التشيع السياسي في المغرب: جماعة العدل والإحسان أنموذجا
فئة : مقالات
التشيع السياسي في المغرب:
جماعة العدل والإحسان أنموذجا
تعد جماعة العدل والإحسان إحدى الحركات الإسلامية "الفريدة" من حيث السلوك السياسي والانتماء الفكري والعقدي؛ فهي تمزج بين النَفَس الصوفي والبعد الروحي المشكل للتدين الشعبي المغربي، وبين التنظيم والسلوك السياسي والحركي المستلهم من التشيع السياسي وتنظيم الإخوان المسلمين. وهذا راجع للتأثير الفكري والديني الذي لعبه مؤسسها عبد السلام ياسين، بصفته الوعاء التربوي والفكري للجماعة، ورابطها الروحي والتنظيمي، حيث شكلت كتبه ومقالاته ومحاضراته، بنية مرجعية للجماعة، تأسس عليها ميثاقها وتصورها الديني والسياسي، ما يميزها كحركة دينية ترتبط بنسق تنظيمي وروحي بمؤسسها حتى بعد وفاته، بصفته عقل الجماعة ومرشدها، وهي علاقة مشيخة تربوية تعكس البعد التربوي للزوايا الدينية في علاقة "الشيخ والمريد".
هذا الارتباط الروحي والمشيخي بين أعضاء الجماعة ومرشدها، انعكس بشكل دال على التوجه الفكري/الديني الكلي للجماعة، ما يعني أن مسار وتجربة ياسين كان لها دور محوري في صياغة وتحديد مرجعيتها، بصفته "الشيخ المربي" للمريدين، و" المرشد العام" للأعضاء، ومؤسس وقائد التنظيم. وهو ما يفهم من التحولات التنظيمية بعد وفاة ياسين، حيث استقر له منصب المرشد العام دون غيره، واستبدل منصب قيادة التنظيم بـ "الأمين العام" المنتخب ونائبه، دون أي مهام إرشادية أو تربوية. ما يفيد استمرارية الدور الإرشادي لياسين عن طريق أثره الفكري والديني.
التوجيه الإرشادي المذكور، أساسه عصارة تجربة دينية وسياسية عاشها ياسين منذ نهاية السبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي، وهي المرحلة التي شكلت إرهاصات ظهور "أسرة الجماعة" و"جماعة العدل والإحسان"، وهي نفس المرحلة التي شهد فيها العالم انفجار الثورة الإيرانية وسقوط نظام الشاه بقيادة رجال الدين. ما أعطى نفسا جديدا للحركة الإسلامية عموما في المغرب، ولياسين وجماعته خصوصا، من خلال تجديد أطروحته السياسية وبروزها في المشهد الديني والحركي، حيث إن الثورة الإيرانية قد ساهمت في نمذجة "ثورتها الدينية" ومحاولة تصديرها كنموذج إسلامي، في بيئة لم تشهد سوى ثورات شيوعية، وكانت لاتزالت تحت تأثير الفكر الماركسي اللينيني والثورة البلشفية، وقيم ومفاهيم الاشتراكية، فضلا عن القيادات القومية ودعاة الوحدة العربية، وهو الأمر الذي أثر تنظيميًّا وسياسيًّا على عبد السلام ياسين، ما جعله يتبنى مفاهيم من قبيل "الثورة" و"القومة" و"التغيير السياسي" بنفس إسلامي، وانخرط بذلك ضمن ما اعتبره مشروعًا مجتمعيًّا لبناء الدولة الإسلامية وإعادة "بريق الخلافة".
