خلافة أبي بكر: قراءة في عوامل الخلاف


فئة :  مقالات

خلافة أبي بكر: قراءة في عوامل الخلاف

خلافة أبي بكر: قراءة في عوامل الخلاف

فيصل شلّوف

طرحت وفاة النبيّ إشكاليّة حول من سيخلفه، وهل ما إذا كان أحد الأطراف يتمتّع بالأحقيّة اللاّزمة التي تمكّنه من التّميّز عن الآخرين، وبموجبها يتسلّم الخلافة. ولمّا كانت سلطة النّبي، أو هيبته الدّنيوية، تستند إلى شخصه أوّلاً، وإلى المحمول الغيبي المتمثّل في الرّسالة السّماويّة، فهو مسنود بالوحي والاصطفاء الإلهي، فإنّ لا أحد من صحابته أو عشيرته، كان يتمتّع بذلك، ولا حتى هناك من أوصى به النّبيّ ليخلفه، إلى جانب غياب نصّ قرآنيّ يقدّم الحلّ بشكل واضح. لذلك لم يكن لهذه الإشكاليّة، أن تجد حلاًّ مقبولاً لدى أطراف الخلاف، إلاّ بتداخل جملة من العوامل التي يمكن انطلاقاً منها، البحث في التّناقضات والصّراعات التي تفجّرت بعد وفاة النّبي، بدءاً من تحليل التّركيبة القبليّة نفسها، ومنطق القرابة والوراثة المتعلّق بها، وانتهاءً بعامل الأفضليّة المستند إلى الصّحابة والسّابقة في الإسلام، باعتباره عامل حسم.

1- عامل القبيلة:

كانت سلطة الرّسول منسجمة مع البنية القبليّة السّائدة، ولم تدخل معها في منافسة على افتكاك الزّعامة؛ فلم يتصرّف الرّسول خلال فترتي النّبوّة، المكّية والمدنيّة، باعتباره زعيماً سياسيّاً، لا باسم قريش، ولا باسم الأنصار، ولا باسم أيّة قبيلة من قبائل العرب. وقد كانت سلطته روحيّة تنطلق من شخصه وحده، وكانت هيبته الدّنيويّة لا تنفصل عن ذلك؛ فهو لم يقم بجمع القبائل من حوله من منطلق الانتماء القبلي، وإنّما من منطلق تبليغ الرّسالة، ولعلّ موقف قبيلته قريش من ذلك، جعلها أبعد عن نصرته وعن إمكانيّة تبنّي الدّعوة الجديدة واحتضانها في بداياتها، كما أنّ حدث الهجرة إلى المدينة لم يجعل الدّعوة المحمّديّة ترتبط بالمحيط القبلي الجديد على سبيل الانتساب إليه، رغم مساهمته الجدّية في نصرتها.

وكانت عصبيّة الانتماء إلى القبيلة أعمق وأكثر حضوراً من عصبيّة الانتماء إلى المكان الذي كثيراً ما يفارقه الأشخاص لأيّ سبب طارئ، فكانت أوطان النّاس قبائلهم التي ينتمون إليها، ويعيشون في إطارها، ويتفاعلون من منطلق ما تفرضه الأعراف التي يلتزمون بها، والتي تتحدّد ضمن سياقات تاريخيّة خاصّة، يستبطنونها وتتحكّم في أفعالهم وفي ردود أفعالهم تجاه بعضهم البعض، سواءً في فترات السّلم أو في فترات المواجهة، وبموجبها يكون التّمايز بين القبائل على قاعدتي الشّرف والقوّة، وفق سلسلة النّسب أوّلاً، والقدرة على الهيمنة ثانياً. ولعلّ هجرة الرّسول من مكّة إلى المدينة كانت في نطاق تلك التّوازنات القبليّة المهمّة، ومن المفارقات التي أزعجت قريشاً أنّ هجرة النّبي القرشيّ تجاوزت جميع مكوّنات قبيلة (عدنان)، لتستقرّ بين قبائل الأوس والخزرج التي تنتمي إلى قبيلة (قحطان)، ولا يخفى على الباحثين في التّاريخ مدى التّنافس الذي كانت تعيشه القبيلتان العربيتان[1]، ضمن سياقات مختلفة، تنتهي إلى الصّراع على الزّعامة.

