"الجسد والنظرية الاجتماعية" لـ: كِرْس شلانج


فئة :  قراءات في كتب

"الجسد والنظرية الاجتماعية" لـ: كِرْس شلانج

"الجسد والنظرية الاجتماعية" لـ: كِرْس شلانج

من الأعمال الأكاديمية الرائدة التي تسترعي الانتباه في مجال الدراسات السوسيولوجية الجديدة، دراسة موضوع الجسد والنظرية الاجتماعية، والتي أنجزها بكثير من المهنية أستاذ الدراسات العليا كرس شلانج، سنة 1993، وهي دراسة نقدية متميزة في مجالها، ترجمها بشكل مشترك كل من نجيب الحصادي ومنى البحر سنة 2009، عن مشروع كلمة، أبو ظبي، دار العين للنشر المصرية، في 344 صفحة. والكتاب مترجم عن اللغة الإنجليزية، وهو في طبعته الأصلية بعنوان: The Body and Social Theory (Sage Press, Theory, Culture & Society series, édition réimprimée, révisée, 1993, pp238)، وللإشارة فقد صدرت الطبعة الثالثة من هذا الكتاب سنة 2012م.

يعتبر مؤلف الكتاب كرس شلانج من أبرز أساتذة علم الاجتماع المتخصصين في موضوعات الجسد، وهو مدير الدراسات العليا بجامعة كينيت في كانتربري بالمملكة المتحدة (بريطانيا)، التابعة للمقر المركزي الرئيسي للجامعة الكائن في ولاية أوهايو بالولايات المتحدة الأمريكية. وللتذكير فهناك فروع عديدة لهذه الجامعة في مناطق كثيرة أشهرها اشتابولا، في شرق ليفربول. وجامعة كينت، كما هو معلوم، تأسست في عام 1910م بوصفها مدرسة تدريب للمعلمين، ثم غدت مركزًا جامعيًّا منذ عام 1935م، حيث أصبح من حقها منح شواهد البكالوريوس، والماجستير، والدكتوراه، وهي معتمدة ومصنفة في هذا المجال إلى الوقت الحالي.

يشرف الباحث كرس شلانج، في الفروع التابعة لجامعة كينت بالمملكة المتحدة، على البحوث الخاصة بطلبة الماجستر والدكتوراه، ويشمل مجال اهتماماته تدريس (وتحليل) الجسم وأجزائه في الثقافة والمجتمع، من وجهتي النظرية السوسيولوجية، وسوسيولوجيا الدين. وقد ساهم بشكل كبير في الأهمية المتزايدة التي أضحت عليها أبحاث الجسد في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، بل إنّه حفّز غيره على الالتفات إلى هذا الموضوع الذي شملته أبحاث متعددة في العقدين المنصرمين، ويبقى كتابه الأشهر الجسد والنظرية الاجتماعية الذي صدر سنة 1993، وأعيد طبعه مرتين، آخرها سنة 2012 من أهم مؤلفاته في هذا الباب، وله أيضًا: إعادة تشكيل الجسم: الدين، المجتمع، الحداثة (نشر سنة 1997)؛ والطموح السوسيولوجي (2001)؛ والهيئة في الثقافة والتكنولوجيا والمجتمع (2008)، وفي الحرام: الدين، وتجسيد التغيير الاجتماعي (2014). فضلاً عن أنّه يشرف على عدد من الدوريات المتخصصة منها: "سلسلة مراجعات في علم الاجتماع" و"دورية علم اجتماع الملخصات التعليمية"، وبالإضافة إلى ذلك فهو عضو فاعل بعدد من هيئات التحرير والاستشارة المحلية والدولية لمجلات رائدة منها "مراجعات اجتماعية" و"الدورية الإيرلندية في علم الاجتماع" و"الجسد والمجتمع". وهو يرأس حاليًّا تحرير "صحيفة علم الاجتماع"، حَاضَر على نطاق واسع في أوروبا وأمريكا الشمالية، وقد كتب في مجموعة مختلفة من المسائل ذات الصلة بمواضيع علم الاجتماع (في الدين، وعلم الآثار، والرياضة، والموسيقى، والصحة والمرض والعمل والبقاء على قيد الحياة والتكنولوجيا والثقافة الاستهلاكية)، وأغلب منشوراته ترجمت إلى عدد كبير من اللغات المختلفة.

