الشخصية العربية وأزمة النهضة


فئة :  مقالات

الشخصية العربية وأزمة النهضة

يعيش العالم الإسلامي منذ قرون طويلة في حالة من التخلف والتراجع على كافة الأصعدة، رافق ذلك حالة من الجمود الفكري، جعلته غير قادر على تجاوز هذا الواقع، وقد بدأ منذ القرن السادس عشر في الشعور بالضعف أمام التقدم العسكري للغرب، ومن ثم كانت هناك بعض محاولات للإصلاح في العديد من الدول الإسلامية، سواء الواقعة تحت الخلافة العثمانية أم الخارجة عن سلطتها كالمغرب العربي، لكنها لم تسفر عن نتيجة جوهرية، ويركز هذا البحث على واقع المجتمع العربي ممثلًا في المشرق العربي، والذي بدأ في الانتباه إلى وجود فجوة حضارية بينه، وبين الغرب كما أدرك أهمية العامل الثقافي في إنتاج هذه الفجوة، وكان ذلك منذ دخول الحملة الفرنسية إلى مصر نهاية القرن الثامن عشر، ثم ما تبعها من بعثات علمية ساهمت في التعرف أكثر على الحضارة الغربية، وقد أثار هذا الاتصال عدة استجابات متباينة داخل المجتمع العربي تحمل كل منها محاولات لتشخيص أسباب أزمة الواقع العربي وتصورات لكيفية إصلاحه، وقد تمثلت هذه الاستجابات في مجموعة من التيارات الفكرية، لكن الواقع العربي ظل منذ ذلك الحين، وحتى الآن مأزومًا، ولم يستطع المجتمع الخروج من كبوته رغم تلك المحاولات؛ الأمر الذي جعلنا نتساءل عن أسباب ذلك، وهل من الممكن أن تكون طبيعة التكوين النفسي والفكري للفرد العربي، وهو ما أسميناه الشخصية العربية، تعد سببًا في تعثر النهضة والإصلاح في المجتمع العربي؟

من هنا بدأنا محاولة الإجابة عن هذا السؤال من خلال عدة مراحل، وهي أولًا متى بدأ العقل العربي في اليقظة لواقعه المأزوم، ثم هل توجد شخصية عربية لها سمات مشتركة، ثم ما هي سمات هذه الشخصية، وأخيرًا وضحنا العلاقة بين طبيعة الشخصية العربية طبقًا للسمات المذكورة، وبين تعثر النهضة في المجتمع العربي.

مقدمة:

لا يحتاج الناظر إلى واقع المجتمع العربي لكثير من التفكير والتمحيص والأدوات، لكي يدرك من خلالها طبيعة هذا الواقع المأزوم في كل الجوانب وعلى جميع المستويات؛ فعلى مستوى الاقتصاد لازال الكثير من أبنائه يعيشون تحت خط الفقر، ولازالت موارده مهدرة وطاقاته معطلة، ولازالت العديد من دوله تعجز عن الإنتاج وتعيش على ما ينتجه الغرب من منتجات، وعلى مستوى السياسة لازالت الديمقراطية لم تترسخ بعد في ثقافته ونظمه ومؤسساته بشكل كامل، وعلى مستوى الاجتماع لازالت مجتمعاتنا تموج بالصراعات والخلافات التي تشق صفوفه، وتحدث الكثير من التصدعات في جسده، ما بين صراعات طائفية ومذهبية وسياسية، وعلى مستوى الفكر لازالت مجتمعاتنا غير قادرة على إنتاج الأفكار، ولازالت العقول تحمل الكثير من القناعات وأنماط التفكير التي تقف عائقًا أمام تقدمها. ورغم سهولة الاتفاق حول طبيعة الواقع المأزوم، إلا أن هناك صعوبة في الاتفاق حول أسباب هذا الواقع، إذ تختلف الآراء حول تلك الأسباب نظرًا لطبيعة الأزمة المركبة، ولوجود الكثير من العوامل والأسباب المتباينة والمتداخلة، لكننا نود هنا أن نبحث عن العلاقة بين متغيرين؛ بين طبيعة الشخصية العربية، وبين واقعها المأزوم، حيث يتبلور سؤالنا البحثي بشكل واضح في الآتي:

هل تعدّ طبيعة الشخصية العربية سببًا في تعثر نهضتها؟

ويتفرع عن هذا السؤال الرئيس، عدد من الأسئلة الفرعية تمثل محاور البحث، وهي:

-  متى تنبّه العقل العربي إلى واقعه المأزوم، وبدأ في البحث عن أسباب النهضة؟

-  هل هناك شخصية عربية لها سمات مشتركة؟

-  ما هي سمات الشخصية العربية؟

-  ما العلاقة بين تلك السمات، وبين الواقع المأزوم والنهضة المتعثرة؟

وعلى ذلك، سوف نتناول موضوعنا من خلال المحاور الرئيسة التالية:

أولًا: يقظة العقل العربي وسؤال النهضة

مرّت الدولة الإسلامية منذ نشأتها بمراحل عديدة، اتسم بعضها بالقوة وبعضها بالضعف، وشهد بعضها حالة انتشار وشهد البعض الآخر حالة انحسار، وكما شهدت وقتًا من الوحدة لم يدم طويلًا شهدت أوقاتًا وأزمنة من الفرقة كانت هي السمة الغالبة منذ نهايات القرن الأول الهجري. ورغم وجود حلقات من الاتصال بين العالم الإسلامي، وبين الغرب في فترات طويلة من التاريخ، سواء عن طريق الحروب والمواجهات العسكرية، أو عن طريق التعرف على ثقافة الغرب وفلسفته في بعض الفترات، إلا أن اللحظة الضاغطة التي مثلت تحدّيًا أمام العقل الإسلامي، وجعلته ينتبه إلى الفجوة الكبيرة بينه وبين الغرب، وجعلته يدرك أهمية البعد الثقافي في إحداث هذه الفجوة، لم تأت إلا منذ القرن الثامن عشر وما بعدها، والذي كان قد سبقته عدة قرون من الشعور بالطمأنينة وعدم الحاجة إلى الإصلاح، سواء في بعض مراحل الضعف أو التقدم العسكري للدولة الإسلامية، والذي لم يدم بسبب حالة الجمود الفكري الذي كان يعيشها المجتمع، مما جعله عرضة للحركة الاستعمارية الأوروبية في العصر الحديث.

وكانت محاولات أوروبا الاستعمارية بدأت منذ القرن السادس عشر، وحتى القرن العشرين على العديد من البلاد الواقعة تحت سلطة الخلافة العثمانية والبلاد الإسلامية الأخرى التي تخرج عن سيطرتها مثل بلاد المغرب العربي؛ لكننا هنا سوف نركز على بدايات الاتصال بين الغرب ودول المشرق العربي، والذي بدأ مع الحملة الفرنسية على مصر في العام 1798، إذ بدأ منذ ذلك الحين إدراك الفجوة الحضارية الكبيرة بين الشرق والغرب، مما أثار السؤال الذي أرق المجتمع العربي من وقتها وحتى الآن وهو، لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟ منذ ذلك الحين بدأ المجتمع العربي في الاقتراب من الحضارة الغربية والسعي في التعرف على مكوناتها ومنطلقاتها الفكرية، وقد ساهمت في هذا الاقتراب البعثات العلمية التي بدأت تزداد لهذا الغرض من بدايات القرن التاسع عشر.

 بدأ المجتمع العربي في الانتباه إلى وجود فجوة حضارية بينه وبين الغرب، كما أدرك أهمية العامل الثقافي في إنتاج هذه الفجوة

لكن ولأن هذا الاقتراب تم في سياق حملة استعمارية، فقد تسلّل شعور بالخطر والخوف على الهوية من جانب شريحة كبيرة من هذا المجتمع، الأمر الذي تسبب في أن يكون هذا التعرف على الحضارة الغربية مشوبًا بالحذر، ومن ثم الرفض لكل المنتج الحضاري الغربي من جانب تيار كبير من المجتمع، وبجانب هذه الاستجابة من هذا التيار كانت هناك استجابات أخرى تمثلت في تيارين فكريين رئيسين؛ فقد كان هناك تيار مرحب بالحضارة الغربية وداعِ إلى الاقتداء بها بشكل مطلق، وتيار آخر تمثل في اتجاه توفيقي إصلاحي يرى ضرورة الاستفادة من الحضارة الغربية، لكن مع محاولة تكييفها مع واقع المجتمع، وضرورة القيام بحركة إصلاح ديني تجعل النصوص الدينية متوافقة مع العصر.