هذا الانبهار بالثورة الخمينية، فضلا عن التأثر بأدبيات التشيع ومواقفه التاريخية، وبروز هذا التماس الفكري والمذهي في كتب ياسين ومحاضراته ودروسه الدينية، أسهم وبشكل ملحوظ في مرحلة لاحقة، من التأسيس لمسار جديد لكثير من أعضاء الجماعة، للانتقال عقديا من التسنن إلى التشيع. وهو ما تؤكده عدد من الدراسات والبحوث الميدانية، من بينها دراسة ميدانية سبق وأن أجريتها في سنة 2017[1] حول موضوع التحول الديني عند الشيعة المغاربة، اعتمدت فيها على المنهج الكيفي في التحليل، مستعينا بتقنية سير الحياة، وعينة مشكلة من سبعة أشخاص مغاربة، ينتمون إلى تعبيرات شيعية ومرجعية متنوعة. وكان من نتائجها، معايشة المتحولين مذهبيا لمحطات انتمائية سابقة، تركزت أغلبها في جماعة العدل والإحسان، والتي كان لأدبياتها الفكرية والدينية والسياسية، دور في عكس انتقالهم الديني من التسنن إلى التشيع.
وتحاول هذه المقالة، فهم وتفسير مدى ارتباط أدبيات جماعة العدل والإحسان بحركية التشيع في المغرب، والدور المركزي لمؤسسها عبد السلام ياسين في إنتاج هذا التماس الفكري والمذهبي، والذي يجعل من كل باحث مشتغل على الشأن الشيعي في المغرب، ضرورة التعرض له، لما له من دور في دراسة حركية التحول الديني للمغاربة وانتقالهم العقدي، عبر فهم الشروط الدافعة لهذا التحول. وتحتوي المقالة على أربعة محاور أساسية، تعرض تجربة عبد السلام ياسين من التصوف إلى التشيع السياسي، وتقدم أيضا قراءة في أدبيات الجماعة ومدى تماسها مع المذهبي الشيعي، ونمذجتها للتشيع السياسي، وتأثيره في بنائها الفكري والحركي، فضلا عن مواقف ياسين تجاه الخميني وثورته، ونماذج لشيعة مغاربة تحولوا إلى المذهب الشيعي بعد معايشتهم لتجربة انتمائية داخل الجماعة.
ياسين: من التصوف الروحي إلى التشيع السياسي
ارتبط البعد التنظيمي والتربوي لجماعة العدل والإحسان، بشكل وثيق، بمسار وتجربة عبد السلام ياسين قبل وبعد مرحلة تأسيس الجماعة، على الأقل في بعدها الديني، عبر انضوائه في الزاوية القادرية البودشيشية برفقة الشيخ العباس بن المختار البودشيشي، حيث استقر بها مدة ستة سنوات، ليغادرها غاضبا بعد إراثة الزاوية للشيخ حمزة من أبيه الشيخ العباس، وهو ما شكل تضادا مع رغبات ياسين، في إدخال تغييرات جذرية على الزاوية، تهم أساسا الاهتمام بالشأن العام، ما كان مرفوضا من طرف الشيخ حمزة، الذي حرص على إبقاء الزاوية وفية لبعدها الصوفي التربوي[2]. خروج ياسين من الزاوية، كان غايته أيضا تأسيس حركة إسلامية يتسع أفقها العملي من الممارسة التربوية وتزكية النفس، إلى العمل الحركي وتتبع الشأن السياسي.
التجربة الصوفية، كان لها دور في تحديد المعالم الروحية لجماعة العدل الإحسان كما عاشها ياسين برفقة شيخه العباس، لكنها لم تكن المحدد الأساسي في تشكيل البنية المرجعية للجماعة وتصورها السياسي، حيث تأثر ياسين بأدبيات جماعة الإخوان المسلمين في مصر، خاصة كتب سيد قطب، والتي شكلت لدى ياسين وجماعته رؤية وتصورًا مبنيًّا على أفكار الإسلام السياسي حول الدولة والمجتمع، وإن كان ياسين قد اجتهد في ابتداع بعض المفاهيم أو تبديلها بأخرى، إلا أن جوهر الممارسة التنظيمية للجماعة، ظل مرتبطا بفكر سيد قطب والإخوان المسلمين، الذي يلحظ دوره في بنيتها الفكرية. هذا التقاطع مع الإخوان المسلمين وإن كان لا يظهر عبر الارتباط التنظيمي؛ أي تبعية الجماعة للتنظيم العالمي للإخوان، إلا أنه يبرز أكثر من خلال الأدبيات الحركية الإسلامية المشتركة.
