الغرب، معنًى ثقافيًّا، وجغرافيًّا... وإشكاليةً واقعةً...


فئة :  مقالات

الغرب، معنًى ثقافيًّا، وجغرافيًّا... وإشكاليةً واقعةً...

ما هو الغرب؟! ومما يتشكل، بالمعنى المعرفي والعملي؟! هل هو مجرد حالة ذهنية افتراضية؟! أم أنّه واقع سياسي حقيقي تشكل تاريخياً بالاستناد إلى جملة عوامل ومكونات فكرية واجتماعية تداخلت فيها الجغرافية والمصالح الاقتصادية والسياسية؟!.. ثم ما هو موقع العامل الديني ودوره في صياغة الحضارة الغربية الحديثة وتشكلها؟! وهل له موقع محوري أم ثانوي في تنظيم العلاقات المجتمعية السياسية والعملية في الغرب؟! وهل صحيح أنّ هذا الغرب –الذي كرس منذ عدة قرون، مبدأ العلمنة وفصل الدين عن الدولة، ومبايعة العقل البشري مصدرًا وحيدًا للمعرفة- لم يعد حالياً دينياً في تعاملاته وعلاقاته مع باقي الثقافات والحضارات القائمة ومنها ثقافتنا الإسلامية؟!.. بل يتعاطى معها من منظور المصالح المتبادلة الخاضعة لمنطق السوق التداولي، وحسابات المنفعة؟!..

في الواقع نريد منذ البداية أن نحدد ما نقصده بالغرب، وهو هنا الغرب بالمعنى الجغرافي (وليس بالمعنى "السياسي-الثقافي" فقط المتداول حالياً في مختلف الأوساط الدولية) الذي يتحرك في الواقع العالمي - في مجمل علاقاته الدولية - كأي نظام سياسي آخر بما يحقق تطلعاته ويضمن مصالحه ومصالح شعوبه، ويحقق استقرار مجتمعاته وبلدانه وازدهارها.

والملاحظ هنا أنّ الكثير من المؤرخين والمفكرين أعطوا لمفهوم الغرب دلالةً فكريةً ثقافيةً ووصفةً مفهوميةً نقلته من المعنى الجغرافي[1] إلى معنى آخر جديد طغت عليه الرؤية الثقافية التي باتت تنظر إلى الغرب من منظور كونه واقعاً مفاهيمياً غير مرتبط بمنطقة جغرافية معينة كما كان عليه الحال في السابق.. وبهذه النظرة أو الرؤية أصبحت دولة مثل اليابان - الواقعة في أقصى الشرق - من الدول الغربية[2]القوية والمهيمنة على العالم اقتصادياً، باعتبارها إحدى دول مجموعة الثمانية الصناعية الكبرى الأقوى في العالم، والتي تشكل مع كل من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وكندا مجموعة السبعة الكبار (مضافاً إليهم لاحقاً روسيا) التي تتحكم باقتصاد العالم ومصيره ومستقبله. وهذا توجُّه فكري وحالة توسيع أيديولوجي وليس بعداً جغرافياً، يرتكز على ما تقوم به تلك الإدارات السياسية الغربية من فرض إرادتها ومعاييرها ونظمها الحضارية على الآخر...

أمّا الغرب الحضاري والتنويري (غرب فلسفة الأنوار العقلية) الذي أبدع وأنتج وأضاف (ولا يزال يبدع ويضيف) أشياء وإبداعات إنسانية جديدة (فكرية وعلمية وتقنية وصناعية هائلة..إلخ) فهو ليس موضع نقاشنا وانتقادنا هنا، بالرغم من وجود كثير من الملاحظات الفكرية النقدية على طبيعة الرؤى والتصورات المفاهيمية التي يعتقدها ويعتنقها حول طبيعة قناعاته ورؤيته وفلسفته في الوجود والحياة والإنسان.