وعلى الرغم من تعدد الاتجاهات ومحاولات الإصلاح المتباينة والمختلفة، إلا أن الحقيقة المؤكدة هو أن المجتمع العربي لم يستطع حتى الآن الخروج من كبوته منذ أن تنبّه إليها قبل أكثر من قرنين من الزمان، الأمر الذي يجعل من السؤال المطروح منذ بدايات القرن التاسع عشر، وهو: لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا، قائمًا يبحث عن إجابة حتى اللحظة!

 

ثانيًا: الشخصية العربية ومحدداتها

في وقت سابق خلال القرن التاسع عشر، كان هناك اهتمام حول معرفة سبب التنوع والاختلاف بين البشر أو بين مجتمع وآخر في جوانب عديدة بيولوجية واجتماعية وثقافية، رغم انحدار البشر جميعًا من أصل واحد، ومن أجل الإجابة عن هذا السؤال تأسس علم الأنثروبولوجيا الذي يسعى إلى دراسة الإنسان دراسة شمولية، ليتعرف على السبب في تلك الاختلافات، وقد ردّ السبب إلى اختلاف البيئة الذي تنتج عنه استجابات متنوعة من جانب الأفراد، تختلف حسب طبيعة البيئة التي يعيشون بها، ويرجع ذلك إلى قدرة الإنسان على التكيف بناءً على ما يمتلكه من لغة ومن قدرات ذهنية وبدنية تمنحه هذه الإمكانية، ومن هنا نتج عن اختلاف طبيعة وظروف كل بيئة أن اختلف البشر من مجتمع لآخر في جوانب عديدة بداية من التكوين الجسماني إلى ثقافة المجتمع السائدة، وطبيعة التنظيم الاجتماعي، وطبيعة العلاقات الاجتماعية القائمة داخل كل مجتمع.

وعلى الرغم من الاختلاف حول فكرة الشخصية القومية ورفض البعض لفكرة وجود سمات مشتركة تجمع بين أفراد كل مجتمع، إلا أنه على الجانب الآخر توجد الكثير من الآراء التي ترى وجود ذلك الخط المشترك الذي يميز الأفراد المنتمين إلى كل مجتمع عن الآخر بسبب بعض العوامل منها اللغة والدين والتحديات المشتركة والواقع المشترك الذي يعيشون فيه والظروف والتأثيرات المتشابهة التي يتعرضون إليها.

ومما يؤكد عليه علم الاجتماع، أن هناك سمات وثقافة مشتركة تميّز كل مجتمع عن الآخر، وحتى داخل المجتمع الواحد توجد ثقافات فرعية مشتركة تميز كل بيئة عن الأخرى، حيث تختلف بعض القيم وأشكال التنظيم الاجتماعي في البيئة الحضرية عنها في البيئة الريفية عنها في البيئة البدوية، وينتج ذلك عن اختلاف طبيعة وظروف وتحدّيات كل بيئة مما ينتج قيمًا وثقافة معينة تتطلبها تلك البيئة، ولا يعني ذلك أن هناك تماثلا تامًّا في السمات المميزة لكل مجتمع، ولكن هناك خط رئيس وخطوط فرعية، أو كما أطلق عليها الدكتور السيد ياسين أستاذ علم الاجتماع "النسق الرئيسي والأنساق الفرعية" في إطار حديثه عن الشخصية العربية.

