الحكمة المشرقية والحكمة الإشراقية


فئة :  مقالات

الحكمة المشرقية والحكمة الإشراقية

الحكمة المشرقية والحكمة الإشراقية

ثمة أمر بَادِهٌ بالنسبة إلى المعنيين بتاريخ الفلسفة، من أن مجموعة مصطلحات فلسفية معينة تشتمل على الاشتراك والالتباس في التداول الفلسفي، ويصعب استيعابها لقراء الفلسفة فيلزم التمايز بينها؛ وذلك لأن التأسيس في مجالات الفلسفة والفكر والعلوم، لا يكون إلا بتوسط المصطلحات؛ لذلك دفعاً للاشتمال المنظور يبيّن المعنيون بالفلسفة مدلولات المصطلح الفلسفي بشكل مخصص عند توظيفه في مجال فلسفي معين إتماماً للتفاهم وطرداً للتأويلات والدلالات التي قد تحمل على غير ما هي مقصودة بالأصالة وللابتعاد عن أخطاء الفهم. وعادة ما يحصل هذا، ولم يعد من أشكال تخطي حدود المعهود بالتدوال الفلسفي شرط أن لا يتم توظيف الأيديولوجيا لإنشاء مدلولات وضعية، كما يفعل الكتّاب القوميون في إيران تُجاه أهم مصطلحي الفلسفة في تراث الإسلام الحكمة المشرقية والحكمة الإشراقية الأول لابن سينا البخاري 980-1037، والثاني لفيلسوف الإشراقية شهاب الدين السهروردي التركي (= السُّهرَوَردي المقتول) 1155- 1191.

يحاول الفلاسفة ومؤرخو الفلسفة في إيران، بعد مضي حقب زمنية تقديم افتراضات وتأويلات بغية وضع مدلول تاريخي وجغرافي بمرجعية قومية لصالح تاريخ فارس القديم المجوسي والزرادسي ضمن مساعي مشروع أيرنة بعض تراث الإسلام، على أن المصطلحين يعنيان شرق إيران (= فارس القديمة = ولاية خراسان التاريخية) وهناك تناسق فلسفي وإلهياتي وانتظام تاريخي فارسي بين المصطلحين ومدلوليهما، وهذا ما لا صحة له في نتائج البحث.

وفي الواقع، إنَّ مصطلح الحكمة المشرقية السينوي له أكثر من مدلول، وتتطلب معرفته فهم السياق الفلسفي السينوي والمعرفة الدينية ـ الفلسفية في الإسلام، مضافاً إلى أنه الأسبق على نظيره في أعمال فلسفية بارزة بالعربية أو لفلاسفة عرب. وما أراه من وجهة نظري، أن أهم من عمل على تأسيس فلسفة بالانبناء على ذلك هو ابن طفيل القيسي الأندلسي 1100-1185، وأما شهاب الدين السهروردي التركي الأصل ففلسفته مشابهة اسمية مع ابن سينا. ومع ذلك، يقصي الإيرانيون أعمال إبن طفيل ويكرسون على السهروردي لوجود المشابهة بين المصطلحين والمقاربة الجغرافية والتبني للإيرنة، فبالتالي يُوهم القراء العرب بواسطة هذه المصادرة غير المبنية على الاستدلال التاريخي والفلسفي السليم للإيقاع بمفروض أصالة العقل والحكمة الفارسية ودعوى تفوقهما على شعوب أخرى، خصوصاً العرب ذوي الأُحدُود الرسالي. ومن هنا تبدأ الإماهة لأجزاء من تراث الإسلام لمصادرة الأسماء والمصطلحات والجغرافيا والشخصيات والفلسفات لصالح للمفروض المشار إليه.

لقد تميز مؤسسو الحكمة المشرقية والحكمة الإشراقية بعدم الاكتفاء بالقواعد والمبادئ الأساسية للفلسفة المأخوذة من الفلسفة الأرسطية، لبدء بحث عن حكمة حقيقية مغايرة، من خلال وضع مصطلحات وتغيير مدلولات، وهذا هو الدافع لظهور المصطلحين اللذين يتباينان من منظور إشراقي ومشرقي؛ الثاني يبحث مسألة الوجود بالاستدلال العقلي الموروث، بينما يبحث السهروردي التركي بالحكمة الإشراقية عن علم خصوصيته الاتصال الشهودي والمعرفة الذوقية إلى جانب الاستدلال المنظور.

لقد تحدث ابن سينا البخاري (= أزبكستان الحالية) ​​عن الحكمة المشرقية في كتاب منطق المشرقيين، وأعرب عن انحيازه للفلسفة المشائية في البدو، ومن ثَم كشف عن حكمة جديدة في الأنماط الأخيرة من كتاب الإشارات والتنبيهات، مبيناً أنه قد ألّف كتاب الشفا لعموم الفلاسفة، بينما الحكمة المشرقية؛ الحكمة الحقيقية سوف يقتصدها ثلة من الفلاسفة على وجه الخصوص. وما سوف يقدمه هناك شيء يتخطى حدود مجرد الفلسفة الأرسطية، وما انشغل به قبله من الفلاسفة. وهذا ما لوحظ في محاولات ابن طفيل القيمة ويأتي الحديث عنه بعيد قليل.