ويبدو لنا حالياً أنّ النظرة للغرب، باعتباره فضاءً سياسياً وسياقاً حضارياً هي النظرة القائمة لدى قطاعات واسعة من نخبنا ومفكرينا وأفراد مجتمعاتنا... وبهذا المعنى يصبح الغرب صفة تطلق على مجمل هذا المناخ "الحضاري-الثقافي" المتشكل تاريخياً في أوروبا بعد حدوث تحوّلات وصراعات سياسية واجتماعية عنيفة عاصفة (من قبيل: حروب أهلية ونزاعات طائفية مذهبية-مواجهات شرسة بين ممثلي الدين والعلماء على خلفية العنف الكنسي العاري الذي مورس بحق هؤلاء العلماء ممن وضعوا قوانين ونواميس علمية واكتشفوا نظريات وسُنَنًا حياتية وكونية مخالفة لرؤى الكنيسة والإكليروس المسيحي ومقدساتهما-تطورات علمية واكتشافات قانونية) أفضت بمجملها إلى خلق تيارات الحداثة والعلمنة والتنوير الأوروبي التي أقرت وكرّست المبادئ التالية:

-حرية الفرد المطلقة وغياب أيّة سلطة مهيمنة عليه سوى سلطته الذاتية أو ضميره. وبذلك تمّ إلغاء دور الطقوسية الدينية المسيحية وتأثيرها في الأفراد والمجتمعات التي كانت تدور في فلك رجالات الدين ممن كانوا يمتلكون زمام المبادرة والحكم بالتكاتف والتعاضد مع السلطات الزمنية التي كانت قائمة في ذلك الوقت.

-واعتمدت مبدأ (وعقيدة) العلمنة ثقافةً ومنهجًا عمليًّا حياديًّا تجاه الأديان والطوائف...

-وأبعدت الدين عن ساحة الفعل الوجودي الخارجية، وأرجعته إلى وضعه الطبيعي السابق بوصفه حالةً من حالات الإيمان الفردي الذاتي الذي لا علاقة له بمجريات الواقع ومتغيرات الحياة من حوله...

وبمعنى آخر، فقد أقام الغرب وجوده الرمزي والمفاهيمي على الفلسفة العقلية والعلمية المرتكزة على العقل والتجربة والحس والرؤية العيانية... وهي نظرة كونية وفلسفة حياة عن الوجود والإنسان مختلفة ومغايرة للنظرة الكونية الإسلامية التي كرست مبدأ الخلافة والأمانة.

والغرب، من حيث هو دول وتيارات وواقع "جغرافي-سياسي"، ليس واحداً متوحداً إلا بالجهة الجغرافية التي تعيش عليها حالياً معظم المجتمعات الغربية المتدينة مسيحياً، وهي الجهة الواقعة إلى الغرب من مركز الحضارة الإسلامية (مهبط الأديان والرسالات: فلسطين-شبه الجزيرة العربية)، كما أنّ الطبائع بين مختلف التيارات والأنظمة الفكرية المسيطرة هناك متفاوتة ومتغيرة، والأمزجة مختلفة ومتقلبة... فما يمكن أن تشاهده وتتفاعل إيجاباً أو سلباً معه في أنجلترا مثلاً قد يبدو مختلفاً عن فرنسا، وهما بدورهما مختلفان عن ألمانيا وإيطاليا... فنحن –إذاً- نلاحظ وجود حالة تنوع في طبيعة النظرة للأديان والثقافات والقوميات... أي أنّه يوجد أكثر من تيار ثقافي وديني مؤثّر في العالم الغربي فيما يخصّ العلاقة مع الإسلام، ومع الحضارة العربية الإسلامية:

-فهناك التيّار الديني المتطرف (المشابه - في السياق العام - للتيارات الأصولية المتشددة والمتعصبة في اجتماعنا الديني الإسلامي) الذي لا يزال ينظر إلى الإسلام بالنظرة القروسطية القديمة نفسها التي كانت تعتبر الإسلام ديناً غير سماوي، وأنّ محمداً(ص) ليس نبياً، وأنّ عقائده التي جاء بها عبثية ولا معنى لها لأنّها تنكر الحقائق المسيحية[3]. والواضح أنّ هذا التيار ضعف في الغرب الحديث، ولم يعد له أتباع كثيرون، بسبب رسوخ قيم الحداثة العقلية التي أفضت إليها قيم عصر النهضة الأوروبي ومبادئه.