على مستوى الفكر، لازالت مجتمعاتنا غير قادرة على إنتاج الأفكار، ولازالت العقول تحمل الكثير من القناعات وأنماط التفكير التي تقف عائقًا أمام تقدمها

وقد أصبح الاتجاه نحو دراسة الشخصية القومية متزايدًا خلال النصف الأول من القرن العشرين، وتحديدًا بعد الحرب العالمية الثانية من جانب بعض الدول، والتي كانت تنطلق من "التسليم بوجود حد أدنى من التشابه في الاتجاهات وأنماط التفكير والقيم والاستجابات لدى أبناء المجتمع الواحد أو القومية الواحدة، بحكم وجودهم معًا في ظل ظروف متشابهة"[1]، كما تزايدت خلال النصف الثاني من القرن العشرين وأثناء الحرب الباردة بهدف دراسة الطابع القومي لكل شعب والسمات المميزة له بهدف الاستعداد في حالة قيام الحرب، كما أنه قد أُجريت العديد من الدراسات الميدانية من قبل بعض المراكز البحثية في المجتمع العربي لدراسة الشخصية القومية، ومنها دراسة بعنوان (المصري المعاصر) للدكتور أحمد زايد أستاذ علم الاجتماع، وأيضًا دراسة للدكتور جابر عبد الحميد أستاذ علم الاجتماع الذي قام بعمل دراسة مقارنة بين الشخصية المصرية والشخصية العراقية من خلال عينة من المجتمعين، ليصل في النهاية إلى وجود ثلاث عشرة صفة مشتركة بين أفراد العينتين.[2]

من هنا يمكننا القول بوجود خط رئيس يميز الشخصية العربية يتمثل في بعض السمات الفكرية والنفسية نظرًا لوجود العديد من العوامل المشتركة من أهمها اللغة والدين والموروث الثقافي والحضاري والتجربة التاريخية المشتركة والتحديات المشتركة، بالإضافة إلى العديد من الخطوط الأخرى الفرعية التي تميز كل مجتمع قطري عن الآخر، وتميز كل طبقة وبيئة عن الأخرى داخل المجتمع القطري الواحد، ونود أن نؤكد هنا على أهمية عامل الدين كمحدد رئيس للشخصية العربية؛ فالدين الإسلامي يحتلّ مكانة كبيرة في المجتمع العربي، ويتمتع بدور مركزي في تحديد المنطلقات التي ينطلق منها العقل، وفي تحديد تصوراته وثقافته وقيمه وسلوكياته، وقد أصبح الدين بما له من دور مركزي في المجتمع العربي من أسباب الأزمة الرئيسة التي يحياها المجتمع؛ ليس لكونه غير صالح للحياة اليوم، أو لأنه يحمل بداخله عوامل الأزمة، ولكن لأن قراءته من قبل المؤسسات ورجال الدين المعبرين عنه لم يكن على الوجه الذي يجعل منه رافعة للتقدم والنهوض، فلم تحدث جهود تجديدية تسعى إلى الولوج إلى روح النصوص لا إلى ظاهرها، حيث تجعل الدين متوافقًا مع العصر دافعًا ومعينًا نحو التقدم لا عائقًا أمامه، وهكذا وقفت الأمة موقف الجمود بين نقطتين؛ فهي لم تستطع تجاوز الدين والبحث عن مرجعية أخرى من الأفكار تصلح لأن تكون أساسًا للنهوض، ولا هي استطاعت قراءة الدين بشكل يمكّنها من ذلك.

وعلى ذلك، نستطيع أن نرسم بعض ملامح الشخصية العربية، ونصف بعض سماتها التي لها علاقة بتعثر نهضتها، من خلال المحور التالي.

ثالثًا: سمات الشخصية العربية

1- غلبة العاطفة وغياب العقلانية:

