الأسرة ما بعد الحداثة

فئة :  مقالات

الأسرة ما بعد الحداثة

الأسرة ما بعد الحداثة

لا شكّ أنّ مجتمع ما بعد الحداثة، وما قدّمه للبشرية على المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، سيعرف انعطافًا مدوّيًا، يؤدّي إلى طيّ صفحات وخطّ أخرى، وإسدال الستار على مرحلةٍ معلومة، تُعلن نهاية زمنٍ يوتوبي، وبروز مدٍّ ليبراليٍّ جديدٍ سيشهد ما سمّاه فوكوياما بـ"نهاية التاريخ"، لننتقل معه من "حداثة صلبة" إلى "حداثة سائلة"؛ "أي ما يسمّى بـ"موت الإيديولوجيا"[1]، حيث أصبح الإنسان في ظلّ ما بعد الحداثة يعاني نوعًا من الاغتراب الوجودي والقيمي، الأمر الذي أدّى إلى تلاشي الروابط المتينة التي كانت تجمع الأفراد، ليُستعاض عنها بروابط هشّة. إنّه صعود نحو الشتات والتلاشي. كما أنّ تغييب الدين، أو ما يمكن تسميته بعملية استبعاد السرديّات الكبرى لتفسير العالم، جعل الذوات الإنسانية في أتونٍ لا تستطيع الخروج منه.

لقد صار الإنسان محكومًا عليه من طرف الليبرالية المتوحّشة، عبدًا لدواخله الجوانيّة المسكونة باللذّة وتجنّب الألم، لا بالمنطق الأبيقوري، بل بالمنطق الحداثويّ المزيّف. وغدت إرادته غير محكومة بمعيار خارجي، إذ أُختزلت هذه الإرادة في بعدها الماديّ البئيس؛ فالإنسان اليوم هو ما يملك، وكأنّنا أشياء ملقاة في هذا العالم، مصادَرون أخلاقيًّا وقيميًّا، ويُقاس قدرنا بما نملك من إمكانياتٍ ماديّةٍ فقط.

وهكذا غاب المعنى، في زمنٍ "تتداعى فيه الأشياء"، كما عبّر الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي. لقد أصبحت الأسرة في مجتمع ما بعد الحداثة تعيش طمسًا هويّاتيًّا، وانغلاقًا وفردانيّةً مفرطة، نتيجة نرجسيةٍ جوانيّةٍ تتغذّى على القلق والخوف. كما أنّ "الحداثة ضيّقت موارد المعنى وفهم الذات لتكون جوانيّةً"، لكنها ليست تلك الجوانية التي تتحدث عنها الفلسفة الموصولة بالغيب، بل جوانيّة مقهورة ومهدورة، لا تبحث إلا عن خلاصها الفرديّ، بشكل مقيت. إنه تعبير صريح عن جوانية بدائية معولمة، مادية تخفض سقف الغايات وتقلص حدود السعادة. إنها أنا بصيغة فردانية لا بصيغة الفرادة والتميز والغيرية.

في سبعينيات القرن الماضي كان هناك "صعود لمرجعية الذات"، هذا الصعود الذي حاول تشارلز تايلر معالجته من منظور فلسفي مبرزًا التغيرات التي عرفتها الحياة من خلال الحب والأسرة وعلاقتها بنمو الدولة في مرحلة الحداثة الأولى وتمددها، وأدوات الهيمنة التي اتبعتها الدولة من أجل السيطرة على الحياة العامة وحياة الأفراد اليومية، فلا غرو أنَّ الإنسان لم يَسلَم من كماشة الحداثة، التي استطاعت أن تقوم بعملية "ترويض" لهذا الآخر، كما يقول الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك. فمهمة الدولة، في المقام الأول، تتجه نحو ترويض البشر. كما أنّ النظام الرأسمالي، بحسب المؤرخ الأمريكي كريستوفر لاش، صاحب كتاب نقد الفردية وتحليل سلطة الدولة، قد ساهم في انكماش الأسرة، مما أدى إلى إنتاج أسرٍ هجينةٍ بهوياتٍ مشروخة. لقد أُضعفت الأسرة وفُككت بنيتها، فأصبحت مؤسساتٍ مستقبِلة لا منتِجة لمنظومة القيم.

وفي كتابٍ آخر للاش بعنوان ثقافة النرجسية، يرى أنّ الفرد أصبح يعيش حالة من المسخ بسبب هذه الرأسمالية المتوحشة، التي لم تتوانَ في إنتاج أفرادٍ ذوي نزعاتٍ نرجسية، ليس فقط على مستوى الطبقات المتوسطة، بل على جميع الطبقات، والمجتمع الأمريكي يُعَدّ نموذجًا لذلك. لقد فقدت الأسرة سلطتها على الفرد، مما أدى إلى انكماش دورها[2]، كما فقدت سلطتها وبوصلتها التي ستقودها إلى بر الأمان.