طبعاً، لا يمكننا غضّ النظر هنا عن التحريض شبه الدائم الذي تقوم به وتغذّيه باستمرار نخب سياسية وثقافية ومراكز قوى سياسية ودينية صهيونية متطرفة منتشرة في العالم الغربي ضد الإسلام والمسلمين. وقد ساهم هذا المناخ السلبي -المتولد تاريخياً[4] والموجود أصلاً في داخل البيئة الثقافية الغربية تجاه العرب والمسلمين- في إبقاء حالة الشك وعدم الثقة بين أتباع الديانتين (المسيحية والإسلام)، بما يخدم مصالح القوى السابقة في إذكاء عوامل التنابذ والخلاف بينهما، ويحقق مكاسبها الخاصة في استدامة الصورة النمطية العنيفة للمسلم في الذهنية الغربية عموماً.

-وهناك أيضاً التيار العلماني المسيطر حالياً على واقع المجتمعات الغربية وحياتها وسياساتها عموماً، والمتحرّر تقريباً من نمطية التفكير الديني المسيحي واليهودي القديم وأوهامه (الذي لا يعكس حقائق بمقدار ما يحرّف وقائع ويختلق أحداثاً، ويقرر قيماً ومبادئ)..

وهذا التيار الحداثي الغربي ليس مهتماً[5] – بصورة عامة- بأقوال المتديّنين (والأديان) وأفكارهم وثقافتهم عموماً، بل إنّه ينظر بحيادية تامّة إلى الأديان كلها، ويقرّ مبدأ الدولة وضرورة الخضوع لسلطتها ونظامها العام الذي لا يميز بين أتباع دين وآخر... فالجميع متساوون أمام القانون الوضعي، ولكلٍ حقّه في التعبّد، وحريته في التعبير وفي الولاء والالتزام بأيّ طقس ديني.. فالدساتير التي توصّل إليها الغرب الحديث علمانية تكفل الحريات الخاصة والعامة لكافة مواطنيها وحتى للمقيمين على أراضيها.

أما الجذر الأساسي الذي ارتكز عليه الغرب في نشأته ونموه، فهو الجذر المغروس في عمق الحضارة اليونانية القديمة - حضارة العقل - التي شكّلت التربة والوعاء الحضاري الأهم الذي استقت منه أوروبا (والغرب عموماً) ازدهارها وتطوّرها وأسس تقدمها اللاحق بعد مرورها بأدوار وتطورات ثقافية وسياسية ومجتمعية أهلية شديدة التعقيد والتنوع... كما كان للمسيحية تأثير كبير أيضاً في ذلك أيضاً، خصوصاً بعد تبنيها واحتضانها من قبل الحضارة الرومانية.

ومن المعروف تاريخياً أنّ الإمبراطورية الرومانية قامت على أجزاء واسعة من القارة الأوروبية وكان سقوطها في القرن الخامس الميلادي مدخلاً وبوابة لكثير من التغيرات والتحولات في القارة كان من أبرزها ما حدث إبان عصر الهجرات حيث عانت أوروبا كثيراً في ظل صعوبة الحياة والمعيشة في العصور المظلمة.

وقد كان للحضارة العربية الإسلامية -التي شعّت في الأندلس- دور حيوي مهمّ في انبثاق النهضة الأوروبية التي تجلّت من خلال ذلك الدور المميّز للفكر الإسلامي في الأندلس –لا سيما عبر فكر ابن رشد- ليس فقط في إيصال الفلسفة الإغريقية وإنّما في إعادة قراءتها، على عكس ما تحاول المصادر الغربية إشاعته والترويج له عبر الزعم أنّ الأسطورة المؤسسة للغرب تشكلت فقط على مرجعية "يونانية –رومانية"، ومن دون وجود أي دور أو فضل للمصادر الشرقية أو غير المسيحية الأخرى (كالمصريّة، الهندية، الإسلامية،... ) على الحضارة الأوروبية.[6]

