العدالة بوصفها إمكانا للتفكيك: قراءة في الجزء الأول من كتاب قوة القانون "الأساس الخفي للسلطة"، لجاك دريدا


فئة :  مقالات

العدالة بوصفها إمكانا للتفكيك: قراءة في الجزء الأول من كتاب قوة القانون "الأساس الخفي للسلطة"، لجاك دريدا

إن فتح العمل المهم والصعب لجاك دريدا أمام جمهور واسع، لن يتم بدون تشويه، بدون تخمين، وبالخصوص بدون إفقار. هكذا تحدثت لوسيت فيناس Lucette Finas، عن الصعوبات التي تعترض الباحث في فكر دريدا؛ ذلك الفيلسوف الذي أفنى جزءا من حياته في تفكيك التراث الميتافيزيقي الغربي المحكوم بنزعة العقل المركزية Logocentrisme، إذ إن عمل دريدا يقوم أساسا على التموقع داخل الظاهرة وتوجيه ضربات متوالية لها من الداخل، وبذلك فهو يقطع شوطا مع الميتافيزيقا، عندما يطرح عليها أسئلة تٌظهر أمامها ومن تلقاء نفسها عجزها عن الإجابة، وتفصح عن تناقضها الداخلي.

في هذه المواجهة للميتافيزيقا الغربية التي تقوم على التمركز وعلى فهم العالم، انطلاقا من ثنائيات متعارضة تفترض أن الطرف الأول فيها يسبق الثاني، وأنه أعلى منه منزلة (الخير/الشر، الحضور/الغياب، العقلي/الحسي، الصوت/الكتابة، الماهية/العرض...) يقترح دريدا استراتيجية في القراءة تقوم على التفكيك، من خلالها يمكننا وضع حد لنسق التعارضات والتفضيلات الميتافيزيقية بإظهار أن ما تستبعده الميتافيزيقا، باعتباره ثانويا ومشتقا بالنسبة إلى مفهوم التأسيس الأصلي ـ الاختلاف مثلا بالنسبة إلى الهوية ـ هو في حقيقة الأمر أسبق وأشمل مما تعتبره الميتافيزيقا أصلا.

بذلك، فإن استراتيجية التفكيك تروم قراءة الفكر الغربي قراءة شاملة وإعادة النظر في المفاهيم التي تأسس عليها كخطاب ميتافيزيقي (مثل الحقيقة والعقل والهوية والحضور والأصل إلخ...). وهي عبارة عن نقد للتمركز العرقي ethnocentrisme الغربي المدعم من طرف تمركزات أخرى، مثل تمركز العقل logocentrisme وتمركز الصوت phonocentrisme وتمركز القضيب phallocentrisme. وفي ذلك، فإنه يعود للكثير من الفلاسفة والمفكرين بدءا بأفلاطون ووصولا إلى دي سوسير وليفي ستراوس مرورا بروسو وهوسرل وهيدغر، ولا ننسى كذلك ماركس، نتشه وفرويد.

إن تفكيك مفاهيم من قبيل العقل، الحق، السلطة والسيادة، هو في حد ذاته تفكيك لمفهوم السياسة، هذا الأخير الذي احتل دائما مكانا مركزيا في كتابات دريدا، خاصة من خلال موضوعات العنف والهبة، القوة والقانون، الحق والعدالة.. إلخ. بل إن دريدا في النصوص المتعلقة بالسياسة يطرح بأكبر قدر ممكن من الوضوح سؤال تحديد شرعية التفكيك، وهو ما يظهر بشكل واضح خصوصا في محاضرته المعنونة بـ "من الحق إلى العدالة" المنشورة ضمن مؤلف "قوة القانون: الأساس الخفي للسلطة". فكيف تعامل دريدا مع مفهوم العدالة وكذلك مفهوم القانون؟ وكيف يمكن أن يشكل مفهوم العدالة إمكانا لممارسة التفكيك؟