هذا التقاطع الأدبي، لا يبرز فقط بين فكر ياسين والإخوان المسلمين، وإنما يتعداه لأدبيات وأطروحات التشيع السياسي، فكما أوضحنا سالفا، كان للثورة الإيرانية الدور الرئيس في صقل وتشكل معالم جماعة العدل والإحسان، وهذا ما تشهد عليه أدبياتها والمرتبطة أساسا بكتابات عبد السلام ياسين، الذي لم يخف انبهاره وتأثره بمخرجات هذه الثورة، وأيضا بالطرح السياسي الشيعي الذي انبثق عنها وتصوره للدولة والمجتمع، فنجد مثلا كتب مثل "العدل: الإسلاميون والحكم" و"المنهاج النبوي" و"سنة الله" و"القرآن والنبوة" و"رجال القومة والإصلاح"، و'الخلافة والملك" وغيرها، مليئة بعبارات التمجيد والانبهار بالثورة الخمينية، وقدرتها على إسقاط نظام الشاه وصعود "دولة إسلامية"، بل واعتبرها أنموذجا ثوريا إسلاميا، مكن "جماعة المؤمنين" من عصب الدولة ومقاومة ما سماه "الاستكبار العالمي"، ناظرا إلى الخميني قائدا روحيا وسياسيا وإماما، ونقتطف من كتابه العدل العبارة التالية: "...في ظروف أخرى وزمان آخر ينتصب مؤمن آخر، رمزاً للرفض المطلق لدولة الكفر «الشيطان الأكبر». لا يتلجلج في إعلان عِدائه. إنه الإمام الخميني رحمه الله، الذي خرج من سنوات طوال عاشها في المعارضة المطلقة والرفض الجذري.."[3].
إن المنهج الذي تعتمده جماعة العدل والإحسان منذ تأسيسها، يقوم أساسا على تقليد حركية الثورة الخمينية، وتبني منهجها العام ومضمونها الفكري، سواء في تبني مفهوم "القومة" مقابل الثورة، واعتبار الإعداد التربوي لها والتنظيمي الخيار الأمثل لنجاح المشروع الإسلامي، من خلال ما سماه ياسين بـ "الزحف الإسلامي" والتدافع الميداني مع القوى الإيديولوجية والحزبية من جهة، والدولة ونظامها من جهة أخرى، أو من خلال تبني النمدجة الثورية التاريخية المتمثلة في شخصية الحسين بن علي بن أبي طالب، كرمز ثائر في وجه الظلم وراغب في تحقيق العدل، وهو ما يتقاطع بشكل جذري مع الفكر الشيعي ونظام ولاية الفقيه في إيران، الذي ربط بين ثورته الدينية وثورة الحسين ضد الدولة الأموية وحاكمها يزيد ابن معاوية في بداية العشرية السابعة من تاريخ الهجرة (71 هـ/680 م)[4].
ومما سبق، يظهر بأن مسار وتجربة عبد السلام ياسين قبل وفي بداية تأسيسه للجماعة، قد جمعت تأثيرات خارجية لتنظيمات ودول، أبرزها الثورة الإيرانية بقيادة الخيمني، والتي كانت المسبب الأساسي في بناء تحوله الفكري والتصوري "للتربية الفردية والجماعية" الدينية و"تزكية النفس" عن طريق المسلك الصوفي، إلى تصور يقوم على أساس بناء تنظيمي حركي يجمع بين الشأن التربوي والشأن العام، ويبتغي الزحف من خلال مشروع "القومة الإسلامية"، التي تستلزم الإعداد المسبق عبر تربية "جند الله" تربية "إحسانية وجهادية" وتهيئتهم تنظيميا وحركيا "للزحف" وتولي شؤون الدولة، على أمل تحقيق "وعد الخلافة الإسلامية"[5].
