"الرّبيع العربي" بين الاستبداد والإعلام الجديد والثورة


فئة :  قراءات في كتب

"الرّبيع العربي" بين الاستبداد والإعلام الجديد والثورة

"الرّبيع العربي" بين الاستبداد والإعلام الجديد والثورة([1])


يمتدّ كتاب عالم الاجتماع المغربي أحمد شرّاك: "سوسيولوجيا الربيع العربي"، الذي صدر عن مؤسّسة "مقاربات للنشر والصناعات الثقافيّة" بالمغرب على 508 من الصفحات من الحجم المتوسّط، ويتوزّع على خمسة أقسام، يضمّ كلّ قسم ثلاثة فصول متماسكة ومتفرّعة إلى مباحث نسقيّة، اقتضتها طبيعة التناول وتشابك قضاياه، حيث خصّص القسم الأوّل لمضمرات خطاب الثورة ومفاهيمها التي تمتدّ ما بين الحسّ المشترك والثقافة العالمة، ما بين مفاهيم الاحتجاج، الرجّات، النهضات، اليقظات، الغضب، أو الثورات، مؤسّساً لنسق من المفاهيم القادرة على توليف كلّ الخطابات الموازية لـ "الربيع العربي" في نسق منهجي كفيل بدراسته دراسة سوسيولوجيّة، ملمّحاً إلى صهر منهج شامل ومتكامل يجد تجلّياته، كما أسلفنا، في المنهج التأويلي الرّمزي الذي طبّقه على كلّ خطابات وحوامل الثورة من: لافتات، غرافيتيا، كاريكاتير، صور، إعلام، قنوات، كتب، مناشير...إلخ.

أمّا القسم الثاني، فقد خصّصه لتفكيك أهمّ هذه الخطابات التي انبثقت في خضم الحراك الجماهيري، سواء على مستوى ملفوظاته أو على مستوى مكوّناته وتشكّلاته، أو على مستوى أجناسه وأنواعه، عبر قراءة تشخيصيّة وتأويليّة في الآن نفسه، فكلّ هذه المستويات تحاول أن تفضح دسائس أسئلة الخطاب وبنياته، من خلال متن زاخر أنتجته الجماهير العربيّة من الماء إلى الماء. وذلك من أجل إبراز المنحى الإبداعي لهذا الخطاب، وتحديد مكامن "التأسيساتيّة" انطلاقاً من تأسيس خطاب جديد في الاحتجاج العربي، لم تألفه الثورات في التاريخ الإنساني. وفي كلّ الأحوال، فقد كان الخطاب في الثورات، إمّا جديداً في الاستعمال أو في الإيصال أو جديداً في التطبيع والتداول (الغرافيتيا مثلاً). أمّا القسم الثالث، فقد حاول الباحث أن يحيط من خلاله بالمكوّن الثقافي في هذه الثورات على مستوى الأدوار والوظائف وعلى مستوى المتون، وعلى مستوى التفاعل مع الغير...، وقد أفضت هذه الأسئلة إلى محاولة توصيف المثقف العربي الجديد بالتأسيساتي، فضلاً عن تلك التأسيساتيّة المنبثقة من المتون المتصارعة بين ثقافتين عريضتين ومتنوّعتين، وهما: الثقافة المحافظة بمختلف مكوّناتها ومرجعيّاتها وتلفيظاتها النظريّة والسياسيّة، كالتيّارات الإسلاميّة، سواء السنيّة أو السلفيّة أو الشيعيّة... والثقافة الحداثيّة بمختلف محمولاتها وتوجّهاتها وحساسيّاتها الفكريّة والأيديولوجيّة والسياسيّة، كالحساسيّات الليبراليّة والاشتراكيّة واليساريّة بمختلف الأطياف، والتيّارات العلمانيّة واللائكيّة.[2]

وخصّص الباحث القسم الرابع لدراسة ملامح بناء الدولة الجديدة في أرض الثورات من خلال تحديد ترسانة من المفاهيم، وعلى رأسها مفهوم الدولة، والدولة الإسلاميّة والدولة المدنيّة والدولة الديمقراطيّة والدولة الوطنيّة، محاولاً الإجابة بطريقة أو بأخرى عن آفاق الدستورانيّة والاستحقاقيّة، وهل صناديق الاقتراع كافية لتأسيس دولة جديدة؟ وما هي أهمّ الملامح؟ وأين تكمن التأسيساتيّة التي تأخذ تلوينات نظريّة حسب هذا القطر أو ذاك، حسب هذه التجربة أو تلك؟ انطلاقاً من الاختلافات الموجودة بين الثورات في تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية...اختلافات امتدّت إلى بلدان الإصلاحات السياسّية في أفق تأسيساتيّة قد تكون بمضمون مختلف، سواء لدى الثورات أو الاحتجاجات.[3] في حين خصّص القسم الخامس والأخير لبيبليوغرافيا الثورات.

1- خلفيات الثورة ودواعيها بين الاستبداد والإعلام الجديد

إذا كان الإصلاح كما مرّ بنا، وعبر امتداد التاريخ العربي، هو نقطة تمفصل الاستبداد والثورة، والحاضن للاستقرار والتغيير من داخل الأنساق المؤسّساتيّة والمجتمعيّة، دون تهديد للحمة الاستقرار وغاياته الكبرى، فإنَّ الثورة، حين يشتدّ الاستبداد وينغلق على نفسه وعلى المجتمع، تصبح طريقاً وحيدة بكلّ ما تحمله من مخاطر، ولذلك، وجدنا أنَّ اختلاف الأنظمة والدول في العالم العربي قد جعل خريطة "الربيع العربي" لا تستقيم والتعميم والتنميط الذي يُسقط الباحث في الأحاديّة والذاتيّة، ويقفز عن الموضوعيّة والاختلاف في الأنساق المؤسّسة للاجتماع في كلّ قطر على حدة. من هنا، فالحالة التونسيّة ليست حتماً هي الحالة المصريّة، والحالة الليبيّة أو السوريّة ليست حتماً هي الحالة الأردنيّة أو المغربيّة،...وهكذا. من هنا، وسم الباحث الإصلاح بالطريق الثالث الذي يعتبر مختلفاً عن الطريق الجامد والراكد سياسيّاً بالنسبة إلى بعض البلدان التي ما زال فيها الاستبداد هو العنوان السائد، وما بين الطريق النقيض، وهو الطريق الثوري الذي أطاح برؤساء الاستبداد والأنظمة الديكتاتوريّة.[4] لكنَّ السؤال المركزي هو: ما الأسباب والعوامل الحقيقيّة الكامنة وراء قيام ثورات "الربيع العربي"، باختلاف تجلّياته وأنساقه من قطر إلى آخر؟

