العمل الصوفي والتحديات المعاصرة: مفاتيح أولية


فئة :  مقالات

العمل الصوفي والتحديات المعاصرة: مفاتيح أولية

تروم هذه المقالة التوقف عند التحديات التي تطال العمل الصوفي، ونقصد به كل عمل إسلامي مرتبط بالتصوف، خطاباً وممارسة، فردياً أو جماعياً، مع الاقتصار على السياق الزمني الراهن.

تتأسّس هذه المقالة على فرضية أساسية، مفادها أن أغلب الفاعلين في العمل الصوفي، سواء تعلق الأمر بأفراد أو جماعات [ما يُصطلح عليه بالطرق الصوفية]، لم يستوعبوا بعد مقتضى التحديات المعاصرة التي تمر منها البشرية جمعاء، وليس هذا المجال التداولي أو ذلك وحسب، وواضح أنه إذا غابت هذه التحديات عن الجهاز المفاهيمي للفاعل الصوفي، فأن يغيب تفاعله معها أولى.

إن أهم التحديات التي تطال الذات الصوفية في تفاعلها مع هوى النفس أو حظوظ النفس، تكمن في الرضوخ لهذه الإغراءات 

سوف نتوقف عند بعض هذه التحديات المعاصرة التي تطال العمل الصوفي، ونوجزها في ثلاثة تحديات أساسية:

ــ تحديات ذات صلة بالذات الصوفية؛

ــ تحديات ذات صلة بالمحيط القريب؛

ــ ثم تحديات ذات صلة بالمحيط البعيد.

وعليه، تتفرع المقالة على محوريين اثنين: محور يتطرق لأهم معالم هذه التحديات؛ ومحور يستعرض بعض المفاتيح النظرية التي نحسبُ أنها يمكن أن تساعد العمل الصوفي الراهن على مواجهة التحديات سالفة الذكر.

1 ــ التحديات المعاصرة للعمل الصوفي:

1 ــ 1 ــ تحديات الذات الصوفية:

أخذاً بعين الاعتبار مُميزات التديّن الصوفي، والذي يقوم على الانتصار للهم التزكوي الصرف، أو قل تخليق الذات، ومواجهة "العدو الثاني" لهذه الذات؛ أي هوى النفس، موازاة مع مواجهة العدو الأول: الشيطان دون سواه؛ وأخذاً بعين الاعتبار أيضاً أن إغراءات توظيف التصوف، لاعتبارات شخصية [ذاتية] أو فكرانية [إيديولوجية] أو سياسية[1] أو غيرها، فإن أهم التحديات التي تطال الذات الصوفية في تفاعلها مع هوى النفس أو حظوظ النفس، تكمن في الرضوخ لهذه الإغراءات، وهذا ما نُعاينه على أرض الواقع المادي مع عديد أمثلة ووقائع.

رُبّ معترض يرى أن هذه التحديات قائمة منذ قرون، وخاصة منذ ولادة التصوف المؤسساتي [في صيغة طرق صوفية، ابتداءً من القرن السابع الهجري؛ أي حقبة سقوط حضارة بغداد]، وأنه من باب أولى أن تكون هذه التحديات قائمة منذ عقود في مجالنا التداولي الإسلامي الإقليمي، في شمال إفريقيا، على غرار باقي المجالات التداولية التي تضم عدة أنماط من التديّن الصوفي، إلا أن واقع الحال اليوم، في الزمن المعاصر، في الساحة المغربية [مثلاً]، يُفيد أن هذه الإغراءات أصبت عصية على الإحصاء والمتابعة، من فرط تشعبها، وقد حذرنا منها في إصدار سابق، حيث أكدنا أنه إذا جاز لنا اختزال أهم المعالم المستقبلية لواقع هذه الفورة التي يشهده الشأن الصوفي في المغرب الذي يُلقب بـ"بلد الأولياء"، يمكن الحديث عن أربعة خيارات في التعامل مع التصوف: المأسسة، أو الخيار التوظيفي؛ التمييع، أو الخيار الفولكلوري؛ التهميش، أو الخيار التقزيمي؛ الهيمنة، أو الخيار التوسعي"[2] [2009].

