التراث والتأسيس لفكرة الاختلاف


فئة :  قراءات في كتب

التراث والتأسيس لفكرة الاختلاف

التراث والتأسيس لفكرة الاختلاف:

قراءة في كتاب "في شرعية الاختلاف" لعلي أومليل

فوزي محمد

تمهيد:

هناك قضايا ترتبط بوضعيات وسياقات بعينها، في حين أن هناك قضايا تظل راهنة، رغم اختلاف الوضعيات؛ وذلك لارتباطها بالوضع البشري وما يحيل عليه من تعقيدات، وتنتمي قضية الاختلاف للنوع الثاني، إذ بالإضافة إلى كون قبول الاختلاف قيمة إنسانية تؤسس لقيم أخرى كالتسامح وقبول آخر والتعايش، فهي كذلك أساس النظام الديمقراطي القائم على التعددية وعلى حقوق الإنسان. لمناقشة هذا الموضوع، اخترنا كتاب "في شرعية الاختلاف" لمؤلفه علي أومليل، وهو كتاب يقع في حوالي 160 صفحة من الحجم المتوسط، صادر عن المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية سنة 2005. يتألف الكتاب من تمهيد وأربعة فصول (يضم كل واحد منها عناصر تختلف من فصل إلى آخر) واستخلاص، وفهرس المصادر والمراجع التي اعتمدها الباحث.

علي أومليل، هو مفكر وكاتب ودبلوماسي مغربي، ولد في 25 دجنبر 1940، شغل العديد من المناصب السياسية، كما شغل منصب أمين عام منتدى الفكر العربي في عمان، وأثرى المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات والدراسات الفكرية والثقافية، منها: "الخطاب التاريخي دراسة في منهجية ابن خلدون" و"في شرعية الاختلاف" و"موقف الفكر العربي من المتغيرات"، و"السلطة الثقافية والسلطة السياسية" و"الإصلاحية العربية والدولة الوطنية"، و"التراث والتجاوز"، و"التكامل الثقافي العربي في عصر العولمة"، و"سؤال الثقافة: الثقافة العربية في عالم متحول".

شغل علي أومليل عدة مواقع قيادية في عدة منظمات حقوقية؛ من بينها الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، والمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، وشارك في تأسيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان في العام 1983[2].

وقد اهتم علي أومليل بقضايا الإصلاح السياسي والتعددية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة ليس في المغرب فقط، بل والعالم العربي، حيث يدعو في كتابه "في شرعية الاختلاف" إلى ضرورة إرساء مبدأ الحق في الاختلاف كحق من حقوق الإنسان، وكأساس للنظام الديمقراطي، معتمدا البحث في التراث العربي الإسلامي للكشف عن طبيعة هذا الحق، وهل من الممكن إيجاد سند لهذه الدعوة في التراث العربي الإسلامي؟

إذن الهدف من العودة للتراث هو البحث عن سند لتأسيس الحق في الاختلاف. لذلك، فالكتاب موضوع اهتمامنا يتناول قضية الاختلاف وكيفية تعاطي مفكري الإسلام مع هذه القضية، خاصة فيما يتعلق بمواقفهم تجاه الآخر المختلف، سواء كان هذا الآخر ضمن دائرة العقيدة الاسلامية أو من خارجها، والأهم من ذلك هو إمكانية استخلاص رصيد ثقافي كافي فيما يخص قضية الاختلاف يمكن أن يكون أساسا لمشروعية الاختلاف في الرأي، باعتباره شرطا ضروريا لتأسيس تقاليد الحوار، والنظام الديمقراطي كنظام تعددي.

وللإشارة، فقد صدرت الطبعة الأولى للكتاب سنة 1991، عن دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت ـ لبنان، ومنشورات المجلس القومي للثقافة العربية بالرباط. أما الطبعة الثانية، فقد صدرت في الأول من مايو سنة 2005، عن المركز الثقافي العربي. وبالنظر للمؤلفات التي سبقت هذا الكتاب، يتضح أن هذا الأخير هو بمثابة الجواب عن الإشكالات التي تطرحها المؤلفات السابقة، كالخطاب التاريخي، الإصلاحية العربية والدولة الوطنية، التراث والتجاوز، وهي في مجملها تتخذ من الإصلاح السياسي والديمقراطية والمواطنة والتراث مواضيع لها، وهي نفسها المواضيع التي يعالجها كتاب "في شرعية الاختلاف".