وبعد دخول عصر النهضة الأوروبي، وفترة الممالك الجديدة، وبداية تحرّر المجتمعات من ربقة الحكم الديني الكنسي الظالم، بدأت عصور الاستكشاف، وانطلقت الاختراعات العلمية، وازداد الاهتمام بالعلوم الإنسانية والتطبيقية. وكانت البرتغال أول من بدأ بالاستكشاف في القرن الخامس عشر الميلادي وتبعتها بعد ذلك إسبانيا، ومن ثم جاءت بعدهما فرنساوالمملكة المتحدة وهولندا... حيث لاحظنا كيف قامت كل من هذه الدول باستعمار الشعوب الفقيرة والاستيلاء على أراضيها في قارات آسيا وأفريقيا والأمريكيتين، حيث (تحركت الهيمنة الاستعمارية الغربية انطلاقاً من مزاعم وأوهام ثلاثة هي، الدين (المسيحية)، والنقاء العرقي، والتفوق العرقي. وقد استخدمت هذه المسوِّغات لتبرير غزو مختلف العوالم الأرضية، وإخضاعها والسيطرة عليها).

وبعد انتهاء عصر الكشوفات الجغرافية، وتدفق المواد الخام من أراضي المستعمرات، أصبح الشغل الشاغل للغرب متركزاً حول ضرورة نشر أفكار الديمقراطية وبثها وكيفية تطبيقها. فانطلقت الشعوب الأوروبية للمناداة بالحرية والمساواة الفردية، وكان أبرز حدث توّج تلك الأفكار والتوجهات هو الثورة الفرنسية التي خلقت مناخاً ثقافياً وسياسياً جديداً في أوروبا، وأشاعت أفكار الثورة على الإقطاعيين أو رجال الدين في مختلف مناطق القارة. كما أدى نشوء القوميات - بمعناها الحديث - إلى تعزيز الصراع الدائر بين القوى العظمى في أوروبا على دول العالم الحديث. وكان من أشهر تلك الصراعات ما حدث عند استلام نابليون بونابرت السلطة في فرنسا، حيث أنشأ ما عرف باسم الإمبراطورية الفرنسية التي سرعان ما انهارت. وبعد سقوط نابليون هدأت القارة الأوروبية نسبياً، وبدأ في تلك الفترة انهيار الممالك ونظم الحكم القديمة.

وبعد ذلك - تحديداً في القرن الثامن عشر الميلادي - بدأت الانطلاقة الفاعلة والمنتجة للتنوير والحداثة الغربية، وانطلقت الثورة الصناعية في المملكة المتحدة (بريطانيا العظمى)، وكان من أهم نتائجها تحويل الاقتصاد الأوروبي تدريجياً من الاعتماد الكلي على الزراعة والمنتجات الزراعية فقط إلى الاعتماد على الصناعة أيضاً، بعد اختراع الآلة البخارية، والمحرّك، واكتشاف الفحم الحجري الذي كان عصب الصناعة آنذاك.

ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى نهاية الحرب الباردة كانت أوروبا مقسّمة إلى كتلتين كبيرتين سياسية وعسكرية، ومنقسمة على ذاتها إلى حلفين اقتصاديين رئيسين هما، الحلف الشرقي (حلف وارسو، الكتلة الشيوعية) المتركزة في أوروبا الشرقية بزعامة الاتحاد السوفياتي السابق، والحلف الغربي (حلف الناتو، كتلة الأطلسي) الرأسمالي، المتركز في غرب القارة الأوروبية وبعض أجزائها الجنوبية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية. وبعده حدثت جملة تحوّلات قادت إلى سقوط الكتلة الشيوعية بعد تهدّم سور برلين وإعادة توحيد الألمانيتين، وبدء مسيرة توحد أوروبا اقتصادياً وسياسياً تقريباً، حتى تحققها تحت سقف اتحاد اقتصادي واحد مع التنوع ضمن الوحدة، مع التأكيد على تفوق الغرب وعلوّ كعبه العلمي والاقتصادي والتقني، زعيمًا للعالم من خلال قيادته للدول الصناعية الكبرى (G8)، وتحكّمه بمفاصل القرار الاقتصادي والأمني والعسكري العالمي (فيتو مجلس الأمن)، وهيمنته على مناطق الطاقة والموارد الخام، ورعايته لمصالحه المباشرة وغير المباشرة بما فيها حماية إسرائيل، وخطوط إمداد الطاقة، و"مكافحة الإرهاب".