سيعمل دريدا في الفصل الأول من هذا الكتاب المعنون بـ "من الحق إلى العدالة" ـ وهو في الأصل محاضرة أعيدت كتابتها ـ على الحديث عن مفاهيم "التفكيك"، "الامكان"، "العدالة"، وحتى عن هذه التلازمات الحملية syncategoremes ("و" "الـ"، فيما يتعلق بـ) التي تربط بينها، حيث سيحاول دريدا أن يفكك نص القانون من خلال مجموعة من الإجراءات: إرجاع محاولة فهم النص القانوني إلى أصول تاريخية فلسفية، بيان الصلة بين القانون والعنف أو العدالة، ونقد اعتباطية الحكم القضائي. وفي هذا العرض الموجز لموقف جاك دريدا من السياسة عموما ومن القانون والعدالة بشكل خاص، سنحاول من خلال مؤلفه المذكور أعلاه الوقوف على الصلة بين القانون والعدالة والعنف، ومن خلالها على ما يسميه دريدا إمكان التفكيك.

ــ في الصلة بين القانون والعدالة والعنف:

يؤكد دريدا أن معظم النصوص التي تعتبر "تفكيكية"، وبما فيها نصوصه هو نفسه قد اهتمت بمواضيع ذات صلة بالعدالة، السياسة والأخلاق، يقول دريدا: "إن أغلبية النصوص التي عينت بوصفها "تفكيكية" - على سبيل المثال، نصوصي - يبدو، أنا أقول يبدو، أن فكرة العدالة لا تتصدرها (بوصفها فكرة رئيسة، تحديداً) أو فكرة الأخلاق أو السياسة. من الطبيعي أن يكون ذلك ظاهرياً فقط، إذا ما أخذنا في اعتبارنا على سبيل المثال (سوف أذكر هذه فحسب) النصوص الكثيرة التي خصصتها لليفيناس Levinas وللعلاقات بين "العنف والميتافيزيقا" أو لفلسفة الحق عند هيجل بكل آثارها في كتابي أجراس Glas، حيث تمثل فيه الفكرة الرئيسة، أو النصوص التي خصصتها لباعث السلطة ولمفارقات السلطة في تأمل – حول فرويد Speculer-sur Freud أو للقانون، في أمام القانون (حول ما كتبه كافكا في أمام القانون Vor dem Gesetz) أو في إعلان الاستقلال Declaration d indépendance، أو في الإعجاب بنلسون مانديلا أو قوانين التأمل Admiration de Nelson Mandela ou les lois de la reflexion. وفي عديد من النصوص الأخرى. من البديهي أن خطابي حول التوكيد المزدوج، والهبة التي تتجاوز التبادل والتوزيع، غير القابل للتقرير، غير القابل للقياس، أو غير القابل للحساب، أو حول الفرادة، والاختلاف والمغايرة هي أيضاً وبكل ما في الكلمة من معنى خطابات عن العدالة، بشكل غامض على الأقل".

يعتبر هذا العمل إذن تتويجا مباشرا وصريحا لأعمال دريدا السابقة خاصة فيما يتعلق بموضوع العدالة والقانون تحديدا، لكن ألا يجب أن تكون هذه المساءلة التفكيكية في موطنها بالمدارس القانونية، أكثر منه بأقسام الفلسفة؟

يرى دريدا أن المساءلة التفكيكية التي مارستها الدراسات القانونية النقدية، هي في الغالب متقطعة، تقريبية، إن لم نقل عنها أنها متأخرة، لذلك فلا مناص من المساءلة التفكيكية في جانبها الفلسفي. لذلك يعود دريدا لنصوص الفلاسفة ك باسكال ومونتاني، وذلك لكي يبين التلازم الحاصل بين القوة (العنف) والعدالة.

عمل دريدا في هذا النص على تحليل تعبيرين اصطلاحيين في اللغة الإنجليزية أحدهما To enforce The Low "تنفيذ القانون"، الذي يذكرنا بأن العدالة إن لم تكن حقا أو قانونا، فإنها لا يمكن أن تغدو عدالة سوى بالاحتفاظ بالقوة (العنف)، أو بالأحرى الاحتكام للقوة منذ لحظتها الأولى. إذا كان القانون بما هو تطبيق للعدالة يتطلب القوة، فإن في بداية العدالة كانت هناك كلمة Logos اللغة أو الكلام والتي لا تتعارض بالضرورة مع البداية التي تقول: في البدء كان هناك العنف. يريد دريدا ان يشير هنا إلى أن اللغة بما هي كلام تتضمن نوعا من العنف، وبذلك فإن العنف متضمن في تطبيق القوانين أي في العدالة بما هي لوغوس.

