التجديد في العقل الفقهي من الاسكولائية إلى الاجتهاد المعاصر


فئة :  أبحاث محكمة

التجديد في العقل الفقهي من الاسكولائية إلى الاجتهاد المعاصر

التجديد في العقل الفقهي

من الاسكولائية إلى الاجتهاد المعاصر

ملخص:

يحرص هذا البحث على لفت النظر إلى ضرورة التجديد في بنية العقل الفقهي، من خلال تفكيكه والوقوف على مراحل تشكّله، ثم بيان السلطة التي تتحكم فيه، ولم يكن يعني ذلك إغفال الدور الذي لعبه التاريخ والسياسة، والذي أحال الإنساني التاريخي مع مرور الوقت إلى مقدس، ونقصد بذلك مجموع المصادر اللانصية التي شملت وأسست هذا العقل كالإجماع والقياس وقول الصحابي وغيرها.

وكان لابد من التفكير في حلول للخروج من المأزق الذي أدى إلى تضخم العقل الفقهي وتكلس مدونته وشكلانيتها. ومن الحلول التي توصل إليها البحث التنبيه على ضرورة فتح باب الاجتهاد مرة أخرى، من خلال نقد العقل الإسلامي في عمومه، والعمل على تفكيك العقل الفقهي بوجه خاص، فينتج بذلك لدينا وجهة نظر نقدية، تسهم في التأسيس والترسيخ لآلية النقد الذاتي المعمول بها داخل سائر الدراسات الإنسانية المعاصرة.

ومن البيّن، أن فقه الاجتهاد المعاصر، هو المخرج الآمن والحل الواجب الأخذ به في عصر الحداثة، فلا يستقيم العمل بمدونات فقهية تراثية قديمة، يعمل البعض على ترقيعها وإعادة تقديمها، والأولى نسفها والانتقاء منها. هكذا تكون الآليات الحداثية المعاصرة لهذا الاجتهاد واضحة ومفهومة إذا تم طرحها بشكل ابتسمولوجي/معرفي، حتى نتوصل من خلالها إلى أحسن الحلول وأقربها إلى المعاصرة. ولا سبيل إلى كل ذلك بغير تحرير العقل الفقهي وتجاوز القراءات الحرفية للقرآن في علاقتها بالعقل الفقهي الذي تمرس من زمن على قياس واحد لا بديل عنه، وهو قياس تقليدي عقيم لا ينتج إبداعاً أبداً، ولا يحل العقال من حول العقل ولا يسرحه إلا بقدر ما يسمح النقل.

علينا أن نتجاوز الإشكاليات الشكلانية القديمة، والتي تعاود الظهور بشكل معاصر؛ لأنها إشكاليات أقل وصف لها، أنها مثل الأكليشيهات أو التابوهات التي نجدها في كل ثقافة، مثل إشكالية تقديم النقل على العقل، أو أن الدين يوجب على الإنسان التخلف، من خلال التأكيد والحرص على النظرة الظاهرية والحروفية والنصية للتشريع من خلال مصدره الأساسي وهو القرآن، وإنما يجب النظر من خلال رؤية مقاصدية معتبرة، تنزل الإنسان أعلى الرتب التي أرادها الله سبحانه لخليفته الإنسان.

إن التحدي أمام إعادة بناء العقل الفقهي القديم يكمن في كيفية تحويله من عقل فقهي استدلالي استنباطي منطقي إلى علم فلسفي إنساني سلوكي عام، وبذلك يحدث الوصل مع القيم الكونية المستحدثة وفق الرؤية الجديدة.

تمهيد:

لا يمكننا تفكيك العقل الفقهي في منأى عن البحث في العلاقة الجدلية التي ربطت هذا العقل من ناحية التنظير بعلم أصول الفقه. واعتماد الأصول بشكل أساسي على مصادر غير نصية (كالإجماع والقياس...وغيرها). والتحدي أمام إعادة بناء العقل الفقهي يكمن في كيفية تحويله من عقل فقهي «استدلالي استنباطي منطقي إلى علم فلسفي إنساني سلوكي عام»([1]).

ويغلب على العقل الفقهي أنه ينتج خطابا «وعظي بامتياز؛ لأنه يشتغل وفق آليات تنشيط الذاكرة والذكر، بعد أن صيغ وفق مقاييس الفقه العديدة: «"الإجماع"، "القياس" وغيرها»([2]) هذه الآليات العقلية –بمضي الزمن- لم تجندل العقل الفقهي والتشريعي فحسب، بل إنها أدخلته في غيبوبة أفقدته وعيه لسنوات طويلة، وجعلته يبدو كأنه نمط من الرؤية الذهنية إلى العالم والإنسان، «في هذه الرؤية أو القراءة الخاصة يترك العقل الفطري مكانه لقراءة سطحية للروايات والنصوص الدينية، حيث تخلق في الإنسان سلوكاً ومنهجاً معيناً»([3]).