أخيراً وبالرغم من كل علاقات التنابذ التي تسببت بانعدام الثقة بين الإسلام والغرب على مرّ التاريخ القديم والحديث، نؤكد بأنّ الغرب هو بالنسبة إلى الإسلام، نظير في عالمنا المعاصر، سبق حضارتنا بأشواط كثيرة جداً تقنياً وعلمياً وتنموياً، وحضارة هذا الغرب تختزن -بطبيعة الحال- في داخلها عناصر وجوانب إيجابية كثيرة لا حصر لها، فهي تمثل خلاصة الحضارات البشرية (تراكم الخبرات والمعارف والتطورات ومختلف أنواع النتاجات العلمية والتقنية الهائلة المتسارعة والمستمرة في تسارعها) التي تعاقبت على وجه الأرض... وحققت كثيراً من الإنجازات الحضارية والعلمية والتقنية منذ القرن الثامن عشر، مثل الآلة البخارية والكمبيوتر والتقدم الطبي، والنظام الديمقراطي، وتكريس مبادئ حقوق الإنسان، والتعددية الثقافية والسياسية...إلخ.

ولكن المشكلة أنّ ما رافق تطور الغرب الهائل لم يكن في كثير من نواحيه إيجابياً ونافعاً للبشر ككل خاصة في ظل هيمنة العقيدة المركزية التي لا تزال تتحكم بهذا الغرب، وهي العقيدة النفعية البراغماتية الطاغية هناك على حساب القيم الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان السامية التي يتغنى بها الغرب على المنابر، ويتناساها قصداً في الممارسات والسلوكيات والعلاقات.

لقد زادت حالة الفوضى البيئية والسياسية والاجتماعية والثقافية والمعنوية، وارتفعت معدلات العنف الدموي، وتصاعد حجم التفاوت الهائل في مستوى الحياة بين أبناء الشعوب الأوروبية وبين أبناء الشعوب الأخرى، ومنها شعوبنا العربية والإسلامية... هذا كله مما يسجل وصمةَ عار على جبين هذا الغرب الغني في مادته وصناعته وتطوره العلمي اللامحدود، ولكن الفقير في معاني الحياة الإنسانية وتطلعاتها ومصائرها وغاياتها التي ارتضاها الخالق للناس على مستوى أن يكون هذا الإنسان هو الممثل اللائق بوعيه وعقله وتكامله المعنوي ليكون ممثلاً لله على الأرض خليفةً مستأمنًا على الحجر والشجر والبشر والعلاقات والطموحات والإنتاج والفعل والمصائر.


[1] تعتبر أوروبا إحدى قارات العالم السبع؛ وهي تعد - من الناحية الجغرافية - شبه قارة أو شبه جزيرة كبيرة.. يمتد الجزء الغربي منها من أوراسيا بين جبال الأورال والقوقاز وبحر قزوين من الشرق والمحيط الأطلسي من الغرب، والبحار الأبيض المتوسط والأسود ومنطقة القوقاز من الجنوب، والمحيط القطبي الشمالي من شمال القارة، وهي قارة صغيرة نسبياً مقارنة ببقية القارات ما عدا قارة أستراليا الأصغر منها... أمّا مساحة أوروبا فتبلغ حوالي 10.79 مليون كم2، وهذا ما يشكل ما نسبته 7.1 % من مساحة الكرة الأرضية، وهي أيضاً تصنف ثالث قارة من حيث عدد السكان في العالم إذ يزيد عدد سكانها عن 700 مليون نسمة، وهو ما يعادل نسبة 11 % من سكان الأرض. (راجع موقع موسوعة ويكيبيديا على الإنترنت).

[2] أخذ مصطلح "الغرب أو العالم الغربي" معاني متعددة، فقد كان يقتصر في الماضي على القارة الأوروبية، وبعد ذلك أضيفت إليه المستعمرات التي احتلتها قوى الاستعمار الغربي.

