الحمولات الثقافية والقيمية لمفهوم الأسرة من دلالات اللغة إلى تمثلات الواقع الاجتماعي


فئة :  مقالات

الحمولات الثقافية والقيمية لمفهوم الأسرة من دلالات اللغة إلى تمثلات الواقع الاجتماعي

الحمولات الثقافية والقيمية لمفهوم الأسرة

من دلالات اللغة إلى تمثلات الواقع الاجتماعي

قليلة هي الحالات التي نصادف فيها تطابقا شبه تام بين مفهوم ما، وبين مختلف الحمولات الثقافية والقيمية التي يحيل عليها في الواقع الاجتماعي، ويعد مفهوم الأسرة واحدا من بين المفاهيم التي تندرج ضمن مثل هذه الحالات القليلة والدالة، حيث يتماهى الجذر اللغوي "أسر" مع مختلف الدلالات الاجتماعية التي تحملها مؤسسة الأسرة، بل يمكن الجزم بوجود تداخلات أخرى كثيرة بين أصل الكلمة وبين حقلها الدلالي والرمزي؛ وذلك إلى درجة قد يرتبط فيها أيضا بمجموعة من العادات والطقوس والرموز والقيم المرتبطة في مجملها بالزواج وبتأسيس الأسرة وإنجاب الأبناء وصلة الأرحام... إلخ.

إن إمعان النظر في مختلف القواميس العربية، سيقودنا في البداية إلى بلورة تعريف أساسي لمفهوم الأسرة، وهو تعريف يرتكز بالأساس على الروابط؛ أي مختلف القواسم المشتركة بين الأفراد المكونين للأسرة، ولذلك تحضر هذه الكلمة في المعجم الوسيط بمعنى: "الدرع الحصينة وأهل الرجل وعشيرته والجماعة التي يربطها أمر مشترك"[1]، وهذا المعنى القائم على الرباط هو الشائع والمتعارف عليه في عدد من الثقافات واللغات المختلفة، بل ويتماهى حتى مع التعريف القانوني للأسرة أو للعائلة بشكل عام، فهي مؤسسة أولية تتكون من أفراد تجمعهم رابطة قانونية موثقة (عقد الزواج، سجل الحالة المدنية...) وتترتب عن هذه الرابطة مجموعة من الحقوق والواجبات.[2]

في نفس السياق، قد تتجاوز الروابط الأسرية مستويات القرابة الدموية والقانونية لتعبر عن نوع آخر من الصلات الناجمة عن وجود انتماءات أو حتى اهتمامات مشتركة (مثل المهنة: مثلا أسرة التعليم أو العدل أو الفن...)، وقد تحيل أيضا على فصيلة ذات أصل واحد، قد يكون أبا أو أما أو جدا مشتركا (فخذ/ عظم)، وأحيانا أخرى تمتد لتصل إلى مستوى جماعة أو قبيلة تتمثل نفسها كعرق صاف[3]. كل هذه الدلالات تتقاطع مع ما تفترضه هذه الفئات من اعتبار مكوناتها ملاذا وسندا لبعضها البعض (الدرع والحصن)، وبالتالي ضرورة وجود تآزر ولحمة ومودة بين الجميع.