يغلب على العقل العربي النزعة العاطفية، حيث تصبح هي المحركة لسلوكه والمحددة لمواقفه؛ فالعلاقات غالبًا في إطار المجتمع العربي تحكمها المعايير الشخصية، وتتحكم مشاعر الحب والكره والانتماء الديني والقبلي والوطني في الممارسات والمواقف أكثر مما يتحكم فيها المنطق والعقل، فالوهم والخرافة في مجتمعاتنا قادرة على أن تتحكم فيها وتشكل أفكارها وتحدد سلوكها بقدر ما تتحكم فيها الحقائق، بل ربما أكثر، والشخصية العربية بطبيعتها تميل إلى الارتجالية، وتتهرب من النظام قدر الإمكان، ولا تعطي قيمة للأسباب بقدر ما تعطيها لأمور خارجة عن الإرادة كأن تميل إلى تفسير أسباب المشكلات، إما إلى مؤامرات خارجية أو قوى غير طبيعية وهكذا، ويؤدي هذا النمط من التفكير إلى غياب الحقيقة عن حياتنا بشكل كبير بسبب غياب المنطق، أو تغييبه في تفكيرنا وفي حكمنا على الأشياء وتقديرنا للأمور، كما يؤدي إلى السطحية في تشخيص المشكلات وعدم القدرة بالتالي على الوصول إلى حلول جذرية وناجحة لها.

 تسلّل شعور بالخطر والخوف على الهوية من جانب شريحة كبيرة من هذا المجتمع، الأمر الذي تسبب في أن يكون هذا التعرف على الحضارة الغربية مشوبًا بالحذر، ومن ثم الرفض لكل المنتج الحضاري الغربي من جانب تيار كبير من المجتمع

2- النوستالجيا والتمسك بالماضي:

من سمات الشخصية العربية كذلك هو ذلك الحنين دومًا إلى الماضي، والرغبة في استعادة أمجاده والنظر إليه، باعتباره النموذج المثالي الذي يتمنى أن يعود، ورغم بروز هذه السمة في التيارات الإسلامية بشكل كبير من حيث تمسكها بالتجربة التاريخية للدولة الإسلامية، ووقوفها على اجتهادات الفقه القديم واعتبارها بأن ذلك هو أقصى ما يمكن الوصول إليه، إلا أن الناظر في أحوال المجتمع العربي يرى أن الحنين إلى الماضي ورؤيته بصورة مثالية هو سمت الغالبية العظمى من أبناء هذا المجتمع، وقد تناول العديد من المفكرين هذه السمة، فيقول علي أحمد سعيد(أدونيس) بأن "شخصية العربي كثقافته تتمحور حول الماضي"[3]، كما يصف هذه السمة أيضًا الدكتور سيد عويس قائلًا: "إننا كشعب، على وجه العموم، نعيش في الماضي ... كما نعيش في الحاضر أكثر مما نعيش في المستقبل"[4]، وربما يأتي هذا الشعور بالحنين إلى الماضي وضرورة التمترس خلف أسواره إلى الرغبة في الهروب من الواقع والتخفيف من قسوة الإحساس بالعجز وضعف الإرادة تجاه المشكلات القائمة، وعدم القدرة على تحقيق تقدم يعمل على التقليل من تلك الهوة الحضارية التي يقع فيها المجتمع.

 يؤكد علم الاجتماع، أن هناك سمات وثقافة مشتركة تميّز كل مجتمع عن الآخر، وحتى داخل المجتمع الواحد توجد ثقافات فرعية مشتركة تميز كل بيئة عن الأخرى

3- نقصان التقدير الذاتي:

ربما يعود السبب في الكثير من المشكلات والظواهر الموجودة في المجتمع إلى سبب خفي، وهو امتهان الإنسان وعدم الشعور بقيمته في المطلق؛ فكثيرًا ما نجد في مواقف كثيرة وبصور مختلفة أن يتم معاملة الفرد في المجتمع بشكل يفتقد إلى الاحترام والتقدير، وقد يصل في بعض المواقف إلى حد الإيذاء البدني أو الاعتداء على الحياة نفسها، فقد نجد هذا السمت في تعامل الأفراد مع بعضهم البعض أو نجده في تعامل الدولة ومؤسساتها مع الأفراد، وقد يفسر البعض كل موقف من هذه المواقف على حدة؛ فتارة يفسرها بغياب الديمقراطية أو بسبب الفساد في قطاع ما، أو داخل مؤسسة بعينها، لكن أظن أن الأمر أعمق من هذا، فربما تجد نفس الفرد الذي تم الاعتداء على كرامته أو على بدنه في موقف ما يقوم هو الآخر بنفس التصرف في موقف مختلف، إذا ما أُتيحت له الفرصة، وهذا ما يجعلنا نفسر الأمر بأن الفرد في المجتمع العربي يفتقد إلى احترام الإنسان في المطلق ككائن خلقه الله مكرمًا أيّا ما كان أصله أو شكله أو ديانته.

