عرض كتاب: الديني والسياسي في المجال الإسلاميّ لمحمّد شريف فرجاني


فئة :  قراءات في كتب

عرض كتاب: الديني والسياسي في المجال الإسلاميّ لمحمّد شريف فرجاني

طبعته الأولى الصادرة بالفرنسيّة عام 2005، عن دار فأيار الفرنسيّة، تحت عنوان:

Le politique et le religieux dans le champ islamique

كتاب الدينيّ والسياسيّ في المجال الإسلاميّ لمؤلّفه التونسي محمّد شريف فرجاني أستاذ العلوم السياسيّة بجامعة ليون 2 بفرنسا، هو من أبرز الأعمال الأكاديميّة الجادّة في تناول موضوع العلاقة بين الدينيّ والسياسيّ في المجال الإسلاميّ، في بداية القرن الحادي والعشرين.

صدر الكتاب لأوّل مرّة باللّغة الفرنسيّة عام 2005 تحت عنوان:

Le politique et le religieux dans le champ islamique, Fayard, Paris, 2005

وقد ترجم الكتاب إلى العربيّة (2008)، ثمّ إلى الإسبانيّة، وهو موضوع ترجمة إلى الإنجليزيّة (2013).

الكتاب في الأصل مجموعة من المقالات والمداخلات والمحاضرات التي ألقاها الباحث حول موضوع العلاقة بين الدينيّ والسياسي.

· أهميته..

وتعود لاعتبارات عدّة، أهمّها أنّه حصيلة تجربة بحثية امتدّت لسنوات طويلة، في شكل أبحاث على النصوص المرجعيّة في الموضوع، ودراسات ميدانيّة لظواهر دينيّة مختلفة. ولهذا فهو ليس تعبيرا عن رأي عابر وظرفيّ في الموضوع، إنّما هو خلاصة متأنّية لدراسة علميّة جادّة. وهو فضلا عن ذلك دراسة بينمناهجيّة (interdisciplinaire)حاولت استثمار تقنيات عمل شعب بحث علميّ مختصّة في موضوع العلاقة بين الدينيّ والسياسيّ، ومناهج ورؤى مميّزة للمنهج التاريخي، ومقارنة الأديان، والدراسة الفيلولوجيّة، في اقتراب واضح من الظاهراتيّة. وذلك لتحقيق أكبر قدر ممكن من العلميّة، والخروج من أفق النّظرة المعياريّة ذات التمركز الغربيّ أو العربيّ الإسلاميّ، والقراءة الجوهرانيّة أو المثاقفيّة التي تقسّم العالم إلى دوائر ثقافيّة متمايزة حضاريّا، ومنعزلة عن بعضها بعضا.

وهذا الخيار المنهجيّ مكّن مؤلّفه من الإشراف من فوق على الدراسات المنجزة حول علاقة الدينيّ بالسياسيّ في المجال الإسلاميّ، ليتّخذ منها مسافة نقديّة سمحت له بتجاوز مختلف أشكال الطوباويّة المهيمنة على دراسة الموضوع، بداية من أعمال لويس ماسينيون ومدرسته، وصولا إلى مدرسة برنار لويس، ليتّخذ لنفسه مسارا خاصّا مبنيّا على منهج الحفر التاريخيّ في حقيقة العلاقة بين الدينيّ والسياسيّ في المجال الإسلاميّ.

ومن هنا راهنيّة هذا الكتاب الإبستيمولوجيّة بانتمائه إلى نسق ما بعد الحداثة الذي قطع مع علمويّة القرن التاسع عشر المحقّرة للعامل الدينيّ.

وتكتمل هذه الأهميّة في مستوى الموضوع المتناول من جهة راهنيّته واتّصاله بأبرز الإشكاليّات التي تثيرها الثورات العربيّة في القرن الواحد والعشرين، أي إشكاليّة العلاقة بين الدينيّ والسياسي في المجالين العربي والإسلاميّ.

· محتويات الكتاب..


