الحملات المناهضة للجندر في أوروبا: قراءة تحليلية في كتاب Anti-Gender Campaigns in Europe: Mobilizing Against Equality
فئة : قراءات في كتب
الحملات المناهضة للجندر في أوروبا: قراءة تحليلية في كتاب
Anti-Gender Campaigns in Europe: Mobilizing Against Equality[1]
مقدمة: الجندر كساحة للصراع الحضاري في أوروبا المعاصرة
في السنوات الأخيرة، أصبح “الجندر” أكثر من مجرد مصطلح سوسيولوجي أو نظرية أكاديمية متخصصة؛ لقد تحوّل إلى رمز لصراع أيديولوجي واجتماعي شامل، يدور في عمق المجتمعات الأوروبية. لم تعد معارك الجندر مقتصرة على فضاء النقاش الأكاديمي أو دوائر النشطاء، بل اقتحمت المدارس، والبرلمانات، والكنائس، والمنازل، وحتى الخطاب القانوني والدبلوماسي.
وسط هذه الدينامية، لم يعد السؤال هو “ما هو الجندر؟”، بل “من يُعرّف الجندر؟ ومن يملك سلطة ضبط معانيه وحدوده؟”
يتناول كتاب Anti-Gender Campaigns in Europe: Mobilizing Against Equality، بتحرير الباحثين رومان كوهار وديفيد باتيرنوت، هذا التحول بجرأة تحليلية ومنهجية مقارنة.
يُعدّ هذا العمل الجماعي أحد أبرز المساهمات المعاصرة في فهم الطفرة السياسية للحملات المناهضة للجندر، والتي ظهرت كتحالفات مرنة بين الكنائس، والحركات اليمينية، والأحزاب القومية، والمجتمع المدني المحافظ، ضد مشروع المساواة الجندرية.
ويوثق الكتاب هذه الحملات في اثنتي عشرة دولة أوروبية، كاشفًا عن خريطة سياسية جديدة، تتقاطع فيها القيم الدينية مع أدوات الدولة، والخوف الأخلاقي مع الاستراتيجيات الشعبوية، في إطار تعبئة مناهضة ليس فقط للنسوية أو حقوق المثليين، بل للحداثة الليبرالية بكاملها.
أولًا: الجندر كعدو رمزي – تحليل مفاهيمي تأسيسي
في الفصل التمهيدي للكتاب، يقدم المحرران إطارًا تحليليًا مفاهيميًا صارمًا، يتجاوز المقاربات السطحية التي ترى في الحملات المناهضة للجندر مجرد ممانعة دينية أو أخلاقية لقيم “حديثة”.
يرى كوهار وباتيرنوت أن ما يسمى بـ”أيديولوجية الجندر” ليس مفهومًا علميًا أو تحليليًا، بل هو مصطلح استقطابي مفتوح التأويل، يتمحور حوله خطاب سياسي رجعي يهدف إلى خلق عدو رمزي يمكن التعبئة ضده في كل مكان.
الجندر كعدو متعدد الوظائف:
يُوظف الجندر، بحسب تحليل الكتاب، لأداء أدوار رمزية متعددة:
- هو الخطر الذي يهدد “الأسرة الطبيعية”؛
- والشر الذي يُفسد “الطفولة البريئة”؛
- والأداة التي يستخدمها “الغرب المنحل” لاختراق المجتمعات الوطنية؛
- والانحراف الفكري الذي تفرضه النخبة الأكاديمية الليبرالية على الشعوب المحافظة.
بهذا، يتحول الجندر إلى حاوية فارغة، تُملأ بكل معاني القلق الاجتماعي والسياسي والأخلاقي، ما يجعله رمزًا مثاليًا لحملات التعبئة الشاملة.
من الاحتجاج إلى التعبئة العابرة للحدود:
يوضح المحرران أن الحركات المناهضة للجندر لم تعد مجرد ردود فعل محلية، بل تطورت إلى تحالفات عابرة للحدود تستخدم شبكات إعلامية ودينية ومنظمات غير حكومية لإنتاج خطاب موحَّد، لكنه يتكيّف مع السياقات الوطنية. تُبرز هذه الحركات قدرتها على المزج بين الخطاب الديني والتقني، بين الأخلاق والسياسة، بين “الطبيعة” و”الحرية”.
الجندر كرمز لأزمة الحداثة:
الجندر، كما يعالجه الكتاب، لا يُهاجم لذاته، بل لما يُمثله من تحدٍّ لتصورات راسخة عن النظام الاجتماعي، والأدوار، والهوية، والسلطة. إن “أيديولوجية الجندر” كما تُصوّر في الخطاب المحافظ ليست فكرة، بل كابوسٌ جمعي يُجسّد القلق من تفكك الثوابت.