ويمكن القول حالياً بأنّ هذا المصطلح أصبح يستعمل للإشارة إلى تلك الدول التي تتميز بعادات وتقاليد ونظم فكرية وسلوكية معينة تختلف عما هو سائد في غيرها من العوالم الأرضية الأخرى. وفي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية - وما أعقبها من تقسيم للعالم إلى ثلاثة أقسام أو محاور- أصبح يطلق على العالم المتقدم بـ"العالم الأول"، وهو يضم عدداً من الدول الكبرى المتحالفة مع بعضها البعض ضمن ما يسمى بـ"حلف الناتو" الذي يشمل دول أوروبا الغربية مع الولايات المتحدة الأمريكية. وأصبح مصطلح "العالم الثاني" يطلق على الدول الشيوعية، مثل روسياوالصين وغيرها من الدول المتضامنة والمتحالفة معها مثل كوبا. أمّا دول العالم الثالث، فقد صنفت بالدول المتخلفة التي كانت، في معظمها تقريباً، ونظرياً على الأقل، حيادية تنتمي إلى منظمة دول عدم الانحياز.. وهكذا أصبح مصطلح "العالم الغربي" يطلق فقط على دول العالم الأول للدلالة على تطوره وتقدمه وأسبقيته في العلم والمدنية والرقي والتقدم والتحضر التي ستولّد - في وعي الغرب ولا وعيه - ثقافة النخبة والتفوق والعظمة، التي ستتجسد من خلال الهجمة الاستعمارية الأوروبية على الصورة الامبريالية التي وقعت. أما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد لاحظنا كيف بدأ الوعي الغربي يراجع تاريخه وماضيه المأساوي عساه ينجح في بناء علاقات من نوع آخر مع من اقترف بحقهم جرائم في الماضي، وهو بصدد وضعهم تحت مظلته. لكن هذا التطور لم يزحزح الاقتناع بالتفوق على الآخرين حتى الآن.

[3] بالرجوع إلى كتاب البدع ليوحنا الدمشقي الذي توفي في العام 754م، أي بعد وفاة النبي محمد(ص) بحوالي 120 سنة، نلاحظ أنّ هذا الرجل يصنّف، في الكتاب المذكور الإسلامَ، باعتبار أنّه الزندقة رقم 100، ولا يعتبر الرسول محمدًا (ص) نبياً، ويضيف بأنّ عقائد الإسلام غير ذات معنى بسبب تناقضها مع عقائده المسيحية. وفي كتاب آخر له (محاورة بين مسلم ومسيحي) يدافع يوحنا الدمشقي عن المسيحية –وهذا من حقه بوصفه مؤمنًا بها- ويحذر أتباعها في سوريا (التي كانت آنذاك مسيحية الديانة) من اعتناق الإسلام.

وبعد يوحنا الدمشقي بقرون عديدة جاء القديس توما الأكويني محاولاً إسقاط الإسلام من ذهنية أتباعه، وغير أتباعه، منطلقاً من الأفكار الخاطئة والتحريفية التالية التي لا يصدقها إلاّ جاهل وساذج، (والتي لن نستفيض في الرد عليها وتفنيدها، فقد سبقنا إلى ذلك كثيرون من علماء الإسلام الكبار ممن أشبعوا هذا الجانب درساً وبحثاً وتحليلاً وتفنيداً، كما أنّ المقام هنا ليس مقام الرد والاحتجاج على آراء الاستشراق الغربي):

-الإسلام دين غرائزي شهواني، وقد استطاع محمد أن يغري الأتباع، ويجذبهم إليه عن طريق وصف الجنة وشهواتها ونسائها وملذاتها في القرآن. يضاف إلى ذلك أنّ محمّدًا كانت له عدة نساء، وهذا لا يليق بنبي على حد زعمه.

-الإسلام لا يقدم إلاّ حقائق عادية يسهل على الناس العاديين أن يفهموها؛ فالإسلام دين العامة والبسطاء والجهلة والمتخلفين من الناس بحسب اعتقاد الأكويني. وذلك على عكس الديانة المسيحية المعقدة وذات الأسرار الربانية التي لا يفهمها إلاّ الراسخون في العلم.

