السنة والإصلاح؛ تذكيرٌ بالتّذكير "إشكالية الوحي في كتاب السنة والإصلاح لعبد الله العروي"


فئة :  قراءات في كتب

السنة والإصلاح؛ تذكيرٌ بالتّذكير "إشكالية الوحي في كتاب السنة والإصلاح لعبد الله العروي"

السنة والإصلاح؛ تذكيرٌ بالتّذكير

"إشكالية الوحي في كتاب السنة والإصلاح لعبد الله العروي"

"لأن وحده من يملك ماضيه يملك حاضره"

فيرجيل

حاول الأستاذ عبد الله العروي في كتابه السّنة والإصلاح إقامة تجربة ذاتية يفهم من خلالها الوحي خارج السرديات التي كرسها التقليد، حيث إنه ومن خلال هذه التجربة، سيسعى للتّوجه نحو المصادر الداخلية لثَقافته باحثا فيها عن أَجوبة تُعيد تعريفه على النص الذي ينهل منه وجدانه، وبذلك التعرّف على الإمكانات الداخلية -المطمورة- للمفاهيم التي تَتَقَوّم بها هذه الثقافة.

إننا إذا ومن خلال هذا الكتاب، نقف على مُحاولةٍ للتّذكير بخصائص تناساها الوجدان الإسلامي، بل إن الأستاذ العروي ومن خلال مُقاربته لمسألة الوحي المحمدي يقُوم بعملية تَذكيرٍ بالتَّذكير؛ وذلك من خلال عمله على التّذكير بإبراهيمية محمد الذي يؤسس رسالته هو الآخر على الذّكر والتّذكر، وهذا ما سنتوقف عنده في ورقتنا من خلال التركيز مع الأستاذ العروي على أهمية إبراهيم داخل الذّاكرة التي ينطلق منها النبي محمد في دعواه وفي تأسيسه للإسلام.

سنرى كذلك مع الأستاذ العروي كيف سينتقل الوحي من منطق البدء الإبراهيمي نحو بدءٍ ثاني ذي صِبغةٍ موسوية تتوافق مع خَطّية الوحي ومنطِق الدّولة، محاولا بذلك الكشف عن الزّمانية المُتضمنة في الوحي نفسه، والتي تصدح بها عباراته.

1. الوحي، أو في استئناف إبراهيم

"إبراهيم هو الدّعامة، هو الأصل، هو الضّمان. وتجربة محمد صادقة مادامت إحياءً، تجديدا وتصديقا لنداء إبراهيم. هنا السر، وهنا المفتاح."

ع. العروي: سنة وإصلاح، ص110

يرى الأستاذ عبد الله العروي أن إبراهيم مُفارقة تاريخية تقطع وتبدأ في نفس الآن، عقوقه عين بِرّه، تيهُه تحرّر من الزمن واختزال للذاكرة في الحدث فيما سيبادر به؛ أي في رسمه لمدار القول التوحيدي على أساسٍ مُمانع ومتحدّ لناموس الكواكب وغيرها من النواميس الصامتة. يرصد الأستاذ العروي حادثة وقوف إبراهيم أمام أهله مُتحديا إياهم وما يعبدون من كواكب، مؤكدا أن إبراهيم وبمثل هذه الأفعال يطوي صفحة الماضي نحو آنٍ جديد يُقَوِّمه إله حيٌّ قيوم.[1] يَهجر* إبراهيم الماضي نحو الحُرّية، نحو الوحدة، ويصفُه العروي بالابن العاق للحضارة[2]، لكنه وبفعل عقوقه هذا سيكون أبا لجميع التّوحيديين، أبا لآدم ونوح وموسى وعيسى ومحمّد...[3] يكسر إبراهيم العاق الألواح ليرسم بذلك خطوط القطع مع الماضي، ويؤسس في نفس الوقت للعالم جديد. إنه آلية قطع وتأسيس؛ فهو يؤسس لوجودٍ متعالٍ ويفتتح بدُعائه زمن الكشف والرؤيا؛ أي الزمن الذي لا يتوقف فيه النّظر عند الحدود القشرية لهذا الفعل، بل يتعداه إلى ما وراءه.[4] فهو بهذا المعنى فاتحة لعالمٍ لن يقبل فيما بعد التعدد، بل إنه عالم سيتخاصم مع توابعه-التعدد- لاجتماعية ولن يُترك له بَعدَ إبراهيم القُدرة على عَقل هذه التوابع المتناثرة. لا يكون إذن استئناف القول في التوحيد ممكنا خارج الأفق الذي رسمه الخليل، بما هو زمن وذاكرة حافظة للقول داخلها، حيث إننا لا نستطيع تأسيس أي قول في الدين خارج ما سطره إبراهيم، إنه مبتدأ الكلام ومنتهاه. لقد طوى إبراهيم التاريخ في دواخله وصار مَن دونه من الأنبياء مجرد رجع صدى لتجرِبَتِه المُكتملة.