يمكننا القول بوجود خط رئيس يميز الشخصية العربية يتمثل في بعض السمات الفكرية والنفسية نظرًا لوجود العديد من العوامل المشتركة من أهمها اللغة والدين والموروث الثقافي والحضاري والتجربة التاريخية المشتركة والتحديات المشتركة

4- تقديم القوة على المعرفة:

يسود داخل المجتمع العربي نظرة خاصة نحو مفهوم القوة، فتتمثل غالبًا في القوة المادية التي تعتمد على قوة السلاح أو العضلات أو المال، وربما يفسر لنا هذا جانبًا من سيطرة مفهوم الجهاد لدى التيار الإسلامي برمته حتى الآن، والذي لازال يرى أن امتلاك القوة المادية، سواء على مستوى الجماعة أو الدولة هي التي ستحقق له السيادة والتقدم على الآخر، وعدم نظرته للجهاد على أنه وسيلة، وليس هدفًا في حد ذاته، وأنه في العصر الحالي توجد العديد من الوسائل لنشر الدين وتعريف الآخر به غير وسيلة الغزو ودخول البلدان الأخرى لنشر الدين عن طريقه، ولازال الشعور بأن امتلاك القوة المادية هو رمزٌ للعزة والكرامة، بينما يقل في المقابل تقدير العلم والمعرفة وعدم اعتبارها أنها في الوقت الحالي هي السبيل للتقدم والوسيلة للسيطرة وتحقيق النهضة بشكل أساسي، وقد تحدث عن هذا الأمر عالم الاجتماع الأمريكي تالكوت بارسونز Talcott Parsons في إطار نظريته عن الفعل، حيث حدد أربعة عناصر يتكون منها نسق أي فعل، وهي: الجسد والشخصية والمجتمع والثقافة، ويقول بأن نسق الفعل الذي يملك قدرًا أكبر من الثقافة يتحكم ويسيطر على النسق الذي يمتلك قدرًا أكبر من الطاقة والمعبر عنها في النظرية بالجسد[5]، وهكذا فإن الدول التي تملك قدرًا أكبر من الثقافة والمعرفة، تستطيع أن تسيطر على تلك التي تمتلك قدرًا أقل، ولو امتلكت قدرًا من الطاقة أو القوة.

من سمات الشخصية العربية كذلك هو ذلك الحنين دومًا إلى الماضي، والرغبة في استعادة أمجاده والنظر إليه، باعتباره النموذج المثالي الذي يتمنى أن يعود

5- الطبيعة المحافظة والنزعة السلفية:

نقصد هنا بالطبيعة المحافظة والنزعة السلفية نمطا معينا من التفكير، وليس مجرد خيارات فقهية، وهذه الطبيعة المحافظة موجودة في كل المجتمعات، وفي كل الأزمنة وتمثلها اتجاهات معينة، وهذا النمط له عدة مظاهر؛ منها التمسك بالسائد وتعظيم الموروث، ورفض التغيير بدرجة كبيرة، كما يرفض أصحاب هذا النمط الفكر النقدي والتغيير الثوري الجذري، ويسعى دائمًا إلى الحفاظ على الأوضاع القائمة والوقوف ضد محاولات تغييرها أو تطويرها، وهذا النمط من التفكير يعد هو النمط السائد بشكل كبير في المجتمع العربي، ولا يقتصر فقط على التيارات الإسلامية، ولكنه نمط تشترك فيه العديد من التيارات وشرائح واسعة من المجتمع، حتى وإن بدا بأشكال مختلفة، وقد يعود هذا الأمر إلى سيطرة التيار المحافظ من بدايات الدولة الإسلامية، عندما انتصر المذهب الحنبلي الذي يأخذ بظاهر النصوص، ويرفض التأويل وإعمال العقل في تفسيرها، على التيار العقلاني الذي يتمثل في المعتزلة الذين يعلون من قيمة العقل، نتيجة أسباب عديدة من ضمنها تدخل الإرادة السياسية التي كانت في جانب الاتجاه المحافظ في وقت من الأوقات، والتي ساهمت في تقويض المذهب المعتزلي، وانحسار انتشاره، وسيادة النزعة السلفية والفكر المحافظ في الأمة، ولذلك فالمجتمع العربي في عمومه يتسم بهذه النزعة السلفية، ويسيطر عليه النمط المحافظ، الذي يرفض التغيير ويعتبره هدمًا للثوابت، وإن كان لا يلتزم بها على الجانب الفردي بالضرورة؛ فالعقل العربي عمومًا يكتفي بظواهر الأمور في كل شيء، ولم يعتد على الولوج على العمق، وربما يخاف من ذلك حتى لا يصدم في قناعاته ولا أفكاره التي تشكل عقله، فهو عقل لا يجرؤ على طرح الأسئلة، ويزهد في غير المعتاد بالنسبة إليه، ويسعى دائمًا إلى الاستقرار في مكانه ولو كان في القاع!

