الدماغ المُبتكِر: الخيال والتفكير المجرد في علم الأعصاب مين جونج

فئة :  قراءات في كتب

الدماغ المُبتكِر: الخيال والتفكير المجرد في علم الأعصاب  مين جونج

الدماغ المُبتكِر: الخيال والتفكير المجرد في علم الأعصاب

مين جونج

ترجمة سارة طه علام

مراجعة شيماء طه الريدي

لا شك أن البشر كائنات استثنائية؛ فبصفتهم النوع الوحيد المعروف الذي يمكنه إدراك مفهوم وجوده؛ فقد تَفكَّر البشر طويلًا في مكانهم في العالم، وفي علاقتهم بالكون. وقد أدّت هذه التساؤلات إلى بعضٍ من أهم التطورات في العلوم والفلسفة والروحانيات. إن قُدرتنا غير العادية على الاستبطان والتأمُّل الذاتي تُميزنا عن جميع الكائنات الحية الأخرى على هذا الكوكب. وعلى الرغم من استثنائيَّتنا، فإننا نتشارك مع الكائنات الحية الأخرى الهدف النهائي المنشود نفسه؛ ألا وهو بقاء نوعِنا وديمومته.[2]

قطعت البشرية أشواطًا طويلة، وهي تخوض غمار التقدم في مختلف مجالات الحياة؛ فمسألة التقدم هذه هي حالة من التراكم الحضاري التي عرفتها مختلف الحضارات والثقافات عبر العالم، ما عليه الإنسانية اليوم تعود جذوره [تذكرا وتخيلا] إلى آلاف السنين من مختلف التجارب الإنسانية، بدءا من حالة الرسم والنقش على جدران الكهوف والحجارة... بغاية التعبير عن حالات ثقافية ووجدانية مرورًا بمختلف ما كانت عليه شتى التجارب الحضارية شرقًا وغربًا عبر العالم، فمختلف التجارب الإنسانية قدر لها أن تجوب الأرض، وتنتقل من مكان إلى آخر، فلا أحد اليوم يحق له أن يدعي أنه يمتلك إرث الحضارة دون غيره.

تجارب الإنسان ملك للناس جميعًا، صحيح بأن هناك خصوصيات ومميزات تاريخية اتصفت بها حضارة دون أخرى نتيجة عوامل جغرافية أو تتعلق بالطقس ومختلف العوامل الطبيعية، لكن مختلف هذه الخصوصيات لا يصدق معها بأن الحضارة تعود إلى بقعة جغرافية دون أخرى، أو اتصف بها لون وعرق دون آخر...الحضارة والثقافة اقترنت بالإنسان بمعزل عن الجغرافيا واللون والعرق والدين... الحضارة والثقافة تعود إلى ما تميز به الإنسان عن غيره من الخلق، ونقصد هنا ملكة التفكير والتمييز، العقل، الدماغ... وهي مسألة جعلت البقاء الإنساني وديمومة وجوده مفارقة لغيره من الكائنات التي اقتصر وجودها عند ما هو بيولوجي فقط. بينما الإنسان امتد وجوده إلى ما هو أبعد من ذلك [فوجوده لا يقتصر على الأكل والتزاوج]، فهو كائن في الطبيعة ومفارق لها في الوقت ذاته، بينما الكائنات الأخرى تدور في دائرة ما هو طبيعي فقط [الأكل-التزاوج]. تاريخ الكائنات هو تاريخ بيولوجي يدور في دائرة ما هو طبيعي. أما الإنسان، فيدور وجوده فيما هو ثقافي وروحي وعلمي بالأشياء والظواهر، وهي مسألة تعطي لوجوده في الحياة أكثر من معنى وأكثر من دلالة، فهو يحيا ليس من أجل الحياة فقط، بل من أجل غايات وأمنيات وطموح وأحاسيس لا تتحقق لذة الحياة بدونها، واللذة هنا لا تقتصر بالضرورة على لذة ما بيولوجي، بل هي لذة تشتبك مع الذوق والمعنى والقيمة والخلق...

سنقف عند هذه الخطاطة التي تعرض علينا مختلف التطوُّرات التي طرأت على التكنولوجيا جنبًا إلى جنبٍ مع نموِّ عدد سكان العالم منذ ظهور الزراعة. لقد نما حجم السكان نموًّا مطَّردًا، وتسارعت التغيرات التكنولوجية بمعدَّل مذهل خلال القرنَين الماضِيَين. ولا تُمثل الأحداث التكنولوجية الكبرى الموضحة إلا جزءًا بسيطًا جدًّا من التقدم العلمي والتكنولوجي الذي حققته البشرية خلال المائتي عام الماضية.