وبما أن إبراهيم هو أبُ الأمم، فتجربته الفريدة قابلة للتّكرار، لكن في صورتها الأصلية فقط، وهو عين ما يتحقق في التجربة المحمدية، فعلى غرار إبراهيم وعلى أثره يَختزل الإسلامُ الماضي بهدف نفيه وتجاوزه، [5] بل إننا مع الأستاذ العروي يمكن أن نقول إن الإسلام أو القرآن، هما أكثرُ الورثة الإبراهيميين هروبا عن الخطر الذي يترصد كل دعوى توحيدية؛ والحديث هنا عن الوثنية. يقارن العروي بين القرآن والكتابين التوحيديين الآخرين، ويخلص إلى أنهما مِهذاران وباطلان وأنهما لا يمثلان شهادة إبراهيم، [6] ويستعيد في هذا الصدد آراء المتكلمين المسلمين مشيدا بوعيهم إزاء المسألة المسيحية وتأكيدا منه على رجاحة قولهم؛ وعلى سبيل المثال يشير العروي إلى فصلهم بين عيسى المُوَحِّد والمسيح* بما هو صناعة هلنستية.[7]

يشكل إبراهيم عصب القول المُحمدي، ويحق لنا القول -مع العروي- أن محمد الفتى مَشروخ الوِجدان، القلق المذهول، الذي يجتاز في بدايته تجربة فريدة، تحاكي عين ما كان إبراهيم يعانيه، هو تكرار، واسترجاع لإبراهيم، وهو في تجربته حَدثٌ مُتَذكّر، هو الذّاكرة وهي تتذكر بدايتها الإبراهيمية.[8]

يستمد محمد إذن الشرعية من إبراهيم؛ أي من محاكاته وتعاطيه الصّادق مع الذاكرة الإبراهيمية الثاوية في تضاعيف قوميته، كما أن الانتساب إلى إسماعيل (ابن إبراهيم) كان له شديد الأثر على تصديق القوم له[9]. لم يكن مُمكنا للدّعوة المحمدية أن تتحقق خارج هذا الأفق الذي رُسم سابقا وهو ما يستدل عليه العروي من خلال تجربة ذهنية يدعو إليها السيدة التي يراسلها*، ويخلص من خلال هذه التجربة إلى أن الظروف كانت مواتية وكافية لإعادة إحياء ذلك المنسي الإبراهيمي الذي أسقط التاريخ بعض ملامحه.[10] وتظهر هذه القابلية كذلك حسب الأستاذ العروي في امتناع هؤلاء العرب (عرب الشّمال الغربي بالضّبط)- الذين ينتمي لهم النبي- عن اعتناق اليهودية أو النصرانية، رغم الاتصال الحاصل فيما بينهم وبين مصر والشّام*، مبرزا بذلك حضور الحافظة في أفئدتهم على نحو معارض لمنطق التاريخ ومكره. ليس العرب كلهم شعب بَدو حسب الأستاذ العروي، ويركز هنا على عرب الشمال الغربي اللذين ظهرت فيهم الرسالة، وهم الشّعب الذي لم يستسلم لسلطان الزمن والمصلحة، محافظين بذلك على ذاكرتهم وعلى فكرتهم الخاصة التي يراها العروي أصل المُمانعة وشرط ظهور الإسلام.[11]

2. الوحي، بين بدايتين:

يقيم الأستاذ العروي نوعا من التحليل التاريخي للمسألة القرآنية، مشيرا إلى كونه لا يَتقوّل على القرآن أبدا، بل إنه يعتمد المصدر القرآني نفسه؛ فـ "القرآن كُلّه تاريخ، تاريخ الماضي الغابر وتاريخ معاصر لعهد النبي. من يستطيع أن ينفي ما فيه من تطور وتدرج، مِن استثناء واستئناف، مِن قيد وإطلاق، إذ العبارة عن كل هذا واضحة مكررة.[12]

يتخذ الأستاذ العروي في تحليله لظّاهرة المحمدية شخصيتين مفهوميتين، يفسر بهما الدينامية التي ميزت الحدث المحمدي في عمومه، وهما إبراهيم الخليل كشخصية تمثل ما كان عليه النبي زمن البداية الأولى في مكة، ثم موسى كممثل للشّخصية المحمدية في بدايته الثانية في المدينة.