وفي هذا الصدد، تتحول الحملات المناهضة للجندر إلى ثورة مضادة معرفية وأخلاقية، تهدف إلى إعادة ضبط الخيال السياسي والاجتماعي للمجتمع الأوروبي: ماذا يعني أن تكون رجلاً أو امرأة؟ ما هي العائلة؟ من يعلّم الأطفال؟ من يُعرّف “الطبيعة”؟ ومن يقرر “الانحراف”؟
بعد هذا التأصيل النظري، ينتقل الكتاب إلى تحليل ملموس لتجليات هذه الحملات عبر دراسات حالة من خمس دول مختلفة، تُظهر كيف يُعاد بناء الخطاب المناهض للجندر عبر مؤسسات وسياقات ثقافية متنوعة.
فرنسا – الجندر كتهديد للهُوية العائلية والديمقراطية
خلفية:
ظهرت حركة “La Manif pour Tous” سنة 2012 كرد فعل على قانون “الزواج للجميع”. ما يميز الحالة الفرنسية هو انتقال الخطاب المحافظ من المجال الديني الصريح إلى الحقل المدني العام.
ملامح الخطاب:
- الدفاع عن “حقوق الأهل” في مواجهة الدولة؛
- استخدام لغة الديمقراطية والحرية ضد “فرض أيديولوجية الجندر”؛
- تأطير الجندر كأداة حكومية لهندسة اجتماعية تُهدد البنية الأسرية “الطبيعية”.
التحليل:
تكشف هذه الحالة أن الخطاب المناهض للجندر في الديمقراطيات الليبرالية لا يأتي من خارج النظام، بل من داخله. الحركات المحافظة لم تعد معارضة بمعناها التقليدي، بل صارت فاعلًا يطالب بـ”استعادة الديمقراطية” من “الليبرالية”.
بولندا – تحالف الدين والدولة ضد المساواة
خلفية:
تُظهر الحالة البولندية أن مناهضة الجندر ليست فقط فعل جماعات، بل سياسة دولة. تحالف الكنيسة الكاثوليكية مع حزب القانون والعدالة أنتج خطابًا يُقدم الجندر كغزو ثقافي غربي، وتهديد للهُوية الوطنية الكاثوليكية.
آليات التعبئة:
- رفض اتفاقية إسطنبول بوصفها “حصان طروادة” للجندر؛
- ربط الجندر بأوروبا الليبرالية والاستعمار الثقافي؛
- تصوير الدفاع عن الأسرة كدفاع عن السيادة.
التحليل:
بولندا تُجسد نموذج “الدولة المحافظة الجديدة”، حيث لا تنفصل الدولة عن الأيديولوجيا الدينية، بل تتبناها علنًا وتُطوّع القانون وفقًا لها. الجندر هنا لا يُعاد تأطيره فحسب، بل يُحوَّل إلى عدو للوطن نفسه.
روسيا – الجندر كأداة أمنية لتعزيز السيادة
الخلفية:
في روسيا، الجندر يُربط مباشرة بـ”الغرب المنحرف”، والمثلية الجنسية تُقدَّم في الإعلام والقانون كخطر وجودي يُهدد الأمة من الداخل.
السياسات:
- قانون حظر “دعاية المثلية للقاصرين” (2013)؛
- تجريم الاحتفال أو الترويج للهوية الجنسية غير التقليدية؛
- استخدام مؤسسات الدولة (المدارس، الإعلام، القانون) لفرض رؤية محافظة موحدة.
التحليل:
روسيا تُقدم نموذج “أمننة الجندر”؛ أي تحويل السياسات الجندرية إلى شأن أمني تُستخدم فيه أدوات الدولة لإعادة صياغة الأخلاق والسيادة في آنٍ واحد. الجندر هنا ليس فقط ضد القيم، بل ضد الأمة.
المجر – الجندر كمعرفة غير مشروعة
الخلفية:
قرار الحكومة المجرية في 2018 بإلغاء برامج دراسات الجندر لم يكن حادثة إدارية، بل رسالة سياسية مفادها: لا شرعية للمعرفة التي تُزعزع بنية الأدوار التقليدية.
الوسائل:
- تقديم الجندر كأيديولوجيا لا علم؛
- اتهام الأكاديميين بالخضوع لأجندات أوروبية؛
- استخدام صلاحيات الدولة لإعادة ضبط حدود البحث العلمي.
التحليل:
في المجر، الصراع ضد الجندر يتم داخل الجامعات، ما يعني أن الحرب على الجندر هي أيضًا حرب على العقل النقدي، والمعرفة التي تُنتج تصورات بديلة عن “الطبيعة” و”الأسرة” و”الهوية”.