الأكيد أنه وبعد وفاة عبد السلام ياسين، لوحظ وجود مسعى تنظيمي وفكري داخلي، يمثل تيارا وسطيا داخل الجماعة، يفضل التعامل مع أدبيات الجماعة الموقعة باسم مرشدها الأعلى عبد السلام ياسين على أنها إرث تاريخاني يجب تجاوزه، والعمل على تحديث التنظيم وتهيئته سياسيا، وهو تيار استطاع إحداث تأثير بسيط، من حيث التعاطي البرغماتي مع مشروع الجماعة المأمول في "الخلافة الإسلامية"، والذي استبدل بمشروع "الدولة المدنية"، رغبة في الحفاظ على تماسك الصف الداخلي من الأطر والطبقة الوسطى المشكلة لعصب وقوة الجماعة التنظيمية. ومع ذلك، لا يمكن تجاوز التأثير الذي لازالت تلعبه كتب عبد السلام ياسين داخليا، على الأقل ضمن تيار واسع من داخل الجماعة، لا زال يؤمن بدور المشيخة و"التوجه الإرشادي" و"التربية الإحسانية".
* أدبيات الجماعة والتماهي مع المذهب الشيعي
تتفرد جماعة العدل والإحسان كحركة إسلامية داخل المغرب، بقربها الفكري من الشيعة، والتماهي وبشكل واضح مع بعض من سردياتها خاصة في قراءة بعض أحداث التاريخ الإسلامي، ومن الأمثلة على ذللك، ما خصصه عبد السلام ياسين عبر كتبه ودروسه الدينية، من نماذج تظهر مثلا مع حدث التنازع على منصب الخلافة بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، وانتصارها لعلي بأحقيته في الحكم ونقده الشديد لبني أمية، وهو ما نجده كفكرة مركزية في المرجعية الموقفية للجماعة، ترتبط بما أسماها عبد السلام ياسين بـ "الانكسار التاريخي"، ويعرف أتباع الجماعة هذا المفهوم بالتالي: "نقصد بالانكسار التاريخي الفتنة التي نشبت بمقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ إذ بموجبه سيعرف التاريخ تحولات خطيرة أثرت على حياة المسلمين وفكرهم وسلوكهم، وستظهر عصبيات ونعرات قبلية، وينقسم المسلمون وينفرط عقدهم... إذ انتقضت عروة الحكم وتحولت الخلافة إلى ملك عاض ثم جبري يكتوي بلظاه اليوم الحركة الإسلامية والعلماء العاملون.."[6].
إن لهذا المفهوم أثره الدال في صفوف أعضاء الجماعة، بل ويشكل موقفا مرجعيا وثابتا في تصورها ورؤيتها للتحولات السياسية في التاريخ الإسلامي، أو عملية الانتقال كما يسميها ياسين من "الخلافة الراشدة" إلى "الحكم العاض"[7]؛ فالعودة التاريخية لأحداث الخلافة، خاصة في مرحلة ولاية علي بن أبي طالب، تظهر عدد الحروب التي خاضها ضد بعض الصحابة، في محاولة إبقاء الحكم بين يديه، ومنها حرب الجمل التي واجه فيها علي عائشة زوج الرسول، وشارك فيها طلحة والزبير، وأيضا حرب صفين التي كانت ضد معاوية بن أبي سفيان والي الشام، ثم حربه الأخيرة مع الخوارج والتي سميت بالنهراوين[8]. وتحول الخلافة إلى الملك بحسب فكرة "الانكسار التاريخي" الياسينية، تعني نقد ممارسات الصحابة، والنقد هنا موجه بالأساس إلى معاوية بن أبي سفيان، بصفته المتسبب الأساسي في تحويل الخلافة إلى الملك، وهو الأمر الذي نلحظه ضمن الكتب والخطب المرئية المسجلة لمرشد الجماعة[9]. مما يبرز أن المرجعية السياسية والموقف التاريخي لجماعة العدل والإحسان من الأحداث التي شهدتها المرحلة الإسلامية الأولى، تتناغم بشكل بارز وفي حدود معينة مع المرجعية الشيعية.