وهذه الرؤية السابقة يؤكدها المفكر أركون في كتابه «نقد العقل الإسلامي»، حيث يرى أن الإسلام مر بما تعارف عليه في العصور الوسطى من مرحلة اسكولائية دوغمائية وتكرارية لآراء القدماء، جاءت مع وصول السلاجقة الأتراك إلى الحكم وتأسيس المدرسية -في العلوم الشرعية- بالمعنى التقليدي الاسكولائي(*) للكلمة، ثم ترسخت بعد ذلك المذهبية والطائفية الفجة، التي فرضت الاسكولائية للفكر الديني على الجميع. فأركون يعتبر أن انتصار الروح الاسكولائية في الإسلام قد ابتدأ من القرن الخامس واستمر حتى القرن التاسع عشر، بل ويمكن القول حتى اليوم. فالإسلام الشائع حالياً ليس هو الإسلام الكلاسيكي المبدع والتعددي، وإنما هو الإسلام الاسكولائي التكراري الذي لا يزال يسيطر علينا منذ عشرة قرون، حيث أخذت الساحة الثقافية العربية الإسلامية تضيق وتتقلص وتتشنج وتنغلق على ذاتها. وبذلك تجمد وتقوقع العقل الفقهي في نطاقات ضيقة، وانتهت الحيوية الإبداعية له. وللخروج من ذلك، ينبغي علينا تمييز التراث الاسلامي الاسكولائي «بدقة وعناية من التراث الأكثر حيوية»([4])، من أجل فصله وعزله وفهم نواحي القصور فيه.

وتبعاً لذلك، ظهرت الاسكولائية في العقل الفقهي من خلال نزوع حاد ناحية الاجترارية المدرسية الفجة التي ظهرت في متون الفقه، والشروح على المتون والحواشي، وبذلك يمكن الاستدلال أنَّ ثمة اسكولائية فقهية تربعت في العقل الإسلامي الذي هو «مؤسس على الفقه أكثر مما هو مبني على النص؛ بمعنى أنه يستمد الخلفية المرجعية، على مستوى الوعي والفكر والشعور، من تلك المنظومة الفقهفكرية المدونة، التي لم تكن في ذاتها نصية بالقدر المطلوب»([5]).

وللخروج من هذه الاسكولائية العقيمة التي طالت كل تراث الإسلام المبدع، ينبغي علينا توجيه النقد الموضوعي والمحايد - وفقاً للآليات الحداثية الجديدة- لمجمل التراث الإسلامي، ومعه يمكن الحديث عن تأسيس عقل فقهي جديد، يعمل وفق رؤية اجتهادية فقهية منفتحة على العالم وقيمه الكونية المستحدثة.

ومن ثمَّ، فإن تشريح بنية العقل الفقهي من خلال رصد مراحله، بكل ما فيها من ازدهار وانتكاس، وإبداع وتقليد، ثم العروج على تحليل مصادر السلطة في خطابه، يمكننا من الوقوف على أهم الأسباب التي ساهمت في تضخم هذا العقل وانكماشه في الوقت نفسه.

وحتى نخرج من هذا المأزق المعرفي والحضاري، ينبغي البحث عن آليات حداثية معاصرة، يتأسس عليها عقل فقهي جديد، يسهم في الانفتاح على روح القيم الكونية، بما تكفله للإنسان المعاصر من حرية إبداعية في كل شيء، ناهيك عن حفظ حقوقه الإنسانية من الانتهاكات العولمية الصارمة.

1-                      1- الـعقــل الفقهــي: من التقديس النقلي إلى التحليل العقلي

لقد بذل العقل الفقهي جهوداً كثيرة في الانتقال من طور التقديس النقلي إلى طور التحليل العقلي، وهي الإشكالية القديمة التي كانت تعرف بتقديم العقل على النقل.

هذه النشاطات سواء كانت بوعي أم من دون وعي، يمكننا أن نرصدها من خلال تتبعها في المراحل التطورية التي مر بها هذا العقل، لنضع أيدينا على المرحلة التي بلغت ذروة النشاط العقلي؛ وذلك لاقتناعنا التام بأن نشاط العقل الفقهي لم يبدأ مباشرة بممارسة التحليل العقلي، وإنما كانت بداياته، بدايات تبجيلية وتقديسية للنصوص النقلية، وسرعان ما انتقل العقل من هذا الطور، بعد اصطدامه الحاد بالواقع المتشابك، ليؤسس نوعا من الاجتهاد بالرأي، أوشك أن يمسك بتلابيب عقلانية بالغة، مع التعامل مع المفردات الواقعية، في إحدى مراحله المزدهرة، لولا تحول القياس الاجتهادي مع البعض إلى نوع من التحرز في ترك عقال العقل، وتسريحه، فتأسست تبعاً لذلك نظرة مقاصدية كلية شاملة، انفرط عقدها تبعاً لحالة المجتمع الذي تحيا فيه، ومع انكماش المجتمع وانحداره، آلت هذه النظرة إلى جمود وتراجع بالغ.

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا

([1]) حسن حنفي: من النص إلى الواقع، الجزء الثاني، بنية النص، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 2005، ص589

([2]) عبدالرزاق عيد: سدنة هياكل الوهم، نقد العقل الفقهي (البوطي نموذجاً)، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 2003، ص7

([3]) عباس يزداني: العقل الفقهي، ترجمة أحمد القبانجي، ثقافة إسلامية معاصرة (12)، بدون تاريخ نشر، بدون دار نشر، ص2

(*) تقال الاسكولائية (Scholasticism/Scolastique)، بمعنى ازدرائي، على سائر الدراسات التي تتسم بسمة مبالغ فيها من الصورية. وبحسب القاموس الفلسفي لجميل صليبا «يطلق المدرسي على سبيل الزراية على كل بحث يتصف بالصورية الشديدة كالمبالغة في تقسيم المسائل وتفصيلها، ويطلق المدرسي على كل رجل يتصف بالعقلية المدرسية ويرغب في التقيد بالآراء التقليدية ويخضع لسلطان القدماء».

انظر: جميل صليبا: القاموس الفلسفي، الجزء الثاني، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، 1977، ص359

([4]) محمد أركون: من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1991، ص13

([5]) عبدالجواد ياسين: السلطة في الإسلام «العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ»، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 2000، ص34