النهضة اليابانية الحديثة رءوف عباس
فئة : قراءات في كتب
النهضة اليابانية الحديثة
رءوف عباس
فكرة الكتاب
عرفت مجتمعات الشرق، بمختلف انتماءاتها الدينية والثقافية سؤال النهضة بدءا من القرن العشرين [مختلف المجتمعات التي تنتمي لدائرة الحضارة الإسلامية، اليابان، الصين، الهند، أفريقيا...] وقد تشكل هذا السؤال نتيجة الاحتكاك مع الغرب الأوروبي، الذي أبدع نمطا وطريقا جديدا للحضارة، أثبت من خلاله تفوقه العلمي والعسكري، وقد وظف تفوق العسكري الذي ارتبط بتطوير الأسلحة النارية، في بسط هيمنته على مختلف الشعوب والثقافات في الشرق، وقد نتج عن طبيعة الاحتكاك في مختلف الموانئ، ومختلف الوقائع والأحداث التي اتضح من خلالها بأن أوروبا، تطمح للتوسع عبر العالم. وما كان من مختلف ممالك الشرق إلا أن أرسلت الكثير من البعثات الدبلوماسية والعلمية، بهدف اجتراح طريق للتواصل مع الغرب، وبهدف المضي في طريق الحضارة التي ابتدعها في مختلف مجالات الحياة، نذكر بهذا الصدد كل من البعثة اليابانية والبعثة المغربية والبعثة المصرية.
- كانت بعثة إيواكورا (باليابانية) أهم رحلة دبلوماسية يابانية إلى الولايات المتحدة وأوروبا جرت ما بين عامي 1871م و1873م من قِبل رجال دولة رائدين وطلاب باحثين من فترة مييجي (أي الحكومة المستنيرة)، رغم أنها لم تكن البعثة الوحيدة من هذا النوع، إلا أنها كانت الأشهر وربما الأهم من ناحية تأثيرها على حداثة اليابان بعد مدة طويلة من العزلة عن الغرب.
- كان السلطان مولاي الحسن أول من أرسل البعثات إلى أوروبا لتعلم اللغات الغربية والتدرب على أساليب التعليم والتثقيف وخوض غمار الحياة العصرية، فبين سنتي 887م و1890م أوفد عدة بعثات إلى فرنسا وإنجلترا، وإيطاليا وألمانيا
- البعثة المصرية التي أرسلها محمد علي 1826م إلى فرنسا، بهدف دراسة اللغات والعلوم الأوروبية الحديثة، وكان على رأسها رفاعة الطهطاوي.
مهدت البعثات اليابانية لموضوع النهضة والتقدم العلمي والتكنولوجي الذي عرفته وتعرفه اليابان، لكن مختلف البعثات في المغرب والمشرق الإسلامي لم يأت بنفس النتيجة المطلوبة، إلا بقدر متواضع. والسؤال هنا ماهي الدواعي الثقافية والفكرية التي جعلت مختلف البعثات اليابانية إلى الغرب، تجلب معها مختلف سبل وأسباب التقدم والنهضة؟ بالمقارنة مع غيرها من البعثات، ومن هنا تأتي أهمية دراسة النموذج الياباني. لكن مع الأسف "تعاني المكتبة العربية نقصًا شديدًا في الدراسات المتعلقة بآسيا؛ تاريخها، وحضارتها وشئونها السياسية والاقتصادية، ويرجع ذلك إلى اهتمام المثقفين بما يجري في الغرب بِبُعديه؛ الأوروبي والأمريكي، بوصفه المهيمن على بلادنا، والذي يأتينا منه دائمًا ما يؤثر على واقع بلادنا الراهن ومستقبلها. وعلى الرغم من أننا اكتشفنا أهمية التضامن مع آسيا وأفريقيا في مرحلة التحرُّر الوطني ونسَّقنا سياستَنا مع بلادها في إطار حركة عدم الانحياز أيام الحرب الباردة، فإن ذلك التنسيق السياسي لم تترتب عنه محاولة لفهم واقع أولئك الشركاء في النضال من أجل الاستقلال، فلم نُقدِم على الدراسة العِلمية لتاريخ تلك البلاد وتجاربها في إعادة بناء مؤسساتها في العصر الحديث، ومِن ثَم كان حصاد التنسيق السياسي معها في إطار حركة عدم الانحياز يفتقِر إلى البُعدَين الاقتصادي والسياسي. وهكذا تأخر اهتمامنا بتجارب شعوب آسيا حتى النصف الثاني من العقد الأخير من القرن العشرين عندما تأسس مركز الدراسات الآسيوية بجامعة القاهرة، واستطاع خلال سنوات قليلة أن يُثري المكتبة العربية بدراسات وبحوث قيمة في هذا المجال"[1]
الكتاب يلقي الضوء على تجربة النهضة اليابانية، ووضعها في مكانها الصحيح بقدرٍ كبير من الموضوعية التي تضرب بجذورها في أعماق تاريخ اليابان وثقافتها، حتى يَتَعرَّف القارئ العربي على حقيقة التجربة دون مبالغة تصل إلى حد الإبهار، ودون استهانة تصل إلى حد الإجحاف، لعلنا نستطيع أن نخرج من التعرُّف على أبعاد تلك التجربة بما يفيد أمتنا في تطلعها إلى اللحاق بركب التقدم.
