الفكر المغربي المعاصر: الوطنيَّة والتحديثيَّة


فئة :  مقالات

الفكر المغربي المعاصر: الوطنيَّة والتحديثيَّة

الفكر المغربي المعاصر: الوطنيَّة والتحديثيَّة[1]

سعيد بنسعيد العلوي

ينصرف الذهن، بصورة تكاد تكون تلقائيَّة، إلى الغرب الأوروبي، كلما ذُكِرت الحداثة أو جرى الحديث عن مشتقاتها (التحديث، المجتمع الحداثي...). والحق أنَّ هذا الأمر يحتوي على قدر كبير من الصحة؛ وذلك لأسباب تاريخيَّة وأخرى معرفيَّة تتصل بالغرب وتاريخه مجتمعاً وفكراً؛ غير أنَّ الإقرار بهذا الواقع لا يمنع من القول إنَّ الحداثة، من حيث المضامين التي تحملها، والمعاني التي تنضح بها، تظلُّ مع ذلك ذات أبعاد كونيَّة، فهي تطول شعوب ودول المعمورة مع تنائي أطرافها واختلاف أهاليها. ومن ثَمَّ نجد أنَّ الحداثة أو، بالأحرى، تمثُّل الحداثة بكيفيَّة أو بأخرى تكون له انعكاسات على الدول والشعوب تتفاوت قوَّة وضعفاً. والعالم العربي لم يكن بدوره ليشذَّ عن هذه الحال؛ وذلك ما يتبينه الناظر في التراث الفكري المنحدر إلينا من الحقبة التاريخيَّة القريبة منا، تلك التي درج الدارسون على نعتها بعصر النهضة. يمكن القول في هذا الصدد، بكيفيَّة إجماليَّة، إنَّ الفكر العربي في عصر النهضة تفكير في الحداثة وانفعال بما تحمله من مضامين. هو كذلك بالقدر الذي كان فيه هذا الفكر الأخير وعياً بالانحطاط ودعوة إلى النهضة.

لا يخرج الفكر المغربي (في الحقبة الموسومة عربياً بعصر النهضة) عن هذا المنحى العام في التفكير، وقد يلزم أن نكون، مع ذلك، على وعي بطبيعة المعطيات المحليَّة التي جعلت المغرب في حال من التميز النوعي أحياناً عن باقي أرجاء العالم العربي (أو في الأغلبيَّة العظمى من مكوناته على الأقل)، وذلك راجع إلى أسباب تتصل بالتاريخ من جانب أوَّل، وإلى المكونات الذاتيَّة من جانب ثانٍ، ثمَّ إلى المعطى الجغرافي من جانب ثالث.

وإذا كان منطق التاريخ قد قضى بالارتباط بين الحدث الاستعماري وبين ظهور وتشكُّل فكر النهضة في العالم العربي، ومن ثَمَّ جعل لوعي الحداثة ظروفاً معلومة، فإنَّ هذا المنطق ذاته قد حكم، بالنسبة إلى المغرب، بوجود الارتباط بين وعي الحداثة والتسليم بوجوب التحديث (أو الانخراط في سيرورة الحداثة) وبين ميلاد تطوُّر الفكر الوطني الحديث وتطوُّر الحركة الوطنيَّة في المغرب.

النظر في الصلة بين وعي الحداثة والتسليم بوجوب الانخراط في سيرورة التحديث من جهة أولى، وبين ميلاد ونشأة وتطوُّر الحركة الوطنيَّة في المغرب، من جهة ثانية، هو ما تسعى هذه الورقة إلى الأخذ به. والقضيَّة الأساس التي نسعى إلى الدفاع عنها في الصفحات المقبلة تقضي بالتسليم بالفكرة الآتية: إنَّ سيرورة التحديث في المغرب أو التحديثيَّة (في معنى النزعة التحديثيَّة أو المنحى التحديثي، في نعت يقلُّ دقة وصرامة عن مفهوم التحديث) (ومن ثَمَّ ولوج الحداثة أو الاقتراب منها على الأقل) قد اقترنت بجملة التحولات التي عرفها المغرب منذ أربعينيات القرن التاسع عشر (في مستوى كلٍّ من أجهزة الدولة من جانب، ومنازع الفكر الإصلاحي المواكب لتلك التحولات من جانب آخر)، ثم إنَّ سيرورة التحديث (أو التحديثيَّة، كما نفضل أن نقول بالنسبة إلى المغرب) قد سارت في خط من التسارع والتطوُّر في موازاة مع تطوُّر الحركة الوطنيَّة المغربيَّة وفي سعيها نحو الاكتمال النظري أو، على الأقل، في عملها من أجل الوضوح النظري وصياغة النظريَّة الملائمة.

بيد أنَّنا نرى وجوب التمهيد لبسط هذه الفكرة، وعملاً على إعداد الأسباب المنطقيَّة للدفاع عنها، بوقفات ثلاث هي عندنا بمثابة التوطئة الضروريَّة.

ـ وقفة أولى نلتمس فيها، في إيجاز وتركيز شديدين، تبيُّن معنى الحداثة على النحو الذي ارتسمت به في مهدها الأصلي، في الغرب الأوروبي، وكذا استخلاص الدروس الكبرى والأبعاد الكونيَّة للحداثة وروافدها ومضامينها.

ـ وقفة ثانية نسعى من خلالها إلى تبيُّن ما أشرنا إليه أعلاه من ارتباط بين وعي الانحطاط والحاجة إلى النهضة، هذا من جانب أول، وتمثل الحداثة وسبل الأخذ بها، من جانب ثانٍ. وغني عن القول، أنَّنا سنحرص في هذه الوقفة على مراعاة شرطَي الإيجاز والتركيز.

ـ وقفة ثالثة نتوخى خلالها تسليط بعض الأضواء على ما كانت الدولة في المغرب تسعى إليه من إدخال إصلاحات بنيويَّة على مكوّنين أساسيين من مكوّنات الدولة الحديثة، وهما الجيش والإدارة. كما أنَّنا نود، في إشارات وجيزة، التنبيه إلى المناحي التي سلكها الفكر الإصلاحي في المغرب في الحقبة التاريخيَّة ذاتها. لنقل، بعبارة أخرى، إنَّنا نهدف من هذه الوقفة الأخيرة تبيُّن المصادر أو الأسس الأولى في بناء فكر الحركة الوطنيَّة في المغرب المعاصر.

1. الحداثة ودروسها

في تاريخ المجتمعات البشريَّة، وفي تاريخ المعارف والعلوم، لحظات يحدث فيها نوع من التحوُّل الكيفي أو النقلة النوعيَّة، فهي تكون لحظات حاسمة، والحسم في حديثنا هذا يعني إحداث الفصل بين عالمين يُعدُّ كلٌّ منهما مخالفاً للآخر ومتميزاً عنه، أو لنقل إنَّه، على الأقل، يكون كذلك في عين العالم الذي يَعدّ نفسه عالماً جديداً في مقابل عالم آخر يحكم بأنَّه قد أصبح قديماً. وهذه الطفرة تحدث في الواقع بموجب سيرورة تكون، في الأغلب الأعم من الأحوال، طويلة من جهة ومعقدة متشابكة من جهة أخرى؛ فالنقلة الكيفيَّة لا تكون كذلك إلا في نظر قاصر لا يقيم للتاريخ وزناً، ولا يأخذ مبدأ التحوُّل بما يلزم له من الجديَّة.

ينطبق هذا القول، أفضل ما يكون الانطباق، على كلٍّ من الوجودين الاجتماعي والفكري في الغرب الأوروبي في الأزمنة التي يتواضع المؤرخون على نعتها بالأزمنة الحديثة؛ تلك التي يطلقون عليها الوصف العام المبهم أو الغامض في جوانب منه: عالم الحداثة وزمن الحداثة. نعم، عرفت البشريَّة في الغرب الأوربي جملة تحولات سريعة حدثت في حقبة تكاد لا تتعدى القرن ونصف القرن من الزمان. وفي تاريخ المعارف، كما في تاريخ الوجود الإنساني، تكاد هذه المدَّة لا تُعدّ شيئاً مذكوراً، غير أنَّ تسارع وتيرة التطور، على الصعيدين البشري والمعرفي، وكذا تراكمها وتضافرها، قد استطاع أن يفضي بالفعل إلى إحداث الطفرة الهائلة المطلوبة، وأن يكون عنها ميلاد صورة جديدة لكل من المعرفة والوجود الاجتماعي للإنسان في الغرب الأوروبي خاصة. ونحن نقدر أنَّه من المفيد؛ بل من الضروري لموضوعنا، أن نعدّد أنماط التحولات الكبرى التي حدثت في الغرب الأوروبي في الحقبة المذكورة. والمقرر عند الدارسين أنَّها تحولات حاسمة، أو أنَّها تحولات شملت أربعة مجالات كبرى، وأصابت في الصميم بنيات أربع أساسيَّة. وعلى ما نشترطه على نفسنا في هذه الورقة من الالتزام بشرطي الإيجاز والوضوح معاً، نفرد لكل من المظاهر الأربعة حيّزاً قصيراً نسجل فيه جوانب التحوُّل، ونجتهد في استقصاء دلالته وأثره.