أيضا نلحظ هذا التناغم بـإظهار الولاء المطلق لأئمة الشيعة الإثني عشرية والدعوة لـ"رفع مظلوميتهم"، عبر استحضار النصوص التاريخية المرتبطة بهم، ففي كتاب "رجال القومة والإصلاح"[10] أفرد ياسين فصلا خاصا ممن أسماهم بـ "القائمين من أهل البيت عليهم السلام"، متناولا منهم سبعة من الأئمة المعتمدين لدى الشيعة الاثني عشرية، من "حسن السبط" وصولا إلى "الحسن العسكري"، مقدما إياهم كقادة سياسيين وروحيين، لعبوا دورا في معارضة الحكم الأموي والعباسي، وهو ما يتقاطع مع الرؤية الشيعية التاريخية لدور هذه الشخصيات، في استرجاع حق "آل البيت". وإن شكل التمايز الديني من حيث الإيمان بعصمتهم وولايتهم كما يؤمن الشيعة في حق أئمتهم، إلا أن هناك تقاطها من حيث الموقف التاريخي وأحقية تولي شؤون الحكم، حيث يقول ياسين: "ولا شك أن أئمة آل البيت عليهم السلام أهْلُ رُشدٍ وعلم، ورثَةُ بيت النبوءة. فما صح عنهم، فهو على الرأس والعين. لا أظن مؤمنا يطعن فيهم ويـبقى مؤمنا. تبقى مسألة العصمة، وهي شائكة"[11].
الخميني، الثورة ورجال الدين الشيعة في عيون ياسين
يحتل الخميني مكانة رفيعة في كتابات شيخ الجماعة، فلا نكاد نقف عند كتاب من كتبه إلا ونلحظ ربط اسمه بمشروع "القومة" و"تربية جند الله" و"إعداد الأمة" وتهيئة "علماء الدين"، حيث شكل الخيمني أنموذجا عمليا لعبد السلام ياسين من حيث منهجية التدافع السياسي في الشأن العام بغية تحقيق "التمكين". سواء في "الإعداد الروحي والإيماني" أو التحضير التنظيمي تهيئة "للزحف الإسلامي"، ثم تشكيل وبناء الدولة. ولم يشكل التناقض المذهبي/العقدي بين ياسين والخميني أي حاجز من حيث استقطاب فكره ورؤيته السياسية، بل شكل جسرا تواصليا حقق للتشيع في حينه واجهة دعوية وتنظيمية عن طريق الجماعة، وهو ما تؤكده كتاباته التي ما فتئ من خلالها تمجيد التشيع وأئمته وعلمائه، بصفتهم واجهة إيمانية وثورية دافعة "للظلم والاستكبار"، ويقول ياسين: "في كل عصور الإسلام وَفَى لله رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. ولم تنقطع سلسلة الإرشاد والتربية ومقاومة السلطان الجائر، وإن تعددت المدارس، واختلفت الأساليب. من الإمام الحسين إلى الإمام الخميني عرفت الشيعة أئمة وعلماء حافظوا على جذوة الإيمان ورفض الظلم حية في ضمير الأمة"[12].
