الجدل الفكري: عندما يتحول النقد ــ نماذج وأمثلة


فئة :  مقالات

الجدل الفكري: عندما يتحول النقد ــ نماذج وأمثلة

الجدل الفكري: عندما يتحول النقد ــ نماذج وأمثلة ــ

                                                                                               

عندما تطلع على كتاب بقيمة معرفية كبيرة ككتاب محمد عابد الجابري "نحن والتراث"، وترى الانتقادات الكثيرة التي وجهت له ولأفكاره، من نقاد كثر[1]، وتقارن هذا مع ما ينتج اليوم في ميادين الفكر والتاريخ دون الاتجاه نحو نقد لما ينتج من أفكار ومعارف، يتأكد أننا بعيدون عن بلورة نقاشات معرفية فلسفية جدلية تؤدي إلى تركيب جديد للمعرفة؛ أقول هذا ومهتمين كثر -أتحدث عن أهل التخصص- لا يتوجهون بالرد علميا بالطبع، على ما ينتج اليوم من دراسات لعوامل عدة.

إن متتبع تاريخ الفكر عامة، يدرك أن البناء المعرفي البشري جاء نتيجة علاقات جدلية بين الفكرة ونقيضها، وتكفي نظرة على تاريخ الفكر لنتأكد من هذا، بل أحيانا تصل بعض النقاشات بين الفلاسفة إلى درجات كبيرة من التهكم والسخرية. على سبيل المثال، سنذكر انتقادات حصلت بين بعض الفلاسفة والمثقفين البارزين في العالم الغربي والعربي؛ وذلك من خلال كتاباتهم ولقاءاتهم التلفزيونية، وهنا سنحول فكرة لروسو إلى سؤال: هل الثقافة أقرب إلى الشر أم الخير؟[2]

نبدؤها بهيغل وشلاير ماخر، حيث جاء في المقدمة التي قدمها إمام عبد الفتاح إمام التهكم الذي تهكمه هيغل على زميله القديم شلاير ماخر، خاصة بعد الانتشار الواسع الذي عرفته الهيغيلية في ألمانيا، ويقول مقدم الكتاب إن هيغل قد انتهز فرصة كتابة مقدمة لكتاب ألفه أحد تلاميذه بعنوان "الدين في صلته الوثيقة بالعلم" سنة 1822م، ليسخر مر السخرية من نظرية شلاير ماخر في الدين والقائلة إن الدين عاطفة وليس عقلا، هنالك قال هيغل: "لو كان الأمر كذلك لكان الكلب أتقى المسيحيين؛ لأن الكلب أشد الحيوانات عاطفة وإخلاصا لسيده، ولو كانت المسألة مسألة إخلاص وتعلق بالسيد لكان الكلب أولى بالقداسة المسيحية..."[3].

في سياق آخر، سينحو كارل ماركس نفس المنحى للرد على فلسفة برودون بتأليفه كتاب "بؤس الفلسفة" ردا على نظرية برودون في الاشتراكية، والتي بلورها في كتابه "فلسفة البؤس".[4] وألف سيغموند فرويد كتابه: "حياتي والتحليل النفسي" الذي حمل بعض الاختلافات التي حصلت له مع تلاميذه أمثال: "يونغ" و"أدلر"، ويقول: "ولم أزد أن أصررت على أن يعدل كل من أدلر ويونغ عن تسمية نظريتهما تحليلا نفسيا".[5] هي نماذج كثيرة إذن على نقاشات وانتقادات الفلاسفة لبعضهم البعض.

وفي مجالنا التداولي العربي المعاصر، يمكن لنا الحديث عن إرهاصات سجالات فكرية كثيرة، لكنها دائما حسب ما يذكر خالد طحطح، انتهت للركون والخفوت، خاصة لو تخيلنا سجالا بين العروي والجابري، الذي لو قدر أن حدث لكنّا أمام رؤى فكرية عربية جديدة، لكن العروي انزوى بعيدا عن أي سجال فكري واكتفى، فقد بادر الجابري في نشر عدة مقالات لنقد مشروع "التاريخانية"، في الصفحة الثقافية الأسبوعية لجريدة المحرر ما بين ديسمبر 1974 ويناير 1975 وعناوين مقالات الجابري، كانت بعناوين: "إشكالية تفتقد أهم عناصرها" و"ماركسية تاريخانية أم تاريخانية لا ماركسية" والمقال الرابع بعنوان: "الليبرالية والسلفية"، لكن العروي حسب ما يذكر خالد طحطح لم يتجاوب مع الجابري، بل اكتفى بالتعليق في مذكراته "خواطر الصباح" يوم الاثنين 27 يناير1975م.[6]

و في موقع آخر، نقف مع ما أفرده عبد الله حمودي في مؤلفه المعنون بـ "الشيخ والمريد"، حيث أفرد في آخر الكتاب حيزا خصصه للرد على منتقديه في مقالة بعنوان: "النقد والتأويل" ص. 257 من كتابه: ويخص بالذكر بعض منتقديه ويفرد ردا طويلا. ويرى حمودي أن كل التعاليق على كتابه لا تعد إلا أن تكون آراء تبسيطية، رغم إلباسها لباس القراءة الجادة. ص.259، وكان في رد حمودي نوع من القساوة على منتقديه[7]. دون إغفالنا أيضا لما ألفه محمد حبيدة؛ وذلك قياسا على مؤلف كارل ماركس "بؤس الفلسفة"، فكتب: "بؤس التاريخ"[8] منتقدا الكتابة التاريخية المغربية.

