الفيلسوف كقابلة: عن التهكم الخلاّق في الحوار التوليدي السقراطي


فئة :  مقالات

الفيلسوف كقابلة:  عن التهكم الخلاّق في الحوار التوليدي السقراطي

ما من فيلسوف إلا ويقلِّبُ وجوه نظر السابقين عليه والمعاصرين له، حتى وإن كانوا أساتذته ومعلميه. ويكون مسعاه من هذا التقليب هو الرغبة في استجلاء مكامن الضعف وجوانب التهافت فيما يبنون من أبنية مفاهيمية، حتى إذا ما تمّ له ذلك وتحصل، سار إلى بناء قول فيما هدّم وانتقد، قولٌ يدعي فيه أنه يكشف عن العالم "موضوعيا" دون مواربة منه في أن يكون قد وقع فيما وقع فيه غيره. ولم يشذ سقراط عن هذا، وهو الذي حاول التأسيس لمنطق جديد للفكر، منطق يقوم على بيان تهافت خطابات المحاورين، عبر الكشف عن أوجه المغالطة في الممارسة الفلسفية/ الخطابية لدى السفسطائين. وتتوخى هذه الورقة البحث في الحوار التوليدي من جهة، كونه لحظة تأسيسية في تاريخ الفلسفة اليونانية، وخاصة في تجدير فعل التفلسف والتأصيل له كفعل خارج عن الممارسات الخطابية التي اشتهرت بين المدارس السفسطائية. فبأي حال إذن يمكن اعتبار التهكم السقراطي لحظة مهمة سعت إلى خلخلة السائد الفكري في الفلسفة اليونانية، وبناء مقولة الحقيقة على أسس لاخطابية (non rhétorique)؟

يَرى بيير هادو أن الثورة المعرفية التي أحدثها سقراط تكمن في ايقاظ الوعي بعدم المعرفة لدى الآخرين.[1] فسقراط لم يكن يموقع نفسه في خانة العارف أو الحكيم، بل على العكس من ذلك، اختار الجهل، الجهل بوصفه حافزا على كشف الادعاءات الممارية، وبوصفه احراجا للمدعين، فهو يقدم نفسه على أن "كل ما يعرفه هو أنه لا يعرف" ولعل هذا الموقف المُدّعَى (عدم المعرفة) يزيد من مسؤولية المجيبين ويُحجّم صورتهم الهلامية في ذهن العامة، كلما أخفقوا في تعريف مفهوم ما أو تبين جهلهم به. يقول مجيبا عن سؤال مينون عن دلالة الفضيلة: "أيها الغريب [...] إنني لا أعلم على الاطلاق حتى طبيعة الفضيلة وماهي [...] فعوزي يشبه عوز مواطنيّ حول هذا الموضوع."[2]

إن التهكم ههنا يظهر كنوع من المرح الذي لا يأخذ الآخرين على محمل الجد. فهو يُعنى بتعكير "صفو" الدوكسا، عبر سياسة السؤال والحفر في بديهيات المحاوَرين إلى أن يتبين زيفها أو حتى يتوضح أنها ليست واضحة في أذهانهم كما يدّعون. وإجهاد المحاورين بالأسئلة الاستنكارية المتهكمة الساخرة، غرضها الأول هو مُصادرة انشاءاتهم اللغوية (الخطابية) ودحض حججهم.[3] خصوصا وأن التشويش على سفسطائي كجورجياس، هو تشويش على الوثوقي الذي يدعي معرفة كل شيء، يقول في معرض حديثه مع شيريفون وبولوس: "أؤكد لك أنه لم يحدث قط منذ سنوات أن استطاع أحد أن يوجه إليّ سؤالا يتضمن ما يمكن أن يكون مفاجأة لي."[4]

سقراط لم يكن يموقع نفسه في خانة العارف أو الحكيم، بل اختار الجهل بوصفه حافزا على كشف الادعاءات الممارية

وبالتالي، فسقراط رجل الساحات العامة والأسواق الذي لم تختط يده شيئا، ذكر له التاريخ حرصه على تجلِية الحقيقة ومساعدة المحاورين على تذكرها، فهو إذ يتساءل عن الفضيلة أو العدالة... فإنه يفترض أن لهذه المفاهيم ملفوظا واحدا يدل عليها؛ أي ذاك الذي يوجد في النفس وعليها أن تتذكره.[5] إنه يحاول تنبيه النفس للغائب والمتواري عنها (المعرفة هنا وقد نُسيت) يقول باركر: "سقراط لم يحاول أبدا أن يُلقّن المعرفة، وإنما كان على العكس من ذلك يُنكر دائما امتلاكها؟ وكانت رغبته تتجه إلى ايقاظ الفكر [...] وكان ينادي ما يوجد في عقل الانسان، ويثق في أن هذا العقل سيلبي النداء".[6]

فالفحص السقراطي التهكمي للدعاوى السفسطائية لا يقف الغرض منه عند حدود التشكيك في الخطابات السياسية التي نافح عنها النسبانيون والريبيون من السفسطائين، بل إنه يسعى إلى تأسيس الحقيقة على أسس متينة، حيث تصبح متواطئة الدلالة مُجمعا حولها. وهذه الرغبة في التأسيس تحمل بالإضافة إلى البعد المعرفي بعدا تربويا وسياسيا، فـ "اعرف نفسك بنفسك" غير منفصلة عما كان يعتمل في المجتمع اليوناني من إشكالات، وبالتالي فهي وثيقة الصلة بالإشكالات الميتافيزيقية والسياسية والتربوية لهذا المجتمع.[7]

إن أهمية سقراط في تاريخ الفكر الفلسفي، هي في كونه يتنزل ضمن سياق تأسيسي عرف جدلا واسعا حول ضروب القول وحدود العلم وثوابت المعرفة؛ فهو أراد عبر سلكه طريق التهكم والتوليد تمييز وكشف مغالطات السفسطائين وبيان تهافتها وقلق بنائها المفهومي من جهة، والبحث الحثيث من جهة أخرى عن قيادة الآخر لاكتشاف الحقيقة "الموضوعية" المبثوثة في النفس وتذكّرها.

