الصفح و المصالحة


فئة :  مقالات

الصفح و المصالحة

الصفح و المصالحة*


كان الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي قد عبر- خلال زيارة تاريخية قام بها للجزائر- عن تنديده بما سمّاه «ظلم النّظام الاستعماري» الذي «كان ضد المفاهيم التي تقوم عليها الجمهورية». وعلى الرغم من ذلك، فإنه لم يذهب إلى حدّ تقديم اعتذاراته إلى الشعب الجزائري بشأن هذا «الظلم»، وإلى طلب المغفرة عما تمخّض جرّاء جرائم الاستعمار، بل جعل «الجرم الاستعماري» مقتسَما بين المستعمِر والمستعمَر، الأمر الذي دفع مسؤولا ساميا في الرئاسة الفرنسية إلى أن يتدارك الأمر، ويحاول تصحيح الموقف مضيفا تعليقه: «إنها قضية شرف وقضية وعي...عندما تتجول في الجزائر العاصمة، فإنك ستتبين أن ليس هناك إلا ما هو أهل لأن يكون محط اعتذار». وعلى الرغم من هذا، فإن ذلك لم يقنع المسؤولين الجزائريين، مما دفع وزير داخليتهم لأن يردّ: «الأمور تتخذ الوجهة الصحيحة، لكن ليس بما يكفي».

فما الذي كان يعيب مواقف السّاسة الفرنسيين، وما الذي كان يعوز تصريحاتهم لكي تتخذ الأمور الوجهة الصحيحة بصورة كافية ترضي الأطراف جميعها؟

ليس هذا الإقرار باقتراف ظلم كبير حالة معزولة في التاريخ المعاصر؛ فما أكثر أشكال الظلم التي طبعت هذا التاريخ، ليس أقلها شأنا ما نتج عن الاستعمار في مناطق متعددة من أنحاء المعمور، وما صدرعن أشكال الديكتاتوريات من قمع وتنكيل. وغالبا ما يأتي حين من الدهر تعترف فيه كل هذه الأطراف الظالمة بظلمها، ولعل ذلك ما يبرر ما تعج به حياتنا المعاصرة من مشاهد التوبة والاعتراف أو الاعتذارات التي تتناسل على المسرح الجيوسياسي منذ الحرب العالمية الثانية، وبشكل متسارع منذ بضع سنوات، حيث نلمس إقبالا متزايدا على طلب «الصفح» ليس من قِبَل الأفراد فحسب، بل أيضا من طرف طوائف بأكملها.

إلا أن الأهم ليس الاعتراف بالظلم في حدّ ذاته، وإنما كيفية الاعتراف وحدوده: فهل ينبغي أن نتوقع من المعترف فضح الظلم بكل أبعاده، والجهر بالحقيقة كل الحقيقة مهما كان الثمن، ومهما كانت النتائج المتمخضة عن ذلك؟ أم ينبغي الاكتفاء باعتراف «يصمت عمّا مضى»، أو يغضّ الطرف عن جانب منه، فلا يولي نظره أساسا وجهة ما تقدّم ووَلَّى، وإنما ينفتح على مستقبل يطوي صفحة الماضي؟ هل تكفي المصالحة مع التاريخ أم ينبغي إنعاش الذاكرة؟

