الربيع العربي وسؤال التنوير


فئة :  مقالات

الربيع العربي وسؤال التنوير

أمكنني افتتاح هذه الورقة بسؤال: هل ثمة إمكان تنويري عربي، لا سيما أنّنا نعيش ظرفاً حياتيّاً دامياً، يضع حيوات الإنسان العربي على محكّ الاختبار الدموي، يوماً إثر يوم؟.

أمكن الإجابة على هذا السؤال من زاويتين:

الأولى: داخلية، من ناحية اعتبار التنوير سيرورةً داخليةً، منسجمة أساساً مع قانون الصيروة الإنساني، فالركون إلى وضعٍ ثابت وقارّ وكينوني، لا ينسجم مع مقتضيات الشرط الإنساني المُتحرّك، إلا إذا ارتضى العقل الجمعي ذلك، واعتبر أن لا مجال للبحث عن إجابات حديثة للأسئلة الحادثة في عقول الناس، فما تمّ إنجازه يُجترّ المرة تلو الأخرى، كما يجترّ الجمل سنامه. ولقد كان للعالم العربي أن يمرّ بهذه المرحلة المُضادّة للشرط الإنساني، ويدفع - نتيجة لركونه إليها - ثمناً باهظاً، في مختلف المجالات، بما أحاله إلى كائن سلبي، لا همّ له سوى الانفعال بما هو قائم، لا الفعل بما هو موجود، والانتقال من طور المفعول به إلى طور الفاعل الحضاري. إلا أنّ استدراكاً لهذه الفاجعة الأنطولوجية، التي تمسّ الإنسان في واحدةٍ من أعمق تمثّلاته في هذا العالَم، جعلت الإنسان العربي (ممثلاً بالعقل الفردي) ينتبه إلى ضرورة تحريك الماء الآسن، الذي خنق الإمكان الإبداعي العربي، وجعله في طور الهدر وعدم الجدوى لقرون طويلة. وقد كان لجملةٍ من العقول الفردية أن تعي ضرورة إعادة الإنسان العربي إلى حاضرة شرطه الوجودي، ودمجه أكثر في حِراك صيروري، ينسجم أكثر مع وجوده الزمكاني. والحيلولة بينه وبين أيّ كينونة قارّة، لما تحمله في طياتها من تجميد للإمكان الإنساني وحصره في أذهان وأزمان قديمة، لا تنسجم بأي حالٍ من الأحوال مع الأذهان والأزمان الحالية.

ومع بدايات القرن التاسع عشر، كان الألم الحضاري قد بلغ ذروته بالنسبة إلى الكتلة البشرية في العالم العربي، فتلك البقايا البديعة التي اجترحت في الحضارة العربية الإسلامية على المستوى الذهني إبَّان عصورها الذهبية، كانت في طريقها إلى الفناء والموت على يد العثمانيين، إلى أن بلغت ذروتها القصوى مع الغزو النابليوني للديار المصرية، إذ اكتشفَ يومها - على الرغم من مساوئ ذلك الغزو ووجهه القبيح - أيّ هوان حلّ بالعالم العربي على يد الدولة العثمانية، لا سيما في المجال المعرفي، فلا فيلسوف ولا عالم ولا باحث يكاد يذكر في جميع البلاد العربية، فالكلّ غارق في ظلام معرفي دامس.

إذن، مع بداية القرن التاسع عشر كانت يد الظلام قد أطبقت قبضتها الحديدية على عنق العالم العربي، إلى درجة حجب الرؤية شبه الكاملة، لكن نَفَساً أخيراً في الجسد المُنهَك، قاومَ عمليات الخنق الحضاري، لذا بدأت الأمّ العربية بإنجاب بعض الذوات الفردية التي سَتُساهم في بثّ الأمل وسط حقل الآلام الكبير.

مع نهايات القرن التاسع عشر كانت فكرة النور الجديد بإزاء الظلام القائم، قد بدأت تترسّخ في أذهان بعض الذوات الفردية، أمثال: رفاعة الطهطاوي/ إبراهيم اليازجي/ قاسم أمين/ جمال الدين الأفغاني/ محمد عبده/ عبد الرحمن الكواكبي/ محمد رشيد رضا...إلخ، التي شغلتها أسئلة التحديث والتجديد، وجعلت من مهامها الرئيسية العمل على غرس إبر الوعي المعرفي في مواضع الألم الحضاري، لغاية إحداث خلخلة في البنية الذهنية للعقل الجمعي، ونقلها من طور الثبات والظلام، إلى طور الحركة والنور.