سؤال محوري في كتاب عالم الاجتماع المغربي أحمد شرّاك، يقوده تفكيكيّاً إلى دراسة كلّ حالة على حدة، كي لا يهدر الاختلاف السياسي، الدستوري، الاجتماعي، الثقافي، القائم بين كلّ بلد وآخر، حتى وإن كان القاسم المشترك من الماء إلى الماء قائماً بقوّة، ومتمثلاً في الاستبداد والجمود من جهة، وارتفاع وتيرة الطلب الاجتماعي على الشغل، الكرامة، حقوق الإنسان وفقدان الثقة في النسق السياسي القائم جملة وتفصيلا من جهة ثانية.

وفق منطق تحليلي وتصنيفي، يجيبنا أحمد شرّاك عن خلفيّات ومرجعيّات "الربيع العربي" الثوري في صفته التقريريّة، مقسّماً الأسباب والعوامل إلى داخليّة وأخرى خارجيّة.

1-2- الأسباب والعوامل الداخليّة المضمرة

1-2-1- الاستبداد الداخلي:

لا شكّ أنَّ العوامل الموضوعيّة لها دور استراتيجي في هذا النهوض والانتفاض، وتتلخّص هذه العوامل في الاستبداد السياسي؛ أي في أنظمة حكم شموليّة استبدّت بالسلطات، بكلّ السلطات، بدون فتح المجال للتشارك والمشاركة السياسيّة الفعّالة والمنتجة، ولعلّ هذا الاستبداد أدّى إلى إفلاس هذه الأنظمة، وتورّطها في الفساد المالي والسياسي والاقتصادي، حيث أدّى بعضها إلى وهم امتلاك القطر أو الدولة، وكأنّه ضيعتها. إنَّها أنظمة لا تؤمن لا بالمشاركة ولا بالتشارك مع تفاوتات في الأشكال السياسيّة وتصريف السلطة في المجتمع... فالأنظمة السياسيّة العربيّة يمكن إدراجها في تصنيف "الأنظمة المغلقة" التي تطبعها خصيصة الاستئثار بالسلطة من طرف نخبة معيّنة أو أفراد محدّدين والتمادي في الفعل السلطوي/ التسلّطي، ولا تشهد أيّ توزيعات للسلطة؛ ممّا يترتّب عنه نوع من الإقصائيّة السياسيّة لباقي الفواعل الدولتيّة الأخرى في تدبير السياسات العموميّة.[5]

1-2-2- فقدان الثقة:

يعتبر فقدان الثقة في الوضع السياسي القاسم المشترك بين عدد كبير من الدول والأنظمة في العالم الثالث، وعلى رأسها البلدان العربيّة، حيث تغيب كلّ مؤشرات الثقة السياسيّة في الأحزاب التي من المفروض أن تشكّل أهمّ وساطة مدنيّة بين المواطنين والأنظمة والدول في إطار ديمقراطيّة المؤسّسات. الأمر الذي تنبّه إليه عدد من الباحثين والهيئات المدنيّة غير الحكومية في هذه الدول، مثلما تنبّهت إلى ذلك المنظّمات الدوليّة، ممّا دفع الأمم المتحدة إلى تنظيم مؤتمر عالمي بفيينا عام 2006، حمل عنواناً ذا دلالة سياسيّة كبيرة: "بناء الثقة في الحكومة"، إذ أجمع المشاركون على أهميّة الثقة السياسيّة في البناء والانتقال الديمقراطي؛ الشيء الذي جعل المفهوم يحظى بأهميّة غير مسبوقة في التأسيس لخطاطة تواصل ثقافيّة وسياسيّة جديدة، غير مرتبطة بمشاعر الانتماء الإثني والقبلي، وبالثقافة الشفهيّة، كدعوة لتعاقد عقلاني بين عموم الشعب وأحزابه وممثليه؛ أي أنَّ الثقة كمفهوم أنثربو- ثقافي أصبح من مرتكزات العقد الاجتماعي والسياسي الذي بات يربط الفاعل السياسي بالشعب أفراداً ومؤسّسات. وإذا كانت السياسة هي فنّ تدبير الممكن، فإنَّ كلّ فعل اجتماعي في جوهره، هو فعل سياسي، لكنَّ استمرار الوضع القائم المبني على السلطويّة -حسب أحمد شرّاك- جعل فقدان الثقة ينمو بين الاستبداد المغلق والشعب مثل كائن حي، كما هو الشأن بالنسبة إلى فقدانها في ظلّ الاستبداد المفتوح والأحزاب السياسيّة من جهة، والشعب من جهة أخرى، يصل إلى مرحلة الانتفاض، عندما يفقد الشعب الثقة حتى في الأحزاب المعارضة، ويلحظ بأنَّها تواطأت أو دخلت في مسلسل التواطؤات، سواء فوق الطاولة، أو تحتها، أو ما وراء الستار، وهذا هو الأخطر لدى أيّ شعب من الشعوب، ولعلّ المؤشّرات القويّة على فقدان الثقة واتّساع مساحة هذا الفقدان مع الزمن، هو النفور من المشاركة السياسيّة، النفور من التصويت السياسي، وترك مخادع التصويت فارغة، حيث تصل نسبة المشاركة إلى درجة قصوى من الإنذار والاحتجاج، فيهرب الاستبداد والحواريّون إلى الأمام، بالتزوير ونفخ الأرقام، ومنسوب النسب في المشاركات والولاءات، ولعلّ هذا المشهد المأساوي يشجّع على التواطؤ، وعلى سباق المسافات نحو احتلال المواقع الحزبيّة من أجل الفوز، للظفر بنصيب من كعكة السلطة والجاه والمال.

