العقل والإيمان في الاتصال الكائن بين ابن رشد والبابا


فئة :  مقالات

العقل والإيمان في الاتصال الكائن بين ابن رشد والبابا

العقل والإيمان في الاتصال الكائن بين ابن رشد والبابا

يسكن التباس أصيل النظرة المتبادلة بين العرب وأوربا، يُكرسه قلق مسترسل في الزمان، وتأرجح بين النزوع إلى الاعتراف والميل إلى الحذر والتحوط. كان ذلك في العصور الوسطى، ومازالت هذه النظرة تتخذ، في كل مرة، أبعادًا جديدة، على الرغم من كل أشكال التلاقي والاحتكاك والتثاقف. يمثل الدين، في ذلك، عاملاً حاسمًا، ويلعب الرأسمال العاطفي والمتخيل الرمزي دورًا في تعزيز الالتباس، كما يشكل الجموح الوحشي الجارف لكسب المصالح سببًا في تعميق الحذر ومشاعر الاستبعاد.

ومع ذلك، يجد المرء في الماضي والحاضر لحظات تشوش على هذه اللوحة المرتبكة العناصر، وتُكثف نزوعًا إنسانيًا لا يرتهن لمرجعية مغلقة أو لفهم متشنج للذات وللآخر. ولا جدل في أن ابن رشد يمثل أحد أكثر اللحظات قوة في هذا النزوع العقلاني التحرري، قياسًا إلى إكراهات زمنه، وتشكل دعوته إلى الحقيقيين أحد أهم الاختراقات التي تمت في عصره. وتكشف الامتدادات اللاتينية لهذه الدعوة عن عمق الرؤية التي أسسها للدين والفلسفة، وللفارق المنهجي الدقيق بين حقول العقل وعوالم الإيمان. لقد أقام تمييزًا واضحًا بين مجالين يختلفان من حيث المصدر والمنهج وآليات التفكير والتخيل، لكنهما يلتقيان، في نظره، من حيث الهدف، إذ تستند الحكمة إلى المفاهيم والبرهان المنطقي، ويمتح الدين عقائده من التسليم والإيمان بالله وبالوحي المنزل على النبي. وبدون تصنيف تراتبي بين المجالين ترمي كل من الحكمة والشريعة إلى بلوغالحقيقة. ولم يخلق تأكيد ابن رشد على هذه القاعدة لديه أي شعور بالتعارض أو التنافر، بل ولّد لديه وعيًا حادًّا، في زمنه، بتلازم الإيمان والعقل دون الخلط بين مستويات اشتغالهما.

وبمقدار ما تعرض ابن رشد، في التاريخ الفكري الفلسفي، لتجاهل بدأت تنفضح خلفياته يومًا بعد يوم، يجهر باحثون أوروبيون، باعتباره علامة فارقة في الفلسفة الوسيطية، إذ جسد، طيلة أربعة قرون، "العقلانية الفلسفية في الغرب المسيحي"، كما يقول "ألان دوليبيرا" Alain De Libera، بل إن هذا "المثقف" يمثل الحلقة المركزية في الجهاز الفكري الذي أسعف الفكر الأوروبي في بناء "هويته الفلسفية"، وهو بذلك يعبر عن "دين لا مفكر فيه"، وعن "إرث منسي" يجعل من الدور التاريخي لابن رشد، "عرَضًا لمرض التاريخ الغربي المرتبط بعملية التمويه عن القسط العربي فيه".

ولا يعبر إقرار هذه الحقيقة عن نزعة مشوشة للاحتفال بشؤون الذات والانتقاص من التاريخ الانتقائي للآخر، إذ في الوقت الذي هاجرت فيه الرشدية إلى الضفة الشمالية للمتوسط، بما خلقته من جدل وتثاقف، تعرضت في الفضاء العربي الإسلامي لأفظع أنواع الهجوم والحصار. كما أن الإقرار الرشدي بثنائية الحقيقة لا يعني، بداهة، إنتاج التمييز بين القدسي والزمني، أو بين الديني والسياسي في التاريخ الأوربي، لأن الصيرورة التي أفرزت هذا التمييز أعقد مما تبشر به بعض الكتابات العربية في الموضوع. لكن ما هو مؤكد هو أن ابن رشد جسد، وبدون حرج يذكر، ذلك التثاقف الرائع الذي حصل في زمنه بين الثقافات الثلاث، الإسلامية والمسيحية واليهودية، وأنتج فكرًا حيويًا يراعي، بإحكام رفيع، ضرورات التوازن بين الذات والآخر، بين الارتباط بمقومات الهوية والانفتاح على عطاءات الاختلاف، ولهذا السبب ينزع بعض الباحثين الأوروبيين إلى اعتباره "وجهًا عربيًا للعقلانية الأوروبية"، فهو يكثف الارتباط العميق بين الثقافات وثراء التثاقف المنفتح على الآخر دون المساومة على أصول الانتماء.