ويبدو أن الحكمة المشرقية لم يكتب لها حظوة الذيوع، وبقيت في مديات الإهمال نتيجة تعرض أهم عمل فلسفي لها إلى ألسنة النيران في مكتبة غزنة عام 546هـ، فصارت دلالة بلا مدلول إن جاز التعبير، لا يمكن العثور على مصدر لها للتمكين من الاستناد إليها. وأما بالنسبة إلى التعريف بالحكمة الإشراقية فأمرها يختلف كلياً؛ إذ لها الإنجاز والتحقق من خلال أعمال السهروردي الفلسفية والصوفية وأتباعه جمهور الحكمة الإشراقية. ويؤكد السهروردي أنَّ الحكمة الإشراقية بدأت خصيصة بفلاسفة يجمعون بين الذوق والبحث الفلسفي الاستدلالي غير القائم على الشهود والابستيمولوجيا خلافا لصنف آخر من الفلاسفة يطلق عليهم أتباع الاستدلال العقلي الصرف. وفي رأي السهروردي هم مجرد أتباع لفلسفة تتحصل بالتصور والاكتساب بالرأي والنظر ولا جنحة لهم نحو الإشراق الوجداني الذي يقصده.

وبالعودة إلى ابن سينا، الذي تحدث ​​عن الحكمة المشرقية، فلا دليل يعزز ما تبناه الكتاب الإيرانيون للمضي بمدلولات يمكن وضع الصلة بينها وبين الجغرافيا الإيرانية والفكر اللاهوتي القديم كالمجوسي والزرادسي، والذي تحول في عصور الإسلام إلى مشرق جغرافي فارسي عرف بالتصوف والعرفان والذوقيات المعرفية. وأن ابن سينا البخاري كالسهروردي اقتصد المعنى الجغرافي والمعنى الصوفي والميتافيزيقي المحلي آنذاك في المصطلح، بينما واقع الأمر أن ابن سينا البخاري بعد حادثة ألسنة النيران المشار إليها لم يبق لنا منه سوى آراء أوردها الطوسي وقطب الدين الشيرازي في أعمالهما الشروحاتية إلماعاً للحكمة المشرقية. والأهم هو ما ورد في مقدمة كتاب منطق المشرقيين المتوفر حالياً لابن سينا لم يذكر أياً من مسائل ومبادئ وقواعد ​هذا النمط من الحكمة الحقيقية التي اقتصدها منذ شبابه الذي أنهي فيه معظم العلوم والمعارف المتاحة. وهذا من جهة النفي الأولى عما يستدل به الكتاب الإيرانيون. ومن حيث الجهة الثانية، يصر أتباع مشروع الأيرنة والمصادرة لتراث الإسلام على أنَّ ثمة مراسلات لابن سينا ​البخاري ​بينه وبين أبي سعيد أبو الخير التركي (= تركمنستان حالياً)، بالإضافة إلى ما أورده العطار النيسابوري في تذكرة الأولياء من لقاء ابن سينا يجمع بأبي الحسن ​​الخرقاني الفارسي يمكن الاستدلال بكل ذلك على أنها شواهد تدل على أن ابن سينا على صلة بمتصوفة خراسان، لذلك عثر على نمط من الذوق الصوفي وحكمة ما، فبالتالي المراد من الحكمة المشرقية هو هذا. وبالإنباء على هذه المصادرة، بلور الكتاب الإيرانيون رؤية إيجاد الصلة بين الحكمة الإشراقية وبين الحكمة المشرقية على أن السهروردية هي استمرارية لتلك السينوية؛ إذ إن ابن سينا البخاري هو من بدأ ذلك، فهو السبّاق وأن كليهما يتفقان مع بعضهما بعضاً في التوجه إلى حكمة مشرق أرض فارس وما فيها من معارف. وهذا ما لا دليل عليه من أعمال ابن سينا الفلسفية، ويمكن رفضه من منظور إضافي آخر، وهو ما يسمى برفع التباس يبدوه اشتراك لفظي في الاشتقاق من مفردة المشرق وما وضع من تأويلات أكثرها لباحثين إيرانيين، بالإضافة إلى أن ابن سينا ​​في رسائله الرمزية، ومنها أبسال وسلامان مع اتصافها بالحالة الصوفية لا يشير إلى ما به الدلالة على جغرافيا فارس ولا العقل والحكمة الفارسية! واطراداً على هذا، فإن العمل الفلسفي الذي كتبه ابن طفيل الحكمة المشرقية في قصة حي ابن يقظان يلفت الانتباه ويرتقي لأن يكون من مصاديق الحكمة المشرقية لو أخذ بعين الاعتبار ما أدلى به السهروردي عن الأجزاء المتبقية التي قرأها من كتاب الإنصاف لابن سينا، والذي بحث فيه النظام الأرسطي الفلسفي مع شرح لمؤلفات أرسطو، ثم كشف عن الفوارق الجوهرية بين الفكر الأرسطي والفكر المشرقي الذي يقصده، وهو الكتاب الذي أشار إليه ابن أبي أصيبعة على أنه ضاع في نهب السلطان مسعود. ويعقب السهروردي حول الأجزاء ويذكرها بالكاراريس ويعتقد أن ابن سينا ​​نسب ما فيها من حكمة إلى المشرقيين وحكماء المشرق، وهذا ما لا صحة له، ​و​أنه لم يصل إليها؛ أي الحكمة المشرقية، ويعني بذلك أن الحكمة عند الشعوب العجم الناطقة بالفهلوية ذات الجذور الهندية – الأوروبية، والتي يسميها لاحقاً الحكمة الخُسرفانية (= حكمت خسرواني) ليست تلك التي تبناها أو توصل إليها ابن سينا.