1-2-3 ـ عوامل خارجيّة، أو حين يختلط الداخلي بالخارجي

إذا كان الإعلام الجديد المنفلت من الرقابة السلطويّة الداخليّة، والمنفتح على قنوات ومواقع العالم، قد عجّل بارتباط الداخلي بالخارجي على مستوى تبنّي وفرض ولو الحد الأدنى من الديمقراطيّة، فإنَّ الباحث أحمد شرّاك يتبنّى مفهوماً مؤسّساً لثورات "الربيع العربي"، من خلال مفهوم الثورة الإعلاميّة الجديدة، خاصّة في بُعدها الرقمي، جاعلاً من هذا المعطى الإعلامي خلفيّة مرجعيّة للربيع العربي، من خلال إزالة الستار عن عدد من الأنظمة وحكّامها والدائرين في فلكها، وعلاقتها بالغرب، وخاصّة الولايات المتحدة الأمريكيّة، وهو ما تمثل في وثائق ويكيليكس.

لقد دخل الإعلام الرقمي على الخطّ، من خلال مدّ الإنسان بكلّ المعلومات الممكنة، والتي كانت تحاط بسريّة قويّة في أقبية الأرشيفات في مختلف المصالح الحسّاسة للإدارات والمؤسّسات والوزارات، بالولايات المتحدة الأمريكيّة، حيث لم تعد هناك خطوط حمراء أو سريّة مطبقة على صعيد الفعل السياسي أو الدبلوماسي أو الحربي، حتى تجاه الشعوب في مختلف بقاع الكوكب الأرضي. إعلام طرح أسئلة جديدة حول علاقة الصحافي بالمخبر، أو بالمسرّب للخبر، وهل هناك استراتيجيّات جديدة مضمرة، يُراد ترويجها ولو عبر الادّعاء والزعم؟ هكذا شهد العالم ابتداء من منتصف العشريّة الأولى من القرن الحادي والعشرين، وتحديداً ابتداء من يوليو/ تموز 2010، تسريب ونشر دفعات من الأخبار والمعلومات، حيث نشر ويكيليكس في البداية 75000 مستند عن الحرب في أفغانستان، وفي وقت لاحق نشر حوالي 400.000 مستند عن حرب العراق، ولم يبقَ الأمر عند افتضاح هذه الأحداث الكبرى التي شغلت البشريّة في تفسيرها وتأويلها، وإنّما امتدّ هذا الافتضاح الإعلامي الجديد إلى نشر ما يقارب 250.000 برقية دبلوماسيّة مرسلة من السفارات الأمريكيّة الموجودة في مختلف أنحاء العالم.[6]

لعلّه- حسب أحمد شرّاك- تطوّر إعلامي منفصل عن خطّ الإعلام التقليدي (غير الرقمي)، حيث عزّز هذا الإعلام دخول المواطن على الخطّ في تزويد المحطّات التلفزيّة بالأخبار المصوّرة، قصد إذاعتها ونشرها، خاصّة بالنسبة إلى تغطية الأحداث الجارية. أمام هذا الوضع الإعلامي الكشّاف والشفاف، أصبح من الصعب، بل من المستحيل استمراريّة العلاقات الديبلوماسيّة التواطئيّة ما بين المركز والمحيط، ما بين أمريكا وحلفائها في المنطقة العربيّة، وهكذا يكون موقع ويكيليكس قد ساهم في انبثاق الثورات، و"الربيع العربي"، ولعلّ هذا ما يجمع عليه عدد كبير من الباحثين العرب والصحافيين والإعلاميين. إنَّ هذه الثورة الإعلاميّة الجديدة، ستكون لها تداعيات حقيقيّة على العالم. إنَّها بمثابة حرب مدنيّة رقميّة تدعو إلى الثورة.[7]

2- الخصائص الاجتماعيّة والثقافيّة والديموغرافيّة لثورات "الربيع العربي"

على الرغم من اختلاف التوصيف النظري والمنهجي لدراسة ثورات "الربيع العربي" مقارنة بباقي الثورات التي عرفها العالم منذ قديم أزمانه، وخاصّة ثورات القرنين التاسع عشر والعشرين، فإنَّ الدراسة المقارنة نفسها تفرض على الباحث وضع صنافة توصيفيّة لملامحها المشتركة، من جهة، وتمييز بعضها البعض من جهة أخرى، وهو توصيف يجعل الدارس ينتصر لمفهوم الخصوصيّة والتميز الذي يميّز ثورة عن غيرها من الثورات. تأسيساً على هذا المبتغى النظري، نجد الباحث المغربي أحمد شرّاك، ومن خلال مقارنته ثورات "الربيع العربي" بأهمّ وأشهر الثورات العالميّة، ينتهي إلى توصيف شكلي لا تخطئه الملاحظة كأداة جوهريّة في البحوث الاجتماعيّة للظواهر، مهما اختلفت أنساقها وطبيعتها، صاغه من خلال أربعة ملامح: ملمح السلم، ملمح الشباب، ملمح الانتماء الطبقي والاجتماعي، وأخيراً ملمح التحوّل.