1. بين العقد الأخير من القرن الخامس عشر والعقود الأربعة الأولى من القرن السادس عشر، تمَّت جملة من الاكتشافات الجغرافيَّة المذهلة: رأس الرجاء الصالح أولاً، في النقطة القصوى من جنوب أفريقيا، حيث كان الاعتقاد السائد أنَّ العالم الأرضي ينتهي عند بداية سديم القسم الأدنى من القارة الأفريقيَّة، فأتت رحلات ماجلان لتبين فساد هذا الاعتقاد، ثم كان بعد ذلك اكتشاف جزر الهند الصينيَّة، وعُدَّ الأمر في البداية سوءاً في التقدير وانحرافاً عن الطريق المعتادة التي تؤدي إلى بلاد الحرير والتوابل. أمَّا وصول كرستوف كولومبس في الخطوة الثالثة من الكشوف الجغرافيَّة المذهلة في الوعي الجغرافي للإنسانيَّة، فقد كان اكتشاف القارة الأمريكيَّة.

إنَّ ما حدث في الوعي الجغرافي للإنسانيَّة في حقبة الكشوف الجغرافيَّة الكبرى المذكورة كان بمثابة رجَّة كبرى أحدثت في ذلك الوعي خلخلة عظيمة. وفي عبارة جامعة، نقول: لقد أصبحت الأرض، بموجب الاكتشافات الجغرافيَّة المذكورة، غير الأرض.

2. تُنعت النظريَّة الفلكيَّة، التي انتهى إلى صياغتها نيكولاي كوبرنيك، بـ«الثورة الكوبرنيكيَّة»، وكذا بالانقلاب الفلكي. والحق أنَّ نظريَّة كوبرنيك كانت انقلاباً حقيقياً في المعرفة الكونيَّة وليس مجازياً فحسب. إنَّ ما حدث هو، كما نعلم، نقلة كيفيَّة من اعتقاد يقرُّ بثبات الأرض في مكانها ودوران الشمس والقمر والكواكب حولها، إلى نظريَّة تقضي بالعكس من ذلك الاعتقاد: لست المتفرج الجالس في مكانه فيما الشمس والقمر يتحركان من حولي، بل إنَّني، في الحقيقة، أنا المتنقل الذي يدور حول الشمس فيما هذه الأخيرة ثابتة في مكانها (والعبارة تنسب إلى العالم الفلكي البولندي العظيم، كوبرنيك).

الثورة الكوبرنيكيَّة تعني إحداث شرخ عميق في الرؤية الفلكيَّة للعالم؛ بل للكون برمَّته. لا تعني الثورة الكوبرنيكيَّة فقط الانتقال من اعتقاد يقول بسكون الأرض وثباتها إلى اعتقاد منافٍ ومخالف كُليَّة يقضي بعكس ذلك، وإنَّما نقلة نوعيَّة من تصوُّر للعالم باعتباره نسقاً متناهياً ومقفلاً إلى عالم لا متناهٍ ومفتوح؛ هي ثورة إذاً في معنى الانقلاب الشامل؛ ذلك الذي يقلب الأمور رأساً على عقب.

3. خلال النصف الأول من القرن السابع عشر توالت سلسلة من الاكتشافات المثيرة ومن الاختراعات الجديدة طالت حقولاً معرفيَّة برُمَّتها. لقد تَمّ الإعلان عن ميلاد علم جديد جدَّة تامة، هذا من جهة أولى، وانتقلت الرياضيات من صفة علم بين العلوم لتكتسب صفة العلم الأسمى الذي تطمح العلوم الأخرى لتنسج على منواله وللنتائج التي يتمُّ الانتهاء إليها لتفرغ في صيغ رياضيَّة، من جهة ثانية.

ليس في الإمكان أن نعدّد كلَّ الاكتشافات التي تَمّ التوصل إليها، ولكنَّنا نذكر أكثرها أهميَّة: تَمّ اكتشاف قانون الجاذبيَّة الأرضيَّة على يد إسحق نيوتن، والدورة الدمويَّة على يد وليم هارﭬﻲ، ومبدأ الضغط الجوي بفضل تورتشيلي. ونذكر من الاختراعات المثيرة: اختراع البارومتر، وتطوير العدسات الزجاجيَّة والموازين الدقيقة[2].

لا يتّسع لنا المجال للتوسُّع في الحديث عن التحوُّلات العلميَّة التي عرفتها العقود الأولى من القرن السابع عشر (ومؤرخو العالم يطلقون عليه من أجل ذلك نعت: القرن العظيم أو القرن الأكبر)، ولكنَّنا نقول بعبارة موجزة: لقد عرف العلم في تلك الحقبة ما يصحُّ نعته بالثورة الرياضيَّة (سواء نظرنا إلى الأمر من جهة نظر بروز قوانين رياضيَّة جديدة ترتبط بأسماء مُكتشفيها: ديكارت، نيوتن، باسكال، ﻟﻴﺒﻨﺰ، أو اعتبرنا المسألة من حيث اعتبار الرياضيات الصياغة المعرفيَّة العليا في التعبير عن الكون). كما أنَّ هذه المرحلة من تاريخ العلم عرفت اكتمال الأسس الكبرى للمعرفة العلميَّة، تلك التي ينطق بها المنهج التجرﻳﺒﻲ.

4. شهد القرن السابع عشر (وكذا القرن التالي له) صراعاً اجتماعياً حاداً في أوروبا الغربيَّة، واكب هذا الصراع وعبَّر عنه في مستوى الفكر صراع إيديولوجي بين قيم جديدة ومضامين فكريَّة لم تكن مألوفة من قبل وبين القيم الأخرى والمضامين التي كانت تُعَدّ طبيعيَّة ومألوفة.

فأمَّا القوى الاجتماعيَّة المتصارعة فهي، من جانب أوَّل، الطبقة الأرستقراطيَّة، وهذه تشمل فئات «النبلاء»، والملك والأمراء، وهي تحظى بتأييد ومعاضدة من الكنيسة ورجالها. وأمَّا القوى الاجتماعيَّة الأخرى، فهي كلُّ الفئات التي كانت تخضع لسطوة الأرستقراطيَّة وترضخ لاستغلالها، وطليعة القوى الاجتماعيَّة هذه هي الطبقة البورجوازيَّة، مشكَّلة من كبار التجار وأرباب الصناعات الناشئة المتطوّرة، وقد كانت هذه الطبقة هي القوَّة الدافعة والقائدة لحركات التذمُّر الاجتماعي التي كان عنها حدوث الثورة الفرنسيَّة في نهاية القرن الثامن عشر (1789).

أمَّا القيم الجديدة والمضامين الفكريَّة التي لم تكن مألوفة، بل ولا معروفة من قبل، فهي تلك التي تجد التعبير عنها في نظريات التعاقد الاجتماعي، وفي ما تقتضيه من مضامين (آدميَّة السُلطة السياسيَّة، فكرة المواطن، الحريَّة، الاختيار، الشعب، الأمَّة...). وما ألمحنا إليه من صراع في مستوى الفكر (في مستوى الوعي الإيديولوجي بالتالي)، فهو ما قام من تقابل بين أنصار «الثيوقراطيَّة» من جهة، ودعاة التعاقد الاجتماعي من جهة أخرى. والأوَّلون هم المنافحون عن «الحق المقدَّس» أو «الحق الإلهي للملوك»؛ ومن ثَمَّ الذين يرون أنَّ السلطة السياسيَّة تحمل النفحة الإلهيَّة (ومن ثَمّ القدسيَّة)، وتتسم من ثَمّ بصفات الأبويَّة، والإطلاق، ولزوم الخضوع الكامل لها. والأخيرون هم الذين يرون أنَّ السلطة السياسيَّة سلطة آدميَّة، مقيدة بقيود التعاقد الاجتماعي الذي يتم بين مواطنين أحرار وعقلاء، فلا تكون للسلطة السياسيَّة صفة القدسيَّة إلا متى فهمنا القدسيَّة في معنى احترام بنود التعاقد الاجتماعي.

نظريَّة التعاقد الاجتماعي (كما ظهرت في تعبيرات متمايزة، نسبياً، عند كل من سبينوزا، وجون لوك، وتوماس هوبز) تعبّر عن التفاعل الحادث بين النتائج التي تَمّ الانتهاء إليها في المجالات الأربعة التي عرضنا لها أعلاه. قد لا نكون في حاجة إلى الخوض في المكوّنات الأساس للفكرة السياسيَّة عند الفلاسفة الثلاثة المذكورة أسماؤهم، غير أنَّه يصحّ منا القول، إجمالاً، إنَّ نظريَّة التعاقد الاجتماعي تفيد التشبُّع بمفاهيم جديدة (أشرنا إلى البعض منها)، هذا من جانب أوَّل، كما أنَّها تفيد، من جانب ثانٍ، التسليم باعتبار العقل حكماً وموجهاً في الفهم وفي التشريع السياسيين. وهي، من جانب ثالث، تفيد إقرار مبدأ الحريَّة الفرديَّة والإرادة الحرَّة قاعدة في تقنين العلاقات الاجتماعيَّة والرابطة السياسيَّة في المجتمع الواحد. ولو شئنا أن ننظر في الأثر القوي الذي أحدثه ميلاد الفيزياء عِلماً مستقلاً بذاته، وظهور مبحث الميكانيكا، داخل هذا العلم، بناءً قوي الأركان، لقلنا إنَّنا نلمس جوانب من ذلك في الحديث عن «الجسد السياسي» وخضوعه لنوع من الحتميَّة التي تحكمه وتوجهه.