إن استحضار هذا النمط الفكري، في السياق الثقافي الراهن، ليس بريئًا؛ فالفكر الرشدي انبنى داخل الصراع، ومن خلاله صاغ تمييزه الشهير، ودعا إلى استنبات تثاقف عقلاني نشط في الثقافة العربية الإسلامية ضدًا على النزعات الارتكاسية والاتجاهات المنغلقة. ولا عجب إذا ما لاحظ المرء أن بعض البلدان العربية والأوروبية تجعل من الاحتفال بفيلسوف قرطبة ومراكش، مناسبة لإبراز الإرث العقلاني المنفتح في التراث العربي الإسلامي، وفرصة لاستحضار قيم التفاهم والتحاور الندي وإرادة المعرفة.

إن تحرير ابن رشد للأرسطية مما أحاط بها من مؤثرات وتأويلات أفلوطينية، ودفاعه المستميت عن استقلال الفلسفة قياسًا إلى عالم الشريعة، جعل منه لحظة معرفية ذات مفعول عميق في تاريخ الفكر العقلاني. فاستنبات الفلسفة في التربة الفكرية العربية الإسلامية دليلاً على وجود مشروع تنويري، يحتفل بالعقل، ويواجه ما عداه بالحجة والمناقشة الهادئة، ولا سيما أن الرجل ملمٌّ بالعلوم التقليدية بمقدار إلمامه بالفلسفة، الأرسطية بالخصوص، ما أسعفه في منح مشروعية "ثقافية"، إذا صح التعبير، للاشتغال بالفلسفة، حتى لو لم يعمل التاريخ الفكري العربي الإسلامي على إنتاجها، إذ لا تهم ملة من يسهم في اقتراح أدوات ذات صدقية برهانية في النظر والتفكير.

إذا كان الأمر كذلك بالنسبة لابن رشد في الزمن الوسيط، فان المؤسسة البابوية اتخذت طيلة تاريخها الوسيط والحديث، موقفًا متبرمًا، إن لم نقل عدائيًا، من الفلسفة. صحيح أن القديس أغسطين في القرنين الرابع والخامس الميلاديين، وطوما الأكويني في القرن الثالث عشر، أكدا، كل بطريقته، على أن "الإيمان لا يخشى العقل، ولكنه يبحث عنه ويثق فيه"، ولكن المؤسسة، على الرغم من ذلك، كانت، وما تزال، تضيق من تأثير الفلسفة على الإيمان الديني، وحاربت النزعات العقلانية كلما شعرت بالخطر على توجهاتها وتحركاتها. ولعل أكبر تحدٍّ شهدته هذه المؤسسة تمثل في الفصل بين القدسي والزمني بفضل الحركية التاريخية للنهضة والأنوار. كما تبرمت من الاكتشافات العلمية كلما رأت فيها تجذيرًا للنزعة الوضعية.

وفي الرسالة البابوية التي نشرها البابا يوحنا بولس الثاني (نشرتها جريدة لوموند يوم 16 أكتوبر 1998) حول علاقة الإيمان والعقل دعا الحبر الأكبر إلى ضرورة التأمل في الأزمنة الفكرية والأخلاقية للعالم المعاصر، وإلى خلق إطار تصالحي بين أهل الإيمان وأهل النظر الفلسفي. كما نبه إلى وجوب مناهضة المخاطر الجديدة المتمثلة، عنده، في النزعات الارتيابية والنسبية واللاعقلانية والعدمية والأصولية...إلخ. ويؤكد البابا على أن سبب الأزمة الفكرية والأخلاقية التي يتخبط فيها العالم المعاصر يعود إلى "مأساة" الفصل بين الإيمان والعقل بوصفهما نظامين معرفيين يسعيان إلى الحقيقة. أنتج ذلك انحرافًا في تاريخ الفلسفة، وتشوشًا في علم اللاهوت. وتشذرت الفلسفة إلى مجالات، هي بدورها، تتعرض إلى التوزع والانقسام، فضلاً عن سقوط العالم المعاصر في نزعة وضعية تفتقد الأساس الأخلاقي والديني، ولا تكف عن توليد النزعات الارتيابية والنسبوية التي لا تستقر على حال.