ولازال الشعور بأن امتلاك القوة المادية هو رمزٌ للعزة والكرامة، بينما يقل في المقابل تقدير العلم والمعرفة

6- تقديس الاشخاص والأفكار:

تأتي هذه السمة كنتيجة للسمات السابقة، فالعقل العربي يفتقر إلى الشعور بالنجاح والقوة، ويشعر بالعجز والخوف باستمرار، ومن ثم يبحث عن بعض العلامات التي يهتدي بها، وتمنحه شعورًا بالوجود والقيمة، كما أنه عاجز عن إنتاج المعرفة وتحقيق إنجازات حقيقية؛ ولذلك فهو دائمًا ما يحمل قدرًا زائدًا من التقدير، والذي يصل إلى حد التقديس، لبعض الأشخاص الذين يمثلون في تاريخه علامة بارزة، ولما يحملونه من أفكار كذلك. غير أن التقدير هو حالة موضوعية تتسم بالاتزان، لا تقوم على الاتّباع الأعمى والثقة المطلقة، ولا تمنع من المراجعة والمخالفة، ولا تتصف بالمبالغة الشديدة في الإيجابيات، ولا تتغافل عن السلبيات، بينما التقديس يضع هالة حول الشخص أو الفكرة يحول دون رؤية عيوبها وأوجه قصورها، كما يحول دون نقدها ومخالفتها، بل ويجعلها من المحرمات!

 فالنهضة تحتاج إلى امتلاك الجرأة على التفكير أولًا، تحتاج إلى ذلك العقل الواعي القادر على إدراك واقعه ومعطياته وتحدياته، القادر على تشخيص مشكلاته بشكل دقيق

رابعًا: علاقة الشخصية العربية بتعثر النهضة

تتمثل هذه العلاقة ببساطة في غياب المقومات اللازمة للتغيير والنهضة، والتي تتعلق بشكل أساسي بالمقومات الفكرية والنفسية للفرد، وليس فقط بالمقومات المادية؛ فالنهضة تحتاج إلى امتلاك الجرأة على التفكير أولًا، تحتاج إلى ذلك العقل الواعي القادر على إدراك واقعه ومعطياته وتحدياته، القادر على تشخيص مشكلاته بشكل دقيق، تحتاج إلى عقل قادر على ممارسة النقد الذاتي لأقصى درجة، بهدف الوصول إلى الحقائق لا مجرد الاكتفاء بالأوهام التي تجعله يتقبل واقعه ويتغافل عن مشكلاته وعيوبه وأسبابها، تحتاج النهضة إلى القدرة على التجديد، والتجديد لا يأتي إلا من خلال إدراك الماضي ودراسته بعين ناقدة ونفس بعيدة عن التحيز ونظرة موضوعية تبتعد عن إضفاء هالات القداسة على الأفكار والأشخاص، النهضة تحتاج إلى قدرة على اكتساب العلم والمعرفة، وعلى إنتاجهما واستخدامهما، وقبل ذلك على تقدير قيمة المعرفة والنظر إليها على أنها أساس التقدم في العصر الحديث، كما تحتاج النهضة بشكل ضروري إلى حركة تجديد وإصلاح دينية حقيقية وجادة وواعية، وإلى توفير مناخ من التفاهم والحوار والقدرة على التعايش ونزع فتيل الاستقطاب والتصدع الداخلي في المجتمع.