إنه سعي للابتعاد بالجمهور عن الأدعياء السفسطائيين والخطباء الذين يدعون امتلاك الأجوبة لكل ما يخطر في أذهان الناس. ولم يجد سقراط أفضل من اصطناع "السذاجة" وسيلة لإنجاز رهانه ذاك، حتى يتحصل له هدم كل التصورات النسبانية للحقيقة التي نافح عنها ممثلو التيارات السفسطائية، والتي أشكلت على الأثينين في فهم التصورات، فما عادت لهم القدرة على تمييز الفضيلة من الرذيلة والسيئ من الحسن ... ومن ثمة ترسيم الحدود للقول الفلسفي.

إن التهكم السقراطي هو الذي يخلق ويولّد أفكار جديدة، وهو منهج مُبتكر سعى إلى القضاء على الطريقة التعليمية السفسطائية، المنبنية على تلقين أصول التلاعب اللفظي والتمويه الذي يحوّر معاني الماهيات الثابتة، ليصبح الدور الذي قام به سقراط دورا رسوليا في المجال التداولي، عبر جعل الإنسان ميكروكوسموس إيتيقي عن طريق كشف تجربة التذكر أمامه، بحسبانها استرجاعا للحقائق والماهيات الثابتة القابعة في النفس البشرية، وهي متعلقة بغاية نظرية متعالقة مع الغاية العملية المتمثلة في إحداث تحويرات داخل نمط القول اليوناني، وترسيخ الموضوعية الفلسفية والنأي بالفكر عن الممارسات الخطابية داخل المدينة اليونانية.

إلا أن الإشكالية التي تواجه النسق الحواري السقراطي ومن بعده الأفلاطوني، هو مدى تعبير المحاورات (وقد كُتبت) عن حركة الفكر، وهل هي تعرض لما تم فعلا! خاصة وأن صوت سقراط "بطل" المحاورات هو الذي يطغى على بقية الأصوات الأخرى، في مونوفونيا (monophonie) صارخة. مكرسا للوحدة ومحاربا لما يمكن أن يعد "اختلافا" تحت مسمى "مواجهة الرأي أو الدوكسا". ولقد عدد الدارسون للمحاورات مواضع كثيرة تحضر فيها شتى أنواع المغالطة، ويطغى عليها الصوت الوحيد، الذي لا تملك معه بقية الأصوات إلا ترديد عبارات من قبيل (كلا/ نعم/ أتفق معك يا سقراط/..إلخ).[8]

 

المصادر والمراجع المعتمدة:

العربية:

  • أفلاطون، جمهورية أفلاطون، دراسة وترجمة فؤاد زكريا (دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، مصر، 2004)
  • أفلاطون، محاورة جورجياس، ترجمة محمد حسن ظاظا، مراجعة الدكتور علي سامي النشار (الهيئة العامة المصرية للتأليف والنشر، 1970)
  • أفلاطون، محاورة مينون في الفضيلة، ترجمة وتقديم عزت قرني (دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، د.ت)

الفرنسية:

  • Jean-Louis Le Grand, Considérations critiques sur les modèles maïeutiques, Texte de la communication au symposium sur la notion d'accompagnement dans les Histoires de vie (Editions L'Harmattan, Paris, 1998)
  • Michel Gourinat, Socrate était-il ironiste? (Revue de Métaphysique et de Morale, 91e Année, No. 3, Philosophie antique Juillet- septembre 1986)
  • Michel Meyer, De la métaphysique a la rhétorique (Editions de l’Université de Bruxelles, 1986)
  • Pierre HADOT, Qu’est-ce que la philosophie antique (Editions, Gallimard, 1995)

[1]- Pierre HADOT, Qu’est-ce que la philosophie antique (Editions, Gallimard, 1995) 51.

[2]- أفلاطون، محاورة مينون في الفضيلة، ترجمة وتقديم عزت قرني (دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، د.ت) 71

[3]- Michel Gourinat, Socrate était-il ironiste? (Revue de Métaphysique et de Morale, 91e Année, No. 3, Philosophie antique Juillet- septembre 1986) p. 339-340

[4]- أفلاطون، محاورة جورجياس، ترجمة محمد حسن ظاظا، مراجعة الدكتور علي سامي النشار (الهيئة العامة المصرية للتأليف والنشر، 1970) 32

[5]- Michel Meyer, De la métaphysique a la rhétorique (Editions de l’Université de Bruxelles, 1986) p.8

[6]- أفلاطون، جمهورية أفلاطون، دراسة وترجمة فؤاد زكريا (دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، مصر، 2004) 35

[7]- Jean-Louis Le Grand, Considérations critiques sur les modèles maïeutiques, Texte de la communication au symposium sur la notion d'accompagnement dans les Histoires de vie (Editions L'Harmattan, Paris, 1998) p.2

[8]- ينظر في هذا الصدد بعضا من الأمثلة التي أوردها فؤاد زكريا في تقديمه لجمهورية أفلاطون، ص46- 54