جرح الهوية


فئة :  مقالات

جرح الهوية

"أهتم، أنا والخطيبي، بالأشياء ذاتها: بالصور، والدلائل والآثار والحروف والعلامات. غير أن الخطيبي، في الوقت نفسه، يعلمني جديدا يخلخل معرفتي، لأنه يغيّر مكان هذه الأشكال كما أراها، فيأخذني بعيدا عن ذاتي، نحو أرضه هو، إلى حدّ أنني أحسّ أنني في الطرف الأقصى من نفسي."

ر. بارث

رغم أن كل مفاضلة تنطوي على نسبة من المبالغة، فبإمكاننا أن نؤكد أن كتاب "الإسم الجريح" هو من أهمّ كتب الخطيبي، إن لم يكن أهمّها على الإطلاق. لا تكمن هذه الأهمّية فحسب في ما كان للكتاب من مفعول، وما خلفه من أثر امتدّ خارج المغرب، بل خارج الثقافة العربية، يشهد على ذلك ما كتبه رولان بارث معترفا بأنه، وإن كان يقتسم مع الخطيبي الاهتمام بالأشكال نفسها، إلا أنه غارق في "ثقافة فقدت بحداثتها المفرطة، ذاكرتها الشعبية"، لذا فهو مدين للخطيبي لكونه جرّه لأن "يبتعد عن نفسه".

يمتد جرح الهوية إذاً خارجاً ليطال من يشاركون الخطيبي ولعه بدراسة الدلائل و"العلامات المهاجرة" Les signes migrateurs على حد تعبيره. إلا أن أهمية الكتاب تعود أيضا لجرح آخر، جرح أكثر عمقا، وأعني تلك القطيعة التي رسمها سواء في الموضوعات التي تناولها، أو المنهجية التي اعتمدها، ساعيا إلى هدم الهوّة التي تفصل المكتوب عن الشفوي، والجسد عن الروح، والصورة المرسومة عن النص.

صحيح أن موضوعات الكتاب لم تكن غريبة عن الثقافة العربية، وأن الاهتمام بالثقافة الشعبية لم يكن جديدا كل الجدة في الكتابة العربية، غير أن كتاب الخطيبي يتميز بنقل ذلك الاهتمام من "الغنائية الرومانسية" نحو دراسة سوسيولوجية متفتحة على منهجية تعددية وعلى مقاربات متنوعة تقوم ضد أحادية الرؤية التي كانت تسم منهج البحث آنئذ.

ظهر الكتاب بداية السبعينات من القرن الماضي، حيث كان المتخيل الشعبي سجين علائق قوة متشابكة، وحيث كان البحث فيه، إن لم يُنظر إليه على أنه من المحرّمات، فإنه كان يخضع لمنهجية أحادية الرؤية، تقليدية الطابع، وحتى إن لوّحت بالمنهج الماركسي، فقد كان ذلك بعين تحجبها الإيديولوجية، هذا إن لم يقتصر الأمر على النظرة الإثنلوجية بما كان يحكمها من خلفية استعمارية تسعى جهدها كي تحدّد علاقتها بـ "الأهالي".

رصد "العلامات المهاجرة" فرَض على المؤلف الاهتمام بمنظومات دالة متنوعة تتعقب مكونات الثقافة الشعبية في مختلف مظاهرها من وشم وأمثال وحكايات شعبية، وكل ما اعتبرته الثقافة العالمة من قبيل الهوامش. غير أن ما ينصب عليه اهتمام صاحب "الإسم الجريح" أساسا، هو هذا الهامشي بالضبط، لا لكي يرجع له الإعتبار فحسب، وإنما ليعيد النظر في دلالته ذاتها. وهذا ما سيتضح فيما بعد في كتاب "فن الخط العربي" حيث يتبين أن الهامش ليس هو ما يوجد "تحت" ولا ما يمكث في "الاطراف"، وأن علاقة الهامش بالمركز ليست علاقة داخل بخارج، وأن الهامش لا يوجد في منأى عن المركز مستقلا عنه، بل هو دائما مشدود إليه عالق به إلى حدّ أننا يمكن أن نقول إنه المركز ذاته في تصدّعه وابتعاده عن نفسه. فهو ما يشكل فضيحة المركز، وما يكشف عن ضعف ما يدّعيه من مركزية. الهامش هو الحركة التي تشهد أن كل داخل ينطوي على خارجه، وأن المنظومة تنطوي على ما يفضحها. إنه القوى المتنافرة والتوتّرات التي تصدّع المركز وتزحزحه عن ثباته.

لعل أهم مظاهر هذه الزحزحة في كتاب الخطيبي هي إعادة الإعتبار لهذه الهوامش: إعادة الاعتبار لـ"الجسد المعيش"، عوض "الجسم المفهومي"، والنظر إلى مختلف المنظومات الدالة التي يندرج فيها بهدف متابعة القنوات والمسالك الملتوية التي تنهجها الثقافة الشعبية للتعبير عن ذاتها، وخلق بعض الجروح والتصدعات في ما يعمل كثوابت، وما يترسخ كتقليد، وما تعمل مختلف السلطات على تحنيطه وتحويله إلى تطابق يتنكر لعمل "الاختلاف".