خاتمة:

من خلال المحاور السابقة، والتي حاولنا من خلالها البحث عن العلاقة بين طبيعة الشخصية العربية والنهضة المتعثرة في المجتمع العربي، والتي بدأت المحاولات التي تسعى إلى تحقيقها منذ بدايات القرن التاسع عشر في المشرق العربي، وتحديدًا منذ قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر، وملاحظة الفجوة الكبيرة بين الواقع العربي والغربي، والانتباه لأهمية البعد الثقافي وعلاقته بهذا الواقع المأزوم، وتبين لنا أنه هناك سمات مشتركة للشخصية العربية تمثل خطًا رئيسا لا ينفي وجود العديد من الخطوط الفرعية الأخرى التي تميز كل مجتمع قطري عن الآخر، وتميز بعض الجماعات داخل المجتمع القطري ذاته، ورأينا أن الشخصية القومية، رغم اعتراض البعض عليها، إلا أنها حقيقة واقعية تم إثباتها من خلال العديد من الدراسات الميدانية، ثم رأينا أن الشخصية العربية تتسم ببعض السمات التي تقف عائقًا أمام نهضة المجتمع، وتجعلها عاجزة عن إحداث النهضة والتقدم، وهي أن الشخصية العربية تتحكم فيها العاطفة ويغيب عنها التفكير العقلاني، كما أنها يسيطر عليها الحنين دومًا إلى الماضي، حيث ترى فيه النموذج الأمثل الذي تسعى إلى استعادته، كما أنها تعاني من الشعور بقيمة الفرد بشكل عام، كذلك فهي لا تقدر قيمة العلم والمعرفة ولازالت ترى في القوة المادية العامل الرئيس في التفوق والتقدم، كما أنها تسيطر عليها النزعة المحافظة التي تمنعها من التجديد والتغيير، وأنها تضع هالات من التقديس حول بعض الأشخاص والأفكار، مما يجعلها غير قادرة على تجاوز آراء وأفكار تلك الأشخاص، مما يجعلها أسيرة لمجموعة من القناعات والتصورات؛ كل ذلك يجعل من أمر النهضة العربية أمرًا صعبًا، طالما ظلت الشخصية العربية على تلك الحالة دون تغيير، الأمر الذي يجعلنا نقول بأن أزمة المجتمع العربي هي أزمة اجتماعية بشكل أساسي، وليست أزمة سياسية تتطلب حلولًا سياسية فقط، فهي أزمة تتعلق بفكره وثقافته وطريقة تفكيره وطبيعة علاقاته الاجتماعية، فأزمة المجتمع العربي لا تحتاج لحلول سياسية بقدر ما هي بحاجة إلى تغييرات وإصلاحات اجتماعية وفكرية تتمثل في تغيير ثقافته وقناعاته ومنطلقاته الفكرية، وفي تغيير نظرته إلى نفسه وإلى العالم، إلى الماضي والمستقبل، ولذلك تظل النهضة العربية متعثرة، ويظل الواقع العربي في تأزم طالما ظلت الشخصية العربية تحمل من السمات الفكرية والنفسية، ما يجعلها عاجزة عن تجاوز واقعها وتحقيق نهضتها المنشودة.

[1] فتحي أبو العينين، الثقافة والشخصية، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2015، ص139

[2] مذكور في: حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر: بحث استطلاعي اجتماعي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1984، ص45

[3] علي أحمد سعيد(أدونيس)، الثابت والمتحول: بحث في الاتباع والابداع عند العرب، ج3، بيروت، دار العودة، 1974، ص9

[4] سيد عويس، حديث عن الثقافة: بعض الحقائق الثقافية المصرية المعاصرة، القاهرة، الأنجلو المصرية، ص277

[5] مذكور في: أحمد زايد، علم الاجتماع: النظريات الكلاسيكية والنقدية، القاهرة، الأنجلو المصرية، 1983، ص120