كما شكل التصور السياسي للخميني من خلال نظام "ولاية الفقيه"، تقاطعا بارزا مع تصور ياسين للدولة. فالخميني يرى أن الدولة يجب أن تكون تحت مسؤولية الدعاة أو علماء الدين، بغية "تقويمها ومراقبتها ومناهضتها إن زاغت"، وهو النموذج السياسي الموجود الآن في إيران منذ قيام الثورة، حيث يحتل رجال الدين مكانة رفيعة في عصب الدولة ونظامها. ويقول في حقه: "والإمام الخميني بنظريته في «ولاية الفقيه» جدد المذهب الشيعي، حيث أعطى الفقيه المجتهد حق النيابة عن الإمام الغائب"[13]. كما أن عبد السلام ياسين من خلال تصوره لمشروع "الدولة الإسلامية"، يعمل على إبراز العلاقة بين الدولة والدعوة، بجعل الدعوة قائدة للدولة وموجهة لها، حيث يقول: "الائتلاف السَّويُّ بين الدعوة والدولة هو أن تكون الدعوة قائدة لا مقودة، آمرة لا مأمورة. فلما انعكس الوضع السوي يجد الفقهاء التيميون أنفسهم في قبضة الدولة مضطرين أن يصالحوا من صالحت الدولة العشائرية، وأن يقاتلوا من قاتلت"[14].
من التشيع السياسي إلى التشيع المذهبي
ساهمت هذه الأدبيات الياسينية الممجدة للتشيع والثورة الخمينية، في تحفيز أعضاء الجماعة للتوسع معرفيا ودينيا في المذهب الشيعي، واعتباره تدينا قائما على "الشجاعة الثورية" و"المواقف التاريخية" والوقوف في وجه "الاستكبار العالمي"، مما حدا بكثير من منتسبيها، إلى إعلان تحولهم المذهبي من التسنن للتشيع، بعد معايشتهم مرحلة انتمائية وتربوية دينية وسياسية في صفوف الجماعة، والتي قاربت من حيث المشترك الفكري والتصوري بين أطروحات الشيعة ومواقف الجماعة، سواء في الأدبيات المشار إليها في المحاور السابقة، أو في قضايا مرتبطة بالموقف من الولايات المتحدة الأمريكية أو إسرائيل ودور "حركات المقاومة" ومنها حزب الله اللبناني، - قبل أن يتغير موقف الجماعة اتجاهه بعد أحداث ما سمي بـ "الربيع العربي" لدوره العسكري في سوريا وتتخذ موقفا أكثر براغماتية، حفاظا على مكانتها ضمن الاصطفاف السني، خاصة منه حركات الإسلام السياسي، وتزلفا للنظام التركي الذي رعت بلاده عددا من مؤتمرات الجماعة الدولية قبل منعها في سنة [15]2016.
وفي الدراسة المشار إليها حول التحول الديني للشيعة المغاربة، والمنجزة في سنة 2017، اتضح بأن عينة الدراسة والمكونة من شيعة مغاربة منضوين تحت مرجعيات شيعية متنوعة (الخط الرسالي، الخامنئي، الشيرازي)، تميزت بخصائص مشتركة من حيث مسارهم في تجربة التحول الديني، فأغلبهم عايشوا تجربة من الانتقال الفكري والعقدي قبل اعتناقهم للمذهب الشيعي، برزت بالانتماء التنظيمي لجماعة العدل والإحسان، وهذا الانتقال كان مساهما بشكل بارز في الدفع نحو مرحلة البحث عما أسميه بـ "الحقيقة الغيبية"؛ أي محاولة اكشتاف الحقيقة الدينية والخلاص الروحي والعقيدة الصحيحة، وهي مرحلة شكية عايشها هؤلاء الشيعة من داخل تنظيم الجماعة، ففي الوقت الذي كان انتماؤهم التنظيمي مساهما في "الحفاظ على التزامهم وتقوية تدينهم"، و"تشبيع رغباتهم الروحية والعرفانية"، كانت الأدبيات الفكرية والسياسية المرافقة له، محفزا نحو مرحلة من "الشك التديني" من حيث الانتماء العقدي المذهبي السني، والذي انتهى بهم من التشيع السياسي التنظيمي من خلال جماعة العدل والإحسان، إلى التشيع المذهبي العقدي نحو المذهب الشيعي الإثني عشري[16].