إن مقارنة هذه التحديدات الأولية لمفهوم الأسرة مع ما يرد في بعض المعاجم الأجنبية، سيحيلنا على نفس الدلالات تقريبا[4]، مثل العيش تحت نفس السقف، القرابة، الدم، الألفة أو التعايش، الارتباط والتحالف، الزواج وإنجاب الأبناء، الأصل، الاهتمامات المشتركة، تحمل المسؤولية[5]. وبالإضافة إلى هذه المعاني المشتركة، سنجد بأنها تتقاطع أيضا في اشتقاقها اللغوي مع مجموعة من القيم الثقافية المرتبطة بالأسرة، خاصة في اللغة العربية، إذ نجد مثلا بأن الجذر "أسر" يأتي بما يفيد معاني البوح بالسر أو كتمانه، مثل قوله تعالى: "وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا"[6]، فأسره هنا تعني الإخبار، لكنها تعني أيضا الكتمان، مثل قوله تعالى: "فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم"[7]، وقوله تعالى: "أسروا النجوى"[8]، بمعنى أخفوها أشد الإخفاء، فالسر هو كل ما يكتم، "كالسَّرِيرَةِ، ج: أسرارٌ وسَرائِرُ، والجِماعُ، والذَّكَرُ، والنِّكاحُ، والإِفصاح به، والزِنا، وفَرْجُ المرأة، ومُسْتَهَلُّ الشهرِ أو آخرُه أو وسَطُه، والأصلُ، والأرضُ الكريمةُ، وجَوْفُ كلِّ شيءٍ ولُبُّه، ومَحْضُ النَّسَبِ وأفْضَلُهُ، كالسَّرارِ والسَّرارَةِ"[9]. وهذه الدلالات نجدها حاضرة في ثقافاتنا المختلفة التي تعتبر أن البيوت أسرار، كما نجدها في عدد من تمثلاتنا حول بعض الصفات الحميدة الواجب توفرها في الزوجين، ونقصد هنا بالضبط عدم البوح بخصوصياتهما وبمشاكلهما للآخرين حتى لو كانوا من أقرب المقربين، خاصة المشاكل المرتبطة بالأوضاع المادية للأسرة أو بالأوضاع الحميمية للعلاقة الجنسية.

بالحديث عن العلاقة الجنسية، سنصادف كلمات أخرى قريبة من كلمة الأسرة، وتشترك معها في نفس الاشتقاق اللغوي، وتحيل أيضا في مجملها على المجال الخاص والحميمي مثل: "أُسُرُ" والتي تعني قوائم السرير، مع كل ما تختزنه الكلمة من دلالات مرتبطة بالمعاشرة والإنجاب... ومثل كلمة "أَسَرِيَّةُ"[10] وهي خزانة صغيرة لها جانبان من زجاج، وواجهة تضع فيها المرأة أدوات التجميل والمصوغات الخاصة بها، وأيضا مثل كلمة "أَسْرُ" التي تأتي بمعان متنوعة مثل الخلق والتكوين، كما في قوله تعالى: "نحن خلقناهم وشددنا أسرهم"[11]، فيقال: أسر الله فلانا بمعنى أبدع خلقه وجعله حسن المظهر، وفرس شديد الأسر بمعنى أنه متقن وشديد الخلق، وهنا نستحضر الشريعة والثقافة اللتين تعتبران بأن اختيار الزوجة يرتبط بنظرة استشرافية لمستقبل الأبناء خلقا وخلقة، فقد روت "عائشة" أم المؤمنين عن رسول الله قوله: "تخيروا لنطفكم، فانكحوا الأكفاء، وأنكحوا إليهم"[12]، وهذا يبرز أن الإنجاب أو الخلق هو من غايات الأسرة (بل وشرط تواجدها في بعض الحالات[13])، وبأن مسؤولية الآباء وواجباتهم اتجاه أبنائهم لا تبتدئ بعد إنجابهم، بل تبتدئ قبل ذلك عبر عملية انتقاء الشريك وفق مجموعة من المواصفات الدقيقة، ولهذا نجد مختلف الثقافات تركز على معايير تكاملية تشمل الأدب، الدين، الأصل، الجمال، الغنى، النفوذ، الجاه، الصحة النفسية والجسدية... وكلما اجتمعت هذه المواصفات كانت الزيجة/ الصفقة أنجح وأسلم، وعادة ما يتم التعبير عنها بكلمات تلخص المعايير السابقة مثل: "بنت الأصول"، "ابن عائلة"، الخيمة الكبيرة"... وهي نفس التوصيفات التي نصادفها أيضا عند الغرب un fils de famille/ de bonne famille/ grand famille[14] بنفس المعاني وبالغايات ذاتها، ولهذا تجدر الإشارة إلى أنه قد سبق وبددت سوسيولوجيا الأسرة وهم اختياراتنا الحرة في اختيار الشريك، مبرزة تأثير العوامل الاجتماعية وتدخلها حتى في أكثر قراراتنا حميمية.

