محمد والقرآن


فئة :  قراءات في كتب

محمد والقرآن

يبدأ "رودي باريت" كتابه (محمد والقرآن) بتمهيدٍ للحالة الدينية التي أثرت في المحيط الاجتماعي للنبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وتحديداً التي لامست حضوراً قريباً من شخص النبي؛ فالمستوطنات اليهودية والتبشيرية المسيحية والآلهة عند العرب لامست حضورها في شخص النبي قبولاً أو رفضاً. وهذا ما سيعمل المؤلِّف على تبيانه في فصول لاحقة، إذ ستقوده استنتاجاته إلى التأثير الإيجابي لليهودية والمسيحية وما تحملانه من قيم دينية على شخص النبي، لا سيما ساعة انبثاق الإسلام وإشهاره وتداوله بين الناس؛ فقد أسهمت أفكار تأسيسية يهودية ومسيحية في تشكيل الإسلام، إضافة إلى أن كثيراً من الشعائر الإسلامية (مثل شعيرة الحج) أخذت أُطرها العامة من الممارسات العربية في فترة ما قبل الإسلام، رغم الرفض الإسلامي الشديد لكثير من الممارسات والشعائر العربية في الفترة السابقة لانبثاق الإسلام إلى الوجود، لناحية أنها شعائر وثنية مُناقضة للوحدانية التي أتت بها الديانة الجديدة.

وإذاً من إرهاص كموني للتدرِّج من المقدمات إلى النتائج، فإن "رودي باريت" يُكمن مسألة تأثّر النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالديانتين التوحيديتين السابقتين: اليهودية والإسلامية، والإسهام الكبير الذي لعبته هاتان الديانتان في بلورة النسق الإسلامي، لناحية تأثّر مُؤَسِّسِيهِ بكثيرٍ من تعاليم تينك الديانتين، وإن كانت معرفة النبي محمد بهما معرفة شفهية كما يفضي "رودي باريت"؛ فهو لا يفتأ يأتي على هذه المسألة تأكيداً مرة تلو الأخرى.

وبناء على ذلك، يبدأ بمعاينة الدين الإسلامي، بادئاً من مرحلة ما قبل النبوة والعوامل التي أثرّت في التكوين الذهني والنفسي لشخص النبي، معتمداً في سبر ذلك على الرواية القرآنية ذاتها، لأنها الرواية الأكثر حقيقة من غيرها من الروايات، لا سيما تلك الرواية الواردة في سورة "الضحى" في القرآن الكريم. وهنا يركز المؤلف على أن الاهتمام بالنبي (لا سيما بعد أن يأتي إلى المقدمات التي أدَّت به إلى أن يكون نبياً رسولا) قد زاد عقب "اتسّاع الدائرة التي يتحرك فيها ويؤثر عليها، وعندما شارفت حياته على نهايتها كان قد صار بالفعل شخصية عالمية".

وبإزاء ذلك، يسأل "رودي" سؤالاً حول ما آل إليه النبي محمد من تَبَنٍّ لفكرة التغيير الشامل؟.

لا يستبعد "باري" فكرة الظلم الاجتماعي الذي كان مستشرياً في مجتمع مكة يومذاك، ولكنه يبحث عن أسباب أخرى لانبثاق الإسلام في شخص النبي والدافعية الكبيرة التي جعلته يصدح بهذا الدين الجديد. وهنا يعود المؤلف إلى ما ذكرته آنفاً حول تأثير كل من اليهودية والمسيحية على النبي؛ فقد أسهمت هذه الإشعاعات في دفع النبي محمد إلى الإيمان بأنه مكلف من قبل الله لهداية قومه، كما الأمر بالنسبة لأنبياء اليهود والمسيحيين. ومن هذه الإشعاعات فكرة وحدانية الله وفكرة البعث والنشور ويوم القيامة والقص القرآني؛ فهذه جميعاً لها ًأول في الديانتين السابقتين على الإسلام.

وإذا كان لظاهرة كظاهرة (الأحناف) أن تلقى إعجاباً من قبل النبي، إلا أنه لم ينضم إليها ولم ينطو تحت مظلتها، بل أراد تجاوزها. فقد "فكَّر في إحداث تحوُّلٍ يشبه الذي حدث له هو لدى المكيين من بني قومه، ثم لدى سائر العرب، لقد شعر أنه مسؤول عن هداية الكافة إلى التوجّه الجديد، لقد آمن أنه مبعوث ومكلف بنقل هذه الحقيقة الإلهية لبني قومه، لكي يحملهم على سلوك الطريق المستقيم".

وبذلك بدأ تدفق الوحي أو التكليف بالرسالة السماوية، وبدأ النبي محمد ينشر تعاليم الديانة الجديدة.