ويتكوّن الكتاب من مقدّمة وخاتمة، وتسعة فصول مقسّمة بدورها إلى فقرات فرعيّة، تابعت أهمّ محطّات تطوّر العلاقة بين الديني والسياسي في المجال العربيّ الإسلاميّ من تاريخ الجزيرة العربيّة قبل الإسلام، وصولا إلى القرن العشرين، وأبرز القضايا المتعلّقة بها.

يتمثّل المبحث الأساسيّ للكتاب في بيان حقيقة العلاقة بين الدينيّ والسياسيّ في المجال الإسلاميّ، وذلك بهدف التصدّي للأطروحة الاستشراقيّة القائلة بتمايز الثقافتين الغربيّة والشرقية، لا سيما الإسلاميّة، إلى ثقافة غربيّة مسيحيّة تفصل أصالة بين الديّنيّ والسياسيّ بفعل جذورها المسيحيّة، وثقافة عربيّة إسلاميّة ينعدم فيها هذا الفصل، بسبب طابعها الإسلاميّ المتعارض مع فكرة الفصل من الأساس.

هذه الأطروحة التي يتزعّمها المستشرق الفرنسي برنار لويس، و من نحا نحوه من دارسيّ الحضارة العربيّة و الإسلاميّة، مثل برتران بادي، وكاميل لاكوست دوجاردان، و يعدّها أساس القدرة الغربيّة على التفرّد ببناء الديمقراطيّة قياسا إلى العالم العربيّ، هي عين الأطروحة التي يتبنّاها دعاة الإسلام السياسيّ، بتوجيه مختلف يؤكّد تميّز الحضارة العربيّة الإسلاميّة بغياب هذا الفصل، و يبني عليه دعوته إلى إحياء النموذج الإسلاميّ الأصيل المتخيّل، في سياق معارضته لنسق العلمنة الغربيّة الموحّدة لأغلب المجالات الحضاريّة الراهنة.

هذه الرؤية المبنيّة على قاعدة الموقف المتبنّي لمقولة صراع الحضارات لساموال هانتنغتون، يتصدّى لها محمّد شريف الفرجاني، من منظور كونيّ تاريخيّ، يؤكّد من خلاله تاريخيّة التحميل السياسيّ للدينيّ وارتباطه بمسارات من الأدلجة عاملة في جميع الأديان والحضارات دون استثناء. وينجز ذلك عبر تتبّع النسق التاريخيّ لتسييس الدينيّ أو تديين السياسيّ في المجال الإسلاميّ. ممّا يعيده إلى الأصول التاريخيّة الأولى لنشوء العلاقة بين الدينيّ والسياسيّ في الإسلام، في شبه الجزيرة العربيّة في التاريخ ما قبل الإسلاميّ. ليصعد معها بعد ذلك في التاريخ متابعا عمليّة الربط التاريخيّة بين الدينيّ والسياسيّ في تاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة، عبر محطّاتها التاريخيّة الرئيسة، وصولا إلى فترتها المعاصرة في تنظيرات المؤسّسين لحركة الإسلام السياسيّ. وفي أثناء هذه المتابعة التاريخيّة يعرّي محمّد شريف فرجاني حقيقة الأدلجة الممارسة لتسييس الدينيّ أو تديين السياسيّ، عبر تعريض أحداثها ومقولاتها إلى عمليّة نقد تاريخيّة، وفيلولوجيّة، تثري استدلاله على أطروحته المركزيّة، وتمدّه بعناصر صلاحيّته العلميّة ومبادئها.

· الوصف المفصّل للكتاب..

المقدّمة (ص-ص9-16):

يهتمّ شريف فرجاني في مقدّمة الكتاب بعرض أصله، وموضوعه، وأهدافه، ومنهجه، وخلاصة فصوله.

فأصل كتابه كما يصرّح هو مجموعة من المداخلات في ندوات علميّة مختلفة، ومقالات منشورة في مجلاّت علميّة، تهتم جميعا بموضوع الدينيّ والسياسيّ في المجال الإسلاميّ. وتتمثّل أهدافه عنده في تجاوز التصوّرات الجوهرانيّة والمثاقفيّة المعياريّة التي تمثّل قاعدة لأطروحات تقابل بين إسلام وغرب متخيّلين أو بين نموذجين حضاريّين أحدهما إسلاميّ متعارض مع الحداثة والديمقراطيّة، والآخر غربيّ منتج لها بالأصالة.