تُقارب هذه الدراسة، التي بين أيدينا، الجسد كظاهرة بيولوجية واجتماعية في آن، وترفض المقاربات الاختزالية التي أخفقت في فهم أهمية الجسد البشري في تشكيل الأنظمة الاجتماعية. ومن المعلوم أنّ الأبحاث بشأن الجسد تنتمي إلى حقل واسع وممتد داخل العلوم الإنسانية المختلفة، وتعود جذوره الأولى إلى النصف الأول من القرن العشرين، وبحكم تخصصنا في التاريخ سنلقي بعض الإشارات على السياق العام الذي ساهم في بروز الاهتمام بهذا الحقل المسكوت عنه في السابق، قبل أن نتناول أهم الأفكار والخلاصات الجديدة التي جاء بها كتاب كرس شلانج، مع العلم أنّ هذه القراءة لا تعفي القارئ من ضرورة التعامل مباشرة مع الكتاب لاستجلاء تفاصيله بدقة، فهدفنا التحفيز والتعريف.

نقف في البداية مع المدرسة المنهجية المسماة بالوضعانية خلال القرن التاسع عشر، وهي مدرسة هيمنت على حقل التاريخ في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا آنذاك، وقد ركزت بالأساس في أبحاثها على الأحداث الكبرى وعلى تاريخ العظماء من الملوك والوزراء والقادة العسكريين، ولذا نجد غيابًا كاملاً للمواضيع التي تمس التاريخ الاجتماعي الذي يهتم بالكُتل التي ظلت على هامش السلطة[1]؛ غير أنّ التجديد الذي وقع منذ سنة 1929 في حقل التاريخ ساهم في طرح تساؤلات من نوع جديد؛ فقد نقلت مدرسة الحوليات الفرنسية بالخصوص اهتمامها من دراسة الأحداث السياسية والعسكرية إلى دراسة البُنى الاقتصادية والاجتماعية، متجاوزةً بذلك "التاريخ التاريخاني"، و"التاريخ البيوغرافي"، و"التاريخ السياسي الوقائعي"، لصالح "تاريخ البنى"، و"تاريخ الأمد الطويل"، و"تاريخ الهامشيين"، و"تاريخ الجسد"، و"تاريخ الجنس"، والموقف من الموت، و"تاريخ الذهنيات"، مع الانفتاح على مختلف مناهج العلوم الاجتماعية.

إنّ الغوص في مجالات المهمش والتاريخ الاجتماعي ساهم في تأسيس البحث في الذهنيات، وهو ما مهَّد لاحقًا لبروز مناهج الأنثربولوجيا التاريخية مع جاك لوغوف، فقد ظهرت منذ سبعينيات القرن الماضي دراسات عديدة عن الموت والعلاقات الجنسية وأنماط الحياة اليومية والطقوس الدينية والموت والخوف والحب. وقد سجل المؤرخ بورغيار في هذا السياق ملاحظة مهمة تتعلق بميلاد التاريخ الأنثربولوجي، وهو الحقل الذي اهتمت به البحوث التاريخية حديثًا، بفعل تأثير كلود ليفي ستراوس، الذي أدخل إلى فرنسا المفهوم الأنكلوساكسوني لعبارة الأنثربولوجيا باعتبارها دراسة الكائنات الإنسانية في كل مظاهرها. غير أنّ بورغيار أشار إلى أنّ هذا النوع من التاريخ الأنثربولوجي في شقه المتعلق بالذهنيات نشأ قبل ذلك بمدة طويلة، مع لوغران دوسي المغمور من عصر الأنوار، وأنّ الحوليات لم تقم سوى بإعادة إحيائه من جديد[2].

مهما يكن من أمر بدايات تاريخ الذهنيات، فالأكيد أنّ هذا الحقل انتعش من خلال ظهور دراسات مستفيضة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فقد حازت على سبيل المثال دراسة فيليب أرياس التي ظهرت سنة 1960 حول تاريخ الطفولة أهمية مركزية بالنسبة إلى تطوير تاريخ العقليات؛ فحسب أطروحته لا وجود لمفهوم الطفولة في القرون الوسطى. ثم أعقبها بنشر بحث في تاريخ الجسد، تناول فيه تاريخ الموت، وهو يميز فيه بين مواقف تمتد من الموت المروَّض في القرون الوسطى إلى الموت اللامرئي في العصر الحديث. وقد نال هذا العمل اهتمامًا كبيرًا لأصالة أطروحاته وثراء مواده، ثم توالت بعده أبحاث أخرى عن المرض والجنس والحب وشعائر التطهير الديني، وفي كل ذلك نلمس الاهتمام بطرق انتقال العادات والأفكار بين الأجيال، وكيفية نشوء المواقف الفكرية الجديدة[3].

تراكمت أبحاث كثيرة في موضوع الجسد في العقود الأخيرة، إذ لم يعد من المواضيع الغريبة والمستهجنة، وذلك في ظل تصاعد اهتمام الجمهور بالجسد مع تزايد دور وسائل الإعلام التي تعج بمواد عن صور الجسد، وعمليات التجميل، وإشهاريات الرشاقة واللياقة، وطرق تحقيق الإثارة، حتى أصبح الجسد ضمن الثقافة المعاصرة يعكس فردانية غير مسبوقة.