2-1- ملمح السلم:

إذا كان السجل التاريخي يحتفظ على المستوى الدلالي للثورات بخصيصة العنف والدم، فإنَّه بالمقابل يسجل عبر امتداده ثورات سلميّة مدنيّة، خاصّة في القرن الذي ودّعناه، بعدما نضجت آليّات المقاومة والتغيير السلمي، كأحد ميكانزمات الديمقراطيّة والحداثة السياسيّة، في أوروبا الشرقيّة على وجه الاستدلال والحصر، وهو ما يعبّر عنه أحمد شرّاك من خلال تنقيبه المعرفي في عدد كبير من الدراسات والأبحاث ذات الصلة، بقوله: "لقد فتشت حقاً هذه الدراسات في الثورات اللّاعنفيّة من أجل البحث عن قواسم مشتركة، ومن هذه الثورات ما سُمّي بالثورات "المخمليّة"، انطلاقاً من ثورة تشيكوسلوفاكيا، وفيما بعد ثورة بولونيا وهنغاريا وألمانيا الشرقيّة والثورة البرتغاليّة الأوكرانيّة". إنَّ هناك عناصر تشابه بين الثورات المخمليّة وبين ثورتي تونس ومصر، فهذه الثورات جميعها ثورات سريعة، تحمل مطالب ليبراليّة، وذات طابع سلمي بالأساس، حيث العنف الذي عرفته الدولتان العربيتان كان محدوداً ومؤقتاً وغير فعّال، لقد امتدّ هذا البحث في اللّاعنف كسمة محدّدة للثورات العربيّة... إلى أصول هذا اللّاعنف، إلى ثورة الملح، وتحديداً الثورة الهندّية ضدّ الاستعمار البريطاني مع غاندي، كمؤسّس للسلم، كفلسفة ونهج واستراتيجيّة في الثورة.[8]

2-2- ملمح الشباب:

تناولت الدراسات العديدة التي تنبّهت إلى الحركات الاحتجاجيّة الممكنة، قبل "الربيع العربي" وبعده، ومن بينها "سوسيولوجيا الربيع العربي"، تشكّلات الثورات الجماهيريّة، وخاصّة الحشود النشيطة، منبّهة إلى ملمح أساسي لهذه الأخيرة، والذي يتجلّى في ملمح الشباب الذي بات يطغى على الهرم السكّاني العربي، في كلّ الأقطار بدون استثناء، خاصّة في ارتباطه بمعدّل الخصوبة من جهة، وارتفاع نسبة البطالة من جهة أخرى؛ فالشباب ما بين 15-25 سنة بات يمثل 25 % من عدد السكان النشيطين، إلّا أنَّ نسبة البطالة تصل إلى 43 % من المجموع، من هنا فالمقاربة الديموغرافيّة تمتدّ إلى عوامل أخرى كالهجرة مثلاً، وهذه العوامل المتشابكة في المجمل وجدت الأرضيّة خصبّة لانخراط الشباب في مسلسلات الاحتجاج والثورة.[9]

وفي سياق المنهج المقارن بين الثورات في العالم، ذهبت بعض الدراسات أيضاً إلى التجسير بين ثورة الشباب في مايو/ أيار 1968، وبين الثورات الحاليّة، باحثة عن أوجه التشابه الممكنة، حيث بيّنت كيف أنَّ الشباب كان قائداً لهذه الثورة (مايو/ أيار 1968)، ومن ثمّ، فليس عامل الشباب العربي هو الفاعل الوحيد واليتيم في التاريخ الإنساني على الصعيد الثوري، بل أكثر من ذلك يتواشج في الثورة الشبابيّة الفرنسيّة محدّدان؛ وهما السلم والشباب معاً، فهي ثورة سلميّة رغم تصويرها كأحداث دامية شهدتها باريس،[10] فإذا كانت هذه الثورة في الواقع، كما يدلي بذلك عبد الرحمن بدوي، ثورة اجتماعيّة، وتحديداً ثورة على القيم الاجتماعيّة والقيم الجنسيّة، فقد رفعت شعاراً ضدّ العائلة، ضدّ تسلط العائلة وتحكّمها في الشباب، كما رفعت شعار الحريّة الجنسيّة، بعيداً عن علاقات التمأسس العائلي كالزواج مثلاً، وقريباً من الاستلذاذ والرعشة الجنسيّة التي ثبتتها شعارات هذه الثورة على الحيطان الباريسيّة،[11] فإنَّ ثورات "الربيع العربي"، وإن كانت قد رفعت بعض الشعارات المشابهة، خاصّة من قبل بعض الفئات والأقليّات الجنسيّة والدينيّة والثقافيّة، فإنَّها ثورات جمعت الشباب العربي على شعارات ومطالب سياسيّة واجتماعيّة لا تخرج سياسيّاً عن أسس الدولة الديمقراطيّة المدنيّة، من ديمقراطيّة، حداثة، حقوق الإنسان، العدل والكرامة، لاختلاف السياقين الفرنسي والعربي على كافة المستويات، فشباب مايو/ أيار 1968، لم يكن يعاني الظلم والاستبداد والقهر الذي يعانيه شباب العالم العربي، ناهيك عن اختلاف السياق السياسي، الاقتصادي والاجتماعي بينهما.

2-3- ملمح الانتماء الطبقي والاجتماعي:

إذا كان ملمح الشباب مهيمناً على ثورات "الربيع العربي"، على الأقل على مستوى القيادة وكثافة المشاركة، فإنَّ هذا الملمح ينصهر في بُعده الجماهيري الشّعبي، خاصّة أمام خروج كلّ أطياف وتشكيلات وفئات الشعوب المشاركة فيها، وهو ما يجعل الانتماء الطبقي والاجتماعي يغيب لصالح الانتماء للوطن، وفق رؤية ومطلب رئيسين يتأسّسان على قاعدة المواطنة الكاملة كما صاغتها الأدبيّات الحديثة والمعاصرة، والتي تعتبر شعار الدولة الحديثة، دولة مدنيّة تعتمد فصل السلطات واستقلالها شعارها المركزي. لقد وصفت مجموعة من الدراسات الثورات العربيّة بكونها شعبيّة، أو أنَّها على الأقلّ كانت شعبيّة في بدايتها، وهكذا بفعل "تعميم التمرّد جعلها تنتقل من الشعب بالمدلول الاجتماعي إلى الشعب بالمدلول الوطني والسياسي، بمعنى أنَّ الشعبيّة كمدلول اجتماعي كانت في البدء من الطبقات الفقيرة والهامشيّة، ثمّ انتقلت إلى الشعب كمفهوم سياسي، من خلال مشاركة النقابة التونسيّة في التأطير والتحاق كثير من الفاعلين السياسيين بالثورة،[12] وهو ما امتدّ تأسيسيّاً إلى باقي البلدان التي وجدت أحزابها ونقاباتها وجمعيّاتها نفسها مجبرة على الانخراط في المسيرات الاحتجاجيّة والثوريّة، بفضل انصهار وذوبان حاجز الانتماء الطبقي، الفئوي، الاجتماعي، السياسي، في بوتقة الانتماء للوطن الذي يمكن اعتباره كانتصار على النزوعات القوميّة والمذهبيّة والدينيّة، وهو ما عبّر عنه الكثير من الشعارات والمطالب التي كتبت ورسمت على مختلف الأسانيد (لافتات، مناشير، غرافيتي على الجدران، رسوم كاريكاتوريّة...إلخ).