ولذا فإنّ منهج الكتاب يتفادى هذا النموذج المعياريّ ذا المركزيّة الغربيّة، ليطبّق مقاربة حفريّات المعرفة في دراسة تاريخيّة لسيرورة تطوّر مظاهر العلاقة بين الدينيّ والسياسيّ في المجال الإسلاميّ، بالمقارنة بوضعيّتها في المجال الغربيّ، من منظور يبحث عن استنتاج الإنسانيّ المشترك من وراء الخصوصيّ المحليّ.

الفصل الأوّل: الإسلام والسياسة: مصطلحات الجدل (ص-ص17-32)

يستعرض المؤلّف في هذا الفصل تطوّر النظرة الغربيّة إلى الإسلام وحضارته، وإلى ظاهرة الإسلام السياسي المعاصرة، من نظرة كولونياليّة تربطها بتصوّرها عن إسلام رجعيّ معارض للتقدّم إلى نظرة خياليّة معجبة من قبل علماء الإسلاميّات الكبار المنتمين إلى مدرسة لويس ماسينيون، إلى نظرة تحقيريّة تبلورت خاصّة مع برنار لويس بداية من الثمانينات، وتابعه فيها ثلّة من المختصّين بالدراسات الإسلاميّة أبرزهم ماكسيم رودنسون، وبرونو إيتيان، وغيرهما. وقوام هذه النظرة تأكيد تميّز الإسلام عن سائر الديانات لا سيما المسيحيّة بخاصيّة الرّبط المبدئيّ بين الدين والسياسة، واعتبار هذه الخاصيّة السبب الأساسي في تخلّف حضارته وفي ظهور حركات تسييس الدين في كلّ فتراته التاريخيّة.

ويكشف فرجاني أثر هذه النظرة على إساءة الفهم العامّة التي يتعرّض لها الإسلام وحضارته، وعلى تقوية اعتقاد دعاة تسييس الدين المسلمين بحقيقة هذا الارتباط، والتمسّك به خيارا أساسيّا للمجتمعات العربيّة الإسلاميّة. ويبيّن خلفيّات هذه النظرة في مقولة صراع الحضارات، ويعارضها بذكر مواقف أبرز الأسماء الغربيّة التي احتجّت عليها وكانت أعمق في تفهّمها لظاهرة الإسلام السياسيّ، كأوليفيي روا، وأوليفيي كاري، وفرونسوا بوغرات، وإيمانوال تود.

وعلى هذا الأساس ينحاز محمّد شريف فرجاني إلى هذا الموقف الأخير، وينخرط في عمليّة استدلال، هدفها الأساسيّ تأكيد أنّ تسييس الدين هو في الواقع عمليّة تاريخيّة نابعة من خاصيّة الإيديولوجيا الملازمة للسياسيّ التي تتعرّض إليها الأديان جميعا على حدّ سواء.

الفصل الثاني: السياسيّ والدينيّ في الجزيرة العربيّة قبل الإسلام (ص-ص17-52)

يمثّل الوضع الدينيّ السياسيّ في الجزيرة العربيّة قبل الإسلام المحطّة الأولى التي يتوقّف عندها المؤلّف في تمشّيه الحجاجي الذي يدافع فيه عن فكرته الأمّ: نفي الترابط الضروريّ بين الدينيّ والسياسيّ في الإسلام، واعتباره من عمل التاريخ والإيديولوجيا الذي تعرّضت له كلّ الأديان بما في ذلك الإسلام.