يصح القول، إجمالاً، إنَّ أوروبا الغربيَّة قد شهدت سيرورة تحوُّل كيفي فعلي، لا متوهَّم، خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، في الصعيدين الاجتماعي والمعرفي. كما يصحُّ القول إنَّ القرن التالي (الموسوم بعصر الأنوار) قد كان خلاصة وتركيباً شاملين لمجموع تلك التحوُّلات، فكان في الإمكان حدوث الفصل بين عالمين: عالم جديد يأتي حاملاً لمجموعة من المفاهيم، والقيم، والنظريات العلميَّة، وكذا لوعي جديد لطبيعة الوجود الاجتماعي للبشر يسنده فهم جديد لطبيعة السلطة السياسيَّة وتنظيمها، وعالم أصبح قديماً، بفعل ما تحقق من كيفيات تجاوزه وإقبار العديد من بنياته الفكريَّة ونظمه الاجتماعيَّة.

سيصبح لهذا العالم اسم جديد لم يكن مألوفاً من قبل هو عالم الحداثة. كما أنَّ السيرورة التي تتمُّ بها خلخلة العالم القديم؛ بل التطلع إلى اجتثاثه من جذوره، ستحمل نعتاً جديداً لم يكن بدوره مألوفاً من قبل وهو نعت التحديث[3].

وإذا كانت الحداثة، منشأً وتطوراً، معطى أوربياً محضاً اتصل بالوجود الاجتماعي من جهة وبالوجود الفكري من جهة أخرى، فإنَّ نتائجه كانت ذات أثر عميق، يحمل أبعاداً كونيَّة سعت شعوب وثقافات أخرى في العالم إلى البحث عنها وتملكها (أو ربَّما كانت مجبرة على ذلك ومضطرة إليه اضطراراً).

ذلك ما نرى أنَّه كان كذلك، بالنسبة إلى العالم العربي في مجمله على نحو، وكان، على نحو مختلف في بعض مكوناته، بالنسبة إلى المغرب.

2. العرب والحداثة (وعي الانحطاط والطموح إلى مجاوزته)

يرتبط ذكر الحداثة ومتعلقاتها، في وعي المثقفين العرب، بالمرحلة الموسومة بعصر النهضة. ومفهوم «النهضة»، إلى جانب مفهومين آخرين يقتربان منه (اليقظة، الانبعاث)، يكثر ذكره في الحديث عن الفترة من التاريخ المعاصر التي قد يقع من هؤلاء المثقفين بعض التردد في ما يتعلق ببدايتها. فحيث يجعل البعض منهم البداية الفعليَّة لها حلول نابليون بونابرت في مصر غازياً في سنة (1798)، يرى البعض الآخر في احتلال الجزائر (1830) تعبيراً فعلياً عن بداية تشكُّل الوعي العربي المعاصر. في حين أنَّ آخرين يجعلون من حدث استعمار هذا البلد أو ذاك من دول العالم العربي تاريخاً يتعيّن أخذه في الاعتبار. وفي الأحوال كلها، هناك في الوعي العربي المعاصر ارتباط بين «اكتشاف الغرب» غازياً مستعمراً، وبين تبيُّن ما كانت عليه البلاد العربيَّة من سوء في أحوالها الماليَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، ومن ثَمَّ سيكون الحديث عن «التأخُّر» وعن «الانحطاط».

الانحطاط (أو وعي الانحطاط) في خطاب المفكرين العرب في عصر النهضة نوع من الوعي الشقي كما يقول الفيلسوف الألماني هيغل؛ نوع من «الاكتشاف» لحال غريبة استمرَّت في واقع الأمر قروناً عديدة متصلة في أرض دون وعي حقيقي بمغزى تلك الحال. نعم، هنالك نوع من عدم الرضا (عند مفكري الإسلام في العصور الوسطى) عن حال الإسلام والمسلمين وما آل إليه أمرهم من الانصراف عن العلوم والفنون وطلب أسباب القوَّة، ولنا في التعبير عن هذا الواقع البئيس قول واضح ونبرة أسى مع إرادة للفهم عند ابن خلدون؛ ذلك أنَّ في بعض المقاطع من «المقدّمة» وعياً بذلك، وعياً بحال الانحطاط، غير أنَّ ما يحق نعته بوعي الانحطاط لا يظهر في صورته الواضحة إلا عند مفكري عصر النهضة: الانحطاط من حيث هو إدراك للوجود في حال من التخلف عن ركب الإنسانيَّة المتقدمة، من جهة، والتقاعس والتأخر عمَّا كان عليه الإسلام في عصره «الذهبي» من جهة أخرى، لنقل إنَّ وعي الانحطاط يعادل الوعي بحال «التأخر المزدوج».

نود التنبيه، في الحديث عن «التأخر المزدوج» وعن «العصر الذهبي»، إلى أنَّ هذا العصر الأخير لا يحيل في خطاب المثقفين العرب في عصر النهضة على زمان مرجعي معلوم، ولا يفيد الإشارة إلى حقبة تاريخيَّة محدَّدة من تاريخ الإسلام، وإنَّما هو نوع من التركيب الذهني الانتقائي، تركيب ذهني انتقائي في المعنى الذي يفيده مفهوم النموذج الذهني المثالي عند ماكس ﭬيبر (Ideal type). فالعصر الذهبي هنا، في خطاب المثقف العربي في عصر النهضة (ولا يزال الحال كذلك حتى اليوم عند الكثيرين)، يأخذ من كلّ زمن من أزمنة القوَّة والبهاء أفضل ما فيه. فالعصر الذهبي مزيج من بيت الحكمة والخصوبة الفكريَّة في بغداد، وصورته البهيَّة ما كان عليه الحال في الأندلس، حيث كان الإقبال على الثقافات غير الإسلاميَّة أفضل ما يكون الإقبال، فكانت حركة الترجمة والاقتباس في قرطبة، والعصر الذهبي عند مثقفنا هنا مزيج من صور متنوّعة من الحضارة الإسلاميَّة في القاهرة والقيروان وفاس وغيرها من الحواضر الكبرى أيام قوَّة ومجد كلٍّ منها.

طرح مفكرو الإسلام سؤالاً واضحاً في عمقه، مختلفاً في أشكال صياغته: لماذا وصل أهل الإسلام إلى ما أصبحوا فيه من انحطاط فكانوا في حال التأخر المزدوج التي نشير إليها؟ وانتهوا في الإجابة عن السؤال إلى صوغ أسباب عديدة غير أنَّها لم تكن، في عمومها، تخرج عن هذا: هناك انحراف عن الجادة، عن «المحجَّة البيضاء»، هذا من جانب أول، وهناك وقوع في وهدة الاستبداد وما يكون عنه من الظلم والفساد، من جانب ثانٍ. وتساءل مفكرو عصر النهضة عن الأسباب التي أصبح بموجبها «الغرب» على ما هو عليه من القوَّة والرفعة والتقدُّم. والجواب عن هذا السؤال الأخير كان أنَّ الأسباب لا تكمن في التقدُّم العلمي والتفوُّق التكنولوجي فقط، ولا توجد في ما كانت عليه الإدارة من التنظيم الحسن، وما كان عليه الجيش من قوَّة وانضباط وتماسك، بل ليست تقوم حتى في نظام المجتمع وسلوك الأفراد، وإنَّما هي ترجع قبل ذلك كله إلى الالتزام بتحقيق العدل، واحترام الحريَّة، ومراعاة إنسانيَّة الإنسان. ثم إنَّ هذا الجواب كان يأتي مرفقاً بحسرة وأسى مصدرهما أنَّ أهل الإسلام (بموجب ما يقرُّه الدين الإسلامي) كانوا أحقَّ شعوب الأرض في الالتزام بشروط العدل والحريَّة وتقدير العقل ومراعاة إنسانيَّة الإنسان، غير أنَّ ما حدث كان انحرافاً عن جادَّة الصواب في النظر إلى الدين الإسلامي، فكان الانحطاط وكان واقع التأخر المزدوج.

ما نود التنبيه إليه أنَّ وعي الانحطاط، في الفكر العربي المعاصر، كان مقدّمة لوعي الحداثة ودرسها وأسبابها، غير أنَّه كان في الواقع انتباهاً وتنبيهاً معاً إلى وجود عالم جديد كانوا يقدرون أنَّهم كانوا خارجه دون أن يكون هذا الفكر قادراً على التغلغل في بنيات المجتمع العربي الإسلامي في عصر النهضة، كما أنَّ هذا المجتمع، في المقابل، لم يكن في حال استعداد لتقبُّل «ثورة» الحداثة ومكوناتها وممكناتها.