وبإزاء هذا التدفق بدأت ملامح الديانة الجديدة بالظهور إلى العلن؛ فالتجربة المحمدية الأولى، لا سيما تلك المتعلقة بالوحي، لم تعد تجربة فردية محضة، فالدفق الشعوري المحمدي بدأ يتجلّى تعاليم دينية جديدة، وهذا ما أوجد صدمة لدى المجتمع الذي عاش فيه النبي؛ لذا تصادم معه هذا المجتمع بتكويناته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية؛ فالأسئلة الإشكالية التي طرحها الإسلام وقدم لها إجابات، شكلّت نوعاً من الخروج على المألوف المكِّي، لذا حُورِبَ النبي واعتبر خارجاً على العرف والتقليد الاجتماعي. وقد تضمن القرآن الكريم قصصا لأنبياء سبقوا النبي محمدا، للتدليل ـ من جهة- على أن ما تعرّض له النبي تعرض له الأنبياء السابقون من ظلم وعسف وعدوان على يدي بني قومهم. ومن جهة ثانية أتى هذا القصص القرآني كإشارةٍ على أنَّ هذه التواريخ السابقة ليست إلا من باب التدليل على حاضرية الخطاب الإلهي، فما جرى سابقاً وكأنّ المقصود به هو الحاضر الفعلي بين النبي محمد وقومه، فهو استشراف للحاضر أكثر منه استحضار للتاريخ. وقد خصَّ المؤلّف العلاقة بين النبي محمد وقريش بفصل كامل، تتبَّعَّ تطور العلاقة بينهما من حالة الاحتراب الذهني ابتداءً إلى حالة الاحتراب والحرب الواقعية، والتي خيضت فيها عدّة حروب بين المسلمين بقيادة النبي وبين قريش، وصولاً إلى صلح الحديبية الذي شكَّل انعطافة في العلاقة بينهما، إذ تمَّ الاعتراف بالنبي كقوةٍ سياسية مساوية لقوة قريش، ومنذ ذلك التاريخ أخذت العلاقة تأخذ بُعداً مغايراً لما سبق.

إضافة إلى ذلك، فقد حملت الرسالة الدينية الجديدة محاور أساسية حول اليوم الآخر [وهذا شيء غريب بعض الشيء على مجتمع عاصره النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، كان يعتبر الموت نهاية العالَم ونهاية الحياة، وأن لا بعث بعد الموت] وأن الموت ليس بنهاية للحياة، إنما هو تحضير لعالم جديد.

ومع تمدّد الدعوة الإسلامية والدين الجديد، لا سيما بعد هجرة النبي محمد إلى المدينة المنورة، كان لا بد من التعامل مع فئات مختلفة من الناس، تحديداً أتباع الدين اليهودي الذين كانوا متواجدين في المدينة. وقد أخذ هذا التعامل وسائل شتى ابتداء من التصالح وليس انتهاء بالتقاتل. فمن تغيير القِبْلَة من القدس إلى مكة، إلى الجدل حول مسائل عقدية خلافية، كان لا بد للعلاقة بين المسلمين واليهود أن تأخذ بعداً تصاعدياً وتنامياً تتابعياً في العلاقة بين ديانتين متجاورتين.

وهكذا شكّلت جملة قضايا كان من أبرزها التداخلات السياسية والاجتماعية والثقافية مع تجمعات أخرى، لا سيما بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، انعطافة كبرى في المسيرة النبوية، فقد حوّلت النبي إلى صاحب مهمة سياسية عوضاً عن مهمته الدينية. فـَ "في مكة كانت سلطته أو مرجعيته مقصورةً على الجماعة الصغيرة التي آمنت بدعوته؛ في حين ظل هو شخصياً تحت رعاية وحماية عشيرته. وعندما وصل إلى المدينة بعد أن تخلّى عن حماية العشيرة وذهب وحيداً إلى البيئة الجديدة؛ لم يجد في انتظاره أتباعه الذين سبقوه إلى الهجرة فقط؛ بل وجد أيضاً مؤمنين جُدُداً متكاثري العدد من أهل المدينة نفسها (وهم الذين سماهم فيما بعد: الأنصار)، وبين المجموعتين، وفي المدينة بشكل عام، كان عليه القيام بدورٍ سياسي. فحتى المدينيين الذين لم يسلموا، واليهود القاطنين بالمدينة، كانوا يدفعون النبي محمداً باتجاه الاضطلاع بمهمات سياسية".

وإذا وضعت هذه المسألة إلى جانب مسائل أخرى، فيعتبر ذلك دليلاً قوياً وقاطعاً على تنامي الدين الجديد وأخذه أبعاداً جديدة ما كانت بالحسبان؛ فخطوة تلو الأخرى أخذ هذا الدين بتجاوز الجغرافيا المتموضعة أصلاً في مكة والمدينة إلى ما يتجاوزهما، إيذاناً ببدءٍ إسلامي جديد، سيعمل على تغيير مجرى التاريخ العالمي كله وفي فترة زمنية وجيزة.


*الكتاب صادر عن شرق غرب للنشر وبدعمٍ من مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، بطبعة أولى في العام 2009م، من ترجمة الدكتور رضوان السيد.