ألمانيا – الطفولة كميدان معركة
الخلفية:
مع تصاعد حزب “البديل من أجل ألمانيا”، ظهرت حركة “Demo für Alle” التي تُعارض “أدلجة المدارس بالجندر”. الخطاب يُستخدم فيه الأطفال كرمز للبراءة، بينما تُصوَّر المناهج الجندرية كخطر على النقاء الأخلاقي.
الآليات:
- رفض التربية الجنسية متعددة التوجهات؛
- تصوير “نظرية الجندر” كتهديد طبيعي وأخلاقي في آن؛
- استغلال الهلع الأخلاقي حول الطفولة لتجنيد الدعم.
التحليل:
ألمانيا تُقدم نموذجًا لكيفية تكيّف الشعبوية المحافظة مع البيئة القانونية الليبرالية. الطفل يصبح فاعلًا رمزيًا يُستخدم لإعادة ضبط مفاهيم الحق والخطر، الطبيعة والانحراف.
ثالثًا: الشعبوية المحافظة وأدواتها الحديثة – خطاب تقليدي بأدوات حداثية
من بين الإسهامات النوعية لكتاب Anti-Gender Campaigns in Europe أنه لا يكتفي بتتبع تطور الخطاب المحافظ المناهض للجندر، بل يُظهر كيف أصبح هذا الخطاب شعبويًا وحداثيًا في آن واحد.
ليست الحركات المناهضة للجندر مجرد امتداد لتقاليد دينية قديمة أو طروحات أخلاقية مناهضة للعلمانية، بل أصبحت جزءًا من ما يمكن تسميته بـالشعبوية الثقافية المعولمة، التي تتقن استخدام أدوات الحداثة لتقويض مشروعها من الداخل.
استعارة مفردات الخصم
تتمثل المفارقة المركزية في أن هذه الحركات تستعير شعارات “الحرية”، “الحقوق”، “الاختيار”، و”حرية التعبير”، ليس للدفاع عن التعددية، بل لاستهدافها. يتم تصوير مناهج التعليم الجنسي كمخالفة لحرية الأهل، ويُقدّم زواج المثليين كقيد مفروض على حرية التعبير الديني، وتُعرض دراسات الجندر كمجال أيديولوجي يهدد الحياد الأكاديمي.
هذه الاستراتيجية تعكس ما يسميه بعض الباحثين “الليبرالية المضادة” -استخدام أدوات الليبرالية ذاتها، كحرية الضمير وحقوق الأفراد، من أجل ضرب مكتسباتها.
أدوات حديثة لخدمة مشروع رجعي
تعمل هذه الحركات من خلال بنية معقدة تجمع بين التنظيم الكلاسيكي والأساليب الرقمية الحديثة:
- تكنولوجيا التواصل: الحملات المناهضة للجندر تنشط بكثافة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تنتج مواد رقمية بصرية مؤثرة، وتُعيد تدوير مقاطع مناهضة من المدارس أو المحاكم أو تصريحات فردية لبناء حالة ذعر جماعي.
- إعادة هندسة الخطاب: يجري إعادة صياغة المفاهيم؛ لا يُقال “نحن ضد حقوق المثليين”، بل “نحن ندافع عن حرية الأطفال”، و”حق الأسرة في تقرير ما يتعلمه أبناؤها”.
- مؤسسات رديفة: تنتج الحركات مناهج “بديلة”، مؤتمرات مضادة، مراكز بحثية تُحاكي البنية الأكاديمية، ما يمنحها شرعية معرفية زائفة لكنها فعالة سياسيًا.
- تحالفات عابرة للحدود: لا تقتصر هذه الحملات على النطاق الوطني، بل تمتد من الولايات المتحدة إلى أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية. تُنقل الأدبيات، تُموّل المبادرات، وتُنسّق الحملات الإعلامية ضمن شبكات أيديولوجية محكمة.
السياق التحولي: من معارضة إلى مشروع بديل
ما يظهره هذا التحليل أن الحركات المناهضة للجندر لا تسعى فقط إلى معارضة جزئية أو وقف سياسة بعينها، بل تسعى إلى إعادة تأسيس الإطار المرجعي الذي تُبنى عليه السياسات العامة. إنها لا ترفض المساواة فقط، بل تسعى إلى إعادة تعريفها، حيث تُصبح خاضعة لـ”الطبيعة”، و”الدين”، و”الهوية القومية”.