لنعد إلى المثال الفرنسي- الجزائري الذي انطلقنا منه، ولنتساءل عن فحوى ردّ المسؤول الجزائري، وعما كان يأخذه بالضبط على موقف المسؤولين الفرنسيين؟ لا شك أن وزير داخلية الجزائر كان على يقين بأن الرئيس الفرنسي، الذي لم يكن يتجاوز السنّ السابعة يوم استقلال الجزائر، كان عاجزا عن تمثل حقيقيّ لما دعاه «ظلم النظام الإستعماري»؛ فهو لم يعش ذلك الظلم إلا في الكتب، ولم يخزّن في ذاكرته الفردية المَشاهد المهولة، والمعارك الطاحنة التي عرفها بلد المليون شهيدا. لقد تبيّن المسؤول الجزائري أن الاعتذار الذي قدمه المسؤولون الفرنسيون، كانت تطبعه برودة المسافة الزمنية، كما كان يعوزه صدق المعاناة، وربما الصدق الأخلاقي أيضا، فهم إن كانوا يعترفون بالخطأ، فإنهم لا يقرون بالخطيئة؛ فالتمويه الذي أعطاه الرئيس للقضية، وتقسيمه للشرّ بين الأطراف، ومحاسبته للضحية على أساس أنها هي كذلك جلاد، كل هذا لم يكن له أن يجعل من ذلك الاعتراف إلا اتهاما مقنَّعا. صحيح أن المسؤول السّامي الفرنسي قد حاول إبراز «خطورة»القضية وأبعادها الحضارية والثقافية على الخصوص، فنَقل الشرّ من السيكولوجية إلى التاريخ، ومن الذاكرة الفردية إلى الذاكرة الجماعية، ليجعله يتجسد في شوارع الجزائر، ويرتسم في معمارها، ويسري بين دروبها، ويُخَطّ بحروف غريبة على جدرانها، فاعترف بأن كل ما في العاصمة «يحث على تقديم الاعتذار»، إلا أنه لم يُلحَّ بما فيه الكفاية على أن هذه الذاكرة الموشومة، لا يمكن أن تمحي بمجرد اعتراف، ولا تكفي صباغة الجدران لمحو آثارها، وإنما يلزم استحضارها أثناء الاعتراف وبعده.

مالم يُرض المسؤول الجزائري إذن، هو أن السّاسة الفرنسيين أبدوا استعدادهم لقبول المصالحة و «طيّ صفحة الماضي»، رافضين ما يستلزمه الصفح من ذاكرة فعالة، تستحضر الشرّ ومعه الجاني؛ إنهم قبلوا المصالحة، ورفضوا الصفح.

ذلك أنه ينبغي علينا أن نميز في هذا الصدد الصفح عن المصالحة، كما يرى جاك دريدا، فرنسيّ الجزائر؛ ففي المصالحة «يَفهم» الضحية المجرم ويتفهمه، ويحاورهو«يتفاهم معه»، من أجل رأب الصدع، من أجل «تجاوز» الشرّ، وربما من أجل تناسيه. إلا أننا إن أرجعنا الصفح إلى وظيفته النفعية، فإنه يغدو وظيفيا، ويفقد خاصيته المميزة، ومتى ارتبط الصفح بغاية لم يعد صفحا: «كلما كان الصفح في خدمة غاية محددة، وكلما نزع إلى إعادة الأمور إلى طبيعتها، فإنه لا يكون خالصا»، لا يكون صفحا.

ذلك أن الصفح يستدعي الذهاب إلى أقصى الحدود، وربما إلى الحدّ الذي قد يغدو معه حاجز نفسه، وينجرّ إلى نوع من المفارقة. فأنا، إذا كنت لن أصفح إلا على ما يقبل الصفح؛ أي الإساءات الطفيفة و(الصغائر)، فإنني لن أفعل شيئا يستحق اسم الصّفح؛ فما هو قابل للصفح مصفوح عنه مقدما. ومفارقة الصفح هي أنه لا ينصبّ إلا على ما لا يقبل الصفح، إلا على (الكبائر).. كأن الصّفح الوحيد الذي يكون ممكنا هو الصفح المستحيل.

غير أن هذه الاستحالة لا تعني اليأس، وإنما تجعل الصفح عملا دؤوبا لا يستقيم إلا بذاكرة حية فعالة، تستحضر الشركما وقع بالفعل من غير تلطيفولا تخفيف. وقد سبق لمانديلا أن صرح ذات مرة: «نعم للصفح، لا للنسيان». إن تكاثر مشاهد التوبة والصفح المطلوب اليوم يدلان على حاجة مستعجلة لهذه الذاكرة، وعلى الرغبة في التوجه الصريح نحو الماضي.

على هذا النحو، فإن الصفح فعالية متواصلة تعمل ضد المؤسسة التي تنزع بطبيعتها إلى «تدبير النسيان»، وأحيانا تحت غطاء الاحتفال بالبدايات والتسامي بها و«تخليدها» المتواتر الذي يجعل الواقعة مجرد «يوم ذكرى». لكن، لا ينبغي أن ننسى أن ذلك لا يتم إلا بانتزاعها من التاريخ الفعلي وتكريس نسيانها بـ «الارتقاء» بها نحو زمن الأسطورة الذي يحيا الوهم الأبدي للاستعادات المتكررة.


*- مجلة يتفكرون، العدد 2، منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، خريف 2013