"الفلسفة الألمانية، هايدغر ضد نيتشه" لـ محمد الشيكر


فئة :  قراءات في كتب

"الفلسفة الألمانية، هايدغر ضد نيتشه" لـ محمد الشيكر

كانت طريقة قراءة هايدغر لنيتشه معروفة في الأوساط الفلسفية الفرنسية قبل صدور ترجمة كلوسوفسكي لكتاب هايدغر "نيتشه" سنة 1971؛ ففي دروسه (1936 – 1946) وفي دراساته المترجمة بين 1958 و1961 كان الجميع يعرف أنّ هايدغر يعتبر نيتشه "آخر فيلسوف ميتافيزيقي"؛ أي أنّ فكره "اكتمال للمشروع الميتافزيقي"، وقد وجد البعض في هذا القول غلواً لا معنى له خصوصاً مع نيتشة الذي يعتبر "علامة على الانفلات [...] من إسار الميتافزيقا ". إنها قراءة "تسجن نيتشه، بحسب هاروغرانيي، في تأويلها الخاص لماهية الميتافزيقا"، وهكذا تأخرت زمنياً ترجمة كلوسوفسكي وكانت الفكرة المركزية للكتاب معروفة، ثم إنّ الانشغالات الفكرية الراهنة حينئذ في فرنسا لم تعد "تتناسب مع اللبوس الميتافيزيقي الذي يخلعه هايدغر على نتشه" . أغلب الدراسات الفرنسية المعاصرة انتهت إلى كون (نيتشه) ضد الميتافيزيقا، لكن هايدغر اعتبر أنّ هذه تكتمل عند نيتشه ما دام فكره "نسياناً لحقيقة الوجود ولاختلاف الوجود عن الموجود". والواقع أنه من العسير الفصل بين نيتشه وهايدغر، لأنهما معاً يشكلان عائلة الاختلاف التي ينتسب لها معظم الفلاسفة الفرنسيين الراهنين، وفكر الاختلاف هو فكر نيتشوي هايدغيري، إنه فكر يستدمجهما في أفق تأويلي مشترك؛ فلذلك لا يمكن إنكار أصالة حوار هايدغر مع نيتشه.

يحملالفصل الأول عنوان "دواعي تأجيل الحوار مع نتشه"، لا يمكن الفصل بين فلسفة هايدغر وبين تفكيره في تاريخ الفلسفة، بين ثنايا هذا التاريخ "يلج نيتشه في أفق هايدغر "، باعتباره يحقق إمكانات هذا التاريخ ويسوقه إلى ذروته ومنتهاه"، ويجعله يفكر شعراً، علماً أن الشعر هو "ضرورة تنبع من عمل الفكر ذاته" .

ويحمل الفصل الثاني عنوان "من التأويل الى الاستذكار" قراءة هايدغر لنيتشه قراءة نقدية لا تفصل هذا عن التراث الغربي الذي "يكتمل في فكر نتشه"، ويجعله "آخر الميتافيزيقيين" الذي قاد الفكر الغربي إلى ذروته، هذا يعنيأنه على الرغم من انضوائه في أحضان هذا الفكر، وعلى الرغم من محاولاته المستميتة للانفلات من "ربقة الميتافيزيقا"، فهو ، بحسب هايدغر، لم يتمكن . ولكي ندرك هذا، يجب ألا نقف عند السطح، بل يتعين أن ننفذ إلى العمق، والميتافيزيقا المقصودة هنا هي أنطولوجيا؛ أي "حقيقة الموجود بما هو كذلك في كليته؛ " فالحقيقة الميتافيزيقية هي "انكشاف الموجود في ماهيته وكيفية وجوده على نحو كلي" . وما يؤسس ميتافزيقا نيتشه هي العبارات التالية : "إرادة القوة"، "العود الأبدي لذات الشيء "، "العدمية"، "الإنسان الأعلى"، "قلب المرجعيات المعيارية"، لكنّ ما يشكل أساس موقفه الميتافيزيقي هو "وجود الموجود كإرادة قوة وكعود أبدي لذات الشيء".