وتجلّت الطّبيعة القبليّة إذ ذاك، بين جميع الأطراف المعنيّة بالزّعامة؛ فالأنصار يخافون قريشًا والمهاجرين إن استأثروا بالأمر دونهم، خاصّة وقد كان بين "يثرب" و"مكّة" قُبيل ظهور الإسلام نزاع شديد، وللقضاء على الخصومة، آخى الرّسول بين الأنصار والمهاجرين[2]، وبوفاته، فإنّ مظاهر العداء ظلت قابلة للتجدّد مادامت أسبابها لم تنته، ثمّ إنّ الأنصار أنفسهم كانوا يتوجّسون من بعضهم البعض، ولم تكن موازين القوّة بينهما متكافئة، كما أنّها لم تكن في الوقت نفسه محسومة لفائدة أيّ طرف منهما. وقد كانت بين الأوس والخزرج نزاعات قبل أن يوحّدهما الإسلام ضمن قضيّة مشتركة، وهي الدّعوة، ما يجعل إمكان تسليم إحداهما بزعامة الأخرى عليها وعلى بقيّة المسلمين يواجه إشكالاً يهدّد بعدم تحقّقه. ولم يكن الوضع في مكّة بأقل منه في المدينة، فقد دبّ التّنافس في هذا الأمر بين بطون قريش، وظهر تنازع على الأحقّية بين الأرستقراطيّة القرشيّة ذات الوجاهة القبليّة من جهة، والمهاجرين أصحاب السّابقة في الإسلام، من جهة أخرى.

وقد استطاع "مسلمة الفتح" الذين عمل الرّسول على تأليف قلوبهم بعد فتح مكة، وإغداق العطاء عليهم، أن يمحوا من الأذهان مواقفهم السّلبيّة ضدّ الدّعوة في بدايتها، مستغلّين مكانتهم القبليّة، وكونهم قوم الرّسول وعشيرته. وفي فترة وجيزة، أخذت ملامح نفوذهم تبرز، ممّا أوحى بصراع محتمل بين الزّعامة التّاريخيّة في جزيرة العرب، المتمثّلة في قريش، والزّعامة الجديدة للمسلمين في المدينة، ولا يبدو ذلك في معزل عن اعتبارات التّمايز "الطّبقي" بين أحياء قريش؛ فلئن كان المهاجرون يولون اعتباراً ذاتيّاً لما تمنحهم إيّاه سابقيّتهم في الإسلام من تميّز معنويّ، مرتبط باللّحمة الجديدة على أساس العقيدة، فإنّ القرشيّين الذين كانوا "يتلوّمون الفتح" لإعلان إسلامهم[3]، لم تكن تعوزهم الحجّة على أحقّيتهم بالزّعامة، من منطلق مكانتهم القبلية أوّلاً وقرابتهم للرّسول ثانياً؛ أي وفق المقاييس التي كانت مطروحة في تلك الظّرفيّة.

لقد هيّأت اللّحمة الجديدة لدى المهاجرين، والتي أساسها العقيدة والإيمان والأخوّة، إمكانيّات الانصهار بينهم، باعتبار انتمائهم القبليّ إلى قريش، وبين القبائل الأخرى (الأوس والخزرج وغيرها من قبائل العرب)، غير أنّ ذلك لم ينه انتماءاتهم المتباينة، التي ظلّت كامنة ولكنّها مهيّأة، لأن تطفو على السّطح في كل وقت، ليس بينهم وبين القبائل الأخرى فحسب، بل أيضاً بين بعضهم البعض، فكما يجمع النّسب أفراد العصبيّة الواحدة أو عصائب القبيلة الواحدة، فهو يعمل أيضاً على إشاعة الفرقة والتّنافر بين الجماعات والأفراد الذين لا يربطهم نسب قريب، بل إنّ الالتحام بالنّسب القريب، ينتج عنه تباعد بالنّسب البعيد، وانطلاقاً من ذلك، فإنّ مسألة الزّعامة قد تصبح عامل تفرقة نتيجة تنافس أفراد الأرستقراطيّة القبليّة عليها[4]، ونتيجة، أيضاً، لتعدّد أصحاب الأحقّية فيها، وقد تحتاج إلى مقاييس إضافيّة أخرى، فوق ما توفّره القبيلة، حتى تضمن استقرارها. إلاّ أنّ العقيدة التي استحضرها المهاجرون، باعتبارها عاملاً مساعداً على إيجاد تلك المقاييس التي ترجّح أحقّيتهم، كانت تغذّي مزيداً من التّنافر والتّنافس في ما بينهم[5]، إذ تطرح بدورها تناقضات إضافيّة، مرتبطة، مجدّداً، بعامل القرابة.