ـ التراث ومسألة الاختلاف: عرض أفكار الكتاب

يقوم الكتاب في مجمله على عرض الأفكار والمقارنة بينها ونقدها، وإذ يعتمد الكاتب العرض التاريخي للأفكار، فقد كان انتقائيا في اختيار النماذج التي يقترحها للحديث عن الحق في الاختلاف في السياق الإسلامي، ولذلك ما يبرره.

حتى تكون قراءتنا واضحة، فإننا سنعرض أفكار الكتاب على أساس الكيفية التي بنيت بها. فإذا كان الكاتب يريد فحص فكرة الاختلاف متخذا من التراث الإسلامي أرضية لهذا الفحص، فإن هذه الفكرة، في نظره، تتخذ شكلين أساسين، اختلاف داخل المعتقد الواحد، وهو اختلاف على مستوى التأويل؛ واختلاف مفكري الإسلام مع الأطراف المناقضة لهم، وهو اختلاف خارج دائرة المعتقد. ويشكل هذا الأخير أس الكتاب، يناقشه الكاتب من خلال ثلاثة نماذج، هي: الجدل الديني بين المعتزلة والمانوية، موقف الرحالة المسلم من الآخر المختلف، وقد اختار الكاتب موقف ابي الريحان البيروني من الهند أنموذجا، ثم الاختلاف من منظور مغاير للوضع الطبيعي المسلم لا باعتبار الآخرين أهل ذمته، بل أن يكون هو في ذمة الغير، وقد جعل من حالة المورسكيين نموذجا لهذا النوع الأخير من الاختلاف.

تشكل قضية الاختلاف الديني إحدى أهم القضايا لدى الأمم القديمة، لكن كيف نظر المسلمون لقضية الاختلاف الديني؟

من المعروف أن الإسلام كان يعترف لبعض الأديان بالمشروعية، وهم أهل الذمة ومن هم في معناهم، وينزعها عن أخرى. للأديان الأولى مجموعة من الحقوق أهمها الحق في ممارسة معتقداتهم وحماية السلطة الإسلامية لهم، في مقابل ذلك عليهم دفع الجزية، مع حصر مجالهم الديني، حيث لا يتوسع في المجتمع الإسلامي، فعليهم مثلا ألا يشيّدوا كنائس ومعابد جديدة، وعليهم أن يلتزموا الامتناع عن التبشير[3]. هذا ما يقوله وما يشترطه الفقهاء، وهو مخالف في كثير من الأحيان لما يقوله التاريخ، والدليل على ذلك هو المناظرات بين المسلمين وغيرهم في المسائل العقائدية، وما سيهتم به الكاتب هو مناظرة المسلمين للأديان غير الكتابية، والتي لم يعترف بها فقهاء الإسلام كأديان. وكنموذج على هذه الأديان سيعتمد الكاتب على الجدل الذي دار بين المعتزلة والمانوية كمذهب غنوصي.

يتساءل الكاتب لماذا لم يكتف المعتزلة بالموقف الديني من المانوية، فيحكمون عليها بالشرك وبالتالي العدول عن الخوض في مناقشة آرائها؟ يرجع الكاتب هذا الموقف إلى كون طبيعة المذهبين أيديولوجية نخبوية، لذلك كان الصراع محصورا في دائرة النخبة، ولم تكن القضية قضية دينية عامة، صراع وتنافس على الصدارة والقرب من القابض على السلطة الدينية.[4]

بين الكاتب أن القاضي عبد الجبار قد اهتم بالمذهب المانوي، فاطلع عليه وانبرى للرد على الكثير من مسائله، غير أنه تحاشى الدخول في تفاصيل هذا النقاش، ويشير فقط إلى أن القاضي عبد الجبار قد حصر آراء المانويين في مسألتين اعتبرهما أصل عقيدتهم: مسألة وجود الشر في العالم، وكيف تبرر؟ واعتقادهم في أصلين لوجود للعالم. ويشير الكاتب فقط للردود والحجج التي أوردها القاضي المعتزلي لإبطال هذين المبدأين؛ وذلك لكي يبين اهتمامه بالرد على المذاهب المختلفة وعلى رأسها مذهب المانوية.

يصنف الكاتب المعتزلة في صنف الكتاب الذين اهتموا بالنقض والرد على الأديان على الأديان غير الكتابية، في حين يصنف ابن النديم والشهرستاني والبيروني ضمن من اعتنوا ببسط آراء وعقائد هذه الأديان أكثر مما اهتموا بمجادلة أصحابها.