- مكة:

سبق لنا الإشارة إلى الضّرورات الواقعية والتاريخية التي صار بفعلها محمد تجربة مستكمِلة لإبراهيم، حيث إننا نرى مع الأستاذ العروي أن هذه التجربة تكون صادقت ما دامت إحياءً وتجديدا وبذلك تصديقا لنداء إبراهيم.[13]

يظهر التماثل الحاصل بين التجربتين في دقيق التفاصيل، ويذهب الأستاذ العروي على سبيل المثال إلى القول إن أمية محمد كانت مفروضة عليه بسبب أمية الخليل السابقة. يمكن أن نقول كذلك إنّ وعي محمد بخطر التجسيم وخطورته ودفاعه عن التوحيد ضد هذه التقاليد المجسمة صادر عن استشرابه للتجربة الإبراهيمية في براءتها.[14] يُماثل العروي بين إبراهيم المناهض للأوثان، وبين محمد الذي يعارض كُلّا من اليهودية والنصرانية التاريخيتين لما تحملانه من امتزاج طارئٍ مع الوثنية وعقائد التجسيد.[15]

توجه محمد في بداياته نحو الفرد، وهو كذلك نفس ما يحمله النداء الإبراهيمي، ويشير هنا العروي إلى الصلاة والصدقة على سبيل المثال، إذ يرى في الأولى استذكاراً وإحياءً للصِّلة التي تلاشت بفعل النسيان، والثانية تحررا من الغرائز التي تقود إلى متاهات الكفر والجهالة.[16] يؤسس محمد إذن لثورة فردية تهدف إلى تجاوز العصبية مؤكدا من خلال استقدامه لصفة القطع التي دشنها إبراهيم على ضرورة تجاوز حمية الجاهلية وتعصبها نحو سياق يكون فيه الفرد مسؤولا عن ذاته واعيا منه بأنه لا يملك من نفسه ملجأ عند ذويه، وأن لكل حسابٌ، ولكل صحيفةٌ.[17] يظهر النبي إذن في سياق هذه المماثلة المحمدية/الإبراهيمية مصلحا للوجدان ودافعا للأفراد نحو الانعتاق والتحرر، ويمكن في هذا السياق أن "تؤول الدعوة على أنها حركة إصلاحية أخلاقية تتوخى الإقناع بالتي هي أحسن وعلى مهل".[18]

- المدينة:

يرى العروي أن "الهجرة بداية، لكنها وفوق ذلك نهاية"[19]، إنها بداية الحضور المُوسوي في الساحة المحمدية، وهي نهاية يفرض فيها منطق التاريخ على إبراهيم أن يتوارى. تنطلق هذه التجربة بعد الرفض الذي طال الدعوى المحمدية من قبل أشراف قريش، ويعزو العروي هذا الرفض إلى تنطع أشراف القوم ورفضهم لفكرة محاسبة الذّات التي يقيم عليها محمد رسالته. يختار محمد مواجهة هذا النّكران الذي تعرّض له بالهجرة، ويبرر العروي هذا بأنه لم يكن يملك خيارا آخر غير اعتناق اليهودية أو النصرانية وهو أمر كان مستحيلا بالنسبة له.[20]

تحرك النبي إذن بفعل هجرته نحو الوقوع في التاريخ وفيما يُواكبه من عنف ومكر[21]؛ لأنه في المدينة يصير "على عتبة الإمبراطورية. نحن إذن في كوكب آخر".[22] فقد كان النبي في مكة وحيدًا ما فتح له الباب على الاكتشاف والسعادة بإيجاد الله. أما في المدينة، فقد صار مكرما ومحاطا بالأتباع والأنصار ما جعله يحتك أكثر بالإنسان ويشقى به.[23] تحمل الهجرة في هذا السياق دلالة واحدة حسب الأستاذ العروي، وهي أن "الدعوى لا تجدي بمفردها"[24]؛ وذلك راجع لعناد الإنسان وقساوة طبعه.