وإن كان دور الجماعة محفزا، من خلال كتابات شيخها عبد السلام ياسين لبروز ظاهرة التشيع المذهبي من داخل جماعة العدل والإحسان، نجد أيضا إلى جانب ذلك محفزا آخر مكن من تعميق المعرفة المذهبية والمرجعية الشيعية، ويتمثل ذلك في الحضور الإعلامي والفكري والفلسفي للفكر الشيعي، الذي وصل إلى المغرب، عن طريق عدد من المجلات والجرائد الورقية الشيعية، وأبرزها في مرحلة الثمانينيات "مجلة العالم اللندية"[17]، حيث ساهم دخول هذه الجرائد، في التعريف أكثر بالمذهب الاثني عشري، وما يخصه من أحكام فقهية وعقائد دينية. ومن الأكيد أن التطور الإعلامي منذ تلك المرحلة إلى اليوم، قد ساعد بشكل أكبر في خلق قنوات للتواصل، أصبحت تشمل اليوم القنوات الفضائية (قناة الكوثر، المنار، الأنوار، أهل البيت، الغدير..)، وأيضا الكتب والمجلات والجرائد والوثائق الإلكترونية، وهي متاحة بشكل مجاني للاطلاع والتوزيع.
ملاحظات على سبيل الختم
كخاتمة لهذه المقالة، نقدم عددا من الخلاصات على شكل ملاحظات مختصرة ومكثفة، تقدم ملخصا عاما لما ورد ذكره في المقالة كالتالي:
× الملاحظة الأولى: انعكست التجربة الروحية والسياسية لعبد السلام ياسين، على المرجعية الفكرية والدينية لجماعة العدل والإحسان، حيث صار تصوره السياسي والفكري واجهة موقفية للجماعة، رابطة العلاقة بين أعضائها ومرشدها بنسق تنظيمي وروحي حتى بعد وفاته.
× الملاحظة الثانية: قراءة ومطالعة كتب مرشد الجماعة المتوفى عبد السلام ياسين، تظهر ميلا واضحا للتشيع السياسي وإنبهارا دالا بالثورة الإيرانية وقائدها الخميني، فضلا عن تقاطعات موقفية فكرية وتاريخية حول أئمة الشيعة ونزاعهم السياسي مع بني أمية وبني العباس.
× الملاحظة الثالتة: ساهمت كتب عبد السلام ياسين من تمكين التشيع ونموذج الثورة الخمينية، من واجهة إعلامية ودعوية داخل المغرب، روجت لمشروعه وأظهرته كتدين رافض "للظلم" ومحقق "للعدل" ومواجه للأنظمة "الشمولية" و"الإمبريالية العالمية".
× الملاحظة الرابعة: مكنت هذه الأدبيات من تشجيع حركية ودينامية التشيع السياسي وأيضا التشيع المذهبي داخل جماعة العدل والإحسان، من خلال الانتقال العقدي لعدد من أعضاء الجماعة وتحولهم للمذهب الشيعي الاثني عشري.
الهوامش:
[1] محمد قنفودي، (2018) التحول الديني والبناء الهوياتي: دراسة ميدانية لمسار وتجربة الشيعة المغاربة"، بحث التخرج الماستر، التحولات الاجتماعية والتنمية البشرية، جامعة محمد الخامس بالرباط، كلية الآداب والعلوم الانسانية والاجتماعية.