يتساءل الكاتب ما إذا كان البيروني مانويا؟ وهو ادعاء أكثر منه تساؤلا يبرره الكاتب رأيه من خلال اشتغال هذا الأخير واهتمامه بمؤلفات الرازي، واعتقاده في مانوية الرازي، لكونه قد انتقد الأنبياء ومعجزاتهم، وهو ما يتوافق مع مذهب المانوية[5]. ويضيف أن اهتمام البيروني بالرازي وتأكده من اعتناقه للمذهب المانوي هو ما جعله يتوجه نحو كتب ماني نفسها.

أساس عمل البيروني الخاص بمعرفة ذهنية وعادات وعلوم بلاد الهند والتعريف بقومه، كان بغرض المقارنة، إلا أن المقارنة غالبا لم تكن بين الهند بلاد الإسلام، وإنما بين الهند واليونان. وهذه المقارنة غالبا ما تكون لصالح العلم والفلسفة اليونانيين، واللذين سيرثهما العلم والفلسفة الإسلاميين. ما دفع البيروني إلى الترفع عن مجادلة آراء وعقائد الآخر، هو أنه لا يجد نفسه أمام مستوى لائق بالدرجة التي بلغها علمه الإسلامي الوارث للعلم اليوناني.

يؤكد الكاتب أن البيروني قد تعامل مع عقائد الهند وآراء من اتصل بهم من علمائها، بموضوعية "متعالية"؛ لأنه كان ينظر للآخر من عل معتدّا بحضارته وعلمه الإسلاميين. الحديث عن الموضوعية هو ما سيدفع الكاتب للتساؤل عن الموضوعية التي كان مؤلفو كتب الملل والنحل يبتدئون بها مؤلفاتهم؛ فيستحضر في هذا الصدد مواقف كل من ابن حزم الأندلسي والشهرستاني، فهذا الأخير يعبر عن نية الموضوعية ويَعدٌ القارئ بالالتزام بها في كتابه "الملل والنحل"، إلا أن هذه الموضوعية في نظر الكاتب لا تخلو من نقائض، تظهر في تقسيمه الثنائي للبشر على أساس معتقداتهم ومذاهبهم، بين من لهم دين معترف به، وأصحاب الأهواء والنحل، وتفضيل أولئك على هؤلاء، ليخلص إلى أن بسط القدماء مختلف العقائد والمذاهب، بل وتحري الموضوعية في ذلك أو الوعد بها، لا يعني قبولهم المبدئي للاختلاف.

من الأمور التي تبين أهمية التاريخ في التأسيس للاختلاف في التراث الإسلامي، هو ذلك المبحث الذي سماه المهتمون بعلوم القرآن "أسباب النزول"، والذي يجيب عن سؤال العلاقة بين النص والسبب الذي استدعاه، ومن الأمثلة على هذا المبحث كتاب النيسابوري "أسباب نزول القرآن". والسبب في استدعاء الكاتب لهذا المبحث، هو تسليط الضوء على مفارقة الجمع بين الأسباب والنزول، وهل يعني هذا الجمع النسبية التاريخية للآيات القرآنية؟

يجيب المشتغلون بهذا المبحث بأن القرآن لا يؤول إلى النسبية التاريخية، وإن كان قد ارتبط بعضه بحوادث معينة، ويوردون على ذلك الكثير من الحجج التي تبعد النص القرآني عن أن يكون محدّدا بعوامل التاريخ، وبالتالي لا تاريخية القرآن ونسبيته[6]. لهذا، فوقف أسباب النزول ينزع الطابع التاريخي عن هذه الأسباب كونها أسئلة.

بناء على ما سبق، يستخلص الكاتب المفارقة التي تطبع الفكر الإسلامي بين قبول الاختلاف من جهة كأمر واقع، والانتصار لفرقة واحدة ورأي واحد دون غيره من جهة أخرى. هذه المفارقة ناتجة عن كون نتيجة التسليم بالاختلاف كأمر طبيعي وأنه قد وقع فعلا منذ البداية، لا يعني الاستعداد الموضوعي لقبول الاختلاف حقيقة وواقعا وترسيخ منطق الحوار وثقافته. في هذا الإطار، يستشهد الكاتب بمواقف الشهرستاني، ويرى أن المشكل بالنسبة إلى هذا الأخير هو اعتقاده في أن الحقيقة واحدة يمتلكها طرف واحد. وبما أن الواحد يعتقد أن مذهبه هو الموافق والمطابق للنص، فإنه لا ينظر للاختلاف كنوع من التأويل للنص، وإنما هو اختلاف مع النص نفسه؛ وهذا يحرّم حق الاختلاف على الآخرين؛ لأنه لا يعتبرهم أطرافا قد اختلفت معه حول قراءة النص وتأويله، بل يعد قد اختلف مع النص نفسه.[7]