و لهذا الغرض يكشف المؤلّف الأصل الجغرافي و الاقتصادي و السياسيّ لنموّ الدور الدينيّ للكعبة و لقبيلة قريش، ثم ّ لعائلة الرسول بداية بجدّه الأوّل قصي، و صولا إلى جدّه لوالده عبد المطّلب، و يشرح كيفيّة الاستخدام السياسيّ للمقدّس في واقع الجزيرة قبل الإسلام لإعطاء قاعدة صلبة للنظام الاجتماعيّ الوليد على أنقاض النظام القبليّ في القرن السادس الميلادي، و يبيّن أنّ هذا التداخل بين الدينيّ و السياسيّ مندرج في سياق آليّة حضاريّة عامّة تؤسّس هذا الترابط في الأنظمة السياسيّة القديمة للبلاد الواقعة في منطقة ما بين النهرين، و في مصر الفرعونيّة، و في المدن الإغريقيّة، و في مملكات إسرائيل و قرطاج، و في الامبراطوريّة الرومانيّة فيما بعد، و في كلّ أشكال التنظيم السياسيّ التي عرفها التاريخ القديم.

ويستند فرجاني إلى روسّو وبرونو بأور ليؤكّد أنّ ذلك الترابط بين الدينيّ والسياسيّ سمة مميّزة لجميع الحضارات القديمة، وأنّ الحديث عن فصل الدينيّ عن السياسيّ هو في الواقع إسقاط للتعريفات الغربيّة الحديثة للدولة على واقع الحضارات القديمة تسرّب إليها من إرث الامبراطوريّة الرّومانيّة، وهو لذلك دون معنى خارج المجتمعات الغربيّة الحديثة. ولهذا الأمر اعترف بونابارت وهو المعلن إلحاده، ومكيفا، بحاجة السياسيّ إلى الدينيّ على الدوام.

الفصل الثالث: الإسلام الوليد: طوبا مدينة أخوّة وواقعيّة سياسيّة (ص-ص53-65)

يقود التسلسل التاريخي والحجاجيّ محمّد شريف فرجاني إلى تفحّص حقيقة الارتباط المزعوم بين الدينيّ والسياسيّ في التجربة التأسيسيّة الأولى للدولة في الإسلام، أي تجربة الرسول في المدينة، وقد عدّت عند دعاة الإسلام السياسيّ أبرز الحجج على انعدام الفصل في الإسلام، فيبيّن أنّها كانت تجربة سياسيّة لا دينيّة. ولذلك يتعرّض إلى أبرز محطّاتها التاريخيّة بين نزول الوحي على الرسول (610م)، وحدث وفاته (632م)، ويشرح حقيقة معنى الرباط الاجتماعي السياسي لا الدينيّ الذي أنشأه الرسول في المدينة، بين مجموعاتها الاجتماعيّة الدينيّة المختلفة، عبر استثمار تطلّعات الفئات المهمّشة إلى غد أفضل، وجدليّتي السلم والحرب العاملتين بقوّة في الجزيرة العربيّة آنذاك في تكوين مجموعة إنسانيّة ذات رباط سياسيّ لا عقائديّ، تواجه خصومها بالجهاد في الدنيا والعقاب في الآخرة.

الفصل الرابع: السياسيّ في القرآن: "الخطاب السياسيّ للإسلام" أو خطاب الإسلام السياسيّ (ص-ص 68-116)

تنقلب عمليّة الاستدلال النقديّة على الأطروحة الأساسيّة التي يتبنّاها المؤلّف إلى دراسة توظّف فيها تقنيات البحث الفيل ولوجي، تردّ على دعوى سياسيّة القرآن بتفحّص بعديه القانوني و السياسيّ المزعومين، فيقود هذا التمشّي المؤلّف إلى دراسة مدى توفّر هذا البعد القانوني في آيات الأحكام، أو في ما يسمّى شريعة، و مدى صحّة خاصيّته السياسيّة، من خلال دراسة مدلولات مصطلحاته التي ينظر إليها بهذا الزعم، كمصطلحات: سياسة، و دولة، و سلطة، و سلطان، و حكم، و قاعدة، و سلم، و سلام ، و جهاد، و قتال، و أمر، و ولاية.