لم تأخذ العدمية معناها الكامل إلا مع نيتشه، حيث صارت تعني معه أن القيم العليا "فقدت قيمتها"، ولم يعد ثمة من هدف، "أو جواب للسؤال لماذا"، لكنها لا تعني أنها لم تعد تعني شيئاً، بل إنها تجرّد القيم من وثنيتها وتسقط مرجعيتها المعيارية، إنها "أفول العالم المتعالي وتقويض الأقانيم التي كان يصدر عنها [...] في الميتافيزيقا السالفة"، ومعه انهارت كل المثل العليا، وانتهت كل "غائية "، وهي تشكل "المنطق الداخلي لتاريخ الغرب والماهية الثاوية التي تسكن ميتافيزيقاه بما هي ميتافيزيقا "أفلاطونية"، لولا أنّ فكر نيتشه يرتد في النهاية إلى "أفلاطونية معكوسة!"، وإلى ميتافيزيقا – بحسب هايدغر – "في أقصى درجات اكتمالها".

يعتبر هايدغر أنّ "الإنسان الأعلى" هو من المفاهيم الأساسية في ميتافيزيقا نيتشه الذي يعتبر أن الإنسان الأعلى هو "إنسان مكتمل"؛ أي كـ"حيوانية حية" هو "ذروة ما فكر فيه التراث الميتافيزيقي الغربي كذاتية". إنّ قراءة هايدغر لنيتشه تقدّم لنا صورة مغايرة للقراءات الفرنسية، إنها تستنتج ما لم يتوصل نيتشه إلى قوله وما يبقى ممكناً قوله، وبذلك يأسره بين شدقي ميتافيزيقا نسيان الوجود، ويجد فيه علامة قوة؛ أي هيمنة على الأرض. لكن القراءات الفرنسية تساءلت فيما إذا كان "يصح الحديث عن نيتشه الميتافزيقي؟" وجعلته كتابته الشذرية يتأبّى عن كل قراءة "نسقية" تستدرجه إلى أسر الميتافزيقا.

أكد هايدغر على أنّ نيتشه هو آخر الفلاسفة الميتافيزيقيين، وأنّ فكره هو أقصى العدمية الأوروبية، و"حاول التقليل من أهميّة المدلول البيولوجي لمفهوم الحياة". وعلى الرغم من أنّ نيتشه ينتقد أسس المنظومة الدينية "، ويسفه الإله المسيحي اللاهوتي"، فإنه يظلّ مع ذلك، في نظر هايدغر، "مشدوداً إلى دائرة الميتافزيقا الأنطوتيولوجية"، باعتبارها نسياناً للوجود و"للاختلاف الأنطولوجي بين الوجود والموجود".

يربط نيتشه الحقيقة بالعدالة بحسب هايدغر الذي ينقل المفهوم الأخير من حقله الدلالي "السياسي الإثيقي، مثلما نقل من قبل مفهوم الحقيقة من مجاله الإبستمولوجي إلى دائرة الميتافزيقا [...] إنه لا ينطوي على دلالة سياسية وأخلاقية تصله بمعجم الحق والقانون [...]"، بل بحقيقة الوجود.

يتساءل الباحث عن الدّاعي وراء تجنب هايدغر للـتأويل البيولوجي لفلسفة الحياة عند نيتشه؟

كما يتساءل فيما إذا كان هايدغر قد أساء استعمال نيتشه؟ ولماذا لم يتحدّث عن نيتشه الشاعر والموسيقي؟ " فالشعر يقع في أصل تسمية الوجود وانفتاح لحقيقته في حين أنّ الفلسفة هي نسيان له. " كلّ فصل بين الشعري والنظري هو فصل لا يصح". فرادة نيتشه تعود إلى كونه "ارتقى بالأدب إلى مقام الفكر، " لكن لماذا" ير فض هايدغر التعامل مع فكر نيتشه بوصفه ظاهرة أدبية" ؟ يندد الباحث بـ"مكر" هايدغر و"دسّه"، وبالعمل على "حشر نيتشه في تاريخ الميتافزيقا "، و"الزجّ" به فيه.

يضع الكتاب، وكما جاء في تقديم د. محمد سبيلا، "مفاتيح قراءة هيدجر لينتشه"، هذه المفاتيح تتحدث أولاً عن الباب "الميتافيزيقا النيتشوية الغربية " التي يسوقها إلى أوجها هي التي جعلت من سؤال الوجود نسياناً له، ولم تستطع إدراك الاختلاف الأنطولوجي بين الوجود والموجود. أوّل المفاتيح هي "إرادة القوّة" وماهية الوجود التي يتأولها هايدغر وفق منظوره للتقنية؛ ثاني المفاتيح هو "العود الأبدي لذات لشيء "؛ ثالث المفاتيح هو "العدمية" كنمط للوجود الغربي.