1 ــ 2 ــ تحديات المحيط القريب:

نقصد بتحديات المحيط القريب، مُجمل التحديات المرتبطة بالخطاب الديني بشكل عام، سواء كان خطاباً دينياً وعظياً، صادراً عن مؤسسة دينية، أو مشروع إسلامي فكراني/ إيديولوجي؛ أو كان خطاباً دينياً سياسياً، ومن باب أولى، إن كان الأمر يتعلق بالخطاب الديني القتالي، أو قل "الجهادي". ويُحسب للباحث محمد التهامي الحراق، أن توقف ببعض التفصيل في عمله الأخير[3]، عند مجموعة من أعطاب هذا الخطاب، وخاصة في مضامين الباب الأول من العمل، ونذكر من عناوين المقالات التي جاءت في هذا الباب: "في الحاجة إلى نقد الخطاب الوعظي"[4]؛ "الإسلام وكفى: الشعار ومخاتلاته"؛ "بؤس التديّن وجنونُ التماهي"؛ "فهمُ الدين وسؤال التغيُّر"؛ "أي خطاب ديني نريد في زمننا المفتوح"؟ وغيرها من المقالات التي تصب في الانتصار لهاجس النقد الذاتي، و"الإقدام على العمل العلمي والإيماني الضروري من أجل المراجعةِ النقدية الجذرية لخطابنا الديني السائدِ، وهي مراجعةٌ نخالها ملحاحةً ومصيرية وضرورية عقلاً وإيماناً وتاريخاً؛ ذلك أن واقعَ التشرذم الطائفي، والتعصب المذهبي، والانغلاق التفسيري، ووهم الامتلاك الحصري للحق، والتماهي مع الفرقة الناجية، والعجز عن الخروج من الفهم السيِّد والسائد للتديّن؛ على ما فيه من عِلل وآفات عقلية وإيمانية وتاريخية، ذلك يفضي إلى تكريسِ "الجهل" السائدِ باسم "المقدَّس"، أو "الجهل المقدس" بتعبير الباحث الفرنسي أوليفيه روا.

من بين تحديات المحيط البعيد التي تطال العمل الصوفي نجد الفلسفات المادية والرأسمالية المتوحشة المعادية للإنسانية والديانات الرقمية المعادية للديانات التوحيدية  

واضح أن المقصود بهذه الإشارات النقدية، لائحة عريضة من أنماط تديّن، وخاصة منها التديّن الحركي، الذي تسبب للمسلمين ولغير المسلمين فيما يُشبه مشاكل مجانية، وليس صدفة، أن تكون بعض الممارسات الصادرة عن هذا التديّن، في مقدمة الأسباب والمُحددات المغذية لظاهرة "الإسلاموفوبيا"، بما يُحيلنا على تحديات المحيط البعيد.

1 ــ 3 ــ تحديات المحيط البعيد

يصعب حصر لائحة التحديات التي تطال العمل الصوفي، ذات الصلة بتحديات المحيط البعيد، ونقصد بها بشكل عام التحديات التي تطال الإنسانية جمعاء، بمقتضى "النزعة الإنسانية" أو قل النزعة الناسوتية، [Humanisme] التي تُميز هذه المرجعية أو تلك، بما فيها المرجعية الإسلامية [نسبة إلى الإسلام وليس الإسلاموية]، ولكن، يمكن أن نذكر من هذه التحديات ثلاثة على الأقل، ضمن لائحة عريضة من التحديات:

ــ الفلسفات المادية المُعادية للنزعة الإنسانية وإن كانت تدعي الدفاع عنها؛

ــ الرأسمالية المتوحشة المعادية للإنسانية جمعاء وإن كانت تدعي خلاف ذلك؛

ــ الديانات الرقمية المعادية للديانات التوحيدية، وإن كانت لا تجهر بذلك.

واضح أن هذه التحديات التي تواجه الإنسانية جمعاء، تطال المسلمين، وبالتالي على العقل الإسلامي الصوفي مسائلة الذات النظرية الصوفية، عن طبيعة المفاتيح النظرية التي يمكن أن تساعد المسلمين وغير المسلمين على مواجهة التحديات سالفة الذكر.

 

2 ــ مفاتيح نظرية لمواجهة التحديات التي تطال العمل الصوفي:

بعد استعراض بعض التحديات الذاتية والخارجية التي تطال العمل الصوفي في السياق الزمني المعاصر، آن الأوان لكي نتوقف عند بعض المفاتيح النظرية التي نحسبها قادرة على المساهمة في التصدي لهذه التحديات.