-لم يقنع الإسلام أصحابه وأتباعه بالعقل والحجة والبرهان. كما أنّه انتشر بقوة السلاح والعنف. وقد خضعوا له قسراً وخوفاً من قطع الرقاب. وهذه هي براهين الطغاة وقُطّاع الطرق!. (وللتذكير فقط نسجل هنا بأنّ البابا بنديكتوس الثاني المتقاعد أو المتنحي منذ فترة، استعاد هذه التوصيف السلبي للإسلام في محاضرته المشهورة التي أحدثت وقتها ضجةً عالميةً في العالم كله).

-لا توجد أية إشارة أو ذكر للإسلام -أو تنبؤ بحصوله- في العهد القديم أو العهد الجديد (التوراة والإنجيل). وبالتالي، فهو مرفوض من قبل اليهودية والمسيحية على التوالي. وذلك على عكس ما يزعمه المسلمون من أنّ اسم نبيهم محمد قد ورد ذكره في الكتب السابقة بصيغة أحمد، ولكنّ اليهود والمسيحيين حذفوه. ومن هنا فقد جاء بأنّ كتبهم محرّفة.

-قام الإسلام بتشويه قصص العهد القديم والعهد الجديد، (قصص أنبياء بني إسرائيل وبخاصة موسى وهارون، وكذلك سيرة المسيح وأمّه مريم عن طريق ذكر قصص جديدة أسطورية مختلقة).

-يمنع الإسلام أتباعه ومعتنقي أفكاره ومبادئه من قراءة التوراة والإنجيل لكيلا تنكشف الحقائق المزوّرة، والأخرى المسروقة من المسيحية واليهودية.

[4] نشير هنا إلى أنّ التاريخ يقدّم لنا نماذج وأمثلة وافرة لهذا التشويه المتعمّد للدين الإسلامي، حيث إنّه -ومنذ ما قبل الحروب الصليبية- بقيت صورة العرب والإسلام في الوجدان الغربي سلبية على وجه العموم إلا في حالات نادرة، تحرك العقل فيها ليفكّر. وقد بلغت جهود التنفير من الإسلام ذروتها في تلك الفترة، وكان ذلك التنفير جزءاً من حملة التعبئة المضادة التي استهدفت استنفار شعوب أوروبا وتحريضها للانضمام إلى الجيوش التي اتجهت نحو القدس لتخليص مهد المسيح من أيدي المسلمين "البرابرة" و"الأشرار".

[5] لقد بات الدين -منذ عصر النهضة الغربية- عاملاً ثانوياً في واقع العلاقات والتصورات والأفعال ومستقبلها في عالم الدول الغربية وواقعها، وأصبح الدور الذي يلعبه هناك ثانوياً وهامشياً للغاية. وبالتالي فليست لديها على الجملة حساسيات عقيدية ولا ثارات ضد الإسلام. بالرغم من وجود عقليات بدائية –من كلا الطرفين- لا تزال تحاول إعادة الأمور إلى ما كانت عليه سابقاً.

[6] لقد اعترف بعض كبار المفكرين في الغرب بفضل الإسلام في تهيئة الظروف اللازمة لهذا النهوض، وأكدوا أنّه لولا مفكرو الإسلام وفلاسفته -الذين اطلعوا وهضموا فلسفة الإغريق- لم يكن من الممكن للنهضة الأوروبية أن تقوم بمد خيوط نسب مميزة مع ذلك الإرث الحضاري الكبير التي تدعي صلتها المباشرة به. ولكن الذي حدث تاريخياً هو إنكار وجود أي دور للحضارة الإسلامية في نقل التراث اليوناني وشرحه، ولحقته عملية سحق وتدمير منظمة لكل ما قام المسلمون بتشييده وإنجازه في الأندلس. فعقب طرد المسلمين واليهود منها حوّل الأوروبيون الأندلس المسلمة التي كانت معقل التسامح والعلم في أوروبا، إلى معقل للتطهير العرقي من خلال استحداث تعبير "نقاء الدم". فكان على كل من يتقدم للحصول على وظيفة عمومية أن يثبت نقاء عائلته من الإسلام واليهودية وذلك منذ أربعة أجيال على الأقل. وهذه القاعدة القانونية لم يتوقف العمل بها في إسبانيا إلاّ في 1865م.