وأما عن التسمية الأوستية أو الفهلوية، فإن السهروردي يميل إلى كيْخُسْرُو من بين الأمراء الفرس القدماء؛ لأنه الولي التام والَمظهر الكلي للولاية! فيسمي فلسفته الإشراقية بالحكمة الخسرفانية نسبة إليه كون ما حمله النبلاء الفرس بقيادة كيخسرو هو التوحيد الشهودي، والذي بمثابة أعلى مراتب التوحيد الشهودي؛ أي إنهم لم يروا سوى الأزل ونور الإله المطلق الإله الزرادسي، وهذا هو المراد من المبدأ المشرقي استنادا لما وَجَده السهروردي عند أتباع كيخسرو لذلك حاول إحياء هذا المبدأ، وبنى عليها الحكمة التي ترددت أسماها بين الحكمة الخسرفانية وأخرى فقه الأنوار ونور الأنوار والحكمة الإشراقية.

ومن جهة يمكن القول إن ما يبتغيه السهروردي من الحكمة الإشراقية ومضمونها في مراده من الإشراقية هو خُوَرنَه، فرّ کیانی، کیان خرّه في اللغة الأوستية؛ وذلك بعد أن وقف على مقولات الحكمة الخسروانية، والتي أهم مقولاتها هي النور. مقارباً هذه المقولات وأهما النور (= النور الأسفهبدي = نور اِسپهبدی) مع ما وجد عند بعض الشعوب المسماة في التقليد الغربي القديم بشعوب العجم الناطقة بالأوستية والفهلوية ضمن التقليد الزرادسي وتعاليمه. وأن خُوَرنَه أو خرّه يُبتغى منه التمكين أو الاكتساب الإلهي وفقا للإلوهية الزرادسية، حيث يمنحه الآلهة للناس كافة، وهو ما يسمى عندهم خویشکاری (= دينانية والأمِينيّة) بحسب شراح الإشراقية الإيرانيين. وكما هو بين أن ابن سينا لم يورد أيا من هذا المصطلحات في أبرز أعماله الفلسفية خصوصاً كتاب الإشارات والتنبيهات، آخر أعماله المنقحة والمنسقة بالموقف والرأي الفلسفي فتنتفي مزعمة الكتاب الإيرانيين وغيرها.

وأخيراً، من وجهة نظري، فإنَّ الأعمال التي تبنت المصطلح، فإن العمل الفلسفي الشهير لابن طفيل كونه لا يشبه شهاب الدين السهروردي بالحكمة الخسرفانية، فهو من أهم أحد أشكال الحكمة المشرقية التي طمح إليها ابن سينا، وهذا العمل لا صلة له بالفكر الإيراني لخلوه من المصطلحات الإشراقية والفكر الألوهي الزرادسي والمجوسي، خصوصاً وأنَّ ابن طفيل قد بيّن في الصفحات الأولى أنه يتحدث عن أسرار الحکمة المشرقیة لابن‌ سینا، وأنها حكمة تضاهي تلك الحكمة الحقيقية التي نالها ابن سینا تتباين مع مضمون كتاب الشفا الذي قد تم تأليفه في طول النظام الفلسفي الأرسطي. ويبدو أن هذه الإلماعة لم ترغ لدى المعنيين بفلسفة ابن سينا وابن طفيل من الإيرانيين خصوصاً الفيلسوف غلام حسين ديناني، فيحاولون الربط بين ابن سينا وشهاب الدين السهروردي بتخطي ابن طفيل وعمله الفلسفي ومصداقه الواقعي للحكمة المشرقية. وكثيرا ما أرى لم يتنبه المعنيون بالكتابة والبحث عن الأعمال الفلسفية في الإسلام للفلاسفة العرب في البلدان العربية للفوراق في هذه المسألة.