يحاول الكتاب، موضوع القراءة، استعادة الجسد باعتباره كيانًا فاعلاً في المجتمع بغض النظر عن العوامل الخارجية التي تسهم في تشكيله، وذلك من خلال الارتكاز على فهم عميق للجسدية بالانفتاح على تحليلات علم الاجتماع، والفلسفة، والتاريخ، وعلم النفس، والأنثروبولوجيا، وعلم اللاهوت، وغيرها من التخصصات المعرفية الأخرى. ويتناول بالتحليل الجسد المدنس والمقموع، الجسد الذي يُشترى بغض النظر عن عرقه ولونه، الجسد المهان الذي لا يعترف بقدسيته إلا حين تغادره الروح.

في تقويمه الناقد لقصور المقاربات الأحادية، صمَّم المؤلف مساهمته في مجال سوسيولوجيا الجسد، في ظل تصاعد الاهتمام الأكاديمي بهذا الموضوع خلال العقود الأخيرة، مما يمنحه صفة التراكم، إذ عرض في الفصل الأول توطئةً مهمةً لمختلف المحاور التي تناولها في دراسته، وهي نتيجة لأعماله المستمرة في هذا المجال، فهو يشرف مع آخرين على دوريات تهتم بالجسد والمجتمع. ويقوم بتدريس الطلبة المقررات الخاصة بدرجة الماجستير في علم الاجتماع، ومن ضمنها مقررات تتعلق بثقافة الجسد.

يرصد المؤلف في البداية الأسباب التي تقف وراء الاهتمام المتزايد بتضاريس الجسد الخارجي، وربطها بحقبة الحداثة العالية- حسب تسميته-، حيث يشكل حضور الجسد المكثف في الثقافة الاستهلاكية اليوم واحدًا من أبرز المظاهر التي ترمز إلى الذات، حتى أنّ براين تورنر استحدث مصطلح المجتمع الجسدي للدلالة على أنّ الجسد غدا في الأنظمة الاجتماعية الحديثة المجال الرئيس للنشاط الاجتماعي والسياسي.

من اللافت للنظر أنّ الحقبة المعاصرة جعلت الاهتمام بالجسد أولى أولوياتها، في ظل طغيان الحديث عن توفر الإمكانيات العلمية الكفيلة بالتحكّم فيه على المستوى الصحي والرياضي، غير أنّ الشكوك ما تزال تزعزع ثقتنا فيما نعرفه عنه، وفي المدى الذي يسمح لنا فيه من الناحية الأخلاقية التعامل مع إفرازات التقنيات المتسارعة في مجالات الجراحة التجميلية، ونقل الأعضاء، والولادة العذرية، والأم البديلة، والاستنساخ وغيرها من القضايا الشائكة المرتبطة بحدود ملكية الجسد، وهذه فقط نماذج وأمثلة من مآزق الجسد الملتبس.

نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام موضة المشاريع الجسدية، في زمن الشكّ الذي نقف على عتبته، فقد أصبح ترويض الجسد من حيث الحجم والمظهر وحتىّ المحتوى قابلاً لإعادة البناء والتشكل وفق تصميمات وخيارات صاحبه، تحذوه في ذلك الرغبة في الحصول على الجسد المثالي الفاتن لبعث رسائل رمزية للغير. ومع ذلك فهذه المشاريع التي تتوخى التشكيل الشخصي لأجساد أكثر معافاةً وفتوةً ومقبوليةً، تتعرض لمخاطر صحية مهلكة من قبيل الأمراض المستعصية العلاج: كالسرطان، وأمراض القلب، والكبد، وغيرها، فبالرغم من كل الاحتياطات التي يتبعها الجسد عبر اتباع حميات غذائية صارمة، ومزاولة أنشطة رياضية بانتظام، فإنّ ذلك لا يحميه من التعرض للأمراض القاتلة.

مشاريع الصحة والعمليات الجراحية وكمال الأجسام أمثلة رائدة للدلالة على مدى الاهتمام المتزايد للفرد الحداثي بجسده، الذي غدا وسيلة للتعبير عن الذات والشعور بالغبطة والرضا. وفي الوقت نفسه يمكن اعتبار هذه المشاريع محاولة منا لتأجيل مسائل وجودية تشغل بالنا تتعلق بمصير الجسد النهائي (الموت المحتوم).