لئن مثّل الاحتجاج بالسّابقة في الإسلام، عامل قوّة في مواجهة الأرستقراطيّة القرشيّة اللاّحقة على الإسلام بعد الفتح، والتي تنتقد إمكان أن تكون الزّعامة "في أقلّ حيّ من قريش"[6]، فإنّه يتحوّل إلى دافع آخر من دوافع الصّراع على الخلافة بين المهاجرين أنفسهم، نظراً لعدم استوائهم في القرابة من الرّسول على قاعدة النّسب، رغم استوائهم في أمور أخرى كثيرة؛ من بينها الصّحبة والقرشيّة والسّابقة في الإسلام، والتّضحية في سبيل العقيدة. ويبرز ههنا عامل آخر متعلّق بالقرابة، ووثيق الصّلة بها. إنّه عامل الوراثة، الذي وإن كان في جانب المهاجرين كما بيّن ذلك هشام جعيّط[7]، من وجهة نظر عربيّة محض؛ لأنّهم ينتمون إلى قبيلة النّبي، وبالتّالي فإنّهم الأولى بمواصلة العمل النّبوي، إلاّ أنّ ذلك يطرح إشكالاً يتعلّق أوّلاً بمدى حجّية عامل الوراثة نفسه في سياق الأحقّية بالزّعامة لدى العرب، وثانياً باختلاف المهاجرين أنفسهم حول هذا المبدأ.

2- عامل الوراثة:

لقد دار جدل بين كثير من الباحثين في التّاريخ الإسلامي حول أهمّية عامل الوراثة في التّأسيس للخلافة، ومن بينهم من دافع عن اعتبار أنّ القيادة لدى العرب لم تكن مبنيّة على الوراثة، وذهب لامانس (Lammens) إلى حدّ التّأكيد "أنّ القوة الوراثيّة والمبدأ الأسريّ كانا من بين المفاهيم الأكثر كراهة لدى العقل العربي"[8]، وهو ما ينعكس على واقع الانتظام القبلي، على اعتبار أنّ التّنافس على زعامة القبيلة كان مجالاً مفتوحاً أمام المتنافسين، ومن تثبت لديه صفات القيادة يجتمع حوله أفراد القبيلة تلقائيّاً. وهذا التّصوّر يستند إلى اعتبار مرونة هيكل القبيلة الذي يتشكّل ضمن سياق المحافظة على النّسب، ولكنّه مع ذلك يقوم على عقد الأحلاف واستيعاب الكيانات القبليّة الصّغرى، وتحقيق الاندماج الكلّي معها، وتبدو القبيلة مجبرة في خضمّ ذلك على التخلّي عن الزّعامات الضّعيفة تلقائيّاً والالتفاف حول زعامة قويّة لضمان البقاء في ساحة المنافسة.

ومع ذلك، فقد تم الطّعن في هذا التأكيد من قِبل تيان (E. Tyan)، الذي أشار إلى "أنّ الخلافة بالوراثة كانت عرفاً لدى القبائل العربيّة، متّسقًا مع أهمّية النّسب، وخاصّة لدى قريش على وجه التّحديد، فقد كان التّوريث هو القاعدة".[9] وهذا يفترض أنّ انتقال الزّعامة من السّابق إلى اللاّحق، يتمّ وفق مبدأ ضمنيّ تضبطه الأعراف القبليّة، ولا يحتاج الأمر بالضّرورة إلى وصيّة أو تنصيص ولا اختلاف، وإنّما هو يجري مجراه في الواقع بناءً على الأحقّية بالوراثة. لذلك، يمكن اعتبار أنّ عدم تنصيص الرّسول على من يخلفه كان أمراً عاديّا من وجهة النّظر القبليّة في توارث الزّعامة، وأنّه أراد بذلك أن يترك الأمر بين المسلمين ليختاروا من يصلح لخلافته من بينهم، جرياً على عادة النّظام القبلي الذي ألِفه العرب، وبخاصّة أنّه لم يكن له ولد ذكر يستخلفه من بعده.