لقد قضى حكم التاريخ، في العالم العربي الإسلامي المعاصر، أن يكون الدخول إلى أزمنة الحداثة عبر بوابة الاستعمار الغربي لهذا العالم. كما قضى هذا الحكم أن يكون العمل من أجل التحرُّر واستعادة الاستقلال متصلاً، في جوانب منه، بالحداثة ومنطقها وبسيرورة التحديث وآلياته. والمغرب يقدّم، في هذا المعنى، درساً وصورة نموذجيَّة على صحة هذا الرأي.

3. الإصلاح مدخلاً للحداثة

في غضون خمس عشرة سنة في منتصف القرن التاسع عشر، اضطرَّ المغرب إلى خوض معركتين مُني في كلتيهما بهزيمة نكراء. أمَّا الأولى، فقد كانت هزيمة عسكريَّة قُضي الأمر فيها في سحابة يوم واحد (14/8/1844)، فقد كان الفارق فيها هائلاً بين أفراد العسكر المغربي (وهم مزيج من جنود نظاميين قلة ومتطوعة من أجل الجهاد) وبين الجيش الفرنسي القوي بمدفعيته وأسلحته والقوي بنظامه خاصَّة. أمَّا الثانية، فقد كانت هزيمة عسكريَّة ماليَّة، وكانت (وهذا هو الأشدُّ فداحة) إضاعة لمدينة تطوان لمدة تربو على العام ونصف العام، قبل أن يتمَّ استرجاعها وفقاً لاتفاقيَّة صلح بين المغرب وبين الغازي الإسباني. فأمَّا المعركة الأولى، معركة إيسلي (نسبة إلى القرية المغربيَّة الواقعة قرب الحدود المغربيَّة/الجزائريَّة)، فقد كانت استجابة لاستنصار من الأمير عبد القادر الجزائري، وكانت الهزيمة بعد ساعات قليلة من بدء الاشتباك بين جهتين غير متكافئتين إطلاقاً. والأمر الأكثر أهميَّة هو الدرس الذي خرج به المغرب: لا مكان لدولة في الأزمنة الحديثة بين الدول دون التوافر على جيش نظامي، يتوافر ليس على العتاد الحربي الضروري فحسب، وإنَّما (وهذا هو الأهم) على التنظيم العسكري الحديث. لنقل إنَّ المغرب قد تمكَّن من ذلك باستيعاب مغزى «التنظيمات» التي كانت أدبيات الدولة العثمانيَّة تزخر بها؛ لذا نحن نقول إنَّه، في هذا المعنى، لم يكن من الغريب في شيء أن تطلق على الجيش صفة «النظام»، وأن تقترن الدعوة إلى تحديث الجيش وتنظيمه على أساس أنَّه قوَّة قارة بالدعوة إلى إحداث «النظام»، وأن تُنظم قصائد وتكتب بيانات وكتب تدعو إلى «النظام» وتحث عليه. أمَّا الدرس المستفاد من «حرب تطوان» (احتلال تطوان، كما ذكرنا ذلك أعلاه) فهو تبيُّن مدى فساد النظم الإداريَّة الموجودة آنذاك، ولاسيما ما تعلق منها بالجانبين المالي والإداري، وهو إدراك الدولة المغربيَّة بوجوب إحداث جملة من الإصلاحات[4] التي تتصل بجوانب من الحياة الماليَّة والإداريَّة. لنقل، أيضاً، إنَّ ما يمكن نعته بالصدمة الأولى للحداثة في المغرب حدثت (على غرار ما وقع في مصر) على إثر الاتصال العنيف بالغرب الأوروبي مستعمراً غازياً.

شهد القرن التاسع عشر، في ثمانينياته وتسعينياته، وفي العقد الأول من القرن العشرين، ظهور كتابات إصلاحيَّة اتصلت بمجالات الدين والمجتمع، ولامست القضيَّة السياسيَّة في جوانب منها. كذلك حرَّر الفقهاء المغاربة فتاوى وتعليقات كثيرة تستنكر ظهور عادات اجتماعيَّة جديدة وتفشي ظواهر لم تكن مألوفة في المجتمع المغربي: من ذلك الإسراف في النفقات في المآتم والأفراح، واكتساب عادات جديدة من قبل الفئات التجاريَّة التي اتصلت بالدول الأوروبيَّة، والتي التمست منها «الحماية». ومن تلك الكتابات نذكر مؤلفات صغيرة ورسائل تخوض في قضايا الدين من حيث صلته بالحياة الاجتماعيَّة في الوجود الحديث. كذلك نقرأ كتابات تجيب عن السؤال الآتي: هل تجب الزكاة في الأوراق الماليَّة وفي النقود أم إنَّها (كما تنصُّ على ذلك أقوال الفقهاء) تكون في الذهب والفضة فقط؟ ومن ذلك أيضاً التساؤل عمَّا إذا كان الإعلان عن ظهور هلال رمضان وهلال العيد والإخبار عن الأشهر القمريَّة يجوز الاعتماد فيه على الخبر الوارد عن طريق التلغراف والهاتف أم لا يجوز ذلك (بما أنَّ الفقهاء قد كتبوا في صيغ أخرى يتمُّ تناقل الخبر عبرها: مثل إيقاد النار، والضرب على الطبول...)؟

هي كتابات يصحُّ القول فيها إجمالاً إنَّها تعكس التمثلات الأولى للحداثة في الوعي الفقهي المعاصر في المغرب[5].

عرفت الدعوة الإصلاحيَّة في المغرب (في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن التاسع عشر، وفي العقدين الأول والثاني من القرن التالي) منحى آخر، ظهر، في أوَّل الأمر، في صورة محتشمة متردّدة، في مدونات الرحالين المغاربة الذين تلاحقت رحلاتهم (القصيرة المدد، وذات الطبيعة السفاريَّة في الأغلب الأعم من الأحوال). كذلك نجد في أحاديث أولئك الرحالين (وأكثرهم شهرة الصفار، وابن إدريس العمراوي، والكردودي، والطاهر الفاسي، وكذلك محمد الحجوي، في مرحلة متأخرة) حديثاً عن الاختراعات والكشوف العلمَّية والنظُم التعليميَّة والتجاريَّة، ونظام الجيش بطبيعة الأمر مع إشادة بكلّ ذلك. غير أنَّ الجدير بالانتباه أنَّ مدوناتهم تلك لم تكن تخلو من تنبيه خفي إلى أهميَّة إشاعة العدل وإشاعة السلم وأسبابه في المجتمع، مع تعداد لجوانب السلب في المجتمعات التي أمكنهم مشاهدتها (حال المرأة، قلة الاحتفال بالدين، الانشغال بأمور وقضايا كان أولئك الرحالون، ولعلّي أستثني من المجموعة التي ذكرت محمداً الحجوي، يحكمون بانعدام الجدوى فيها أو يقللون من أهميتها)[6].

مع بزوغ القرن العشرين، ستعرف الساحة المغربيَّة بروز توجُّه جديد عند النخب العلميَّة والتجاريَّة في العاصمة آنذاك (فاس)، وفي بعض الحواضر الكبرى، وفي مدينة طنجة خاصَّة. يلمس الملاحظ هذا التوجُّه الجديد في النظر إلى الإصلاحات الواجب إدخالها (في سير كلٍّ من الدولة والبنيات الفكريَّة والاجتماعيَّة) في بداية تداول الدعوة الإصلاحيَّة السلفيَّة كما حملها كلّ من محمَّد عبده والأفغاني وتلامذتهما في دول المشرق العربي، أمثال عبد الرحمن الكواكبي وقاسم أمين، هذا من جهة أولى. أمَّا من جهة ثانية، فإنَّ الملاحظ يلمس لهذا التوجه الجديد (غير المألوف على كُلٍّ) مظهراً آخر تجلى في بداية تكوُّن جمعيات كانت، في نهاية الأمر، صدى لجمعيات إصلاحيَّة (بل لعلها كانت تقترب من النفَس الإصلاحي الجذري، وربَّما الثوري أحياناً) مثلما كان الشأن في جمعيَّة «الاتحاد والترقي» أو جمعية «تركيا الفتاة»، والجمعيات التي أخذ نشاطها يعرف انتشاراً وتمدُّداً في مصر وفي بلاد الشام. والإشارة عندنا، في الحديث عن بداية تكوُّن جمعيات إصلاحيَّة ترجع إلى النخب الثقافيَّة والتجاريَّة، إلى جمعيَّة «جماعة لسان المغرب». فقد بلغ المنحى الإصلاحي عند هذه الجمعيَّة درجة الدعوة إلى إعلان دستور للمملكة.[7]