أما بالنسبة إلى ما تداولته بعض المنابر الإعلامية، فيمكن أن نذكر استضافة محمد عابد الجابري في برنامج إضاءات على قناة العربية؛ فمشروع الجابري في نقد العقل العربي، يعد من أهم المشاريع التي تعرضت لردود أفعال كثيرة، خاصة ما كتبه جورج طرابيشي الذي استتبع مؤلفات الجابري ردود عديدة، لكن الملاحظ في لقاء الجابري أنه رفض الرد لطبيعة الأسلوب الموظف في نقد مشروعه الذي فيه كلام قاس، وهو الأمر الذي سيذهبه طه عبد الرحمان وهو يعلق على الجابري.[9]

المفارقة بين المجالين، أن العالم الغربي ظل يحافظ على استمرارية المشاريع والتحول الذي عرفه النقد كان أقل حدة، والدال على ذلك استمرارية القراءات وتتالي الكتابات؛ ففي اللحظة التي لوحظ غياب كانط المعروف بالدقة والنظام عن نزهته تحت أشجار الزيزفون، كان للتو وصله كتاب "إميل" لجون جاك روسو الذي انصرف إليه بكل اهتمام.[10] وبلسانه، قال سيغموند فرويد إنه قرأ فلسفة شوبنهاور وتأثر بنظريات داروين.[11]

كان المجال الغربي أكثر ضجة وسجالا وأقل صمتا، رغم التحول الذي كان يعرفه النقد أحيانا، فقد ظل الفلاسفة يردّون على بعضهم البعض، ويساهمون في تجديد الفكر الأوروبي، عكس المجال العربي الذي هرب فيه المثقفون بعيدا، رغم السجالات المحتشمة، فهي تعبر عن ركود الثقافة الفكرية في المجال العربي حسب فريد الزاهي.[12]

إذن، النقاشات الفكرية لم تتوقف في تاريخ الفكر البشري، من كتابات ورد بالكتابات أو تعليقات ونقاشات وتصريحات قاسية حكمت علاقات العديد من الفلاسفة والمفكرين[13]؛ فمنذ الفلسفة اليونانية ونقاشات الفرق الكلامية في الحضارة الإسلامية إلى "تهافت الفلاسفة" و"تهافت التهافت" لابن رشد وصولا إلى المقالات الكثيرة التي توجهت نقدا نحو مجموعة من الكتب التي أحدثت ضجة في العالم الغربي أو العربي، كان النقاش حاضرا وظاهرا، بل وأحيانا ساخرا؛ أي مال من النقد إلى السخرية. إلى وقتنا، ستخفت النقاشات والردود خاصة بعالمنا العربي، وهو ما يطرح أكثر من علامة استفهام، هل لغياب مشاريع فكرية أم لدواعي نفسيه، حيث يتقوقع كل مفكر وكاتب في زاوية قاصية، إما منتظرا التصفيق أم منتهيا بدون رد أو تعليق وكما عبر فريد الزاهي[14]: "في غياب الحوارية الفكرية الداخلية والخارجية يغدو النص يتيم نفسه".[15]

[1] محمد عابد الجابري، نحن والتراث، قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي (بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر، ط.4. 1985.)، صص.5-10. تضمنت مقدمة الطبعة الثانية للكتاب رد الجابري على الردود ومنتقديه بصفة عامة، فقد نوه الجابري بمقالة كتبها الأستاذ علي حرب في مجلة "دراسات عربية" وبالتعليق الذي نشره الناقد العربي محمود أمين العالم في مجلة "اليسار العربي".

[2] كتب روسو في هذا الصدد أن الثقافة أقرب منها إلى الشر على الخير، وهذا في سياق فوز مقال كتبه روسو بجائزة أعدتها أكاديمية ديجون سنة 1749م. ينظر: ول ديورانت، قصة الفلسفة من أفلاطون إلى جون ديوي: حياة وآراء أعاظم رجال الفلسفة في العالم، ترجمة: فتح الله محمد المشعشع(بيروت: منشورات مكتبة المعارف، ط.6، 1888).ص.324

[3] هيغل، محاضرات في فلسفة التاريخ: العقل في التاريخ، ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام (بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر، ط.3، 2007)، ص ص.16-17

[4] محمد عابد الجابري، من أزمة الاشتراكية في البلدان المتخلفة إلى الدولة الوطنية الديموقراطية في البرنامج المحلي للاتحاد الاشتراكي.(الدار البيضاء: دار النشر المغربية، ط.1. 2003)، ص ص.46-47

