كما لو...


فئة :  مقالات

كما لو...

كثيرًا ما تخطر ببالي هذه الأيام قولة لجورج دوبي كان يحلو لبيير بورديو أن يقتبسها، على الرغم من أنّها لا تخصّ العصر الذي نعيش فيه، ولا المجتمع الذي ننتمي إليه، إلا أنّني أجدها غير بعيدة عن التعبير عن واقع الحال. كتب دوبي: "أن تكون نبيلاً معناه أن تبذّر، وأن تكون مرغمًا على التظاهر، وأن يكون محكومًا عليك بالرّفاه والبذخ... فالتميّز عن الفلاحين كان يقتضي التفوّق عليهم طبقيًّا، وذلك بـالتظاهر بالتفوّق عليهم في الكرم والسخاء. هذا ما يبرزه أدب العصر. فما الذي يميز الفارس الأصيل عن حديث العهد بالنّعمة؟ ذلك أنّ الثاني بخيل، أما الأوّل، فهو نبيل لأنّه يصرف كل ما لديه بكامل الانشراح، ولأنّه مثقل بالديون".

لعل الكلمة المفتاح التي ترد مرتين في هذه القولة هي كلمة "التظاهر". ولا شك أنّ فهمها في السياق الذي وُظِّفت فيه هو الذي سيعطي للقولة أهميتها، وللاقتباس عمقه. أوّل ما ينبغي استبعاده هنا هو اعتبار التظاهر مجرد حالة مفتعلة، ولا بد أن تأتي لحظة تنكشف فيها حقيقة الأمور. غير أنّ الأمر ينبغي أن يدرك خارج الثنائي حقيقة/مظهر. بل ربما ينبغي أن يفهم بعيدًا عن ميتافيزيقا الحقيقة. ذلك أنّ التظاهر هنا لا يتعلق مطلقًا بافتعال. فالنبيل لا يمثل ولا يفتعل، بل هو "محكوم عليه بالرفاه والبذخ"، إنّه مجبر على أن يظهر كذلك. لا محيد له عن أن يظهر كريمًا، بل مبذرًا، حتى يكون ما هو عليه. التظاهر هنا آلية حقيقية، هي التي تجعل النبيل كذلك، وهي التي تحدّد الفروق الاجتماعية، وتبوئ فئة بعينها مكانة لا ترقى إليها الفئات الأخرى، حتى وإن لم تكن "مثقلة بالديون".

قد يطرح السؤال: وما الداعي إلى التذكير بآلية تقسيم مجتمع القرون الوسطى الأوروبية؟ ما الداعي إلى الحديث الآن وهنا عن التظاهر؟

يبدو أنّ هذا المفهوم هو أيضًا أحد المفاتيح لفهم الحياة المعاصرة. ولا بأس هنا، توضيحًا للمسألة، أن نستعيد ما كان جان بودريار كتبه حول هذه الآلية التي يدعوها هو simulation، والتي يحددها بكونها "التظاهر بامتلاك ما لا نملكه"، ما نقترح نقله إلى العربية بلفظ "التشبّه". في هذا الصدد يستعير بودريار حكاية لبورخيس يصف فيها تلك المحاكاة الساخرة لـ"التشبه بالواقع" حيث يقوم خرائطيو إمبراطورية بوضع خريطة مفصلة تغطي مجموع مجالها الترابي بدقة كبيرة. ومع أفول الإمبراطورية، تبدأ خريطتها تتفتت شيئًا فشيئًا.. لقد حذت الخريطة حذو الأرض كما لو تعلق الأمر بلحم فاسد محكوم عليه بالتفتت، وبالعودة إلى مادته الأصلية (الأرض). "لم تعد الخريطة محاكاة للأرض، وإنّما تحوّلت إلى استراتيجية للتوليد". "أصبحت الخريطة هي التي تسبق الأرض وترسمها وتولدها". لقد غدت، بفعل تشبهها بالواقع، واقعًا يفوق الواقع واقعية، وتمكَّن التشبّه من أن يجعل الأرض والخريطة "يتشابهان علينا"، بحيث يمّحي الاختلاف الذي يسمح بالتمييز بين الأشياء، ويبرِّر وجود التجريد، والخريطة، والأرض، والواقع، والوهم.

استراتيجية التشبّه تجعل الواقع والوهم يتشابهان، فيتشابهان علينا. إنّها استراتيجية لخلق الشبهات، وهي ليست افتراءً على الواقع من شأنه أن يفتضح لحظة ظهور "الحقيقة"، وإنّما هي تشبّه يجعل الواقع يكف عن أن يكون واقعًا ليفوق نفسه ويغدو "واقعًا فائقًا" "من إنتاج نماذج مموهة داخل فضاء فائق لا مرجعية ولا محيط خارجي له".

المفعول الأساس لهذه الآلية إذن هو أنّها تنتهي بك إلى فقدان المرجعيات، فلا تقوى على التمييز بين وهم وحقيقة، بين واقع وأسطورة، بين طبيعة وما فوق طبيعة. ولن يتبقى لك إلا أن تعمل "كما لو..".

هذا الـ "كما لو" هو ما أصبحنا نلمسه في حياتنا الثقافية بشكل أكثر جلاءً، حيث يعمل الكاتب "كما لو"، والناقد "كما لو"، والناشر "كما لو"، والقارئ "كما لو"، وحيث تختلط الأمور، وتُفتقد المعايير. كتبت الروائية المقتدرة نجوى بركات: "الأمور باتت تختلط عليّ. الحقيقة أنّها تختلط عليّ منذ فترة، لأسباب ليست دائمًا على علاقة بسني أو بوهن جسدي. أقول شيئًا، فينتابني الشكّ لحظة، أن أكون قد نقلته عن سواي. أخشى أن يكون ذلك واقعًا حقًّا، ويحصل على غفلة مني، ثم أتدارك نفسي، من ذا الذي يعيرك الآن أيّ انتباه، ولو نسبت إليك الإلياذة والأوذيسة بأبيهما وأمهّما."