أهم موضوعات الكتاب
كانت النهضة اليابانية في القرن التاسع عشر أمرًا مُلحًّا من أجل التصدِّي للقوى الغربية التي أجبَرت اليابان على الانفتاح على العالَم بعد قرون طويلة من العزلة، وكانت أول خطوة في سبيل النهضة هي القضاء على أسرة «طوكوجاوا» اليابانية، وإعادة السلطة في يد الإمبراطور، وإجراء تغييرات شاملة في البلاد على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والإداري، وتلمُّس سُبل النهضة الأوروبية، وخاصةً في المجالَين الاقتصادي والعسكري، الكتاب يقارب مختلف هذه التطورات والتغيرات في اليابان، من خلال أهم المواضيع التالية: تكوين اليابان ما قبل النهضة. دعائم النهضة. بناء الاقتصاد الوطني. بناء إمبراطورية آسيوية. الحركة السياسية. التطور الفكري.
مبادئ النهضة اليابانية
"شهد عصر النهضة اليابانية (عصر مايجي) ازدواجيةً في الحياة الفكرية، تمثَّلت في إحياء الفكر التقليدي المستمد من التراث الياباني القديم، والذي شكل في جملته عقيدة الشعب الياباني -الأصيل منها والمكتسب على حدٍّ سواء- إلى جانب التيارات الفكرية الجديدة التي هبت على اليابان من الغرب، والتي نتجت عن الاحتكاك بالحضارة الغربية في مرحلة النهضة، وما امتازت به تلك المرحلة من اقتباس نماذج من النتاج الحضاري للغرب، ولم يكن باستطاعة اليابانيين تفادي البُعد الثقافي لتلك الحضارة، وما ارتبط به من أفكار تتباين تمامًا مع الأساس الذي قام عليه الفكر الياباني التقليدي، غير أنه استطاع أن يجد لنفسه مكانًا بفضل جهود من تأثروا بالثقافة الغربية من كتاب وأدباء عصر النهضة اليابانيين"[2] وبالإمكان إرجاع النهضة اليابانية إلى أربعة مجالات أساسية كان لها دور مهم في بناء وتشكل اليابان الحديثة وأهم تلك المجالات:[3]
- الإصلاح الإداري
أصبحت السلطة العليا في البلاد عام 1868م، بيد «مجلس الدولة» الذي ضم ثلاثة أقسام: قسم تشريعي، وقسم تنفيذي، وثالث قضائي، وبذلك تحقَّق - نظريًّا - الإقرار بمبدأ مبدأ الفصل بين السلطات الذي يعكس التأثُّر «الشكلي» بالنظم السياسية الغربية؛ لأن التطبيق العملي لذلك المبدأ ظل غائبًا
- الإصلاح الاجتماعي
كان إلغاء النظام الإقطاعي يتطلب - بالضرورة - تعديل النظام الطبقي بما يتلاءم مع الأوضاع الجديدة، وقد وضعت الحكومة تصنيفًا للقوى الاجتماعية (عام 1869م) جعل من أرستقراطية البلاط وحكام المقاطعات السابقة طبقة واحدة عُرفت باسم النبلاء. يليهم طبقة الساموراي التي ضمت شريحتين إحداهما لكبار الساموراي والأخرى لصغارهم. وفي عام 1870م أصبح من حق العامة اتخاذ ألقاب العائلات، وسُمح في العام التالي بالتزاوج بين الطبقات العليا والدنيا، كما سُمِح للعامة بارتداء الملابس الرسمية الخاصة بالمناسبات وركوب الخيل في أسفارهم (وهي حقوق كانت مقصورة على الساموراي وحدهم)، وحُظِر على الساموراي حظرًا تامًّا قتل العامة دون رحمة (وهو حق إقطاعي كانوا يتمتعون به منذ القدم) وسُمِح للنبلاء وكبار الساموراي بالاشتغال بالزراعة والتجارة والصناعة، واستُثنِيَ من ذلك من يتقلد منصبًا حكوميًّا.