ويقود البحث الفيلولوجي الإحصائيّ والمقارنيّ المؤلّف إلى تبيان غياب هذين البعدين، فيواجه أطروحة برنار لويس بالعديد من الحجج الإحصائيّة، والتأويليّة، والتاريخيّة، في هذا الاتّجاه. وينتهي إلى تقرير، مؤدّاه أنّ الربط بين الدينيّ والسياسيّ ليس أصيلا في القرآن، إنّما هو عمل تاريخيّ تأويليّ جرى على كلّ الأديان دون استثناء. ويجرّه هذا إلى بيان حقيقة المقولة الإنجيليّة "أعطوا لقيصر ما لقيصر، وللّه ما للّه"، فيؤكّد أنّها عنت – ضدّ ما يروّج له -الربط بين الدينيّ والسياسيّ لا الفصل بينهما، وأنّ معنى الفصل ركّب عليها من قبل الأقليّات التي كانت تبحث لنفسها عن مكان لتعيش.

الفصل الخامس: حول الخلافة والأشكال الأخرى للهيمنة السياسيّة في المجتمعات الإسلاميّة (ص-ص117-130)

يعود محمّد شريف فرجاني في هذا الفصل إلى التاريخ ليستعرض حقيقة الارتباط بين الدينيّ والسياسيّ في تجارب الخلافة الإسلاميّة بداية بالخلافة النموذجيّة للخلفاء الرّاشدين صعودا معها في التاريخ عبر دراسة تاريخ الخلافة الأمويّة، فالعبّاسيّة، ففترة تفجّر الإمبراطوريّة الإسلاميّة العربيّة، قبل سقوط بغداد، وبعده، وصولا إلى القرن السادس عشر، فالفترة العثمانيّة، فالفترة الاستعماريّة.

وينصبّ عمل المؤلّف على الاستدلال على سياسيّة السلطة في هذه الفترات التاريخيّة المتعاقبة، وتوظيفها المختلف للدين، بتأويلات متعدّدة خدمت أغراض سياسيّة دنيويّة، تمنع الحديث عن نموذج سياسيّ دينيّ إسلاميّ موحّد، وتنسجم مع أشكال توظيف الدينيّ في لعبة السلطة التي عاشها الغرب السياسيّ كذلك في تاريخه القديم.

ولذلك يستنتج المؤلّف عقب هذه الدراسة، قائلا: "يجب أن يكون المرء جاهلا أو سيئ النيّة...حتّى يواصل تصنيف الدول الإسلاميّة في نفس الفئة، وذلك بهدف مقابلتها بنموذج تصنّف بواسطته وبطريقة اعتباطيّة دول الغرب المسيحيّ" (ص168).

الفصل السابع: النظريّات السياسيّة للمذاهب الرئيسة في الإسلام (ص-ص169-238)

هذا الفصل يخصّصه المؤلّف في سياق استدلاله على أطروحته الرئيسة لكشف التنوّع الموجود في مختلف النظريّات السياسيّة للفرق الإسلاميّة الكبرى، ضدّ الوحدة المدّعاة في شأنها من قبل مدرسة برنار لويس ودعاة الإسلام السياسيّ، وهو تنوّع يرتبط حسب المؤلّف بالنزاعات السياسيّة التي حدثت في التاريخ الإسلاميّ.

لهذه الغاية يتابع محمّد شريف فرجاني النشأة السياسيّة لهذه المذاهب الإسلاميّة الكبرى، وتطوّرها، كاشفا تأثير معطيات الواقع التاريخيّ في تكوّن تصوّرها الدينيّ، وتفرّعها إلى فرق صغرى داخل الفرق الكبرى الأمّ.

فيتعرّض إلى المحكّمة بفروعها الأربعة، وهي الأزارقة، والصفريّين، والنجدات، والإباضيّة، ثمّ إلى الشيعة بفروعها الزيديّة، والإماميّة، والإسماعيليّة وتفرّعاتها الفاطميّة، ثمّ تطوّر الإماميّة الاثني عشريّة، ثمّ فرقة السنّة وتكريسها لنموذجيّة الخلافة الراشدة، ثمّ المتصوّفة.