تأتي كلمة الأسر أيضا بما يفيد القوة، فهي مشتقة من الإسار (بكسر الهمزة)، وهو الحبل الذي تشد به الأحمال فيقال: أسر فلان الحمل أسرا أي أحكمه، (ومن هنا الحديث عن مثانة الروابط الأسرية وعن ضرورة تمام عقدة النكاح قبل البناء وعن عدم قطع الأرحام...)، كما تأتي بمعنى القيد "إِسَارُ الأسِيرِ" أو ما يشد ويكبل به، فيقال: "استأسره" أي أخذه أسيرا، كما يقال: "وقع في إساره" بمعنى كان منقادا له بطواعية، وهنا نتحدث أيضا عن الزواج وتكوين الأسرة كنوع من الأسر (عقد، التزام، تحمل المسؤولية...) الذي قد يتخذ صبغة اختيارية أو اضطرارية، إذ يشار أحيانا إلى الزواج كدخول اختياري للقفص الذهبي بتعبير البعض (الوقوع في الإسار)، أو كوقوع قسري في الفخ (الأسر) ممن يعتبرون المرأة شراكا نصبته الطبيعة للرجل، أو كضرورة أوجبتها الشريعة باعتبار أن الزواج هو نصف الدين، فيقال إن من هرب منه (أي الزواج) فقد هرب من الطاعة، كما يقال أيضا إن: "مَنْ تَزَوَّجَ فهو طَلِيقٌ قد اسْتَأْسَرَ ومَنْ طَلَّقَ فهو بُغاثُ قد اسْتَنْسَرَ"[15]، والمثل هنا ليس للدلالة على جبان يدعي القوة فقط، بل أيضا لإبراز أن الاستطاعة والكمال (مفهوم الباءة) صفة ترتبط ثقافيا وجسمانيا واجتماعيا ودينيا واقتصاديا بالمتزوجين فقط، [16] وهنا نجد أيضا في الثقافة الفرنسية مثلا نعت "homme de famille" مقترنا بالقدرة على تحمل المسؤولية والامتثال لمعايير المجتمع ونظرته حول ما ينبغي أن تتسم به سلوكيات الرجل المتزوج الملتزم، [17] خاصة مسألة احترام أوقات الدخول والخروج من البيت، والأماكن التي يجب أو لا يجب ارتيادها، والصحبة التي يجب أو لا يجب مرافقتها، بل كلما كانت حياته "مربوطة" باليت إلا واستحق لقبه كرجل أسرة[18].

نستشف مما تقدم عرضه، أن الأسرة ارتبطت في دلالاتها اللغوية مع الأشكال المتعارف عليها منذ عقود، سواء من حيث مكونات الأسرة وشكل الروابط القائمة بين أفرادها (الدم، الدين، القانون...) أو من حيث الوظيفة الاجتماعية والبيولوجية الرامية لتحقيق الاندماج الاجتماعي والحفاظ على القيم واستمرار النسل البشري (الإنجاب)، وبأن الدلالات اللغوية اختزنت أهم المحددات والمعايير والتفضيلات الاجتماعية التي سادت المجتمعات لفترة زمنية طويلة، فهي جاءت متوافقة مع ثلاث خصائص أساسية نصادفها على مستوى التمثل العام والمباشر، حيث يوجد أصلها في الزواج كخاصية أولى، والثانية أنها تتكون من أكثر من فرد (لأننا قد نصادف مطلقة وابنتها –سواء بالإنجاب أو بالتبني- تكونان أسرة...). أما الخاصية الثالثة، فهي الروابط التي قد تتخذ صبغة قانونية أو دموية قرابية أو قدسية دينية عبر شبكة من القوانين والتحريمات الجنسية، وأحيانا أخرى تتمظهر في شكل رباط عاطفي أو اقتصادي، وهذه الروابط تجتمع كلها في تحديد وتشكيل جملة من الإلزاميات والالتزامات، ونجدها حاضرة - بأشكال مختلفة ومتفاوتة - في جميع المجتمعات، على الرغم من التباينات الثقافية القائمة بينها، ليبقى السؤال الأساسي بعد استفاء عملية التحليل الأولي للدلات والتمثلات حول مفهوم الأسرة هو ما مدى مطابقة النتائج للواقع المعاصر؟ ألم تساهم التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في تغير تلك الدلالات؟ وهل من سبيل للحفاظ على القيم الأسرية في أزمنة التدفق القيمي السريع؟