2 ""سيدي حمزة".. شيخ البودشيشيين الذي أغضب عبد السلام ياسين"، موقع الجزيرة نت، يناير 2017
3 عبد السلام ياسين، العدل: الإسلاميون والحكم، الطبعة الأولى، 2000 ص: 346
4 عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي: تربية وتنظيما وزحفا، الشركة العربية للتوزيع والنشر، ص: 174
5المرجع نفسه، ص: 14
6 أحمد بوعود، آثار الانكسار التاريخي على تاريخ المسلمين وواقعهم، مدرسة الإمام عبد السلام ياسين، أكتوبر 2016، الرابط: https://www.yassine.net/ar/2016/10
7 حديث الخلافة
8 انظر كتاب (سامي بن عبد الله بن أحمد المغلوث، أطلس الخليفة على بن أبي طالب، الطبعة الأولى، 2009)
9 انظر أحد الخطب المسجلة لعبد السلام ياسين، عبد السلام ياسين: الموقف من معاوية، ب.ت، الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=DMF9plGNyzQ
10 عبد السلام ياسين، رجال القومة والإصلاح، دار لبنان للطابعة والنشر، منشورات الصفاء للإنتاج، الطبعة الأولى 2000
1[1] عبد السلام ياسين، الخلافة والملك، الطبعة الأولى، 2000، ص: 49
12 عبد السلام ياسين، رجال القومة والإصلاح، دار لبنان للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، ص: 109
13لخلافة والملك، مرجع سابق، ص: 50
14 عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، الجزء الأول، الطبعة الأولى، ص 279
15 "تركيا تمنع ندوة فكرية لجماعة العدل والإحسان المغربية"، موقع عربي 21، يناير 2016
16 محمد قنفودي، بحث الماستر، مرجع سابق
17 مقابة مع السيد كمال الغزالي، شيعي مغربي ومؤسس لتيار المواطن الرسالي، شهر غشت 2017/ بحث الماستر مرجع سابق.
[1] محمد قنفودي، (2018) التحول الديني والبناء الهوياتي: دراسة ميدانية لمسار وتجربة الشيعة المغاربة"، بحث التخرج الماستر، التحولات الاجتماعية والتنمية البشرية، جامعة محمد الخامس بالرباط، كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية.
[2] ""سيدي حمزة".. شيخ البودشيشيين الذي أغضب عبد السلام ياسين"، موقع الجزيرة نت، يناير 2017
[3] عبد السلام ياسين، العدل : الإسلاميون والحكم، الطبعة الأولى، 2000 ص: 346
[4] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي : تربية وتنظيما وزحفا، الشركة العربية للتوزيع والنشر، ص : 174
[5] المرجع نفسه، ص : 14
[6] أحمد بوعود، آثار الانكسار التاريخي على تاريخ المسلمين وواقعهم، مدرسة الإمام عبد السلام ياسين، أكتوبر 2016، الرابط : https://www.yassine.net/ar/2016/10
[7] حديث الخلافة
[8] أنظر كتاب (سامي بن عبد الله بن أحمد المغلوث، أطلس الخليفة على بن أبي طالب، الطبعة الأولى، 2009)
[9] أنظر أحد الخطب المسجلة لعبد السلام ياسين، عبد السلام ياسين: الموقف من معاوية، ب.ت، الرابط : https://www.youtube.com/watch?v=DMF9plGNyzQ
[10] عبد السلام ياسين، رجال القومة والإصلاح، دار لبنان للطابعة والنشر، منشورات الصفاء للإنتاج، الطبعة الأولى 2000
[11] عبد السلام ياسين، الخلافة والملك، الطبعة الأولى، 2000، ص : 49
[12] عبد السلام ياسين، رجال القومة والإصلاح، دار لبنان للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، ص: 109
[13] الخلافة والملك، مرجع سابق، ص : 50
[14] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، الجزء الأول، الطبعة الأولى، ص 279
[15] "تركيا تمنع ندوة فكرية لجماعة العدل والإحسان المغربية"، موقع عربي 21، يناير 2016
[16] محمد قنفودي، بحث الماستر، مرجع سابق
[17] مقابة مع السيد كمال الغزالي، شيعي مغربي ومؤسس لتيار المواطن الرسالي، شهر غشت 2017/ بحث الماستر مرجع سابق.