2 ــ 1 ــ مفاتيح نظرية لمواجهة تحديات الذات:

لا مفر من وعي الفاعل الصوفي اليوم، بأنه مُطالبٌ بتجديد خطابه الديني، في سياق تجديد أوسع يهم الخطاب الديني في التداول الإسلامي برمته، ومطالب أيضاً بتأهيل عُدته المعرفية، وصيانة مُمارسته الأخلاقية، أخذاً بعين الاعتبار أن مؤشر التخلق عند المتديّن الصوفي، يبقى مرتفعاً مقارنة مع مؤشر التخلق عند باقي أنماط التديّن الحركي[5]، نظرياً على الأقل، لأنه من الناحية العملية، نُعاين عدة تحولات طالت مؤشر التخلق في الخطاب الصوفي.

2 ــ 2 ــ مفاتيح نظرية لمواجهة تحديات المحيط القريب:

لا مفر من وعي الفاعل الصوفي اليوم، بأنه مُطالبٌ بالانخراط النظري والعملي في الأفق التداولي الإصلاحي، أياً كانت بوابة هذا الأفق، ثقافية أو دينية أو اجتماعية أو غيرها، مع تحفظ نسبي على البوابة السياسية، بمقتضى الآثار الأخلاقية والنفسية لقاعدة: "حُبُّ السلطة آخر ما يُنزع من قلب المؤمن".

ولو توقفنا عند الأفق الديني على سبيل المثال، خاصة أن العمل الصوفي يُصنف إجرائياً على هذا الحقل، فبَدَهي أن الفاعل الصوفي مطالب بالمساهمة النوعية في رد الاعتبار لروح الدين، وأخذ مسافة من التديّن الطقوسي الذي يُهيمن بشكل لافت على الخطاب الديني، ومعلوم أن هذا التديّن بالذات، أساء لنا ولغيرنا على حد سواء.

الفاعل الصوفي مُطالبٌ بالانخراط النظري والعملي في الأفق التداولي الإصلاحي، أياً كانت بوابة هذا الأفق، ثقافية أو دينية أو اجتماعية أو غيرها. 

2 ــ 3 ــ مفاتيح نظرية لمواجهة تحديات المحيط البعيد:

لا مفر من وعي الفاعل الصوفي اليوم، بأنه مُطالبٌ بالانخراط المعرفي، محلياً وإقليمياً ودولياً، في مجمل المبادرات النظرية والعملية التي تشتغل على تفكيك وتقويض التحديات الخارجية/ الكونية سالفة الذكر، وقد استعرضنا بِضْع نماذج منها، لأن اللائحة عصية على الإحصاء.

على صعيد آخر، ومادام الإسلام أصبح اليوم موضوع الساحة العالمية، لأسباب تُسيء إليه قبل غيره، أو لأسباب استراتيجية ذات صلة بارتفاع الديمغرافية الإسلامية، أو مرتبطة باستغلال الخطاب الإسلامي الحركي في صراعات استراتيجية، كما عاينا ذلك قبل[6] وبعد أحداث "الربيع العربي"[7]؛ وتفاعلاً مع سؤال تطرحه علينا عقول باقي المجالات التداولية، وخاصة العقل الغربي المعاصر، في السياق الأوروبي والأمريكي، عنوانه البارز كالتالي: أي خطاب إسلامي[8] يريد المسلمون وغير المسلمين اليوم؟ فقد اتضح أن التديّن الصوفي، وحتى لو افترضنا أنه يَعج بقلاقل في السلوك، فإنه أقل ضرراً مقارنة مع باقي أنماط التديّن الإسلامي، السلفي الوهابي والإخواني، بلْه القتالي/ "الجهادي"، لاعتبارات عدة، أشرنا إليه ببعض التفصيل في مقام آخر[9]، منها أن التديّن الصوفي يتميز بأنه تديّن ينتصر للهاجس الإصلاحي الأخلاقي، مع رهان أساسي على إصلاح الذات/ الفرد أولاً ثم العائلة فالجماعة.

وليس صدفة أن اعتناق الإسلام في أوروبا عبر بوابة التصوف أو قل عبر "الإسلام الصوفي" كانت نتائجه مختلفة كماً ونوعاً مقارنة مع اعتناقه عبر باقي أنماط التديّن، ومنها التديّن السلفي الوهابي على الخصوص؛ وليس صدفة أيضاً أن التديّن الإسلامي الصوفي[10]، لا يوجد ضمن الأسباب المُغذية لظاهرة الإسلاموفوبيا هناك، بينما نجد باقي أنماط التديّن الحركي في اللائحة، وفي مقدمتها التديّن السلفي الوهابي ("التقليدي" و"الجهادي")، والتديّن الإخواني، في مقدمة الأسباب؛ بل نزعم أن العمل الصوفي، في شقه النظري/ المعرفي، هو المؤهل أكثر، مقارنة مع باقي أنماط التديّن، لكي يُبدع في باب "فلسفة الدين" الذي يحتاجه اليوم المسلمون وغيرهم من أجل مواجهة لائحة التحديات الكونية التي تواجهنا جميعاً.