جهود الدولة في إحداث إصلاحات تهدف إلى إنقاذ الدولة واستمرارها، ونزعات الإصلاحيين من مشارب مختلفة تضم ألوان طيف تمتد من إثارة الوعي الديني بالفساد إلى أخرى تدعو إلى الحكم بإدانة عادات اجتماعيَّة سيئة، بل تستنكر الانحراف السياسي عن البيعة وشروطها ومقتضياتها وانتهاء بدعوة تمتزج ﺑﻤنزع حداثي قوي (كما هو الشأن في «جماعة لسان المغرب»). كلُّ هذا سيصطدم، من جانب أوَّل، ببنيات عتيقة متكلسة تعمل على تكريسها وتعميق نفوذها زوايا وطرق صوفيَّة تقاوم الحديث والتغيير بكلّ سبيل، من جانب ثانٍ، وفي مقابل ذلك مجتمع يشكو من تفشٍّ، يكاد يكون شاملاً، للأميَّة ومن ظهور مغامرين، من جانب ثالث. وفي مقابل هذا كله قوى استعماريَّة ظلت طيلة العقود التي أعقبت هزيمة إيسلي فحرب تطوان تتربَّص بالمغرب الدوائر. ثمّ إنَّ تلك القوى نظَّمت جهودها في بسط رداء الاستعمار على المنطقة العربيَّة برُمَّتها، فعقدت سلسلة من المؤتمرات والاتفاقيات أشهرها مؤتمر مدريد (1880)، واتفاقيَّة سايكس بيكو (1904)، ثمَّ مؤتمر الجزيرة الخضراء (1906)، وأخيراً المعاهدة الفرنسيَّة/ الألمانيَّة (1911).

إذا كان استعمار المغرب قد وقع بموجب «اتفاقيَّة الحماية» (30 مارس 1912) فتحقق واقعياً، فإنَّ المعطيات السياسيَّة والتاريخيَّة تفيد كلها أنَّ المغرب قد وضع قدميه في شرك الاستعمار زمناً طويلاً قبل ذلك. زمن كان المغرب قد أصبح بموجبه موجوداً في دائرة «القابليَّة للاستعمار». غير أنَّه يتعين التسليم، من جهة ثانية، بحقيقة أخرى وهي أنَّ بداية تكوُّن اﻟنزعة الوطنيَّة الحديثة في المغرب تجد جراثيمها في عمق «القابليَّة للاستعمار»؛ كذلك قضى منطق التاريخ في المغرب. وبموجب ما قضى به هذا المنطق ذاته يصحُّ القول إنَّ «وعي الانحطاط» (كما ألمحنا إليه في القسم السابق) كان انفعالاً باكتشاف «الحداثة» ووعياً (متذبذباً في صوره الأولى) بوجوب النظر إليها.

4. الحركة الوطنيَّة الجديدة: نقطة البداية

في التقرير الضافي عن واقع حركات التحرُّر الوطني في بلدان المغرب كتب علال الفاسي جملة ستغدو لاحقاً تقريراً لمبدأ أخذت به الحركة الوطنيَّة المغربيَّة: تاريخ «16 أيار/مايو 1930 هو الذي عَلَّم نقطة البداية في تاريخ الحركة الوطنيَّة المغربيَّة»[8]. والإشارة، كما هو معلوم، إلى الانتفاضة العارمة التي شهدتها المدن المغربيَّة في التاريخ المذكور، تعبيراً عن رفض مقتضيات ما أطلق عليه «الظهير البربري». كانت مقتضيات الظهير المذكور إثارة للوعي الديني في المغرب من حيث إنَّ ذلك الظهير يقول بمبدأ التمييز في المحاكم المغربيَّة بين محاكم يكون فيها الاحتكام إلى الشرع وأخرى، في مقابلها، يكون فيها الاحتكام إلى العرف الاجتماعي الشائع. وكانت كذلك تفجيراً لوعي سياسي ظلَّ يختمر في الوعي الجماعي عقوداً ستة متصلة. ومضمون الظهير المشار إليه يعني إيذاناً بتقسيم المغاربة إلى فريقين اثنين: فريق أوَّل تسري عليه أحكام الشرع الإسلامي (وهم ساكنة ما كانت الهندسة الجغرافيَّة الاستعماريَّة، الوهميَّة فعلاً، تطلق عليه نعت أرض أو مجال العرب). وفريق ثانٍ، في مقابل ذلك، يخضع في اللجوء إلى العدالة، والتقاضي إلى «إِزَرف» (ما يفيد في اللغة الأمازيغيَّة مفهوم العرف الاجتماعي الشائع، في غير صلة ضروريَّة بالدين الإسلامي). وأناس هذا الفريق الثاني هم المنتسبون (في الهندسة الجغرافيَّة الاستعماريَّة أيضاً) إلى «مجال البربر» (أمازيغ). ونعتنا لتلك الهندسة بالوهم ليس من قبيل الانفعال الوطني أو الرفض الذي لا يجد سنداً من الجغرافيا والتاريخ ومن المكونات البشريَّة ذاتها؛ بل إنَّه كذلك بحكم الكثير من الأدبيات الغربيَّة، بما في ذلك الفرنسيَّة بطبيعة الحال.

كانت حركة (16 مايو 1930) تركيباً لسيرورة يقظة وطنيَّة عرفت بداياتها (كما أشرنا إلى ذلك) مع هزيمة إيسلي أولاً، ثمَّ حرب تطوان ثانياً، ويتعين أن نضيف إلى الحربين حدثاً ثالثاً، وإن كان أقلَّ فعلاً في الحياة السياسيَّة غير أنَّه حفر في الوعي الوطني والثقافي أيضاً أخاديد عميقة: نقصد به نزول الجيش الفرنسي في منطقة الدار البيضاء (ويعرف الحدث باحتلال الشاوية -المنطقة الجغرافيَّة) في سنة (1907). يحدثنا المؤرخ المغربي الفقيه محمد المنوني، فيبيِّن جوانب من «اليقظة المغربيَّة»؛ إذ يقف عند ردَّة الفعل في الوعي المغربي ممثلاً في الأدب الشعبي وفي أحد أكثر تلك القصائد شهرة[9]. كما يلزمنا التنبيه إلى خطورة الأحداث التي تعاقبت في المغرب إثر وفاة السلطان القوي الحسن الأول، الملك الذي سعى بكلِّ السبل التي كانت في حوزته إلى «تأخير» استعمار المغرب والحفاظ على استقلال صعب للبلاد، في الوقت الذي اجتهد فيه في تطوير ما دشنه سلفه ووالده محمد الرابع من الانفتاح على التكنولوجيا الغربيَّة، وإرسال البعثات التعليميَّة إلى فرنسا وإسبانيا وإيطاليا.

يتحدث الزعيمان السياسيان محمد بن الحسن الوزاني، وعلال الفاسي[10]، عن «الدهشة» و«الحيرة» التي داهمت النخب المغربيَّة في السنوات القليلة الأولى التي أعقبت (30) آذار/ مارس (1912) (تاريخ توقيع عقد الحماية)، وعن العفويَّة التي حرَّكت أشكالاً من المقاومة في الحواضر ودفعت إلى المقاومة المسلحة التي تستمرُّ في جبال الأطلس المتوسط والأطلس الصغير (ستمتدُّ لفترة تقارب، في معارك ضارية أحياناً، العشرين عاماً). في مقابل ذلك، نلاحظ أنَّ الدعاوى الإصلاحيَّة في المغرب، سواء منها تلك التي تنهل من الأدبيات القليلة (التي ظهرت بعد معركة إيسلي وحرب تطوان)، أو الأخرى القادمة من دول المشرق العربي (على نحو ما أسلفنا الإشارة إلى ذلك)، كانت تنتشر في أوساط النخب المتعلمة في الحواضر الكبرى خاصَّة. وما نريد الانتهاء إليه هو أنَّ «الظهير البربري» استطاع أن يخلق في المغرب آليَّة جديدة من الاحتجاج، استطاعت التنظيمات المدنيَّة الجديدة على الوعي الثقافي المغربي في مطلع القرن الماضي أن تستجمع عناصر الرفض والتذمر التي أحدثها في الوعي الديني/المغربي وأن تستقطبها في حركة ستتجه إلى التنظيم وتعميق الوعي السياسي بالذات فتتجاوز عمل الجمعيَّة الثقافيَّة (جماعة لسان المغرب...) لتغدو أكثر قوة، وأبعد عمقاً فتظهر في صورة كتلة متماسكة تسعى إلى مجاوزة دوائر النخبة الضيقة. كذلك ستظهر (بعد أربع سنوات من الاحتجاجات التي أعقبت صدور الظهير البربري) كتلة العمل الوطني.