أما تالكوت بارسونز، فرأى أن الدولة استطاعت أن تسحب البساط من تحت أرجل الأسر، لتتركها عارية أمام المتغيرات الاجتماعية، إنه زمن الجزر القيميّ والوظيفي للأسرة، فقد رُصِد "تراجع دور الأسرة كوحدة منتجة في الإطار الاجتماعي التضامني الذي غيرته عملية التحديث، وتحويل الوظائف المختلفة التي كانت تضطلع بها الأسرة لمؤسسات الدولة وبيروقراطيتها"[3]، فالحديث هنا عن التعويض؛ إنه تعويض مؤسّس تمارسه المؤسسات والشركات والمرافق الاجتماعية، حيث أصبحت الأسرة كدمية الماريونيت، تتحكّم في حركاتها وممارستها الدولة، لكن عبر خيوط وأسلاك غير مرئية. نحن في زمنٍ مسكونٍ برسائل مشفّرة في عصر الإنسان المدجن، وهذا ما سيعجّل بتراجع رهيب لدور الأسرة والجماعة الاجتماعية، اللذين كانا في الماضي يمارسان السلطة تحت غطاء التنشئة الاجتماعية، لتنتقل هذه السلطة لاحقًا إلى المدارس النظامية والمؤسسات التعليمية ودور الشباب، فأصبح دور الأسرة مقتصرًا فقط على الرعاية الاجتماعية، مما سيؤدي إلى انفلاتٍ قيمي وانحلالٍ أخلاقي يُلقي بظلاله على النشء، "فلم يبق للأسرة مكان مع تولّي الشركات والأعمال الخاصة الحديثة مهام الواجبات السريعة..."، والقيام بالأدوار اليومية التي كانت تقوم بها الأسرة بشكل تجاري، لم يبق سوى دور توفير العاطفة داخل هامش محدود هو كل ما تبقى لها"[4]، لنستشف أن هناك شبه انحصار ممارس على مؤسسة الأسرة. إن هذه الممارسات أشبه بعملية اختطاف ومصادرة كل ما يمكن أن تقدمه الأسرة من دفء، ومحبة، وخدمات مادية ومعنوية، فتحولت مع الوقت من غاية إلى وسيلة في زمن الفردانية واغتيال المعنى؛ فالحداثة هنا فككت المجتمع والأسرة بالمعنى العضوي التضامني، وجعلت مشهد الوجود الجسدي تحت يافطة ماذا تملك؟

إننا على مسرح الحياة المادية الاستهلاكية، المقهورة قيمياً وأخلاقياً، وبهويات مشروخة. ولا غرو أن الحداثة مسكونة بتملك الإنسان، فهي مصابة بهوس السيطرة عليه، وعلى العالم، وتحقيق الذات الفردية، وصناعة إنسان فرانكشتايني مدجن، ذو أخلاق العبيد، وشخصية نرجسية صنيعة نظام رأسمالي ليبرالي، ينحصر فيه الإيمان بالقضايا العادلة، ويطغى عليه الولع بالفردانية. إنها شخصية تهمل التاريخ وتغرق في التفاصيل المملة للفرد، انتقال إلى عوالم مفرغة من المعالم والصفات، حيث يتسيّد التيه المشهد وتغتال الروح على أبواب الإنسانية. إنها "حداثة حديدية"[5]، كما أسماها جيفري ألكساندر، فالمشاعر بأقفال حديدية، وأصبحت الحياة العاطفية من دون أعمدة وسقف. إنه عالم النفايات العاطفية المكررة، الشبيهة بقطع غيار خاضعة للزمن وللتأقيت.

1)) الحداثة السائلة عن هشاشة الروابط الإنسانية.زيجموند باومن، ترجمة حجاج أبو جبر، تقديم هبة رؤوف عزة، ص، 10

([2]) CHRISTOPHER LASCH, HAVEN IN A HEATLESS WORLD: THE FAMILY BESIEGED, NEW YORK: BASIC BOOKS INS, 1977, PP.12-21

((3 TALCOTT PARSONS, STRUCTURE AND PROCESS IN MODERN SOCIETIES, ILINOIS: THE FREE PRESS OF GLENCOE,1960, PP. 301-301

([4]) LASCH, IBID, PP,117-121

([5]) ALEXANDER, THE MEANING OF SOCIAL LIFE: A CULTURAL SOCIOLORY, P. 196,213 - 228