وعلى مستوى دراسة هذه الثورات طبقيّاً واجتماعيّاً، خلص أحمد شرّاك إلى أنَّ هذه الأخيرة كانت شعبيّة، بمعنى مشاركة الطبقات الدنيا في المجتمع، والتي تتألف من الفقراء والعمال، هؤلاء الذين شكّلوا أسس الثورة في مصر مثلاً، انطلاقاً من عدد من الإضرابات العماليّة التي سبقت الثورة في عهد مبارك، أكثر من ذلك، فإنَّ الطبقة العاملة قد دُعيت إلى المشاركة، بل إنَّ نقابة العمّال في تونس قد أطّرت وساهمت في قيام الثورة التونسيّة، حيث ذهب بعض الباحثين إلى أنَّ البورجوازيّة، خاصّة في جانبها المقاولاتي، قد ساندت هذه الثورة، كما هو الحال في تونس مثلاً "البورجوازيّة" المنحدرة من صفاقس، والتي كانت مضطهدة من طرف طفيليّات اللوبي بن علي الطرابلسي...، فقد ساندت الإضراب العام في صفاقس بتاريخ 12 يناير/ كانون الثاني 2011؛[13] فالشعبيّة لا تلغي الطبقات الوسطى التي شاركت بمختلف فئاتها في قيام هذه الثورات من موظفين ومهندسين وأطباء ومحامين (...)، كما أنَّ المعنى الأكثر إجرائيّة في تحديد معنى الشعبيّة، هو المعنى الذي ذهبت إليه الباحثة الأنثروبولوجيّة التونسيّة جوسلين دخيلة، والذي يتأسّس على مفهوم الانتماء بالمعنى الواسع للوطن، سواء كان هذا الانتماء سياسيّاً أو نقابيّاً أو دينيّاً أو عرقيّاً إثنيّاً أو لغويّاً أو مدنيّاً (نسبة إلى المجتمع المدني)، حيث تحقّق هذا المعنى باصطفاف كلّ هذه الانتماءات والحساسيّات تحت سقف شعار مركزي واحد لا للاستبداد والتسلطيّة.[14]

وبما أنَّ الاستبداد لا يميّز بين الانتماءات للعرق والجنس والسن، فإنَّ كلّ الفئات الاجتماعيّة، مهما اختلفت انتماءاتها، توحّدت وانصهرت في هذه الثورات، في الإعداد والتعبئة، كما في التخطيط والبرمجة والقيادة، بما في ذلك النساء، سواء على المستوى الافتراضي الذي لعب دوراً محوريّاً في تشكّلات خطاب وتجليّات "الربيع العربي"، أو على مستوى الميداني، وهو ما خصّه بالدراسة والتحليل الباحث المغربي أحمد شرّاك، من خلال تناوله للحضور النسائي على المستويين الافتراضي والميداني الواقعي العملي، فإذا كان العالم الافتراضي هو سمة جديدة في هذه الثورات التي تشكّل فيها الثورة التكنولوجيّة، خاصّة تكنولوجيا الاتصالات، ملمحاً أساسيّاً، وأنَّ الثورات بدأت افتراضيّاً من خلال التحشيد والتجنيد والإبلاغ والتبليغ في مواقع مختلفة، فقد لعبت في هذا الصدد -حسب شرّاك- النساء المدوّنات دوراً مساوياً ومماثلاً إلى جانب النشطاء والمدوّنين الذكور، لا فرق في الدور.

2-4- ملمح التحوّل:

يعتبر التغيير أو بتعبير آخر التحوّل الاجتماعي السمة التي تميز حركيّة الأفراد، والمجتمعات، والأنظمة، موازاة مع صيرورة التاريخ، إذ يستحيل تصوّر شيء في الوجود لا يتعرّض للتحوّل، والتبدّل، والتغير، ولعلّنا نجد في القولة الشهيرة لهيراقليطس ما يترجم هذه المسلّمة الأنطولوجيّة: «التغير قانون الوجود، والاستقرار موت وعدم»، وبعيداً عن كلّ طرح فلسفي، وبالرجوع إلى الحقل السوسيو أنثربولوجي، نجد أوغست كونت يصنّف التحوّل والانتقال الذي عرفته البشريّة انطلاقاً من صياغته لقانون الحالات الثلاث: فبعدما عاش الإنسان مرحلة لاهوتيّة تطبعها معتقدات خرافيّة، دخل في فترة المجرّد الأكثر عقلانيّة، قبل أن يتوصّل إلى ربط الواقع بالفكر في الفترة الوضعيّة التي قادته تدريجيّاً إلى السيطرة على الطبيعة. وقد برز المذهب نفسه، وربّما بشكل أقلّ سذاجة، عندما أكّد دوركهايم أنَّ توزيع العمل مكّن من المرور من المجتمعات ذات التضامن الميكانيكي إلى المجتمعات المؤسّسة على التضامن العضوي؛ ممَّا يعني أنَّ كلّ مجتمع لا بدّ أن يواجه تحدّي التاريخ، وأن ينخرط في الحركيّة التاريخيّة، وذلك بهدف تغيير ذاته ومحيطه والمجتمعات المرتبطة به، وهذا التغير قد يكون سريعاً أو بطيئاً، منسجماً مع ماضي المجتمع أو لا، ولكن من المؤكّد أنَّ أيّ مجتمع ليس بمقدوره الإفلات من التحوّلات التي تجبره على التغير.[15]