إنّ عامل الوراثة يجد صداه في تحليل الكثير ممّا تورده المصادر التّاريخية حول مسألة الخلافة، من ذلك أنّ موقف الأرستقراطيّة القرشيّة كان يضع في اعتباره أهمّية هذا العامل، بل إنّه يمثّل بالنّسبة إليها أفق انتظار مقبول لما يمكن أن تؤول إليه الأحداث، وبناءً عليه دافعت (سياسيّاً) عن أحقّية علي والعبّاس بالخلافة.[10] غير أنّ هذا التّفسير الذي يربط بين مفاهيم الزّعامة القبليّة القائمة على الوراثة، وواقع المسلمين الجديد بعد وفاة النّبي، لا يراعي الاختلاف العميق الذي يميّز النّبيّ، صاحب الرّسالة، عن أيّ زعيم من زعماء القبائل العربيّة، بغضّ النّظر عن مرتبة السّيادة التي يمثّلها، كما أنّه يتغاضى بوضوح عن اعتبارات تعدّد الانتماء القبلي في مقابل وحدة الانتماء إلى العقيدة، في هذه الحال، وهو ما لا ينسجم مع قاعدة التّوريث، إذا ما سلمنا بدقّتها، على الأقل في مستواها القبلي.

ولعلّ أغلب المواقف التي نحت هذه الوجهة في الانتصار لأحقّية علي بن أبي طالب بالخلافة، كانت لاحقة على الواقع الذي أنتج النّقاش حول الخلافة، بل عن زمن النّقاش ذاته، وهي في معظمها متعلّقة باستحضار النّص على تلك الأحقّية[11]، والاحتجاج به، وتوظيف ذلك سياسيّاً، دون الانطلاق من ارتباط الأحقّية بأهمّية التّوريث من حيث هو مبدأ ساري المفعول في تلك الظّرفيّة بعينها. ومع ذلك، فإنّ تلك النّصوص التي توحي بأحقّية علي أو الإشارة إليه بالوصف، لا نجد أثراً لها في ما تورده المصادر حول اجتماع السّقيفة، ولم يشتهر أنّ عليّا احتجّ بها طوال الفترة التي لم يبايع فيها أبا بكر[12]، رغم أنّ الحاجة إلى ذلك تبدو أكيدة، إضافة إلى أنّ القول بوجود نصّ على خلافة عليّ أو غيره، يفترض على الأقلّ أن يشير إليه أحد الأطراف المتنازعين، سواءً بالنّفي أو بالتّأكيد.

وفي هذا السّياق، يمكن أن نفترض أنّ تعامل الرّسول مع الصّحابة لم يكن يولي اعتباراً لتمييز بعضهم على بعض من منطلق القرابة العائليّة، وذلك بناءً على متطلبّات العقيدة أوّلاً، من حيث هي فكرة جامعة تقوم على مفهوم الإيمان والانصهار الجماعي المتساوي في الدّعوة، وثانياً من حيث الرّغبة الذّاتيّة في بيان التّميّز بالوحي. وبالتّالي، فإنّ تمييز علي بقرابته من الرّسول، باعتباره ابن عمّه وزوج ابنته، لم يكن معمولاً به في حياة محمّد؛ وقد ذهب ويلفرد (Wilferd) إلى التّأكيد أنّ تسمية آل بيت الرّسول، وآل محمد، وآل النّبيّ، وبنو هاشم... كلّها تسميات بعديّة لم تكن متداولة في عهد الرّسول.[13] ونرجّح أنّ ظهور هذه المفاهيم كان وليد الظّرفيّة السّياسيّة اللاّحقة على فترة النّبوّة، لظروف تبريريّة، وبحثاً عن المشروعيّة[14]، سواءً منها المذهبيّة أو السّياسيّة. وكان لذلك تأثير كبير، انعكس على تباين المواقف من مسألة الخلافة على امتداد التّاريخ الإسلامي.

3- عامل الأفضليّة:

لقد قدّم أبو بكر للمجتمعين في السّقيفة جملة من الشّروط "الإطاريّة" لمسألة الأحقّية، فذكر السّابقة في الجهاد من أجل الإسلام، وحدّد الأولويّة بالأقدميّة في حياة الإسلام، وبالعذاب في سبيل العقيدة والإيمان، وقدّم قاعدة الصّحبة، باعتبارها معيارًا لاختيار الأفضل، وتضمنت الخطبة الأسباب الموجبة، ليكون الخليفة من المهاجرين محصورة في أنّهم أوّل من عبد الله في الأرض، وآمن بالله وبالرّسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحقّ النّاس بهذا الأمر من بعده، لا ينازعهم في ذلك إلا ظالم.[15] ولكنّ أبا بكر لم يكن يحوز إجماع المهاجرين على شخصه، رغم ما عرف به من خصال ومن حظوة لدى النّبيّ، وأسبقيّة في الإسلام، كما لم يكن الأنصار ليقبلوا بمبايعته، لولا الدّور المهمّ الذي قام به عمر بن الخطّاب في إقناع الحاضرين في السّقيفة بضرورة تقديم البيعة له، ومع شدّة تحمّس عمر لذلك، وإقدامه عليه، بشتّى وسائل التّرهيب والتّرغيب، فقد أعلن بوضوح أنّ مبايعة أبي بكر "كانت فلتة كفلتات الجاهليّة"[16]، ممّا يدل على أنّ ما حدث كان حلاًّ مرتجلاً، أنتجته ظروف معيّنة، والواضح أنّ تصرّفه كان فرديّاً وطبيعيّاً لمعالجة موقف محرج، رأى ضرورة القيام به، حتّى لا يتطوّر الأمر إلى صراع مسلّح بين المسلمين على قاعدة التّنازع على الأحقّية في خلافة النّبيّ، وبدا موقفه المساند حاسماً[17]، لذلك ذهبت الكثير من الآراء إلى اعتباره "المؤسّس الحقيقي للخلافة"[18]؛ فهو الذي طرح أبا بكر باعتباره أوّل خليفة للمسلمين، وكان ذلك بمثابة الاعتراف له بأفضليّته لدى النبيّ، لا على قاعدة الوراثة أو القرابة العائليّة من الرّسول، ولا على قاعدة الأفضليّة القبليّة، فلم يكن ينتسب إلى أرستقراطيّة قريش ولا وجهائها، وإنّما على قاعدة الصّحبة والسّابقة في الإسلام.

وتذكر المصادر أنّ الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة للتّباحث في من يتولّى الأمر بعد وفاة النّبي، لكنّها لم تذكر من الذي دعا إلى هذا الاجتماع، ولا كيف تمّت الدّعوة، وإنّما روت حصول الاجتماع في السّقيفة.[19] ويبدو أنّ الدّعوة للاجتماع تمّت على عجل دون إعلام المهاجرين، وقد أرجع بعض الباحثين سرعة مبادرة الأنصار إلى طرح النّقاش حول الخلافة، إلى تخوّفهم من مصيرهم المحتمل في ظلّ سيطرة قريش على ديارهم[20]، وهو تخوّف يدل على رغبتهم في استرداد سيادتهم التي تنازلوا عنها للنّبي في حياته، إلى جانب اقتناعهم بأن عامل الأفضليّة في جانبهم، وهو ما يجعلهم الأحق بالخلافة من المهاجرين نظراً لنصرتهم للرّسول وأصحابه، وإيوائهم له، وإليهم كانت الهجرة[21]، وما نتج عن ذلك من فضائل لم تتوفّر لأيّة قبيلة عربيّة أخرى. ولكن ذلك لم يشفع لهم، فلم يتمكّنوا من فرض موقفهم، ولا مرشّحهم سعد بن عبادة، الذي لم يكن محلّ اتّفاق بينهم، ما أدّى إلى افتقادهم للانسجام[22]، إذ لم يكونوا قادرين على تشكيل جبهة موحّدة تعبّر عن طموحهم المشترك لنيل الأحقّية بالخلافة.

وتذهب بعض المواقف الحديثة، في قراءة الخلاف حول الخلافة في لحظته التّاريخيّة، التي يدلّ عليها الإطار العام، القبلي والدّيني في شبه الجزيرة العربيّة بُعيد فترة النّبوّة، إلى التقليل من أهمّية عامل الصّحبة والسّابقة في الإسلام، الذي تأسّست عليه "أفضليّة أبي بكر"، معتبرين أنّ حدث السّقيفة لم يكن عفويّاً، بل كان مؤامرة مدروسة وخطّة مرسومة[23]، وأنّ تحديد الأفضليّة لا يتمّ وجوباً بما ساقه أبو بكر من أدلّة، ولا بما عمل عمر على فرضه على المسلمين باعتباره أمراً واقعاً، دونه القتال.[24] وعلى الرّغم من اختلافهم في الجهة المستهدفة بالمؤامرة؛ فمنهم من يرى أنّها كانت مؤامرة من قريش ضدّ الأنصار، أُعدت فصولها مسبقاً، وكان الهدف منها إقصاء الأنصار وإقامة إمبراطوريّة قرشيّة، ومنهم من يرى أنّها كانت مؤامرة ولكن ليس ضدّ الأنصار؛ بل ضدّ بني هاشم المنشغلين بتجهيز الرّسول، وهم الذين يُخشى جانبهم لكونهم أقرب الأقربين للنّبي، وبالتّالي فالأفضليّة في صالحهم، ولا يمكن لأحد من المسلمين أن ينازعهم فيها. وإذا كانت فكرة المؤامرة تتأسّس على نوع من التّرجيح للأحداث في سياقات متباينة، ووفق مناهج مختلفة، فإنّها تعتمد أكثر على تغليب بعض الإشارات الواردة في متون المصادر وتضخيمها على حساب بعض الإشارات الأخرى المتعارضة معها، لتنتهي إلى استعادة الجدل حول فكرة الأفضليّة.