يتقمص النبي إذن رداء موسى، ويؤسس من خلال طابعه الزّعامي لاجتماع بشري جديد، ولكيان سياسي يتقوم بأوامر الله ورسائله، هذه المدينة الجديدة التي لا تحتاج لمُصلح مهَذِّب كما كان الحال في مكة، بل هي أحوج إلى حاكم وقائد يدبر شؤونها.[25] تعيد إذن الهجرة نحو المدينة تركيب الشخصية المحمدية، فحتى عندما يقرر النبي العودة إلى مكة، فإنه سيحمل معه المدينة وما تُمثل، إذ الذي سينتصر على مكة فيما بعد هو محمد في هيئته الموسوية المكتملة.

خاتمة:

مثلت التجربة الإبراهيمية ركيزة أساسية داخل المشروع المحمدي، بل التوحيدي في عمومه، حيث إننا نرى أن محمدا لم يتجاوز في تأسيسه أيا مما كان لإبراهيم السبق في إنشائه. فقد حاول العروي من خلال تحليلاته البحث عن مظاهر التكرار التي يقيمها محمد في سياق تأسيسه للقول التوحيدي داخل زمكانيته، مركزا بذلك على أهمية إبراهيم بما هو ذاكرة نسقية تقطع مع إمكان تذكر ما قبلها وتحبس المستقبل في دواخلها.

كما أننا سنكتشف مع الأستاذ العروي زمانية الوحي الدّاخلية، والتي يعبر عنها العروي من خلال استقدام الشخصيتين الإبراهيمية والموسوية، حيث أن الأولى تُمثل مرحلة الإصلاح الأخلاقي الذي يتخذ اللّين واللّطف سُبلا للتّبليغ. في حين تُشكل الثانية مرحلة التّأسيس السياسي الذي يصير فيه للحكم والشريعة منزلة أعلى.

[1] العروي عبد الله، السنة والإصلاح، ط1، (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2008)، ص52

* هجران إبراهيم لأهله، وتُستعمل هُنا لدلالة على القطيعة التي أحدثها إبراهيم مع التصَوّرات الوثنية.

[2] المصدر نفسه، ص54

[3] المصدر نفسه، ص55

[4] المصدر نفسه، ص59

[5] المصدر نفسه، ص71

[6] المصدر نفسه، ص78-79

* يشير العروي في هذا السياق إلى أن الصيغة التي يتخذها المسيح في المسيحية هو نابع من تأثيرات الهلنستية التي لحقت سرديته زمن تمسيح الدولة الرومانية مع قسطنطين. يتحدث هنا العروي عن سقوط المسيح في التاريخ؛ أي إنه صار خاضعا لمنطق الضرورة والحاجة، وغير مترفع عنه كما كان إبراهيم. كما يشير العروي إلى أن الدولة الرومانية غيرت في المسيحية أكثر مما غيرت المسيحية في الدولة الرومانية. المصدر نفسه، ص82

[7] المصدر نفسه، ص ص83-84

[8] المصدر نفسه، ص105

[9] المصدر نفسه، ص109

* والتي تفيد أنها ستفترض أن يكون إبراهيم الخليل جَدّا لها وأنها من نسل إسماعيل كما الرسول، وأنها تحكم بالسلب على ما وجدت عليه البشرية، تماما مثل إبراهيم، وأنها لا تستسيغ بطبعها عبارات من قبيل "أم الله" "ابن الله" "ثالث ثلاثة"...

[10] المصدر نفسه، ص ص99-100

* يجب الأخذ هنا بعين الاعتبار التأثير الهلنستي الحاصل في هاتين الحضارتين.

[11]المصدر نفسه، ص97

[12] المصدر نفسه، ص119

[13] المصدر نفسه، ص110

[14] المصدر نفسه، ص70

[15] المصدر نفسه، 71

[16] المصدر نفسه، ص110

[17] المصدر نفسه، ص111

[18] المصدر نفسه، 112

[19] المصدر نفسه، 119

[20] المصدر نفسه، 120

[21] المصدر نفسه، 118

[22] المصدر نفسه، 119

[23] المصدر نفسه، 123

[24] المصدر نفسه، 119

[25] المصدر نفسه، 120