وإذا كانت كلّ الثورات حاضنة حقيقيّة للتحوّل الاجتماعي والسياسي والثقافي، وموجّهة للتغيير في شتّى مناحي الحياة، فإنَّها في العمق نتاج التحوّل الذي يطرأ في بلد من البلدان، وينزاح على البراديغم المتعارف عليه في سياق الوضع القائم، الذي لم يعد قادراً على تلبية الطلب الاجتماعي والسياسي والثقافي. من هنا، فإنَّ قراءة ثورات "الربيع العربي" يجب ألّا تنفصل عن سياقه المرجعي والمتمثل في سوسيولوجيا التغيير، كما أشرنا إلى ذلك سابقاً، ولهذا فإنَّ مفهمة "الربيع العربي" لا تستقيم إلّا بوضع مسارات التحوّل التي حدثت وما تزال في كلّ رقعة ثوريّة من خريطة العالم العربي منذ الثورة التونسيّة إلى الآن المستمر في الاعتمال في سورية، وليبيا، وتونس، ومصر...إلخ. وهذا التحوّل لا ينفصل أيضاً عن الأهداف العامّة والمرامي التي رفعتها هذه الثورات، كما لا ينفصل عن خلفيّات ومرجعيّات التحوّل من الطابع السلمي إلى الطابع العنفي، مثلما حدث في ليبيا وسورية واليمن، حيث تتخذ المذهبيّة الدينيّة والعشائريّة طابعاً فاصلاً لا جامعاً. في هذا السياق، يقول أحمد شرّاك: "لا شكّ أنَّ هذا الملمح هو المفتاح الأوّل في القراءة المتقاطعة، خاصّة وأنَّ الثورات الحاليّة سواء في تونس أو مصر أو ليبيا، أو اليمن ...قد أطاحت برؤوس النظام السياسي، إن لم نقل بملامح النظام السياسي ورموزه الدالّة والعامّة، فهي ثورات سلميّة كثورة مصر وتونس، حققت ما حققته الثورات الإنسانيّة، سواء تلك التي كان طريقها اللّاعنف والسلم، أو حتى تلك الثورات التي سلكت العنف وأسالت الدماء من أجل بلوغ أهدافها الثوريّة".[16]

3- خطاب الثورة بين موت المثقف العضوي وميلاد المثقف التأسيساتي

3-1- المثقفون العرب قبل الثورات: جدل الجلد والتمجيد

لا يختلف اثنان على حال الثقافة في البلاد العربيّة وحال المثقفين الذين وجدوا أنفسهم يعيشون وضعاً هامشيّاً يختلف إلى هذا الحدّ أو ذاك، من بلد إلى آخر، ومن فترة زمنيّة إلى أخرى، حسب الانفراج السياسي، وطبيعة الاستبداد بهذه البلدان، ما بين استبداد مفتوح يؤمن بالحياة الدستوريّة، وبديمقراطيّة التقسيط، وما بين استبداد مغلق، لا يؤمن إلّا بالسلطويّة واحتكار كلّ مقدّرات البلاد الماديّة والرمزيّة، ولا ترى هذه الأنظمة في المثقف سوى صوت النشاز الذي يقلق راحتها، وبين احتكار مالكي وسائل الإنتاج الإعلاميّة من الطبقة الاقتصاديّة الريعيّة التي استفادت من قربها من مربّع السلطة والحكم بهذه البلدان، وتقلّص مساحات التعبير والحريّات الفرديّة، بات المثقف يعيش المدّ والجزر بين الانتماء إلى السلطة والدفاع عنها، أو نقدها من خلال الحفاظ على مسافة تجاهها، خاصّة بعد أن انخرط المثقفون في المؤسّسات، سواء من خلال اتحادات الكتّاب أو النقابات أو الهيئات الثقافيّة شبه الحكوميّة، بكل ما أصابها من وهن وجمود. فبالرغم من أنَّ هذه المؤسّسات قد حققت فكرة التحديث الاجتماعي والثقافي إلى حدّ ما، إلّا أنَّها ساهمت في الإفقار الثقافي، وهما المفهومان المتوازيان في فكر هابرماس؛ باختصار، لقد أدّت هذه الآليّة إلى عرقلة إنجاز الحداثة الثقافيّة.

تبدأ العلاقة بين المثقف التقليدي وبين المؤسّسة الرسميّة بتوقيع عقد "السلامة"، وأيّ إخلال بهذا العقد يعتبر تمرّداً على السلطة وتهديداً مباشراً لها، وبذلك يضع المثقف نصب عينيه هدف الحفاظ على الوضع القائم، ومع توغله في "دهاليز" المؤسّسة الرسميّة، وبدون وعي منه أو قصديّة، يدرك أنَّ الحفاظ على الوضع القائم يعني الحفاظ على موقعه بشكل مباشر، وبذلك لا يتغير أيّ شيء، أو كما يقول صموئيل بيكيت في مسرحيته الشهيرة "في انتظار جودو": "لا شيء يحدث، لا أحد يمرّ من هنا".[17]