إن إدانة البابا لهذه النزعات سبقتها محاولات بابوية لاستنكار ما تنعته الأدبيات الكنسية بـ "الانحرافات" الفكرية، من قبيل العقلانية، والماركسية، والوجودية، والفرويدية ...إلخ. غير أن ما ميز الرسالة البابوية ليوحنا بولس الثاني هو دعوتها إلى تصالح العقل والإيمان، وحث الفلسفة على ابتكار مقاربات خصوصية في تفسير تناقضات ومفارقات العالم المعاصر، وعليه المساهمة إلى جانب الكنيسة، في إنتاج المعنى واقتراح بعض المخارج للتخفيف من القلق العام. وعلى الرغم من عدم تطابقهما واختلافهما، فإن الفلسفة والدين يمكن أن ينير كل واحد منهما الآخر، دون تعالٍ أو إدانة مسبقة أو تبادل لاتهامات تقليدية. وبمقدار ما يحتاج مجال الدين إلى تعقل ومعقولية لتجنب الارتكاس إلى أصوليات يغلب عليها الانفعال والتشنج، وإرادة الإلغاء والقتل، يتعين على الفلسفة أن تقر بحاجة الإنسان إلى مرجعية متعالية، وإلى مصدر قدسي يساعد على إنارة دروب الحياة المعقدة.

بعد تقديم أسباب تحرير هذه الرسالة البابوية، والوقوف عند "مأساة" الفصل بين العقل والإيمان، واستعراض الانحرافات التي حصلت في مجال الفلسفة وعالم الدين، ونقده للنزاعات التي تشوش على عملية التصالح المرجوة بين هذين الحقلين، أكد البابا على ضرورة الاعتراف بتنوع الثقافات، والانتباه إلى أنماط الاختلاف التي تنتجها المجتمعات في العالم. فالدعوة إلى التصالح بين الإيمان والعقل لا تهم "الغرب" وحده، على اعتبار أن كل ثقافة تختزن ما يمكن أن يتجاوز حدودها الخاصة لتلتقي مع الإنسان في أبعاده الكونية.

لا جدال في أن النظرة التي وجهت كتابة هذه الرسالة تحكمها خلفية دينية واضحة، ومن هذا المنطلق كتب عما يشوش على التصالح بين العقل والإيمان، ودعا إلى تخطي "مأساة" الانفصال بينهما، والاعتراف بمشروعية دور كل واحد منهما في حياة الإنسان. غير أن البابا بينيديكت السابع عشر في خطابه الشهير في جامعة "راستبون" يوم 12 شتنبر 2006 خلق بلبلة فكرية في موضوع موقف الكنيسة من علاقة العقل والإيمان، مما عد تراجعًا "مذهبيًا" قياسًا إلى موقف يوحنا الثاني، فضلاً عن أنه أطلق زوبعة كبرى باستشهاده بنص من العصر الوسيط يلصق صفة العنف بالإسلام. وفي هذا السياق، يمكن للمرء أن يعقد ما شاء له من مقارنات بين هذا النوع من التفكير واجتهادات فكرية سابقة. وليس من شك أن صورة ابن رشد تحضر، بقوة، في إطار هذه المقارنات، ولا سيما أن فيلسوف قرطبة صاغ موقفه النظري من العلاقة بين الفلسفة والدين استنادًا إلى إلمام بمبادئ وأصول كلا المجالين، فضلاً عن الخلفية السجالية التي حركته.

أما رسالة البابا يوحنا الثاني المعنونة بـ: Fides et ratio فيسكنها حنين لحالة متخيلة تصور الإيمان والعقل وكأنهما في تناغم تام قبل حدوث "الانفصال التراجيدي" بينهما. وإذا كان ابن رشد يقول بضرورة التمييز المنهجي بين المجالين، واستبعاد أية نزعة توفيقية تبسيطية، فإن الرسالة البابوية تدعو إلى شكل ما من أشكال التوحيد بين نزوعين إنسانيين يتعين الإقرار بوظيفتهما التكاملية في زمن "الاستلاب" المادي واللامعنى، بل إنها، أي الرسالة، تشعر قارئها بنوع من عودةالوعي بالطاقة التجديدية التي تمتلكها الفلسفة، وبقدرتها على الارتقاء بالعقل الإنسانيإلى مستوى التقاط الحقائق الأكثر سموًا. أما ابن رشد، فضلاً عن تكوينه القضائي والعلمي، وإحاطته بأصول الشرع، وإلمامه بمبادئ الحكمة، لم يكن في حاجة إلى منح الشرعية لمجال فكري كان ينبذه في السابق، ولم يكن يتعلق الأمر لديه بعودة الوعي، وإنما بموقف فكري منسجم من الإيمان والعقل، وبالتزام مبدئي بأهمية النظر البرهاني في بناء الذات، والانفتاح على كل ما يسعف في التفكير في الزمن، سواء كان ذلك آتيًا من صميم الإرث الثقافي الخصوصي، أو عمل الآخر على اقتراحه.

لا مجال للتقوقع داخل أصل مطلق، أو التفكير في العلاقة بين العقل والإيمان من منطلق تسديد دين لأحدهما، أو تجاوز خصام كان ممثلو هذه الأطراف قد عملوا، طوال تاريخهم، على تأجيجه. صحيح أن للنص الرشدي، في هذا الموضوع، طابع الرد على الآخرين. لكنه صاغ ذلك لبناء تركيب نشط بين العقل والإيمان، بين الذات والآخر.