السؤال هنا "لماذا نحن مبتكرون إلى هذا الحد؟ ربما تختلف أدمغتنا عن أدمغة الحيوانات الأخرى. ولكن كيف؟ هذا هو موضوع هذا الكتاب. يتطلَّب الابتكار رؤيةً جديدة، ومن العوامل الضرورية للرؤى الجديدة القدرة على التخيُّل. نحن نبتكِر تقنيات جديدة ونتوصَّل إلى معلومات وأفكار وفنون من خلال المزج بين القائم من هذه العناصر بالاستعانة بأساليب جديدة باستخدام خيالنا. وقد أشار ألبرت أينشتاين إلى قوة الخيال بقوله: «سيأخذك المنطق من النقطة أ إلى النقطة ب. أما الخيال فسيأخذك إلى كل مكان.» وهنا يُطرَح سؤال حول ما إذا كانت القدرة على الخيال تقتصر على البشر فحسب. الإجابة عن هذا السؤال واضحة، وهي: «قطعًا لا». إن الخيال أبعد من أن يكون ملَكةً عقلية بشرية فريدة من نوعِها. فقد قدمت دراسات علم النفس وعلم الأعصاب والسلوك الحيواني أدلةً متقاربة على قدرة الحيوانات على الخيال. وكشفت أبحاث علم الأعصاب، على وجه الخصوص، في العقدَين الماضيَين عن وجود نشاطٍ عصبي يبدو أنه مرتبط بالخيال.[3]

موضوعات الكتاب:

يُقدِّم هذا الكتاب فهمًا جديدًا للأساسِ العصبيِّ للابتكار من حيث قدرة البشَر الاستثنائية على التخيُّل والتجريد العالي المستوى، ويُقدِّم سردًا ممتعًا لأحدث التطوُّرات في علم الأعصاب التي ألقت الضوء على الأسس العصبية لهذه القدرات الشديدة الأهمية. كما يتناول الاكتشافات الرئيسة المتعلقة بمنطقة «الحُصين» في المخ والدوائر العصبية التي أزالت الغموض عن العمليات التي تكمن وراء الخيال والتفكير المجرد، ويبحث في الكيفية التي ربما تطورت بها هذه القدرات، وكذا المستقبل المحتمل للذكاء الاصطناعي، وكل ذلك بطريقةٍ سهلة تُمكِّن القرَّاء غير المتخصصين في هذا الموضوع من فهمه.[4]

يضم الكتاب أربعة أجزاء، وهي: الأول: الحُصين. الثاني: الخيال السيمفونية العصبية. الثالث: للخيال الأساس العصبي للتجريد. الرابع: ما وراء الخيال والتجريد. وأهم المواضيع التي عالجها الكتاب كالتالي: الذاكرة الزائفة/خلايا المكان وإعادة العرض في الحُصين/ الدوائر العصبية في الحُصين/ اتخاذ القرار على أساس القيمة/ تَذكُّر مكافآت المستقبل المُجزية/ تطور الخيال/ التفكير المجرد والقشرة المخية الحديثة/ القشرة الجبهية الأمامية/ الثورة البشرية والتغيرات الدماغية المرتبطة بها/ الشبكة العصبية العميقة

ما بين الذاكرة والخيال

تُعرَّف الذاكرة على أنّها مَلَكة ذهنيّة ‫تُساعد على تخزين المُدرَكات، والأحداث اليوميّة التي يمر بها الإنسان، وتسترجعها عند الضرورة والحاجة إليها. والخيال هو أيضاً مَلكَة ذهنيّة ‫يُبدع صوراً، وأحداثاً جديدة وغير واقعيّة. الذاكرة إذن ترتبط بوقائع وأحداث حدثت، لكن تذكر مختلف تلك الأحداث واسترجاعها يكون عن طريق الخيال، فهل عملية الاسترجاع هذه تكون دائما موضوعية ومنصفة، أم إن الخيال يضيف عليها وينقص؛ لأن الخيال عملية إبداعية بإمكانه تصور ما هو غير واقعي وغير وما لم يحدث، التخيل يتميز بالحرية، حيث إن الأفكار والمواضيع التي نتخيلها لن نكون مقيدون بأي شيء، على عكس الذاكرة التي تتقيد بما تم حفظه في الماضي بطريقة مرتبة مواضيع الذاكرة واقعية، حيث ترتبط بحقيقة ما عشناه على عكس التخيل السؤال هنا أين تنتهي الذاكرة ويبدأ الخيال؟ وهو سؤال يستدعي سؤالا آخر مفاده "ما الأساس العصبي للقدرة على الخيال غير المحدود باستخدام مفاهيم مجردة عالية المستوى؟