ويصف فرجاني كيف لاحقت عمليّة التنظير السياسيّ في هذه الفرق الممارسة السياسيّة التاريخيّة، ويتوقّف خاصّة عند تطوّر التنظير السنيّ للخلافة وصولا إلى عمليّة المؤالفة التي أنجزها ابن تيميّة (ت1328م) بين شروط الواقع الذي عاصره ونظريّته في السياسة الشرعيّة التي كتب شروطها قبولا بحكم المماليك متخلّيا عن شروط الخلافة في كتب السنّة الأوائل، وتواصل الأمر تنازلا عن هذه الشروط حتّى القبول السنيّ بإمامة غير المسلم.

إنّ تأكيد الارتباط الإيديولوجي التاريخي بين الدينيّ و السياسيّ في التاريخ الإسلاميّ، و هو أطروحة محمّد شريف فرجاني التي يواجه بها دعوى دعاة الإسلام السياسيّ ضرورة هذا الارتباط و أصالته الدينيّة، يجعل المؤلّف ينتقل في مرحلة ثانية من استدلاله في هذا الفصل إلى وصف تطوّر التسييس الإيديولوجيّ للدين أو التديين للسياسيّ، نحو المذهبيّة، و اعتباره من جوهر الإسلام في الحاضر، من قبل دعاة الإسلام السياسيّ، فيشرح تطوّر أطروحة الإسلام السياسيّ نحو الرّاديكاليّة، قياسا إلى إصلاحيّة سلفيّة محمّد عبده، وصولا إلى التماهي مع مقولة ولاية الفقيه الشيعيّة، بقيادة منظّريه الإيديولوجيين بداية بالبنّا وصولا إلى سيّد قطب، ثمّ تراجعا عنها نحو الاعتراف بالديمقراطيّة، كما تكشف عن ذلك تقلّبات راشد الغنّوشي مثلا في علاقته بالديمقراطيّة بين فترتي نجاح الثورة الإيرانيّة و فشلها. وهذه التحوّلات أدّت في النهاية و "مع تطوّر الزمان إلى تحوّل مفهوم الدولة الإسلاميّة التي طولب بها من قبل حركات الإسلام السياسيّ وقادته إلى شعار دون مضمون" (ص236).

وعلى أساس ذلك يتكهّن محمّد شريف فرجاني بمصير هذا الشعار قائلا: "إنّه طوبى تتغذّى من عدم الرّضا المرتبط بغياب الديمقراطيّة، ومشاعر الضيم التي ولّدتها عمليّة تحديث لم تف بوعودها. وفي اليوم الذي تصل فيه المجتمعات الإسلاميّة إلى حياة ديمقراطيّة فإنّ طوبى دولة إسلاميّة لن تكون لها نفس الجاذبيّة التي تمارسها على الشعوب" (ص237).

الفصل الثامن: الشريعة والحقّ وحقوق الإنسان (ص-ص240-255)

من المصادرات الأثيرة عند دعاة الإسلام السياسي، وعند مدرسة برنار لويس، وإن بتوجيه مختلف، قولهم جميعا بالتطابق بين مقولة الشريعة والقانون. ولذلك يتعرّض المؤلّف إلى هذه المطابقة بالنّقد، ليبيّن عمليّة الخلط الكامنة في هذه المصادرة بين الشريعة والقانون. ولذلك يكشف الكيفيّة التي قام بواسطتها الإسلاميّون بتوسيع مجال المقدّس لتكوين ما يسمّونه قانونا إسلاميّا ثابتا متعاليا على التاريخ، انطلاقا من مماهاة باطلة بين الشريعة والقانون، وعمليّة إضفاء للقدسيّة على قوانين تاريخية ارتبطت بالعادات والأعراف التي واكبتها، في تجاهل تامّ لصبغتها الزّمنيّة ولأسباب نزولها. ولهذا يبيّن محمّد شريف فرجاني الفرق بين الشريعة والقانون، فيشرح أنّ الشريعة تعني الدين، ويصف تاريخ تحويلها إلى قانون.