ضمن هذا الأفق التحليلي، يقول أحمد شرّاك: "في إطار سوسيولوجيا المثقفين، يمكن القول إنَّ الاستبداد استطاع أن يستجلب كثيراً من المثقفين بحكم الإغراءات التي يمارسها الاستبداد، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، لأنَّه يخشى أقلامهم وأدوارهم، وانطلاقاً من متطلبات الحياة وجاذبيّتها، ومن الأمد الطويل للاستبداد في الحكم والسلطة...جعل كثيراً من المثقفين يفقدون أدوارهم، فبعضهم ارتمى في أحضان السلطة متملّقاً ومبايعاً، والبعض الآخر انسحب من الصراع ومارس لغة البياض، أو لغة قزح حسب المقامات والحسابات، وقد كانت الثورات التأسيساتيّة مناسبة لفضح مثل هذه اللّغات، وكيف أنَّ مجموعة من المثقفين والكتّاب كانوا يمجدّون حسني مبارك أيام حكمه، وبمجرّد ما عزلته الجماهير انتقلوا مباشرة إلى تمجيد ثورة 25 يناير/ كانون الثاني".[18] وهذا الوضع لا يقتصر على البلدان العربيّة، بقدر ما هو ظاهرة عالميّة، فالمثقفون التابعون لمختلف السلط التجاريّة والسياسيّة والإعلاميّة السائدة التي يقلقها استقلال الحقل الثقافي، لكونه مبدأ وجود السلطة الثقافيّة النقديّة للمثقفين (باعتبارها أحد أشكال السلطة المضادّة في المجتمع الحديث)، هم الذين اعتاد الإيطاليّون على تسميتهم بالمحميين، وسمّاهم أفلاطون بباعة حرفة الرأي.[19]

لكن بالمقابل، كان هناك فريق من المثقفين عارض الاستبداد وانتقده في العلن وبمختلف الطرق، ولعلّه الفريق الذي عانى من الاضطهاد والتهميش والإقصاء، بل لعلّه الفريق الذي عبّر عن رفضه للاستبداد، ورفض الاستسلام أو الانخراط في جوقة الاستبداد، رغم منطق العصا والجزرة التي يسلكها الاستبداد، من أجل تأمين "إجماع" حول إنجازاته وبطولاته...إنَّ هؤلاء المثقفين لم تهمّهم يوماً المراكز السياسيّة والاجتماعيّة المرموقة ولا الانضواء في تكتّلات وأحلاف وهميّة، ولم تصنعهم أبواق الإعلام، لم يكرّسوا يوماً صورة الطاغية، ولم يسهموا في نحت تماثيل الحكّام في الشوارع كفزّاعات لكلّ مواطن تهفو نفسه إلى الحريّة والعدالة.[20]

تأسيساً على ما سبق، فإنَّ قلّة من المثقفين العضويين بقيت ملازمة ومشجّعة لخطاب الثورة، خاصّة على مستوى أهدافها ومراميها الحداثيّة والديمقراطيّة، لكنّها قلّة وجدت نفسها متخلّفة عن الركب، لارتباطها مرجعيّاً بخطاب المثقف الكلاسيكي، خاصّة مع زحف وسائل الاتصال الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعي وعوالم الإنترنت الرقميّة المتشعّبة والتفاعليّة وفق سرعة كبيرة، تحتفي بالآني والهُنا احتفاء يتكسّر معه كلّ توجيه كلاسيكي وتقليدي، أتى على مفاهيم الزعامة والقيادة والأبويّة، وهو ما تشير إليه الباحثة المصريّة شيرين أبو النجا بالمثقف الانتقالي.

وأمام بروز مفهوم المثقف الرقمي، والمدوّن الرقمي، وميتا ثوري، تلوح في الأفق المفاهيمي، كما يدلي بذلك أحمد شرّاك، مفاهيم جديدة مؤسّسة لعلم اجتماع الثقافة والمثقفين، ولعلّنا نجد في مفهوم المثقف التأسيساتي، وهو ما يعادل عند الباحثة شيرين أبو النجا المثقف الانتقالي، ما يفي بالغرض الإبستمولوجي الباني لواقع ثقافي جديد، لعلّ واقع "الربيع العربي" أحد تجلّياته المفهوميّة. يقول أحمد شرّاك عن هذا المثقف، الذي يعتبر في الآن نفسه، مثقفاً مشاكساً ناقداً منخرطاً في الواقعي والافتراضي على حدّ سواء: "إنَّ المثقف التأسيساتي، على العكس تماماً، فهو يقبل الجوار والحوار بجانب المثقف الأصلي والرسولي والمثقف المتشاكس، لأنَّ النقد عنوانه، إلّا أنَّه من المؤكّد أنَّ المثقف التأسيساتي دحر أطروحة "نهاية المثقف"، لأنَّ كلّ الدفوعات والمرافعات التي قدّمتها هذه الأطروحة هناك قد انهارت أمام عنفوان هذا المثقف وانخراطه النموذجي في الشأن العام، هذا المثقف الشاب الذي عادة ما كانت كثير من الكتابات هنا تشيع وجوده، وتضعه في خانة اللّامبالي أو اللّامسيس، أو الهارب أبداً إلى الملذّات والشهوات. أمّا المثقف الأصلي، فقد تلقّى الرسالة واستوعبها وأدرك أنَّه ينبغي أن يجدّد أدواته وينخرط في العصر، وأنَّ البرج العاجي الذي شيّده حول دوره وحول نفسه انطلاقاً من امتلاكه للخيرات الرمزيّة، وأنَّه هو القادر وحده على التأطير والتنظير، وبدونه لن تتبدّل الأحوال، فقد تلقى رسالة مفادها أنَّ روزنامة المثقف ينبغي النظر إليها من زاوية الدور والفعل، لا من زاوية المعرفة والخيرات الرمزيّة، وأنَّ المثقف هو الذي يدافع عن قضيّة، سواء بالانخراط الفعلي أو بالانخراط النقدي الدائم، وهنا تتبخّر أحكام القيمة والمواصفات الجاهزة، بكون المثقف لا يحمل هذا التوصيف إلّا إذا كان له تراكم وخيرات رمزيّة عميقة. إنَّ المثقف قد يكون خبيراً وقد يكون مدوّناً، وقد يكون شفويّاً أيضاً، ولكن له قدرات على التأطير والتأثير، وهذا ما نجح فيه المثقف التأسيساتي الذي لا يزعم البطولة ولا الكاريزما ولا الفردانيّة، مثقف جمعي وجامع للمثقف الأصلي والمثقف النقدي وكلّ أطياف المجتمع.[21]