وعليه، فقد وعت هذه العقول الفردية - وغيرها - القيمة الوجودية العالية، لناموس الصيرورة الإنساني، والإمكاني التحديثي الذي ينطوي عليه، لذا عملت على تفعيله في الاجتماع العربي، إلا أنّه بقي حبيس هذه العقول إلى فترة طويلة (هامش: هذه الفترة ضرورية من ناحية حضارية حتى لا تحدث أي طفرات). وقد كان لحدث بارز ومصيري أن يُبرّز التنوير بوصفه بنيةً خارجية، ويجعله ينتقل من الطور الفردي إلى الطور الجمعي، بما يجعل منه بشارةً على الرغم من المآسي والآلام الكبيرة التي تعصف بالعالم العربي هذه الأيام.

الثانية: خارجية. في الوقت الذي ودّع فيه العالَم العربي نخبةً من مفكريه، أمثال محمد عابد الجابري ومحمد أركون ونصر حامد أبو زيد، كان على موعد مع حدث صادم ومدوّ وغير متوقع، سيعمل على تغيير معالم الاجتماع الإنساني في العالَم العربي؛ إذ أقدم شاب تونسي (= محمد البوعزيزي) على إحراق نفسه، في نوعٍ من الاحتجاج على تعريض كرامته للامتهان من قبل شرطية تونسية.

بالتقادم، سيتحوّل هذا الحدث الكبير إلى ما يشبه الفراشة التي تخرج من صندوق باندورا الأسطوري، كنوعٍ من الأمل الصغير وسط حقل الشرور الكبير. فإثر هذا الحدث، انقدحت شرارة الثورات العربية، وانتشرت في البلاد العربية انتشاراً سريعاً. فما ركد لفترات طويلة ها هو يتململ ويتكسر، ويُكسّر معه جيل عربي كامل. لكن ثمة سؤال يفرض نفسه هَهُنا، تحديداً عن حقيقة ما جرى والرابط الذي يربطه بالتنوير العربي؟.

هل أسَّس سؤال التنوير الذي طُرح في القرن التاسع عشر، للربيع العربي؛ أم إنّ ما حدث ووسم بالربيع العربي، هو بمثابة الطفرة، التي لا علاقة لها بالسياق التطوّري لما أُسَّسَ له في العقل الفردي في مرحلة سابقة؟.

في الحقيقة، هذا سؤال إشكالي، نظراً لاحتياجه إلى مزيد من الروية والانتظار، لتكوين رؤية بانورامية، لا تندمج في السياسي/ العسكري الضاغط حالياً على مجريات الأمور في العالم العربي، بقدر ما تنحاز للمعرفي، وانبثاق سياقاته المتتابعة، وإخضاعها بناها للنقد والتفكيك.

لكن ثمة نقطة هامة في هذا المجال، أمكن التأشير عليها، بدأت معالمها تتشكّل مرحلة ما بعد البوعزيزي؛ أعني انخراط جيل كامل في العالم العربي، في الحركة التنويرية الحديثة، فالأسئلة التي طرحت من قبل عدد من المفكرين العرب، على مدار قرن ونيف؛ ابتداءً من مرحلة ما اصطلح عليه بالنهضة العربية، بدأت تُطرح من قبل قاعدة شعبية عريضة، وهذه المرة تشعبت بحيث تجاوز الأمر حدود السؤال التنويري في مواضعاته الدينية، إلى المواضعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والسيكولوجية...الخ. بما نقل العقل الجمعي من مرحلة اليقينيات الزائفة التي نام على سريرها لفترة طويلة، وأحالته إلى كائن هامد، قارّ، متأكسد ولا معنى له إلا بالمعية! إلى مرحلة الشكوكيات وطرح الأسئلة الحرجة والجارحة. فالإنسان الذي بدأ وجوده المادي يتعرّض إلى انتهاكات مُتتالية، وضع وجوده المعنوي على محكّ التساؤلات وبدأ يوجّه إليه الضربات المتوالية، إلى درجة استشعر معها أنّه في العراء بعد أن رفل في هناء الطمأنينة الزائفة لمدة طويلة. وقد كان لجيل عربي كامل أن ينخرط في الحِراك الثقافي التنويري، ويطرح أسئلة عجز كثير من المفكرين العرب عن طرحها، بل إنّ أطروحات كثيرين منهم أصبحت خجولة أمام ما يناقشه الشباب العربي - وبشكل علني، سواء على شبكة الأنترنت أو على أرض الواقع - ويهجسون به دون خجل أو مواربة، من شأنهما الإضرار أكثر من النفع، إذ تحلّل الإنسان العربي من اللباس الجمعي المتآكل، وأصبحت ملابس أجوبته، منسجمة - إلى حد كبير- مع قماشة أسئلته الذاتية، وأصبحت مُخرجاته - من ثمّ - تعيش حالة من التمرّد على يقينيات الجماعة، بعد أن خضعت لها واستسلمت لفترات طويلة. مما جعل الحِراك التنويري ينعطف واحدة من انعطافاته الكبرى، ويتخذ مساراً جمعياً، على الرغم من تجلّي الأفراد فيه هذه المرة، ومشاركتهم الفاعلة في تفعيل الحراك الثقافي، ونقله من طور إلى طور بوتيرةٍ مُتنامية، فهم لم يعودوا بحاجةٍ إلى صدور كتابٍ لهذا المفكّر أو ذاك، لكي ينخرطوا في نقاش حول مآلات الوضع الثقافي العربي، بل أصبحت لديهم القابلية الكبيرة على المستويين السيكولوجي والمعرفي، لكي يخوضوا غمار التجربة الفكرية ويطرحوا أفكارهم على طاولة البحث، فعلى:

1- المستوى السيكولوجي: انهار جدار الخوف الداخلي لدى هذا الإنسان، ولم يعد هيّاباً من مناقشة أعقد القضايا الفكرية أو الدينية، التي آمن لفترة طويلة (= فترة الركود والتضادّية مع قانون الصيرورة الإنساني) أنّها من اختصاص أناس بعينهم دون سواهم، لما تنطوي عليه هذه الأفكار من خطورة بالغة على حياة الإنسان. لكنه الآن في مرحلة الشكوكيات، يطرح الأسئلة في أرض المعركة، وسط القنابل والأحزمة الناسفة، لأنّ وجوده على نحو مخصوص مهدّد، لذا عليه أن يقول كلمته بحقّ هذا العالَم، كما من حقّ الآخرين أن يقولوا كلمتهم بالمثل.

2- المستوى المعرفي، انخرط الإنسان العربي أكثر في السياقات الثقافية، واصطنع لنفسه حِراكاً معرفيّاً قريباً من القاعدة الشعبية، بما يوائم بين قمة الرأس ومنظومته العقلية من جهة، والقاعدة الشعبية ومستوياتها الثقافية من جهة ثانية. فالجيل المُنخرط في الحِراك الثقافي، ليس جيلاً من الفلاسفة الذين اعتكفوا في غرفهم لسنوات طويلة، وخرجوا بأطروحات لحلّ مشاكل الإنسان العربي، بل هم شباب يتفلسف بالأحرى، لأنّ وجوده مُهدّد وفي طور الهدر بشكل يومي وحثيث. وعليه، فثمة استحقاق آخر في سياق السيرورة التنويرية العربية، استحقاق صنعه الإنسان العادي، في خطوة جريئة تقدّمت على الحِراك الفكري العربي. فذاك الإنسان الذي تعرّض لمهانات طويلة وكبيرة على مدار عقود طويلة، شعر أنّ عليه أن يضع حداً لخوفه وعدم تجاسره على منظومات الرُعب التي استباحت وجوده، فتقدّم ناحية الأمام، وخاض غمار الحِراك الثقافي من أسفل، وها هو يرتقي تباعاً لغاية الوصول إلى الذرى. وأعتقد - يحدونا أمل كبير في هذا المجال - أنّنا بإزاء حالة انتشار (أفقي/ عمودي)، لهذا الحِراك، بما يجعل من سؤال التنوير سؤالاً (شعبويّاً/ نخبويّاً) في العالَم العربي، بما يحمل بين طياته بشارة كبرى، ناحية خُلاصات معرفية كثيرة وعديدة، يشارك فيها أناس عاديون، جنباً إلى جنب مع الفلاسفة والمفكرين؛ تفضي إلى خلاص عربي، يدفع باتجاه تطبيق عملي لقيم التنوير، التي لا تجعل من الإنسان العربي إنساناً فاعلاً وخيّراً في سياقه العربي فحسب، بل للإنسانية جمعاء.