[1]- المعجم الوسيط، كلمة أسرة، على الرابط: https://www.arabdict.com

[2]- يركز المنظور القانوني على العقد، فالأسرة مؤسسة قانونية تجمع الأفراد عبر صلة الزواج أو الدم أو التبني، ولذلك يتم الحديث عن الأسرة الشرعية légitime وعن قانون الأسرة وعن قانون التبني، وأيضا عن المقاربات الحقوقية المرتبطة بكل مكونات الأسرة (الزوج، الزوجة، الأبناء المباشرين وغير المباشرين...) مع ما يرتبط بكل ذلك من تشريعات وقوانين ومؤسسات ومحاكم مختصة، ومن تعديلات على مستوى الحالة العائلية وسجلات الحالة المدنية.

[3]- Anne Morvan, Anne Verjus. La famille.. DEUG. La famille. Etat des savoirs en sciences sociales., France. 2014, p 20- 19, sur le lien: https://halshs.archives-ouvertes.fr/cel-01084465/document.

[4]- هناك بعض الدلالات الأخرى التي كانت مرتبطة بسياق تاريخي وثقافي لم يعد قائما، مثلا كلمة famille في القرن 16 و17 كانت حسب قاموس 1960 Dictionnaire universel de Furetière حكرا على النبلاء دون غيرهم، وتحيل على عراقة عرق رب الأسرة وغناه وعلى امتلاكه لعبيد وخدم يسهرون على تلبية احتياجاته، فكانت الكلمة مرتبطة عموما بالأسر الباريسية الفاحشة الثراء.

[5]- Dictionnaire français le Robert. Sur le lien https://dictionnaire.lerobert.com/definition/famille

[6]- سورة التحريم، الآية 03

[7]- سورة يوسف، الآية 77

[8]- سورة طه، الآية 62

[9]- معجم المعاني، كلمة أسرة، على الرابط:

https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D8%A3%D8%B3%D8%B1%D8%A9/?page=2

[10]- معجم المعاني، كلمة أسرة، المرجع نفسه

[11]- سورة الإنسان، الآية 28

[12]- رواه الألباني، في صحيح الجامع، الصفحة أو الرقم: 2928

[13]- تستعرض الباحثتان "آن مورفن" و"آن فيرجس" (مرجع سابق، ص 53) مجموعة من النسب المئوية للولادات خارج الزواج بفرنسا، وقد بلغت 55.8%سنة 2012، وكانت في حدود %60 سنة 2010 من مجموع الولادات، وقد اعتبرتا بأن إنجاب الطفل الأول هو ما يدفع الأبوين نحو مأسسة علاقتهما وبالتالي تكوين أسرة، ولذلك قامتا بعنونة المحور بـ: l’enfant fait la famille، أي أن الانجاب سبب في تكوين الأسرة.

[14]- Centre national des ressources textuelles et lexicales; définition famille; sur le lien: https://cnrtl.fr/definition/famille

[15]- موقع معاجم، كلمة أسرة: https://www.maajim.com/dictionary/%D8%A3%D8%B3%D8%B1%D8%A9

[16]- موقع معاجم، كلمة أسرة: https://www.maajim.com/dictionary/%D8%A3%D8%B3%D8%B1%D8%A9

[17]- Centre national des ressources textuelles et lexicales ; définition famille ; sur le lien: https://cnrtl.fr/definition/famille

[18]- بخصوص اكتمال الباءة وبلوغ أعلى مراتب الرجولة، كانت المرأة المغربية تقول عن تعدد الزوجات حينها: "لي دار الأولى دار الفال، لي دار الثانية حاز المال، لي دار الثالثة كبر العيال، ولي زاد الرابعة عاد من حقو يجلس مع ارجال"، ومعناه: من تزوج الأولى قد استفتح فقط، من تزوج الثانية فذلك لقدرته المادية، من زاد الثالثة فلأنه ربى أبناءه وصاروا كبارا، أما من زاد الرابعة فقد اكتملت رجولته والآن فقط يحق له مجالسة الرجال.

*- هناك مثل أو مقولة فرنسية مفادها بأن التواجد هو ما يبقينا آباء أو أولياء أمور: "il faut rester dans l’espace pour être parents".