رابعًا: مناهضة الجندر كأداة لنزع شرعية المعرفة – من الأخلاق إلى العلم
تُبرز الفصول المتعلقة بالمجر وألمانيا أن الهجوم على الجندر لا يتوقف عند المستوى السياسي أو الأخلاقي، بل يمتد إلى البنية المعرفية للحداثة الغربية نفسها.
يُعاد تقديم الجندر ليس كحقل معرفي شرعي، بل كمجال منحرف، منحاز، وأيديولوجي. هذه ليست فقط معركة حول السياسات، بل معركة حول من يُنتج المعرفة، ولأي غرض.
الجامعة كمنصة مقاومة… وميدان قمع
عندما تُغلق برامج دراسات الجندر في الجامعات (كما حدث في المجر)، أو عندما تُحاصر المناهج التربوية ذات التوجه الجندري في المدارس (كما في ألمانيا)، فإن ما يجري هو تجريد الجندر من مكانته كبنية تحليلية ناقدة، ونقله إلى موقع “التهديد المعرفي”.
الدولة في هذه الحالة لا تكتفي بمراقبة الأخلاق، بل تُمارس رقابة على ما يُمكن تدريسه، من يمكن تدريسه، وكيف يُدرّس. هنا تتحول الأكاديمية من فضاء للجدل إلى موقع للمراقبة الأيديولوجية.
“حيادية العلم” كأداة للإنكار
تُستخدم فكرة “الحياد العلمي” للهجوم على الجندر بوصفه منحازًا أيديولوجيًا. لكن المفارقة أن ما يُقدم كـ”علم حيادي” هو في كثير من الأحيان أدبيات محافظة مغلفة بخطاب بيولوجي تقليدي، يُنكر التنوع الجندري ويُعيد فرض الثنائية الصارمة بين الذكر والأنثى. إن الهجوم على الجندر، بهذا المعنى، هو هجوم على إمكان إنتاج معرفة تتحدى الوضع القائم. الجندر لا يُهدد فقط الأسرة أو الدين، بل يهدد الافتراضات المعرفية التي تأسست عليها “الطبيعة الاجتماعية” نفسها.
خامسًا: هل الجندر عرض لأزمة أعمق في المشروع الأوروبي؟
يطرح الكتاب ضمنيًا، ومن خلال تشريح دقيق لتعدد الخطابات والهياكل المناهضة للجندر، فرضية أكثر عمقًا:
أن ما يُهاجَم في حملات مناهضة الجندر ليس فقط مفاهيم الجندر أو المساواة الجندرية، بل الحداثة الأوروبية الليبرالية في جوهرها.
الجندر مرآة للحداثة
الجندر، من حيث هو مفهوم نقدي، يعيد فتح كل ما افترضه المشروع الحداثي على أنه “طبيعي”:
- الأدوار الجندرية،
- الهيكل الأسري،
- العلاقة بين القانون والجسد،
- معنى الهوية،
- حدود السلطة الأبوية والدينية.
من ثم، يصبح الجندر المرآة التي تُظهر هشاشة المشروع الليبرالي حين يواجه نفسه. الحركات المناهضة للجندر لا تُهاجم فكرة الجندر في حد ذاتها، بل تُهاجم إمكانية التفكير به، بوصفه أداة تفكيك لما لم يكن يومًا مفكرًا فيه.
خاتمة: الجندر كساحة معركة رمزية في أوروبا ما بعد الحداثة
ينجح كتاب Anti-Gender Campaigns in Europe في تحويل ما قد يبدو مسألة جزئية - تتعلق بحقوق النوع الاجتماعي - إلى مِرآة نقدية لفهم التحولات العميقة في بنية الخطاب السياسي والثقافي في أوروبا.
ففي زمن تتقاطع فيه الشعبوية الدينية مع القومية الثقافية، وتُستخدم فيه مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان كأدوات لإعادة ضبط المجال العام لصالح خطاب محافظ، يصبح الجندر أكثر من موضوع سياسي أو اجتماعي؛ يُصبح علامة فارقة على تخوم صراع حضاري داخلي.
السؤال الذي يطرحه الكتاب بشكل غير مباشر، ويتركه مفتوحًا للقارئ والباحث، هو التالي:
هل الديمقراطية الليبرالية تملك ما يكفي من القوة المفاهيمية والأخلاقية لحماية مشروعها، حين تُستعمل أدواتها ضدها؟
في هذا السياق، يتحول الجندر إلى موقع صراع رمزي مركزي:
- بين الشك واليقين،
- بين الحرية والضبط،
- بين المستقبل والماضي.
[1] Roman Kuhar & David Paternotte; Anti-Gender Campaigns in Europe: Mobilizing Against Equality; Rowman & Littlefield International, London; 2017