لقد سارت بيعة أبي بكر وفقًا للعادات المتعارف عليها في تعيين الزّعامات القبليّة، لكن ضمن إطار الدّين[25]؛ فقد تمّ التّوفيق، في الوقت نفسه، بين الأسس القبليّة التي لا تتعارض مع الواقع السّائد، بمختلف تناقضاته وإكراهاته، وبين ما يبدو رهاناً أكبر من رهان الزّعامة القبليّة، متمثّلاً في خلافة النّبيّ، ولكن دون ملامح أخلاقيّة عامّة مستندة إلى العقيدة بالضّرورة، ودون اعتماد نصّي يذكر؛ ذلك أنّ الخلاف القوي بين الصّحابة أثناء اجتماع السّقيفة، وردود الفعل المصاحبة، وحتى اللاّحقة عن ذلك من جميع الأطراف، ممّا ترويه المصادر، بكلّ ما تضمّنته من ملامح الصّراع والقوّة والاستعداد للعنف ولغة التّهديد[26]، تؤكّد كلّها أنّ ما حدث، إنّما هو نزاع على الأفضليّة المؤدّية إلى تبرير الأحقّية بتولّي خلافة المسلمين. وقد حجب النّزاع على الأفضليّة دور النّص، فغاب الاحتجاج به، على الأقل بشكل منظّم، لأنّ منطق الأفضليّة لم يكن في حاجة إلى سند نصّي، فلم تورد المصادر ما يدلّ على أنّ المتنافسين قد احتجو بالنّص الدّيني، لتثبيت السّلوك الذي سلكوه في السّقيفة. ولعلّ الأخبار التي احتجت بحديث "الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ"[27]، من أجل إثبات الأحقّية بالخلافة لأبي بكر لم تميّز، عن عمد، بين تكليف النّبي لأبي بكر بإمامة الصّلاة أثناء مرضه[28]، أو تفويضه بقيادة المسلمين من بعده[29]، ولو سلّمنا في المستوى الأوّل بأنّ التّكليف بإمامة الصّلاة يعني الأفضليّة الدّينية، فذلك لا يمكن أن يعني بالضّرورة الأفضليّة السّياسيّة.

لا تبدو الرّوايات التّاريخية الكثيرة التي حفظتها لنا المصادر حول ما دار في اجتماع السّقيفة، في منأى عن التّضارب والاختلاف، ولا عن التّوظيف المذهبي والسّياسي، الذي لا ينسجم مع الشّروط الموضوعيّة والظروف التّاريخية لفترة ما بعد النّبوّة، كما يمكن أن نلاحظ بيسر ارتباط الكثير من الرّوايات بأحداث بعديّة على سبيل تبريرها أو تأكيدها أو رفضها، وبغضّ النّظر عن مدى صدّقها أو افتعالها، فهي تشترك في نقاط جوهريّة تشكّل أرضيّة ما، يمكن النّظر إليها والبحث فيها خارج منطق التّصديق والتّكذيب، وبعيداً عن التّوظيف الإيديولوجي، وبالتّالي اعتبار أنّها ذات محتوى تاريخي يمكن الاستناد إليه في محاولة بناء مقاربة تاريخيّة نقديّة متوازنة لهذه الحقبة المؤثّرة في التّاريخ الإسلامي، بالنّظر إلى دوافعها وأطوارها التي أفضت إلى خلافة أبي بكر لمواجهة حالة الفراغ المعنوي التي أحدثها موت الرّسول.