خاتمة:

يشكّل كتاب أحمد شرّاك "سوسيولوجيا الربيع العربي" بوّابة رئيسة لولوج عوالم "الربيع العربي" سوسيولوجيّاً، خاصّة في ظلّ شحّ وندرة المراجع والدراسات التي واكبت ثورات "الربيع العربي"، ونَظَّرت لآفاقه معرفيّاً، على مستوى بناء الخطاب وتشكّلاته. وإذا كان الباحث المغربي قد حاول صهر منهج متكامل ومركّب قادر على لم شتات خلفيّات ومرجعيّات الحراك الاحتجاجي والثوري المؤسّس لهذا الربيع، الذي اختلف الباحثون في تسميته بين ربيع وخريف، خاصّة في ظلّ مآلات الثورة الليبيّة والسوريّة واليمينيّة، بل حتى الممرّ العسير الذي مرّت به الثورة في مصر، فإنَّ قدرة هذا الباحث ونُبهته السوسيولوجيّة في تناول وتحليل هذه الثورات يأتي من قدرته على صياغة المفاهيم، باعتبارها آليّة رئيسة للدراسة والتحليل، خاصّة أمام عجز الترسانة المنهجيّة والمفاهيميّة الكلاسيكيّة عن تناول مختلف خطابات وتجلّيات الثورات في بلدان "الربيع العربي" بالتشريح السوسيولوجي، إذ إنَّ الاحتكام إلى الثورات التي عرفها الغرب (فرنسا، بريطانيا، روسيا، إيطاليا....إلخ)، لم يعد يفي بالغرض، لاختلاف السياقات التاريخيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، من جهة، ولتطوّر المشهد الكوني الذي انتقل من الواقع المادي والواقعيّة الماديّة إلى الواقع الافتراضي أو الواقعيّة السيبرانيّة التي أتت على كلّ السرديّات الكبرى المؤسّسة للفكر الإنساني من جهة ثانية. من هنا، فالمجهود النظري والتحليلي- التأويلي لعالم الاجتماع المغربي أحمد شرّاك لا يكمن في مجرّد تناول هذا الربيع، بل في وضع الثورات العربيّة في سياق تاريخي ممتد في الذاكرة الجمعيّة، جاعلاً منها حلقة من حلقات النهضة المؤجّلة التي ستؤسّس لا محالة لمرحلة تنويريّة جديدة، تتأسّس على الديمقراطيّة والقيم الإنسانيّة الكونيّة من حق، وعدل وحريّة وكرامة ومساواة، وهي الشعارات والمطالب التي خصّها الباحث أحمد شرّاك بكثير من الإنصات في تحليله لخطاب الثورة، خاصّة مع انبثاق جيل جديد ومثقف جديد سمّاه بالمثقف التأسيساتي، باعتباره مثقفاً يؤسّس لأفق جديد.

[1]- نشرت هذه القراءة في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 50

[2]- أحمد شرّاك، سوسيولوجيا الربيع العربي، ط1، مقاربات للنشر، المغرب، 2017، ص 7

[3]- نفسه، ص7

[4]- أحمد شرّاك، سوسيولوجيا الربيع العربي، مرجع سبق ذكره، ص 30

[5]- عثمان الزياتي: "الكبت السياسي" والثورات الشعبيّة العربيّة (دراسة سوسيو ثقافيّة في بناءات وإفرازات السلوك الثوري)، مجلة وجهة نظر، الرباط، المغرب، العدد 49، صيف، 2011، السنة الرابعة عشرة، ص، 18، نقلا عن أحمد شرّاك، المرجع السابق ذكره، ص 42

[6]- حسن المصدق: وثائق ويكيليكس وأسرار ربيع الثورات العربيّة: المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، 2012، وثائق وأسرار، جريدة أخبار اليوم، الدار البيضاء، الاثنين 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2012، ص 10

[7]- Paul Jorion: (conversation avec Regis Meyran), les éditions textuel,Paris 2011,Préface, p 7

[8]- أحمد شرّاك سوسيولوجيا الربيع العربي، مرجع سبق ذكره، ص 70

[9]- نفسه، ص 84

[10]- أحمد شرّاك، سوسيولوجيا الربيع العربي، مرجع سبق ذكره، ص 71

[11]- عبد الرحمن بدوي، سيرة حياتي (2)، المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت، 2000، ص 194

[12]- أحمد شرّاك، سوسيولوجيا الربيع العربي، مرجع سبق ذكره، ص 71

[13]- Michael Béchir Ayari, Vincent Geriser, op. Cite. p 120

[14]- أحمد شرّاك، سوسيولوجيا الربيع العربي، مرجع سبق ذكره، ص 85

[15]- عياد أبلال، الجهل المركّب، الدين والتديّن وتغيير المعتقد الديني في العالم العربي، ط1، مؤسّسة مؤمنون بلا حدود، بيروت، 2018، ص 155

[16]ـ أحمد شرّاك، المرجع السابق نفسه، ص 71

[17]- شيرين أبو النجا، المثقف الانتقالي من الاستبداد إلى التمرّد، ط1، روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2014، ص 46

[18]- أحمد شرّاك، سوسيولوجيا الربيع العربي، مرجع سبق ذكره، ص207

[19]ـ عبد السلام حيمر، في سوسيولوجيا الثقافة والمثقفين، من سوسيولوجيا التمثلات إلى سوسيولوجيا الفعل الاجتماعي، مرجع سبق ذكره، ص 274

[20]- إكرام عبدي، هؤلاء هم أيضاً صنعوا الثورة، جريدة أخبار اليوم، العدد 542، الخميس 8 سبتمبر/ أيلول 2011

[21]- أحمد شرّاك، سوسيولوجيا الربيع العربي، مرجع سبق ذكره، ص 224