لا يعنينا، في هذا المقام، النظر في دفتر «مطالب الشعب المغربي»، الذي تقدَّمت به كتلة العمل الوطني (وقد تسمَّت أحياناً: الكتلة العاملة الوطنيَّة) في شهر كانون الأول/ديسمبر (1934) من حيث مضامينه السياسيَّة، ولا نريد أن نتفحصه من حيث دلالته على تطوُّر الشعور الوطني في المغرب ومراحل الكفاح من أجل الاستقلال[11]. ما يعنينا، في حديثنا اليوم، هو التنبيه على بعض مظاهر الجدَّة في الفكر المغربي المعاصر؛ إذ إنَّ هنالك مفاهيم تتصل بالحداثة وبالقاموس الذي ترجع إليه (الشعب، المساواة، السجين السياسي، النقابة، الحق في التعليم، تعليم المرأة...). قد يعترض علينا بالقول إنَّ ذلك كان من مقتضيات التوجُّه بالخطاب إلى الإدارة الحمائيَّة في المغرب، وعملاً على التلويح بالإصلاحات (ومقتضيات الإصلاحات) التي ينصُّ عقد الحماية على إحداثها في المغرب (مع الحفاظ على البنيات السياسيَّة والدينيَّة والاجتماعيَّة للبلد، تمييزاً للحماية عن الإدارة الاستعماريَّة المباشرة). والجواب أنَّ ذلك صحيح، وأنَّ الحركة الوطنيَّة المغربيَّة في بداية وعيها بذاتها، حيث كانت في مرحلة من العمل السياسي أعلى رتبة من الجمعيَّة ولكنَّها أدنى ﻣﻨﺰلة من الحزب السياسي؛ بيد أنَّ ما نودُّ التنبيه عليه أنَّ «مطالب الشعب المغربي» تنمُّ، من جهة أولى، على تَنَسُّمٍ قَوِيٍّ لِرِيحِ الحداثة. كما أنَّها تبين، من جهة ثانية، كيف أنَّ ميلاد تطوير الفكر الوطني في المغرب قد حدث في تفاعل مع سيرورة التحديث التي انخرط فيها المغرب عقب هزيمة إيسلي. مسيرة كانت المبادرة فيها للدولة، صاحبة المصلحة الأولى في تحديث البنيات العسكريَّة والماليَّة والإداريَّة، مع إحداث بعض الرَّجة في البناء التعليمي. كذلك قضى منطق المسار الذي سلكه المغرب المعاصر.

5 - الحركة الوطنيَّة المغربيَّة: الحاجة إلى النظريَّة

تستوقف المنشغل بتاريخ الحركة الوطنيَّة المغربيَّة الفقرة التالية من الحركات الاستقلاليَّة في المغرب العربي:

«من الواجب علينا وقد جلينا فضائلها [الحركة الوطنيَّة المغربيَّة] أن ننبهها إلى بعض مواطن النقص التي يجب أن نعمل على إتمامها».

«وأوَّل هذه المواطن، في نظرنا، هو ما يرجع إلى تكوين النظريَّة، وأعني به ما يتعلق بخلق برنامج مفصَّل للنظام السياسي والاقتصادي الذي يجب أن يكون عليه المغرب وقت استقلاله، لأنَّنا نعتقد أنَّ العمل للاستقلال ليس إلا وسيلة لتحقيق أهدافنا العظيمة في إصلاح الأمَّة وإسعادها»[12].

ننبّه إلى أنَّ هذا التقرير قد كُتب في سنة (1948)، وللتاريخ المذكور دلالاته بالنسبة إلى الحركة الوطنيَّة المغربيَّة وتطورها. نذكر أولاً أنَّ هذه الحركة (في تنسيق تام مع سلطان المغرب، الملك محمد الخامس) كانت قد تقدَّمت إلى السلطة الحمائيَّة بوثيقة ممهورة بإمضاء مجموعة كبيرة من الأسماء تَمَّ اختيارها بعناية تامَّة حتى تكون تعبيراً عن مختلف فئات الشعب المغربي. تُعرف هذه الوثيقة بوثيقة المطالبة بالاستقلال (وكذا وثيقة 11/1/1944)، ونقول ثانياً إنَّ هذه الوثيقة قُدِّمت في الوقت نفسه إلى عدد من الهيئات الدوليَّة والحكومات، وإنَّ هذا التاريخ، وكذا الفعل ذاته، يعبّران عن تطوُّر في عمل الحركة الوطنيَّة: نقلة نوعيَّة تَمّ بموجبها انتقال من مطالبة الحماية بتطبيق الإصلاحات التي يتضمّنها عقد الحماية إلى المطالبة بالاستقلال سبيلاً إلى تطبيق الإصلاحات. ونذكّر ثالثاً بأنَّ التاريخ المذكور شهد بداية حركة التحرُّر في العديد من الدول العربيَّة، وارتفاعاً في عمل المقاومة في الكثير من المستعمرات، سيكون عنه ارتفاع ملحوظ في استعادة العديد من الدول استقلالها في أفريقيا وآسيا بدءاً من منتصف خمسينيات القرن الماضي.

بعد هذه التنبيهات الضروريَّة الثلاثة، نودُّ القيام بوقفة قصيرة عند حديث علال الفاسي عن النظريَّة وعن تكوينها. ومن المعلوم، في الفكر السياسي، أنَّ حديث النظريَّة والشعور بالنقص النظري أو بعدم وضوح الرؤية في مستوى النظر والفكر أمر ينمُّ عن تطوُّر هائل في الوعي السياسي في حركة من الحركات السياسيَّة، لا شكَّ في ذلك، غير أنَّه يدلّ على الوعي بوجوب إحداث نقلة نوعيَّة في مستوى النظريَّة التي ترسم الأفق، وتدلُّ على العمل الثقافي الذي يتعيّن إنجازه. وفي عبارة أخرى نقول: إنَّ ميلاد النظريَّة السياسيَّة التي توجّه الفعل هو ثمرة الشعور بالقصور وانسداد المنظور ما لم يسعف الفكر بما يوقظ وينبّه ويحرّك. وفي حديث الزعيم السياسي المغربي عن القصور النظري في عمل الحركة الوطنيَّة المغربيَّة، ومن ثَمَّ وجوب التوجُّه لبناء نظريَّة العمل الوطني في المغرب، دليل على بلوغ ذلك العمل درجة من النضج والتطور كافيين لإحداث نقلة كيفيَّة. غير أنَّنا، استخلاصاً ممَّا عرضنا له في القسمين السابقين، نجيز لنفسنا القول: إنَّ الفكر المغربي والحركة الوطنيَّة أحد تجليات ذلك الفكر مثلما أنَّه خلاصة وتركيب لتنسم ريح الحداثة وإقرار بالارتباط الْعِلِّيّ (نسبة إلى العلة) بين التحرير الوطني والعمل التحديثي في مستويات كلٍّ من المجتمع والفكر.

ولأَّنه لا يمكن التحرير السياسي إلا بتحرير الفكر، ولا معنى آخر لتحرير الفكر إلا بالأخذ بأسباب الحداثة كما تَمَّ تحققها في الفكر الغربي في الأزمنة الحديثة، وحيث إنَّ تحرير العقول يستوجب إقامة الصرح النظري الكفيل بذلك، فإنَّ السؤال الذي يفرض ذاته هو الآتي: ما النظرية التي تفتقر إليها الحركة الوطنيَّة في المغرب (وقد بلغت ما بلغته من تطوُّر) حتى تكون قادرة على رسم دروب التحديث التي يستدعيها مغرب الغد؟

6. الوطنيَّة والتحديثيَّة: أسئلة الفكر المغربي

كتب علال الفاسي، في تصدير كتاب (النقد الذاتي)، في حديثه عن الحركة الوطنيَّة المغربيَّة، ما يأتي: «دعوت في خاتمة كتابي (الحركات الاستقلاليَّة في المغرب العربي) رجال هذه الحركات إلى أن يهتمُّوا بتكوين النظريَّة، ووضع البرنامج المفصَّل الذي يسهّل علينا تحقيق الإصلاحات العميقة التي تنشدها أمتنا، متى تَمّ لها الاستقلال، وظفرت بالحريَّة، حتى لا يقع لها من التبلبل ما يشكّكها في قيمة الكفاح الذي تبذله بالنسبة لتقدمها وتحسين حالها»[13]. فالكتاب، إذاً، في المعنى الذي يتحدَّث عنه الزعيم المغربي، نوع من خارطة الطريق لما ينبغي أن تكون عليه صورة المغرب بعد استعادة استقلاله. ففي الكتاب حديث عن نظام الحكم السياسي المأمول (نظام الملكيَّة الدستوريَّة)، وحديث عن التنظيم الإداري، وعلى أيّ نحو يتعيَّن الأخذ بالأساليب الحديثة في الإدارة (من حيث لزوم عقلنتها، واعتبارها الضامن للسير الطبيعي للدولة ولأجهزتها). وفي الكتاب أحاديث في الاقتصاد وفي الاختيار المذهبي في الاقتصاد، وحديث عن طبيعة الأرض وتملكها وتوزيعها في المغرب. وفي الكتاب قسم يعادل نصف الكتاب من جهة الحجم يعرض فيه النمو الذي ينبغي أن تكون عليه صورة المجتمع المغربي الحديث (قضايا الزواج، والمرأة وحقوقها، وقضايا البغاء والمسكرات وما شابه، ثم قول مسهب في التعليم والاختيار الواجب الأخذ به). ثم إنَّ هذا القسم من الكتاب لا يخلو من قول في النقابة وفي العمل الثقافي وفي الصلة بين العمل السياسي (الحزب) والعمل النقابي وصلة الحزب بالنقابة. فكتاب (النقد الذاتي) كُتب من أجل هدف عملي وهو الجواب عن السؤال الذي اقتضاه تطوُّر الحركة الوطنيَّة المغربيَّة، والانتهاء بالقول فيها إلى الإقرار بالحاجة إلى الوضوح النظري الذي ينير السبيل لتلك الحركة. وهذا الاعتبار الأخير هو ما حداني، منذ ما يربو على ثلاثين سنة، أن أطلق على (النقد الذاتي) نعت «البيان الإيديولوجي للحركة الوطنيَّة المغربيَّة»[14].