[5] سيغموند فرويد، حياتي والتحليل النفسي، ترجمة: مصطفى زيور وعبد المنعم المليحي، (دار المعارف).ص.80

[6] خالد طحطح، الجابري والعروي سجال مبكر وقطيعة شخصية، المجلة العربية، تاريخ النشر: الأربعاء 20 أكتوبر2021. بتصرف.

http://www.arabicmagazine.com/Arabic/articleDetails.aspx?Id=7626

بل إن الجابري يشير للعروي في عدة سياقات من ضمنها مدخل مؤلفه نحن والتراث، فيقول: "يطرح بعض المثقفين العرب الذين يبدو أن صلتهم بـ "التراث" الأوروبي أقوى من صلتهم بالتراث العربي الإسلامي مشكلة استيعاب الفكر العربي المعاصر لمكتسبات الليبرالية "قبل، وبدون، أن يعيش مرحلة ليبرالية" ويقصدون بالليبرالية: "النظام الفكري المتكامل الذي تكون في القرنين السابع عشر والثامن عشر، والذي حاربت به الطبقة البورجوازية الأوروبية الفتية الأفكار والأنظمة الإقطاعية". تلك هي إشكالية عبد الله العروي وزكي نجيب محمود وماجد فخري وآخرين كثيري، منهم من يطرحها من منظور فرنسي ديكارتي، ومنهم من يطرحها من منظور أنجلو ساكسوني تجريبي ووضعي؛ وذلك حسب نوع "التراث" الأوروبي الذي يشكل منظومته المرجعية والثقافية". ينظر: محمد عابد الجابري، مرجع سابق، ص.52. كما أن الجابري برز في عدة لقاءات تلفزيونية، مسجلة عبر اليوتوب، نذكر أبرزها: لقاءه في برنامج مواجهات الذي كانت تبثه قناة اقرأ، حيث استضافه الصحفي محمد بركات واستضافه تركي الدخيل أيضا في برنامج إضاءات على قناة العربية وحاوره نور الدين أفاية في برنامج مدارات الذي بثته القناة الأولى المغربية دجنبر 2001م.

[7] عبد الله حمودي، الشيخ والمريد، النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية والحديثة، ترجمة: عبد المجيد جحفة، (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، ط.4. 2010).صص.313-314

[8] محمد حبيدة، بؤس التاريخ، مراجعات ومقاربات، دار الأمان، الرباط، ط.1. 2015

[9] ينظر: https://www.youtube.com/watch?v=tTwfp_A1gX8

[10] ول ديورانت، مرجع سابق، صص.325، 330، وربما هذا ما أثّر على كانط الذي كتب تأملات في التربية خاصة وأنه أقبل بشغف قراءة كتاب روسو آميل أو في التربية. ينظر: إمانويل كانط، تأملات غفي التربية وما هي الأنوار وما التوجه في التفكير، ترجمة: محمود بن جماعة (صفاقس: دار محمد علي للنشر، ط.1، 2005)، ص.4

[11] سيغموند فرويد، مرجع سابق، 89-20

[12] فريد الزاهي، "المفكر العربي حيا وميتا...الحوار مع الآخر الذي بيننا"، ضفة ثالثة، منشور بتاريخ: 6 أبريل 2022. ويذكر سجالات بين المفكرين العرب أبرزها(بين طه حسين والعقاد وحسن حنفي ومحمد عابد الجابري).

https://diffah.alaraby.co.uk/diffah/opinions/2022/4/6/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%81%D9%83%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D8%AD%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D9%85%D9%8A%D8%AA%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1-%D9%85%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%A2%D8%AE%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%8A-%D8%A8%D9%8A%D9%86%D9%86%D8%A7?fbclid=IwAR1Vc-eCHmHc-ccSFqQiR53ES0-t6CBMbVGCCC50izSvVh3YO26JO4fH4cg

[13] أعلن روسو بجرأة بأن التفكير مناقض لطبيعة الإنسان. وإن الإنسان حيوان سافل فاسد الأخلاق. ومن الأفضل لنا التخلي عن تطورنا العقلي السريع والاتجاه بدلا من ذلك إلى رياضة القلب والمحبة. ينظر: ول ديورانت، مرجع سابق. ص.324

[14] فريد الزاهي، مرجع سابق.

[15] ولعل العامل الرئيس في هذا الغياب، هو بتعبير الكاتب جون جينيه: "في اللحظة بالذات التي تنشر فيها مقالا، فإنك تدخل الحياة السياسية" ينظر: خالد الشاوش، حول دور المثقفين والكتاب وثنائية السلطة والثقافة عند إدوارد سعيد، مجلة بصمات، ص.90، وكما عبر إدوارد سعيد يصعب الفصل بين السياسي والثقافي. لربما هذا التداخل ما حال دون قيام حوارية فكرية في مجالنا التداولي العربي.