في هذا الإطار، يستشهد دريدا بإحدى أفكار Pensées بليز باسكال التي تقول: "عدالة، قوة ــ من العدل أن يُتّبع ما هو عادل، ومن الضروري أن يُتّبع ما هو قوي"، أي أن ما هو عادل وما هو قوي يجب أن يتبعا، فما هو عادل يتضمن بشكل قبلي وفي ذاته أن يُتّبع، وكذلك ما هو قوي. وهو ما تزكيه وتتممه فكرة باسكال التالية: "العدالة من دون قوة عاجزة"، بمعنى أن العدالة ليست عدالة ولا تتحقق إن لم تكن لها القوة التي تساعد على تنفيذها وتحققها. ومن ثم، يتضح اقتران العدالة بالقوة وأن ضرورة القوة متضمنة في العدالة.

يستعيد دريدا في الإطار نفسه، تعبيرا لمونتاني ـ يبدو أن باسكال قد استعمله دون الإحالة على صاحبه ـ محاولا تفسيره وتقويمه بعيدا عن قراءته المألوفة والتقليدية، وهو "الأساس الخفي للسلطة"، حيث يبين دريدا أن ما يعنيه مونتاني بالأساس الخفي للقوانين هو أنها تحتفظ بمصداقيتها ليس لأنها عادلة، بل فقط لأنها قوانين. من الواضح إذن أن مونتاني يميز هنا بين القوانين والعدالة، عدالة القوانين. العدالة كقانون ليست هي العدالة، ليست القوانين عادلة بوصفها قوانين، وهي تطاع ليس لأنها عادلة وإنما لأن لها سلطة.

إذن حسب ما يفهم من قول مونتاني هو أن لسلطة القوانين اساسا خفيا، وهذا الحد الخفي يظهر دائما عند كل عملية تأسيس، فما دام أصل السلطة وأساسها هو سن القوانين فلا يمكنها بالتعريف أن ترتكز على شيء عدا ذاتها، فهي ذاتها عنف بغير أساس. وهو ما لا يعني القول أنها غير عادلة في ذاتها، فهي ليست عادلة ولا غير عادلة. يقول دريدا: "فهي (أي القوانين) ليست شرعية ولا غير شرعية في لحظتها التأسيسية. حتى إذا ما كان نجاح الإنجازيات التي أسست القانون أو الحق (للدولة بوصفها ضامناً للحق على سبيل المثال، وهو أكثر من مثال,) تفترض شروطاً أسبق واتفاقيات (على المستوى القومي أو الدولي مثلاً)، سوف يعاود نفس الحد "الخفي" الظهور عند الأصل المفترض للشروط، والقواعد أو الاتفاقيات المذكورة، وعند أصل تفسيرها السائد".

و هذا يبين أن القانون (أو العدالة باعتبارها قانونا) قابل للتفكيك، سواء كان مؤسساً على طبقات نصية قابلة للتفسير والتحويل، أو بسبب أن أساسه النهائي بحكم تعريفه غير مؤسس. في حين أن العدالة في ذاتها غير قابلة لذلك، لأن القانون قابل للإنشاء ومن ثم فهو قابل للتفكيك. لكن حتى عدم قابلية العدالة للتفكيك هي في حد ذاتها تجعل التفكيك ممكنا، لأن التفكيك والعدالة لا ينفصلان، والنتيجة ـ يقول دريدا ـ: يجرى التفكيك في الفسحة التي تفصل عدم قابلية العدالة للتفكيك عن قابلية القانون للتفكيك. إنها ممكنة بوصفها تجربة المستحيل، إن كانت، وحتى لو لم تكن موجودة (أو لم توجد بعد، أو لن توجد أبداً) هناك عدالة.