غير أنَّ (النقد الذاتي) يقبل النظر فيه من زاوية نظر أخرى مختلفة، إن لم تكن مغايرة، هي جهة نظر الباحث المشتغل بقضايا الفكر العربي المعاصر، فهو يجد مكانه بجانب نصوص المرحلة الموسومة بعصر النهضة وما اتصل منها بالحقبة التي أعقبت الحرب العالميَّة الثانية، وكانت سابقة على قيام ثورة (23) يوليو (1952) في مصر، وإن كان هذا النص قليل التداول في البلاد العربيَّة خارج المغرب؛ بل إنَّ المعرفة الدقيقة لا تزال في المغرب ذاته معرفة محدودة (وإن كان الأمر قد غدا أقلَّ سلبيَّة من ذلك في السنوات الأخيرة، في الأوساط الجامعيَّة).

من بين كلّ الأفكار التي تصطخب في (النقد الذاتي) تستوقفني ثلاث أفكار رئيسة، كلٌّ منها يدلُّ على إرادة ولوج الحداثة والانخراط في سيرورة التحديث.

الفكرة الأولى (المحوريَّة في «النقد الذاتي») تتصل بما يلزم أن يكون عليه الفكر الإسلامي في الأزمنة الحديثة، أو قلْ -إن شئت- ما المهمة أو المهمات التي يلزم هذا الفكر القيام بها. ومقدّمة تلك المهمات «تحرير أمتنا من عبث الذين يعبدونها للخرافات والأوهام، وإنقاذها من كثير من التقاليد البالية التي تمنعها من التقدُّم والرقي، وتحول بين عقلها وبين التفتُّح لأسرار الكون، وتمنعها من تغيير الذهنيَّة التي تكوَّنت تدريجياً في عهد الانحطاط».[15] نحن هنا أمام دعوة لاستبطان فكر النهضة في مكوناته المختلفة. فهناك، من جهة أولى، أخذ بلغة النهضة ومصطلحاتها على النحو المعروف عند مفكري النهضة (التقدُّم، الرقي، الذهنيَّة، عهد الانحطاط). وهناك، من جهة ثانية، دعوة إلى فرض «التقاليد البالية» (وفي كلّ حديث عن «البالي»، حضور ما لـ «الحديث» أو «الجديد»). وهناك، من جهة ثالثة، توجيه السهام للقوى التي تساعد على تأكيد حضور «التقاليد البالية» في الوجود الاجتماعي. وصاحب (النقد الذاتي) لا يفتأ، في تعبيرات مختلفة، يرجع إلى ما ذكره بالصفة الصريحة في (الحركات الاستقلاليَّة في المغرب)؛ إذ تحدَّث عن شيوخ الطرق باعتبارهم أصحاب المصلحة العليا، في تأكيد «التقاليد البالية» والعمل على إعادة إنتاجها؛ ذلك أنَّ هؤلاء الشيوخ قد جمعوا، عند علال الفاسي، بين صفتي «أهل البدع» (في المعنى الإسلامي المذموم) وبين الاعتراض على العقل وقدرته على تحرير الإنسان، أو ما يقول عنه إنَّه «روحانيَّة الاطمئنان للعقل والإيمان بالاستقلال في النظر والسلوك». وصاحب (النقد الذاتي) متضامن في هذا الرأي مع الدعوة السلفيَّة كما تبرزها كتابات الشيخ محمَّد عبده وأستاذه، لا شكَّ في ذلك، غير أنَّه يريد أن يظهر بعض التمايز عنها، وذلك ما يعلنه في مؤلفه السابق لـ (النقد الذاتي)، من رأي في السلفيَّة وفي «السلفيَّة الجديدة» خاصَّة، تلك التي كان الارتباط باﻟﻨﺰعة الوطنيَّة القويَّة سمتها البارزة[16].

الفكرة الثانية (المحوريَّة في «النقد الذاتي») هي تلك التي تتعلق بالدولة، من جهة نظر الفكر الإسلامي الحديث كما يراها علال الفاسي. «الديانة الإسلاميَّة (...) بَنَتْ هداية الخلق وإرشادهم لا على السيطرة عليهم وإرغامهم. وتركت للمسلمين حق النظر في كلّ ما هو من شؤون الحياة، وما يُسمَّى عند علماء الإسلام (بالمصلحيات)؛ أي المسائل الراجعة للمصلحة العامَّة التي تتطوَّر بحسب تقلباتها وجوداً وعدماً كما يقولون»[17].

يبدو، للوهلة الأولى، أنَّ علال الفاسي يستعيد ما قاله محمَّد عبده قبل ذلك[18]، وهذا صحيح من حيث تشبُّع صاحب (النقد الذاتي) بالفكر الإصلاحي في عصر النهضة، غير أنَّ الجديد عند صاحب (مقاصد الشريعة الإسلاميَّة ومكارمها) يكمن في فكرتين جديدتين في كلٍّ منهما تركيب ومجاوزة لمعنى الدولة ودلالاتها عند المدرسة السلفيَّة الكلاسيكيَّة. الأولى هي الاجتهاد في فهم «المصلحيات». نعم، يكاد الدارس لا يتبيَّن فرقاً كبيراً بين ما قاله علال الفاسي وما كتبه، قبل ذلك بأزيد من نصف قرن، شيخ السلفيَّة الكلاسيكيَّة محمَّد عبده، في الحديث عن الخليفة أو السلطان: «والأمَّة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي التي تخلعه إن رأت ذلك في مصلحتها»[19]؛ غير أنَّ علال الفاسي يمضي ليكون أكثر اتصالاً بقاموس الفكر السياسي الحديث، ومن ثَمَّ داعية إلى الانخراط في سيرورة التحديث؛ إذ يقرن ذكر الأمَّة بنعت «السيادة»، ويأخذ السيادة بالمعنى الذي يتمُّ فيه تداول المفهوم في الفكر الدستوري المعاصر[20]. أمَّا الفكرة الثانية، فتتعلق بالكيفيَّة التي يحسم فيها علال الفاسي بين فكرة السيادة (souveraineté)، التي يقرُّها الفكر السياسي الحديث، وتمثل مدار التشريع في الفقه الدستوري، وبين المبدأ الإسلامي الذي يقرُّه القرآن الكريم (إن الحكم إلا لله)؛ وهو المبدأ الذي يرى فيه دعاة الإسلام السياسي السند الأساس الذي يستندون عليه في التشريع لنظريَّة «الحاكميَّة» (كما هو الشأن عند الزعيم الروحي للإسلام السياسي، أبو الأعلى المودودي). يأتي علال الفاسي برأي يميّز فيه بين السيادة المطلقة (أو العليا) وهذه تكون لله وحده، وليس يمكن للشأن أن يكون خلاف ذلك عند المسلمين، وبين السيادة العمليَّة (السيادة في مجال التشريع القانوني والممارسة الفعليَّة للشأن السياسي)، وهذه تكون للشعب[21].

وفي هذه الفكرة الثانية، خاصَّة، مجاوزة لما قاله الشيخ محمَّد عبده، ذلك أنَّ صاحب (مقاصد الشريعة الإسلاميَّة ومكارمها) لا يتهيب من الأخذ بقاموس الفقه الدستوري المعاصر، ولا يبدو مِنْهُ تردُّد في الإقبال على نظريَّة الدولة كما ترتسم معالمها الكبرى في هذا الفقه.