وقد كانت عوامل القبليّة والوراثة والأفضليّة، عوامل مركزيّة ساهمت بشكل متكامل في تفجير الخلاف والتّحكّم فيه، إلاّ أنّ الحدود بينها بدت متداخلة من حيث الشّكل والمحتوى، ومن حيث الفاعليّة في التّأثير في الأحداث وتوجيهها في سياقات تاريخيّة خاصّة. ويمكن القول، إنّها أفضت إلى نوع من الانتظام لدى المسلمين يختلف عمّا ألفه العرب من قبل، ولكنّه في الحقيقة لم يتأسّس بمعزل عن الظّروف الرّاهنة في زمانه، ولم يختلف مع الطّبيعة المتعارف عليها في محيط العرب الثّقافي والسّياسي والاجتماعي، ولم يتحقّق وفق نصوص مضبوطة، وإنّما حكم فيه واقع الأحداث المتحوّل عقب فترة النبوّة. وما كان للرّابط الدّيني أن يطغى في هذه المرحلة، على المعايير الاجتماعيّة السّائدة، وأخلاقيّاتها، وسلوكها، القائمة على القبليّة. لهذا كان السّجال في اجتماع السّقيفة أقرب إلى السّجال القبليّ بين القبائل المسلمة التي لم تجد في النّظام الأخلاقيّ الذي أسّسته مرحلة النّبوّة ما يسند احقّيتها بخلافة المسلمين، بقدر ما وجدت ضالّتها في النّظام القبليّ.

 

المصادر والمراجع

1)     المصادر:

-       ابن أبي شيبة (أبو بكر). المصنف في الأحاديث والآثار. تحقيق كمال يوسف الحوت. ط1، مكتبة الرشد، الرياض. 1986. (7 أج).

-       ابن الأثير (أبو الحسن). الكامل في التاريخ، تحقيق عمر عبد السلام تدمري، ط1، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 1997. (10 أج).

-       ابن خياط (خليفة). تاريخ خليفة بن خياط. تحقيق أكرم ضياء العمري، ط2، دار القلم، مؤسسة الرسالة، دمشق، بيروت، 1977

-       ابن قتيبة (أبو محمد). المعارف، تحقيق ثروت عكاشة، ط2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر 1992

-       ابن كثير (إسماعيل بن عمر). البداية والنهاية، تحقيق علي شيري، ط1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان 1988. (14ج).

-       البغدادي (أبو جعفر). المنمق في أخبار قريش، تحقيق خورشيد أحمد فاروق، ط1، عالم الكتب، بيروت، لبنان، 1985

-       الذهبي (شمس الدين). تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، تحقيق عمر عبد السلام التدمري، ط2، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان 1993. (52ج).

-       الطبري (محمد بن جرير). تاريخ الطبري، وصلة تاريخ الطبري، ط2، دار التراث، بيروت، لبنان، 1967. (11ج).

-       المسعودي (أبو الحسن). التنبيه والإشراف، تصحيح عبد الله إسماعيل الصاوي، ط1، دار الصاوي، القاهرة، مصر (د.ت).

-       المقدسي (بن طاهر). البدء والتاريخ، مكتبة الثقافة الدينية، بورسعيد، مصر (د.ت). (6 أج).

-       الواقدي (محمد بن عمر). الردة مع نبذة من فتوح العراق وذكر المثنى بن حارثة الشيباني، تحقيق يحي الجبوري، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، 1990

2)     المراجع:

أ‌-        باللغة العربيّة:

-       بيضون (إبراهيم)، ملامح التيارات السياسية في القرن الأول الهجري، دار النهضة العربية، بيروت 1979

-       الجابري (محمد عابد)، فكر ابن خلدون: العصبيّة والدّولة معالم النظريّة الخلدونيّة في التاريخ الإسلامي، ط5، مركز دراسات الوحدة العربية، 1992

-       جعيط (هشام)، الفتنة، ط3، دار الطليعة، بيروت، لبنان، 1995

-       الحجي (عبد الرحمان علي)، نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي، ط3، مكتبة الصحوة، بيروت، 1989

-       الدوري (عبد العزيز)، مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي، بيروت، لبنان 1968

-       شاكر (محمود شاكر)، التاريخ الإسلامي، ط8، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان 2000. (22 مج)

-       علي (جواد)، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ط4، دار الساقي، لندن 2001. (20 ج)

-       الكاش (علي)، اغتيال العقل الشيعي: دراسات في الفكر الشعوبي، ط1، دار أي، لندن، 2015

ب‌-    باللغة الأجنبيّة

-     Lammens (Le père Henri) S. J., Le Berceau de l'Islam, l'Arabie occidentale à la veille de l'hégire. (Rom 1914).