في هذه الحالة يصير الاختلاف خلافا، كما هو متجسد في موقف ابن تيمية، حيث إن المختلف هو من اتبع الباطل؛ إلا أن هذا الموقف ـ يتابع الكاتب مستدركا ـ لا يمثل كل مفكري الإسلام كالماوردي والغزالي على سبيل المثال. وهذا الرفض للآخر المختلف، بل وتجريمه وجعله كفرا وضلالا، هو في نظر الكاتب تطرف ديني، من بين أكثر من عرفوا بهذا التطرف القاضي الإسماعيلي الشيعي النعمان بن محمد، الذي كان يدعو للخضوع المطلق لولي الأمر، ويربط الكاتب بين نموذج هذا القاضي وأمثاله في عصرنا الحالي الذين يروجون لطغيان الرأي الواحد؛ وذلك باسم الدين المختزل في مذهبهم[8].

تلك إذن وضعية الآخر المختلف داخل الثقافة الإسلامية، وتحت كنف سلطة المسلمين، لكن ما وضعية المسلم المغلوب على أمره وتحت سلطة أجنبية كحالة الموريسكي في الأندلس على سبيل المثال؟

وضعية الموريسكيين في نظر الكاتب هي وضعية مقلوبة، ونظرا لجدتها فإنه من الصعب إيجاد ما يفيدهم في تراث الأسلاف الذين ناظروا في الاختلاف الديني، لذا كان على الموريسكيين ابتكار وسائل للدفاع وإنقاذ ذاتهم الثقافية[9]. ومن أهم هذه الوسائل اختراع الأعجمية، وهي لغة إسبانية مكتوبة بالعربية، الغرض منها الحفاظ على الهوية الموريسكية بالإبقاء على ما يربطها بالعالم الإسلامي؛ بالإضافة إلى المنحولات، والمنحول هو النص المزيف في مقابل الأصل المقياس، وبغض النظر عن أسبابها، فالنصوص المنحولة هي اختراع للمواجهة ولإنقاذ الهوية الموريسكية، وقد انصب النحل على الأناجيل، لذلك ينسب الكاتب إنجيل بَرْنَابَا Barnabeللموريسكيين. إلى جانب ذلك، فقد جعل الموريسكيون دعاوى البروتستانتية حججا لتأكيد موقفهم الإسلامي من المسيحية والاطمئنان إليه.[10]

إن المشكلة الأساس بالنسبة إلى الموريسكيين تكمن في مقاومة الاندماج، والتي انتهت بالتهجير الجماعي الذي استمر حتى بدايات القرن السابع عشر، هذه الوضعية ستدفع الموريسكي إلى إتقان سلوكين منفصمين: سلوك مع المحيط المسيحي المهيمن، وسلوك مع الأهل والأقارب المسلمين. وهي وضعية الإنسان المغلوب على أمره داخل ثقافة ترفض الاختلاف؛ لهذا يفترض الكاتب أن مصير الموريسكيين كان سيكون مختلفا لو أنهم وجدوا في مجتمع أكثر تسامحا وأكثر انفتاحا على قيم حرية العقيدة والفكر وحق المشاركة وحق الأقلية.

خلاصات وملاحظات:

بناء على قراءتنا للكتاب، يمكن استخلاص ما يلي:

ـ جوهر الاختلاف في الثقافة الإسلامية هو الاختلاف الديني، وقد كان المسلم ينظر للآخر المختلف من موقع المنتصر المعتد بثقافته.

ـ رغم كون الاختلاف أمرا واقعا، إلا أن أغلب المذاهب في التراث الإسلامي تنتصر للحقيقة الواحدة التي يمتلكها طرف واحد لا غير، وفي ذلك رفض للآخر المختلف.

ـ هذا التراث يقوم دون ترسيخ قواعد الحوار وقبول التعدد في الواقع الراهن، ومن ثم فهو عائق أمام تأسيس ثقافة الاختلاف.