- الإصلاح القضائي
كان النظام القضائي في عهد طوكوجاوا يختلف باختلاف المركز الاجتماعي للمتقاضين، واقتصرت مهمة القضاة على التوفيق بين المتخاصمين. ووقف هذا النظام عقبة أمام محاولات حكومة مايجي إقناع الدول الغربية بتعديل المعاهدات غير المتكافئة ما دامت اليابان لا تأخذ بنظم التقاضي الغربية، وما لم تنسج قوانينها على منوال الغرب. لذلك كانت حكومة مايجي حريصة على إصلاح النظام القضائي على نحو تتقبله الدول الغربية، وتوافق على خضوع رعاياها له عند النظر في تعديل المعاهدات، ووقع اختيار الحكومة على النظام الفرنسي الذي يعتمد على القضاة المُحترِفين، ولا يسمح باستخدام نظام المحلفين، ولكنَّ النظام الجديد كان مُحقِّقًا لمبدأ «السيادة بالقانون» وليس لمبدأ «سيادة القانون» على نحو ما عُرِف في الغرب، فرغم أنَّ النظام جاء مؤكدًا للحكم عن طريق القوانين، إلا أنه لم يضع حدودًا أو ضوابطَ لصلاحيات السلطة الإدارية في ميدان التشريع، فلم تتحقق سيادة القانون القائمة على الاعتراف بحقوق الإنسان، وإشراك الشعب في صياغة القوانين والاقتراع عليها إلا بعد الحرب العالمية الثانية
- تحديث الجيش
رأى رجال نظام مايجي أن إقامة حكومة مركزية قوية، قادرة على مواجهة التحديات الخارجية، يتطلب – بالضرورة- إقامة أداة عسكرية قوية تدين بالولاء للحكومة المركزية وحدها، ومن ثَم اتفقت وجهات النظر على ضرورة تأسيس جيش وطني حديث، ولكنها اختلفت حول طريقة تكوينه؛ فهناك من رأى تكوين الجيش من الساموراي الذين جاءوا من المقاطعات الثلاث التي لعبت دورًا مهمًّا في تصفية النظام القديم، وهناك من رأى إقامة جيش وطني يعتمد على التجنيد الإجباري العام، وبعد صِراعٍ بين أصحاب الاتجاهين لعب فيه الساموراي دورًا عنيفًا للدفاع عن مصالحهم ووجودهم بلغ حد اغتيال من دعا للتجنيد الإجباري العام أساسًا لتكوين الجيش الوطني، صدر قانون التجنيد الإجباري (يناير 1873م) ليجعل من «ضريبة الدم» أساسًا للخدمة في الجيش الجديد.
وبموجب قانون التجنيد، يتم اختيار عدد معين من الشباب حسب درجة الإنتاج الزراعي في القرية، على أن تتراوح أعمارهم ما بين العشرين والثلاثين، يُجنَّدون لمدة أربع سنوات يُسمح بعدها لمن يشاء أن يستمر في الخدمة متطوعًا، وحدد القانون أسلوب معاملة المجندين ماليًّا، وأناط بوزارة الجيش والبحرية مهمة الإشراف على التجنيد.
- التعليم الحديث
انتعشت آمال المعلمين التقليدين - عند قيام نظام مايجي - لجعل الشنتو والكنفوشية قاعدة النظام التعليمي في العهد الجديد الذي كان يعني - بالنسبة إليهم - إحياء القيم التقليدية للأمة اليابانية، وفي عام 1869م، اختير أحد هؤلاء المعلمين للإشراف على «مكتب التعليم» وكانت النية تتجه -عندئذٍ - نحو جعل الشنتو عقيدةً رسميةً للبلاد، وأساسًا لنظام التعليم فيها، وحدد المرسوم الإمبراطوري الصادر عام 1870م أهداف التعليم بأنها «احترام طريق الآلهة الممتلئ بالنور، وتنقية العلاقات الإنسانية ... وخدمة البلاط الإمبراطوري.
وأُعيد فتح المدرسة الكنفوشية التي كانت تزاول نشاطها في عهد طوكوجاوا، وأصبحت مركزًا للدراسات الشنتوية والكنفوشية.
ولكن ذلك التيار المرجعي انقلب على عقبيه نتيجة تصدي دعاة حركة «التحضُّر والتنوير» له، فقد كانوا يرون أن تحويل اليابان إلى دولة حديثة لا يتحقق إلا بتبني الأفكار التربوية الغربية ووضعِها موضع التطبيق، وما لبث الأخذ بالأفكار التربوية الغربية وتطويعها لحاجات المجتمع الياباني أن نال تأييد واهتمام الجناح التقدمي من النخبة الحاكمة، مما فتح الباب على مصراعيه لإقامة نظام التعليم الحديث.
[1] رءوف عباس، النهضة اليابانية الحديثة، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط.1، 2024م، ص. 12
[2] ص.95
[3] انظر: الفصل الأول من الكتاب: دعائم النهضة