-     Tyan (Émile), institutions du droit public Musulman. Tome 1er Le Califat, Paris, Sirey, 1954

-     Wilferd (Ferdinand Madelung), the Succession to Muhammad: A Study of the Early Caliphate. Édition illustrée, réimprimée Cambridge University Press, 1998

[1] انظر: البغدادي، في نسب قريش وأبنائهم. ص20

[2] علي (جواد)، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 2/ 134

[3] الذهبي، 2/ 564. "وكانت العرب تلوّم بإسلامها الفتح، ويقولون: أنظروه، فإن ظهر فهو نبي فصدقوه."

[4] الجابري (محمد عابد)، فكر ابن خلدون: العصبيّة والدّولة معالم النظريّة الخلدونيّة في التاريخ الإسلامي، ص173

[5] Wilferd. The Succession to Muhammad: A Study of the Early Caliphate. P07, 8.

[6] أعلن أبو سفيان عن سخطه مما آلت إليه الأمور فقال: ''ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش؟'' الطبري، 3/ 309

[7] جعيط (هشام)، الفتنة، ص35

[8] Lammens, Le Berceau de l'Islam, l'Arabie occidentale à la veille de l'hégire. P 314

[9] Tyan, institutions du droit public Musulman. P 06.

[10] الطبري 3/ 209. '' لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر، أقبل أبو سفيان، وهو يقول: والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم أين المستضعفان أين الأذلان علي والعباس. وقال: أبا حسن ابسط يدك، حتى أبايعك. فأبى علي عليه...''

[11] احتج أنصار علي (لاحقا) بأحقيته بالخلافة، لأنه صار في اللوح المحفوظ... مثل: ما روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال، قال: النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى». وما روى معمر بن راشد وأحمد بن حنبل، والترمذي من طرق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه». انظر: ابن خياط، ص 443. المسعودي، ص 221. الذهبي، 2/ 632 3/ 627، 628. ابن كثير، 5/ 11، 228

[12] تختلف المصادر في تحديد مدّتها، وترجّح أنّها دامت ستّة أشهر. انظر: ابن الأثير، 2/ 187

[13] Wilferd. The Succession to Muhammad: A Study of the Early Caliphate. P02.

[14] لعلّ ما يؤكّد هذا الترجيح لدينا أنّ هذا النمط من الاحتجاج بالقرابة ظل متواصلا لدى المسلمين، من ذلك أن الدولة العباسية قد أسست مشروعيتها التاريخية والدّينية والسياسية على القرابة من الرّسول...

[15] انظر خطبة أبي بكر في اجتماع السقيفة. الطبري، 3/ 203، 206

[16] الطبري، 3/ 223

[17] جعيط، الفتنة، ص36، 37

[18] Wilferd. The Succession to Muhammad: A Study of the Early Caliphate. P03.

[19] انظر: الواقدي، ص 32 وما بعده. الطبري، 3/ 201 وما بعدها. المسعودي، ص 247 المقدسي، 5/ 115، 151

[20] شاكر (محمد شاكر)، تاريخ الإسلام، 3/ 49

[21] ابن قتيبة، 1/ 12. الطبري، 3/ 218 - 220

[22] بيضون (إبراهيم)، ملامح التيارات السياسية في القرن الأول الهجري، ص13

[23] انظر: الكاش، اغتيال العقل الشيعي: دراسات في الفكر الشعوبي، ص 83. وانظر: الحجي، نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي، ص، ص 40، 44

[24] انظر: الذهبي، 3/ 8. ابن كثير، 5/ 5، 267. قول عمر ''أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمرا هو أرفق من مبايعة أبي بكر''.

[25] الدوري (عبد العزيز)، مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي ص ص15، 16

[26] "(...) فقال عمر لأبي بكر ابسط يدك أبايعك، فبسط يده فبايعه المهاجرون والأنصار ونزونا على سعد ابن عبادة فضربوه، فقال قائلهم قد قتلتم سعد بن عبادة" المقدسي، 5/ 65 وانظر: الذهبي، 3/ 11. ابن كثير: 5/ 266

[27] الحديث في مسند أحمد بن حنبل 3/ 129، 183، 4/ 421

[28] الطبري، 3/ 196، 198

[29] لفظ "إمامة"، لم يكن يحمل مدلولاً سياسيّاً واضحاً في فترة النّبوّة، ولا بُعيدها، فكلمة الإمامة لم تصبح معروفة بالمفهوم السّياسي إلاّ بعد ظهور الشّيعة، ثمّ الخوارج، وتحديدًا في عهد عثمان بن عفّان، حيث أصبح الإمام هو من يتولّى الشّؤون السّياسيّة والدّينيّة.