في ظل هذا السياق، سيعمل علم الاجتماع المعاصر على تسليط الضوء على الجسد باعتباره مسألةً اجتماعيةً مهمّةً، متجاوزًا بذلك المقاربة اللاّجسدية التي تبناها علم الاجتماع الكلاسيكي، حيث كان الجسد الغائب الأكبر، في تأثُّر مباشر بالموروث الديكارتي في الفلسفة، والذي ركّز على العقل واللغة باعتبارهما مكمن تفرد الإنسان اجتماعيًّا، وإن كانا من حيث الجوهر لا ينفصلان عن الجسد.

نجح المؤلف كرس شلنج في فصول الكتاب التسعة بما فيها التعليقات الختامية (أنظر الفهرس ص7)، طرح رؤية شاملة وواضحة ونقدية لأشهر النظريات المتعلقة بعلم اجتماع الجسد، متتبعًا التطورات التي عرفها وضع الجسد في علم الاجتماع، انتقالاً من المقاربة المزدوجة عقل/ جسد إلى إسهامات الكُتَّاب الأكثر حداثة مثل ميشيل فوكو وايرفن غوفمان اللذيْن عملا الكثير من أجل تصحيح بعض جوانب المقاربة السابقة. لكن الجسد ظل في أطروحاتهما فضاءً نظريًّا، فقد ركز ميشيل فوكو مثلاً على القوة في الجسد أكثر من تركيزه على الجسد. ولذا فقد وجد المؤلف في أعمال بيير بورديو ونوربرت إلياس نظريتين قويتين فيما يتعلق بالجسد في عصر الحداثة.

تتبع الكاتب مختلف النظريات الحديثة المرتبطة بالمجتمعات المعاصرة، مختتمًا الكتاب بالمسارات الجديدة في نظرية الجسد، التي أحدثت انفراجًا ابستمولوجيًّا قيّمًا من خلال إبعاد التفكير السوسيولوجي في الجسدية عن التحليلات الطبائعية والبيولوجية الاختزالية. وهذه المسارات الجديدة أضحت تمارس منذ العقد الأخير التأثير الأكبر في الميدان، وهي تحليلات البنائيين الاجتماعيين للجسد المنظم، والأفعال والمقاربات الفينومينولوجية تجاه الجسد المعيش، وأخيرًا النظريات البنيويّة في الجسد[4].

إنّ هذه المقاربات الثلاث أضفت على مجال دراسات الجسد هويّة نظرية، واعتنت به من حيث هو موضوع بشكل مكثف، حيث تم توظيف الجسد باعتباره نقطة ارتكاز جد فعالة في أبحاث هذه النظريات السوسيولوجية، وفي غيرها من الأعمال الأخرى حتى ذات التوجه الإمبيريقي منها. مما أفرز نتائج بقدر تناميها كان تشظيها. وهو الأمر الذي جعل المؤلف يسعى بكل ما أوتي من منهج لعرض مخطط معالم رؤية في الجسد تعتبره في الوقت نفسه ظاهرة اجتماعية وظاهرة طبيعية يمكن تحليلها أيضًا بوصفها وسطًا متعدّد الأبعاد لتكوين المجتمع.

خلاصة: تقف وراء اختيارنا هذا الكتاب دون غيره من المؤلفات اعتبارات عدة، وهي كما عبَّر المؤلف، الأهمية التي يجب أن يحظى بها التخطيط للحقل المشهور حاليًّا بدراسات الجسد، إذ من الأهمية بمكان تسليط الضوء على مصادر نظرية راهنة تقدّر أهمية الجسد الاجتماعية، وتسعى لتطوير اتجاه نظري واسع اتجاه الجسدية يحمل مادية الجسدية البشرية على محمل الجدّ، ويمكن هنا بالتأكيد الاستفادة من أعمال كل من بيير بورديو وأنتوني جيدن وأعمال نوربرت إلياس الأكثر أهمية في هذا المجال، غير أنّه لا يجب الركون إليها بشكل مطلق أو التوقف عندها، بل لابدّ من تأسيس تحليل جديد يحاكي أصداء النقاشات الراهنة في هذا المجال، ويبتغي الكشف عن الأبعاد المتميزة التي نشاهدها بشكل مستمر منذ مدة لبناء علم اجتماع جسدي بشكل متكامل.


[1] فيليب أرياس، "تاريخ الذهنيات"، مقال منشور ضمن المؤلف الجماعي، التاريخ الجديد، المنظمة العربية للترجمة، ص 282

[2] راجع: بورغيار "الأنتربولوجيا التاريخية" ضمن التاريخ الجديد، م. س، ص 236

[3] المرجع نفسه، ص ص 102، 103

[4] كرس شلنج، الجسد والنظرية الاجتماعية، ترجمة نجيب الحصادي ومنى البحر، مشروع كلمة، أبو ظبي، دار العين للنشر المصرية، الطبعة الأولى، 2009، ص ص 298، 301