هكذا يبين دريدا العلاقة بين كل من القانون، العدالة والقوة، كما أنه يبين كيف يمكن للعدالة أن تشكل إمكانا للتفكيك، ومن بين ما يوضح ذلك هو اللغة، أو بشكل أدق علاقة اللغة بالقانون بما هو تطبيق للعدالة، حيث أنه لا يمكن الحكم على شخص أو من غير العادل الحكم على شخص ما لا يفهم اللغة التي نقش بها القانون أو نطق بها الحكم. وما دام القانون والعدالة يرتبطان باللغة فإنه من غير الممكن ان يتوجه القانون نحو كائنات أخرى غير الإنسان، فالحيوان مثلا باعتباره حيا ليس موضوعا للقانون. وبالتالي، فإن التعارض بين العادل وغير العادل لا معنى له هنا.

هذه المسائل تحيل إلى ضرورة إعادة النظر في كلية بداهة المركزية الإنسانية الميتافيزيقية التي تهيمن في الغرب على فكرة العادل وغير العادل، هذه الخطوة تؤدي، باسم طلب أكثر نهماً للعدالة إلى إعادة تفسير لكل جهاز الحدود الذي أمكن لحضارة أو تاريخ أن تحصر فيه علمها المعياري criteriology. من ثم سيقوم التفكيك بمهمة الذاكرة التفسيرية والتاريخية. إزاء التراث الذي تلقيناه تحت اسم العدالة، وفي أكثر من لغة، ليس فقط كمهمة لغوية اشتقاقية أو كمهمة مؤرخ وإنما كمسؤولية في مواجهة الميراث الذي هو في الوقت نفسه ميراث واجب أو حزمة وصايا. إن التفكيك منشغل بالفعل بهذا الطلب اللانهائي للعدالة، من أجل العدالة التي يمكن أن تتخذ مظهر هذا "الخفي" mystique الذي تحدث عنه دريدا قبلاً.

ولكي يتم ذلك، فلا بد أن نعلم من جهة أن معرفة العدالة تتم من خلال مصطلحات فريدة، ومن جهة أخرى أن نعلم أنها دائما تخاطب الفرادة، فرادة الآخر على الرغم من أنها تدعي الشمول.

ما يمكن استخلاصه مما سبق هو ذلك التمييز الذي يقيمه دريدا بين العدالة اللانهائية غير القابلة للحساب المتمردة على القاعدة والغريبة عن الاتساق والمغايرة والمجزأة وممارسة العدالة بوصفها قانوناً أو حقاً شرعياً أو مشروعاً قابلاً للاستقرار، ومتماثلة قابلة للحساب ضمن نظام من القواعد المقننة والمنظمة.

يستخلص دريدا عدة إحراجات aporias، بين القانون والعدالة، التي يجد فيها التفكيك موقعه المتميز - أو بالأحرى عدم استقراره المميز -. يُمارس التفكيك بصورة عامة بطريقتين أو بأسلوبين، رغم أنه غالباً ما يطعم الواحد منهما بالآخر. يتبنى المرء الإغواء الإيضاحي اللاتاريخي ظاهرياً للمفارقات المنطقية الشكلية. الآخر، أكثر تاريخية أو أكثر تذكراً، يبدو أنه ينطلق عبر قراءات للنصوص، تفسيرات مدققة ونسابية. وفي مناقشته لهاتين الممارستين والإحراجات التي تنتج عنهما، سيستحضر دريدا مفهوم العدالة كما هو لدى لفيناس وما يرتبط به من مفاهيم. لكي يبين أن العدالة كما تصورها لفيناس تطرح مجموعة من المشكلات.

لم نقف كثيرا في هذا العرض على العديد من القضايا التي طرحها دريدا في كتابه "قوة القانون"، حيث اننا لم نبين بالشكل الكافي نقده لحركة الدراسات النقدية للقانون إلا بشكل خاطف. لم نتوسع أيضا في الكثير من المفاهيم التي جاءت في النص، كمفهوم تجربة الإحراج، كما أننا لم نشر للجزء الأخير من النص وهو المتعلق بدراسة أحد نصوص بنيامين المعنون بـ "نقد العنف". وذلك لأن موضوع عرضنا كما أشرنا في السابق هو العدالة وإمكان التفكيك، أي أولا العدالة كإمكان للتفكيك وتفكيك العدالة. الأمر الذي حاولنا اظهاره قدر المستطاع من خلال تلك العلاقة التي يرسمها دريدا بين كل من القانون، العدالة والقوة (العنف).