd. XVII: Kontingenz. Fink Verlag München 1998, p. 527.

[5] السابق ص 526

[6] يعود التفكير في إنشاء جامعة بمدينة كونستانس في ولاية بادن فورتمبيرج Baden-Württemberg (جنوب ألمانيا) إلى عام 1959 وكان الغرض من ذلك تحقيق أو تجريب الحلول التي ينادي بها لإصلاح الجامعات الألمانية التي اشتهرت في بداية الستينات تحت اسم "الدعوة لجامعة جديدة". وقد انتهت إجراءات إنشاء الجامعة في مارس 1966 وذلك بعد موافقة الولاية وتعيين أستاذ الفيلولوجيا وعميد جامعة هيدلبرج جيرهارد هيس Hess عميداً للجامعة الجديدة في فبراير 1966. راجع:

Gerhard Hess: Die Universität Konstanz-Reform als ständige Aufgabe. Konstanz (UVK Univ.-Vlg.) 1968; Gerhard Hess: Gebremste Reform. Ein Kapitel deutscher Hochschulgeschichte. Konstanz (UVK Univ.-Vlg.) 1977.

[7] بعد انتقال فولفجانج إيزر للعمل في جامعة كونستانس عام 1967 اقترح على عميد الجامعة في 22 مايو 1968 أن تقوم الجامعة بإصدار سلسلة من الكتيبات لأعلام الاتجاهات الثقافية المختلفة تتضمن نص المحاضرات التي يدعون لإلقائها في جامعة كونستانس. وبذلك - كما قال في اقتراحه - تسير الجامعة الجديدة سيرة الجامعات العالمية العريقة التي تتولى بنفسها نشر السلاسل التي تثبت دورها ومساهمتها في تطوير الحقول البحثية المختلفة، فهذا يدفع الجامعة وعلماءها إلى التجديد الدائم، وإلى تسجيل دورهم وريادتهم في خلق وتطوير النظريات المختلفة مما يعود على الجامعة بالشهرة ورفع المكانة.

[8] ترجم الكتيب إلى الإيطالية (1967) وإلى الإنجليزية (1970) وإلى الإسبانية (1971) وإلى البولندية (1972) وإلى البرتغالية (1974) وإلى الكرواتية (1977) وإلى الهولندية (1978) وإلى المجرية (1980) وإلى الرومانية (1980) وإلى التركية (1980) وإلى الدنماركية (1981) وإلى الفنلندية (1983).

[9] وفي عام 1970 نشر ياوس عند دار زوركامب Suhrkamp كتابه "تاريخ الأدب كتحد" (Literaturgeschichte als Provokation) الذي جمع فيه عدة مقالات من بينها محاضرة قدومه. وقد تناول ياوس النص الأصلي ببعض التعديلات كان أبرزها حذفه لبعض الهوامش الشارحة والضرورية لفهم سياق النص، ومن هنا كان اهتمامنا بالعودة لنص الطبعة الأولى التي نشرت في سلسلة محاضرات جامعة كونستانس.

[10] هي مجلة نقدية تنظيرية بدأ إصدارها الناقد الألماني كارل ماورر Maurer في سبتمبر من عام 1966 بهدف الاهتمام باللغة والعلوم الأدبية. وقد بدأ أول أعدادها بالإشارة إلى نبوءة إيرش أورباخ Auerbach بنوع من فيلولوجيا الأدب العالمي (Philologie der Weltliteratur) ثم أشار إلى طموح مواصلة عمل فيلولوجي العشرينيات مثل الروسي أوسكار كالزيلس والنمساوي ليو شبتسر، أما اسم المجلة فكان نوعاً من إعادة الاحترام لحركة الشكليين الروس.

[11] Karlheinz Stierle: Wege des Verstehens, zum Tod von Hans Robert Jauss. In: Neue Zürcher Zeitung. 5. März 1997, S. 11.

[12] H. R. Jauss: Rezeption, Rezeptionsästhetik. In: Historisches Wörterbuch der Philosophie. Darmstadt 1992, Bd. 8, p. 998.

[13] راجع: جريدة (Frankfurter Allgemeine) العدد الخامس من أغسطس عام 1987. وذلك (ضمن سلسلة مقالات لكتاب متنوعين يمثلون الاتجاهات الرئيسية للعلوم الإنسانية).

[14] H. R. Jauss: Werksbesichtigung (1): Jauss über Jauss. P. 28.

[15] K. Stierle: Wege des Verstehens. S. 11.

[16] H. R. Jauss: Wege des Verstehens. Fink Verlag München 1994, p. 378