من المثير للدهشة أن رحلة علم الأعصاب للعثور على إجابة عن هذا السؤال تبدأ بدراسة الذاكرة. إن تذكر تجارب الماضي شيء، وتخيُّل الأحداث المستقبلية شيء آخر. ولذلك، قد يُفترَض أن الآلية العصبية للخيال تختلف عن تلك الخاصة بالذاكرة. وفي الواقع، كان هذا هو اعتقاد علماء الأعصاب حتى عام 2007م، عندما اكتشف العلماء تداخلًا في مناطق الدماغ المسئولة عن الذاكرة والخيال. وعلى وجه التحديد، وُجد أن الحُصين (أو قرن آمون)، المعروف بدوره البالغ الأهمية في تشفير الذكريات الجديدة، له دور في الخيال أيضًا.[5]

نحن لا نتذكَّر الأحداث تمامًا كما عايشناها. ففي أغلب الأحيان، يختلف تذكُّرنا لحدثٍ ما اختلافًا جوهريًّا عن الحدث الفعلي. "ويرجع السبب في ذلك إلى أن الطريقة التي يُعالج بها الدماغ المعلومات ويُخزنها تختلف عن طريقة عمل الكمبيوتر. على سبيل المثال، عادة ما نستخلِص الجوهر والمعنى من تجاربنا بحيث يختلط ما نستنتِجه مع ما نختبره بالفعل. فإذا سمعنا قائمةً من الكلمات المرتبطة بالنوم (على سبيل المثال، سرير، راحة، استيقاظ، وما إلى ذلك)، عادة ما نتذكَّر كلمة «النوم» على اعتبار أنها مُدرجة ضمن القائمة، على الرغم من عدم وجودها. فعلى عكس ما يحدُث عند استعادة الكمبيوتر ملفًّا ما، يمكن أن تتداخل بعض الذكريات مع استرجاع ذكريات أخرى. وإذا مرَّ وقت طويل على حدثٍ مُعين عايشته، وإذا مررت بأحداثٍ مماثلة عدة مرات منذ التجربة الأصلية، فمن المُحتمَل أنك ستجد صعوبةً في تذكر الحدث الأصلي تمامًا كما حدث؛ إذ قد يختلط تذكرك للحدث الأصلي بذكريات الأحداث ذات الصلة".[6]

الذاكرة والخيال لا ترتبط بالإنسان الفرد لوحده، بل هي مسألة ترتبط بالوجود الإنساني ككل، فحالة التذكر والذاكرة تجعل الإنسان دائم التفكر والتذكر، لتاريخ مختلف الحضارات قبل زمانه، وهي مسألة بشكل أو بآخر كانت من وراء تشكل المعرفة بالتاريخ عبر الزمن، وعملية الاسترجاع هذه تأتي عبر خاصية الخيال وقد نتحدث عن الخيال في بعده المتعدد [الخيال التاريخي، الخيال الأدبي، الخيال الرياضي، الخيال العلمي...] المعول عليه اليوم في الاقتراب من دور ومعرفة الذاكرة والخيال في التطور الإنساني، هو العلوم العصبية وهي دراسة علمية للجهاز العصبي، وهو فرع متداخل التخصصات لعلم الأحياء، يجمع بين الفسيولوجيا العصبية، والتشريح العصبي، والعلوم العصبية الجزيئية، والنماء العصبي، والعلوم العصبية الخلوية والحاسوبية، وعلم النفس لفهم الخصائص الأساسية والطارئة على العصبونات وشبكاتها الحيوية.

[1] كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

[2] مين جونج، الدماغ المُبتكِر: الخيال والتفكير المجرد في علم الأعصاب، ترجمة سارة طه علام مراجعة شيماء طه الريدي، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ص.1، 2025م، ص.10

[3] نفسه، ص.10

[4] غلاف الكتاب

[5] نفسه، ص.17

[6] نفسه، ص.25