الفكرة الثالثة (المحوريَّة أيضاً) هي أنَّ صاحب (النقد الذاتي)، وقد فرغ من النظر في العلاقة بين الإسلام (بحسبانه ديناً)، وبين الدولة (باعتبارها عقلنة للوجود السياسي وتنظيماً لأسس الاجتماع البشري) ينشغل بقضيَّة المغرب، كما يتمثل صورته بعد استعادة الاستقلال، وهو إذ يسعى إلى ذلك ينتهي إلى التقرير في جملة من القضايا التي تتصل بصورة كلٍّ من الدولة والمجتمع في المغرب استقبالاً (بالنسبة إلى التاريخ الذي نُشر فيه «النقد الذاتي»). والصورة عند علال الفاسي واضحة فيما يتعلق بالدولة وبنظام الحكم في المغرب. «مسألة النظام، بالمعنى الخاص للكلمة، لا تعرض في بلادنا (...)؛ لأنَّ وجود العرش الكريم كافٍ لتكوين المحور الذي قام ويقوم عليه نظامنا القومي». غير أنَّ الأمر يستوجب توضيحاً يكون بموجبه «إعطاء العرش وصاحبه القيمة الحقيقيَّة التي يقتضيها العهد الجديد».[22] والتوضيح يقوم عند صاحب (النقد الذاتي) في فهم الدلالة الحق للملكيَّة الدستوريَّة؛ فهي تلك التي تجعل «صاحب العرش ـ جلالة الملك ـ شخصيَّة فوق كلّ الأحزاب وسائر الاعتبارات السياسيَّة التي يمكن أن يتنافس فيها الرأي العام (...) ويجب أن تتكون من حوله صوفيَّة الاستقرار الحكومي، والوعي الوطني، والاستمرار الوجودي للدولة»[23]. أمَّا آليات العمل التي يكون بها سير الدولة، فهي مجموع أجهزة الدولة من جانب أوَّل، وهي السلطات الثلاث وقد قامت في تمايز واستقلال بعضها عن بعض من جانب ثانٍ. وهي، من جانب ثالث، الحياة السياسيَّة التي تستدعي وجود الأحزاب السياسيَّة وقد كانت قائمة على أسس التنظيم الحديث.

غير أنَّ صورة المجتمع، مجتمع المغرب بعد الاستقلال، لا تأتي في مستوى وضوح صورة الدولة عند صاحب (النقد الذاتي). نعم، إنَّ القسم الرابع من الكتاب (الفكر الاجتماعي) يشغل، من حيث الحجم (كما أشرنا إلى ذلك)، نصف مجموع صفحات (النقد الذاتي)، والمؤلف يجتهد في الإحاطة بمختلف مكوّنات المجتمع، وهو، على سبيل المثال، قد خصَّص للنقابة والعمل النقابي فصولاً ثلاثة مهمَّة، غير أنَّ الباحث مع ذلك يلاحظ أنَّ «نظرية المجتمع» في (النقد الذاتي) هي إلى الرؤى المجرَّدة والخطاب الوعظي حيناً والأخلاقي حيناً آخر أقرب منها إلى الرؤية النسقيَّة الجامعة. وهذا الأمر يجد تفسيره، عندنا في اجتماع سببين اثنين: أولهما أنَّ الحركة الوطنيَّة المغربيَّة كانت منشغلة أولاً وأساساً بقضيَّة التحرير الوطني وبالتخطيط لدولة الاستقلال. وثاني السببين أنَّ «نظريَّة المجتمع»، بطبيعتها، أشدُّ صعوبة وعسراً من نظريَّة الدولة، وهي في اللحظة التاريخيَّة التي شهدت ميلاد ونشأة الحركة الوطنيَّة المغربيَّة كانت لا تزال في مرحلة الفوران والتردُّد.

على أنَّ هذه الأفكار الثلاث (الفكر الإسلامي الحديث ومهامه الأساسيَّة، وفكرة الدولة من جهة توضيح العلاقة العسيرة بين السياسة وبين الدين، وتعقل الدولة في تصوُّرها السياسي الحديث)، التي نعتناها بالأساسيَّة والمحوريَّة في (النقد الذاتي) (ومن ثَمَّ في خطاب الحركة الوطنيَّة المغربيَّة؛ من حيث صفة «البيان الإيديولوجي للحركة الوطنية المغربية»، التي نرى أنَّها توافق الكتاب منظوراً إليه في اللحظة التاريخيَّة التي أنتج فيها)، لا تعني حصر مضامين الكتاب في هذه الأفكار الثلاث دون غيرها من الأفكار. ربَّما كان الأحق أن نقول: إنَّ اﻟﻤنزع التحديثي للحركة الوطنيَّة المغربيَّة جعل الفكر المغربي، في الأزمنة المعاصرة، يخوض، دون إدراك واعٍ منه في بعض الأحيان، معركة التحديث، ومن ثَمَّ يأخذ من الحداثة بأطراف فيكون تمثلاً لها. وبعبارة أخرى نقول: ليكون وعياً بالحداثة وانفعالاً بها.

[1]- مجلة يتفكرون العدد11

[2] - انظر على سبيل المثال:

Koyré, Alexandre, Du monde clos à l’univers infini, Gallimard, tel quel, Paris, 2007, p. 27

[3] - انظر على سبيل الاستئناس:

Weber, Max, L’Ethique protestante et l’esprit du capitalisme, Gallimard, tel quel, Paris, 2004, p. 38 et suiv.

وانظر كذلك: ﭬﻴﺒﺮ، ماكس، العلم والسياسة بوصفها حرفة، ترجمة جورج كتورة، المنظمة العربيَّة للترجمة، بيروت، ط1، 2011، الصفحات 172-186/ 187

[4]- من ذلك العنوان الدال لمؤلف الكردودي: «كشف الغمة في بيان أنَّ حرب النظام واجب على الأمَّة»، وأن تنظم قصائد كثيرة في هذا المعنى أيضاً. انظر: المنوني، محمد، مظاهر يقظة المغرب الحديث، دار الغرب الإسلامي/ شركة النشر والتوزيع، الدار البيضاء/ بيروت ـ لبنان، ط3، 1985، الجزء الأول، الصفحات 76-86

[5] - انشغل المؤرخون المغاربة المتخصصون في تاريخ المغرب المعاصر بحرب تطوان انشغالاً كبيراً، وخُصّصت لها مؤلفات كثيرة. ونحن نشيد في هذا الصدد بمجمل الدراسات التي كتبها جرمان عياش من أجل تكوين فكرة شاملة عن الدعوة الإصلاحيَّة في المغرب في القرن التاسع عشر. نحيل إلى الندوة الدوليَّة التي نظمتها كليَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّة في الرباط (نيسان/ أبريل 1983) تحت عنوان: الإصلاح والمجتمع المغربي في القرن التاسع عشر، منشورات الكليَّة المذكورة.

[6] - العلوي، سعيد بنسعيد، الاجتهاد والتحديث، دراسة في أصول الفكر السلفي في المغرب، مطبعة النجاح الجديدة، ط2، 2001

[7] - العلوي، سعيد بنسعيد، أوروبا في مرآة الرحلة.

[8] - في الحديث عن هذا التوجُّه الإصلاحي عامَّة، وفي تبين مغزى تكوّن جماعة «لسان المغرب» وفي صلتها بالتخطيط لمشروع أوَّل دستور مغربي (1907)، انظر: الفاسي، علال، الحركات الاستقلاليَّة في المغرب العربي، منشورات مؤسسة علال الفاسي، ط5، 1993، الصفحات 109-114

[9] - المنوني، محمَّد، مظاهر يقظة المغرب الحديث...، (مرجع سابق).

[10] - ذلك ما عرضنا له في لقاءات شتى، نشير من بينها على الخصوص إلى: العلوي سعيد بنسعيد، الوطنيَّة والتحديثيَّة في المغرب، دراسات في الفكر الوطني وسيروة التحديث في المغرب، مركز دراسات الوحدة العربيَّة، بيروت، 1997، ص 59 وما بعدها، وكذا الصفحات 109-115

[11] - الفاسي، علال، الحركات الاستقلاليَّة...، مرجع سابق، ص 521

[12] - الفاسي، علال، النقد الذاتي، منشورات مؤسسة علال الفاسي، ط8، 2008، ص9

[13] - الفاسي، علال، النقد الذاتي...، مرجع سابق، ص 102

[14] - العلوي، سعيد بنسعيد، الوطنيَّة والتحديثيَّة في المغرب...، مرجع سابق، ص 100

[15] - الفاسي، علال، النقد الذاتي...، مرجع سابق، ص 103

[16] - الفاسي، علال، الحركات الاستقلاليَّة...، مرجع سابق، ص 153-159. وانظر أيضاً: الفاسي، علال، أحاديث في الفلسفة والتاريخ والاجتماع، تقديم سعيد بنسعيد العلوي، منشورات مؤسسة علال الفاسي، 2014، ص 75-113. إذ يبسط المؤلف رأيه في «نشأة الفكر الإسلامي الحديث»، وكذلك مقالته «الشيخ محمَّد عبده: موقفه من علم الكلام ومن الفلسفة».

[17] - الفاسي، علال، النقد الذاتي...، ص ص 103-104

[18] - عبده، محمَّد، الإسلام والنصرانيَّة في معركة العلم والمدنيَّة. انظر: عبده محمَّد، الأعمال الكاملة، تحقيق د. محمَّد عمارة، دار الشروق، القاهرة، 2006، المجلد الثالث، ص 306

[19] - المرجع نفسه، ص ص 309-310

[20] - الفاسي، علال، مقاصد الشريعة الإسلاميَّة ومكارمها، مكتبة الوحدة العربيَّة، الدار البيضاء، (د.ت)، ص 207-216

[21] - العلوي، سعيد بنسعيد، فكرة الدولة عند علال الفاسي، (تحت الطبع).

[22] - الفاسي، علال، النقد الذاتي...، ص 126

[23] - المرجع نفسه، ص ص 126ـ127