على الرغم من كون الكتاب يتخذ من التراث موضوعا له، إلا أن المستهدف هو الواقع الراهن، وعلى ذلك فنقد التراث هو في الآن ذاته نقد للممارسات السياسية السائدة الآن. فالكاتب لم يجد في التراث ما يسند مشروعية الاختلاف، وما يترتب عليه من مشروعية التعدد وتعاقدية النظام السياسي وتداول السلطة والمصالح. هذه الخلاصة لا يبلغها القارئ من خلال متن الكتاب، وإنما هي خلاصة الكاتب والتي قد نحس أن الكاتب يسقطها إسقاطا على كل النماذج التي اعتمدها للحديث عن التراث في الثقافة الإسلامية، ومن بين ما يبرر ملاحظتنا تلك هو المسائل التالية:

ـ هناك إقرارات تحتاج، في نظرنا، إلى مزيد من التوضيح، نذكر منها على سبيل المثال، الربط الذي أقامه الكاتب بين البيروني والديانة الفارسية القديمة، معتمدا على مسألة اهتمامه بمؤلفات الرازي؛ ثم ادعاء الكاتب أن إنجيل برنبا ينتسب للمورسكيين، وأن من ترجمه إلى العربية ومن قدموا له لم يتنبهوا لهذه المسألة، وقد بنى مجموعة من النتائج على هذا الادعاء. الأمر الذي قد يضع الكاتب أمام مجموعة من الصعوبات، فلو ثبت أن هذا الانجيل لم يكن صناعة موريسكية فإن النتائج التي توصل إليها ستكون في جزء منها مجانبة للصواب.

ـ لم يبين الكاتب بشكل دقيق مواضع عدم قبول الاختلاف لدى المعتزلة، بل لم يعط موقفا صريحا منهم بخصوص هذه القضية، وإنما اكتفى بتأويل جدلهم مع المانوية على أنه جدل حول السياسة والسلطة؛ وعندما يلمح في أحيان قليلة لموقف المعتزلة من مسألة الاختلاف، يقول: "فهناك من قبلوا بوجود هذا "الاختلاف"، ورسموا له مع ذلك حدودا"[11]، وفي هذا إقرار بوجود الاختلاف وإن كان اختلافا مشروطا. لكن ألا يلغي كون نموذج واحد من النماذج التي اختارها الكاتب يقبل الاختلاف، ذلك التعميم الذي أكده في الاستخلاص من أن التراث يشكل عائقا أمام تكوّن عقلية قابلة بشرعية الاختلاف؟

ـ النظر للمانوية كمذهب لا كديانة قائمة البنيان، على منوال النظر للمعتزلة كمذهب ديني، فيه الكثير من النظر.

ـ بما أن المقصود هو الواقع الراهن، وما العودة إلى التراث إلا نقد لهذا الواقع، ألا تؤثر نظرتنا للواقع في قراءتنا للتراث وحكمنا عليه؟ وبالتالي يصير الإقرار بغياب حق الآخر في الاختلاف موجّهُ الكتابة في الموضوع، فتصير قراءتنا للتراث محكومة بواقع الحال، وبالتالي عوض أن نبحث عن سند نؤسس عليه فكرة الاختلاف، يصبح هاجسنا تبرير الواقع من خلال التراث.

ـ إذا كان الغرض من استحضار التراث الإسلامي هو إمكانية التأسيس لمشروعية الاختلاف في الواقع العربي، كما صرح الكاتب نفسه، ألم يكن من الأجدر التركيز على النماذج التراثية التي تزكي فكرة الاختلاف، أو على الأقل الأخذ بمبدأ التكافؤ توخيا للموضوعية، عوض الاكتفاء بتشخيص وضعية هذه الفكرة بناء على نماذج موجهة في السياق الإسلامي، وبالتالي ارجاع غياب الحق في الاختلاف في مجتمعاتنا الحالية إلى غيابه في تراثنا. وهنا يجوز التساؤل ألا يمكن تأسيس ثقافة الاختلاف بعيدا عن المعطيات التراثية؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فما هي البدائل الممكنة لذلك؟

هذه الملاحظات لا تنقص من قيمة الكتاب أو تبخس من مجهود صاحبه، بقدر ما هي تفكير معه في القضايا التي يطرحها، وهذا هو الغرض من الكتابة عموما، وهو إثارة تساؤلات القارئ وجعله ينخرط في التفكير، سيما وإن كان الأمر يتعلق بالشأن العام والمصير المشترك.

[1] -باحث مغربي.

[2] انظر:

http://aohr.net/portal/?p=3328 09/02/2020.

[3] علي أومليل، في شرعية الاختلاف، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ـ المغرب، الطبعة الثانية، 2005، ص20

[4] نفسه، ص 36

[5] نفسه، ص 42

[6] نفسه، ص 74

[7] نفسه، ص 81

[8] نفسه، ص 87

[9] نفسه، ص 92

[10] نفسه، ص 126

[11] نفسه، ص 42