[1] المقصود هنا "السياسة السياسوية" [politique politicienne]، وليس "السياسة النافعة".

[2] أشرنا حينها إلى أنه إذا جاز لنا اختزال أهم المعالم المستقبلية لواقع هذه الفورة التي يشهده الشأن الصوفي في "بلد الأولياء"، يمكن الحديث عن أربعة خيارات في التعامل مع التصوف: المأسسة، أو الخيار التوظيفي؛ التمييع، أو الخيار الفولكلوري؛ التهميش، أو الخيار التقزيمي؛ الهيمنة، أو الخيار التوسعي.

انظر: منتصر حمادة، نحن والتصوف، دار الشروق، الرباط، ط 1، 2009

[3] انظر: محمد التهامي الحراق، إنِّي ذاهبٌ إلَى ربِّي: مقاربات في راهن التدين ورهاناته، دار أبي رقراق للنشر، الرباط، ط 1، 2016، وجاء العمل في 403 صفحة. ونزعم أن هذا الكتاب يُعتبر تطبيقاً عملياً لمقتضى التفاعل مع التحديات التي تطال العمل الصوفي اليوم.

سبق أن توقفنا عند أهم مضامين هذا العمل، انظر: منتصر حمادة، السرديات الصغرى والسرديات الكبرى في "رهانات التديّن" اليوم، موقع "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث"، بتاريخ 11 يناير 2018، على الرابط المختصر: goo.gl/xbwbg3

[4] انظر أيضاً: محمد التهامي الحراق، في الحاجة إلى "نقد" الخطاب الوعظي، موقع "الإسلام في المغرب"، 5 مارس 2013، على الرابط الإلكتروني:

www.islammaghribi.com/archives/2012-09-03-04-12-14/1355-2013-03-05-11-17-27.html

[5] من قبيل التديّن "الجهادي" أو "السلفي الوهابي" أو الإخواني أو الشيعي.. إلخ.

[6] ومن ذلك توظيف الإدارة الأمريكية لورقة جماعة "الإخوان المسلمين" في سياق الضغط على الدول العربية، والتمهيد لإدماج الحركات والأحزاب الإسلامية في الحكم، كما سَطّرت ذلك الإصدارات التي اشتغلت عليها العديد من مراكز الدراسات الأمريكية، أو بعض الأعمال ذات الصلة، من قبيل ما حرّره الباحث القانوني الأمريكي نوح فيلدمان [Noah Feldman]. انظر:

Noah Feldman, After Jihad: America and the Struggle for Islamic Democracy, Farrar, Straus & Giroux Inc, 2004, 260 pages.

[7] ومن ذلك توظيف العديد من الدول العربية والإسلامية الجماعات الإسلامية القتالية أو قل "الجهادية" في سياق التأثير على مجريات الأحداث التي طالت أحداث "الربيع العربي" في المنطقة، ونخص بالذكر، ما جرى في سوريا وليبيا.

[8] واضح أننا لا نتحدث هنا عن الدين/ الإسلام، ولكن نتحدث عن التديّن، من قبلي التديّن الحركي أو الثقافي أو التديّن الصوفي غيره.

[9] انظر: منتصر حمادة، المتديّن الصوفي لا يُفجر نفسه، موقع مؤسسة "مؤمنون للدراسات والأبحاث"، 4 يناير 2018، على الرابط المختصر: goo.gl/K3j3q7

[10] على هامش الاشتغال على ملف الإصلاح الديني في السياق الإسلامي، نشرته مجلة "عالم الأديان" الفرنسية، سُلطت الأضواء على خطاب واجتهادات العديد من الأقلام الإصلاحية (محمد الحداد، يوسف الصديق، مالك شبل، عياض بن عاشور، محمد طالب..)، ولكن سُلط الضوء أيضاً على الخطاب الصوفي ودوره في تجديد الخطاب الديني، من خلال مساهمة الباحث الفرنسي [الصوفي] إيريك جوفروا، عبر الإحالة على أطروحته حول المستقبل الروحي للإسلام في أوروبا. انظر:

Éric Geoffroy, L'islam sera spirituel ou ne sera plus, le monde des religions, Paris, janvier-février 2018, p 42-43