وفي هذا الفصل أيضا يتعاضد البحث التاريخي في تاريخ الخلافة الرّاشدة، بل وفي تاريخ الدولة العربيّة المعاصرة، مع البحث الفيلولوجي في عبارات شريعة، وحدّ، ليصف التحول التدريجي لتعامل المفسّرين للعقيدة من مفهوم الفقه إلى مفهوم القاعدة القانونيّة عبر عمليّات التقنين التاريخيّة التي أنجزتها العلوم الإسلاميّة، وخصوصا علم الفقه، وأصوله.

و بقدر ما كان اتّجاه المؤلّف إلى تقديم الأدلّة على انتفاء الترابط الأصليّ المدّعى بين الدينيّ و السياسيّ في الإسلام فإنّ حجاجه ينتقل في أواخر الكتاب بداية من أواخر فصله الثامن إلى آخر فصله التاسع المعنون بـ "الإسلام و اللاّئيكيّة"(ص-ص 300-326) إلى محاولة رصد المداخل الممكنة لإدراج الأديان في مسار تأسيس الحريّة و الديمقراطيّة، فيتحدّث عن أبرز الإشكاليّات التي يمكن أن تعرقل هذا المسار، و هي إشكاليّة اختزال الدين، أيّ دين إلى قراءة من قراءاته، و يستدل على هذه الإشكاليّة عبر التطرّق إلى مسألة حريّة الضمير، و التفكير في المجال الإسلاميّ، و قضيّة المرأة فيقارن بين وضعها في النصّ أي القرآن و تأويلاتها عند مختلف فرق الإسلام، و عند مختلف مفكّري الإسلام، و في الممارسة التاريخيّة، مبيّنا العمل الاختزالي الذي مارسه التاريخ على النصّ، و عمليّة التقنين التاريخيّة المتدرّجة لتأويلات ظرفيّة معيّنة لنصوصه، في اتّجاه يعارض الحريّة و يقضي على إمكانيّاتها.

على هذا الأساس يتساءل فرجاني عن آفاق اللاّئيكيّة المطلوبة للإسلام، وعن طريقتها، وإشكالياتها، ليجيب بأنّ كلّ ما يعارض حريّة الضمير سواء كان دينا أو دولة يعارض اللاّئيكيّة المطلوبة. (ص311)

الخاتمة (ص-ص 327-337)

ينهي المؤلّف كتابه بالعودة إلى أطروحته الأصليّة، وكأنّه يخاطب أطروحة ساموال هانتنغتون، مقرّرا استنادا لما سبق له أن عرض من تاريخ الرّبط المنجز بشريّا بين الإسلام والسياسة، أنّ الإسلام ليس أكثر أو أقلّ من أيّة ديانة أخرى حملا لتصوّر مخصوص عن الدولة، والحق، والحرب، والسلم، وعن أفعال البشر ومؤسّساتهم. وعليه فإنّ الرجوع إليه في كامل التاريخ الإسلاميّ وحاضره ليس غير وسيلة لشرعنه الأنظمة القائمة.

وهذا التوظيف للدين، كسائر أشكال الأدلة، هو نتاج لغياب الديمقراطيّة، فكلّ من ينظرون إلى السلطة باعتبارها غنيمة يستدعون الدين لقدسنة نفوذهم ورمي منافسيهم بالإلحاد. ولكنّ ما ينسونه أنّ الدين إذ يوظّف بهذه الطريقة، يمثّل سلاحا ذا حدّين، قد يسمح بشرعة السلطة كما قد يسمح بنزع الشرعيّة عنها. لهذا الأمر وبسبب خطورة اللّعبة السياسيّة بالدين على الإنسان يعتبر محمّد شريف فرجاني أن لا محيد عن حلّ العلمنة. هذه هي الطريق الوحيدة لاسترجاع الإنسان الكونيّ الذي يبقى الغاية المشتركة لكلّ الأديان، وهو المطلب الأساسي الذي يدافع عنه محمّد شريف فرجاني في هذا الكتاب.