عقيدة قس جبل سافوا بين عبد الله العروي وطه عبد الرحمن


فئة :  مقالات

عقيدة قس جبل سافوا بين عبد الله العروي وطه عبد الرحمن

"لا تنتظر مني يا بُني خطباً منمقة وأحاديث متعمقة، ولا حججاً على طريقة الفلاسفة، فما أنا بفيلسوف من أولئك الفلاسفة الكبار، ولا يعنيني في كثير أو قليل أن أكون من هؤلاء. بيد أنّ لي في بعض الأحايين بداهة سديدة، وتجدني على الدوام متعلقاً بالحق. ولست أريد أن أدخل معك في جدل، بل ليس في عزمي أن أحاول إقناعك، وحسبي أن أبسط لك ما أعتقده بقلب سليم. وأحبّ أن ترجع إلى قلبك وأنا أحدثك بحديثي هذا، وهذا كل ما أطلبه منك. وإن أخطأت فبحسن نية، وهذا حسبي؛ لكي لا تحتسب غلطتي إجراماً، وإن أخطأت أنت خطئاً من هذا القبيل فما عليك في ذلك من بأس".

بهذه العبارات الرقيقة التي تنم عن أحاسيس رهيفة، بدأ الفيلسوف التنويري ج جاك روسو، "اعترافاته" الأنطولوجية ذات اللمسة الوجدانية الواضحة لشاب يافع على لسان "كاهن سافوا" التي تضمنها الكتاب الرابع من مؤلفه الضخم "إميل".[1]

لم يكن أحد يتصور أنّ هذه العبارة وغيرها من "الاعترافات" ستجد لها اهتماماً خاصاً داخل "المجتمع العلمي" المغربي المعاصر، حتى ظهرت الطبعة الأولى من كتاب "دين الفطرة"[2] للمفكر عبد الله العروي الذي نقل النص المذكور من الفرنسية إلى العربية.

ولاشك أنّ اختيار العروي لهذا النص لم يكن عملاً اعتباطياً أو ارتجالياً، كما أكد على ذلك في مقدمة كتابه، وإنما هو جزء من برنامجه النقدي لمختلف التصورات الرائجة حول درجة التفاعل بين الفكر الغربي الحديث والفكر الإسلامي الوسيط[3]. هكذا يعتقد العروي أنّ لحظة روسو الفلسفية، أواسط القرن الثامن عشر، هي اللحظة الفكرية الوحيدة التي اقترب فيها الفكر الأوربي من تمثل الفكر الإسلامي.

ومع أنّ هذا التمثل لا يتجاوز الجوانب النظرية الصرفة، ولا يمس النظم والأخلاق والعادات، فإن العروي يعتقد أنّ نقل هذا النص للغة الضاد سيفيد القارئ أو المثقف العربي، في "القيام بتجربة ذهنية معينة" مشابهة لتجربة كاهن جبل السافوا الذي حاول الخروج من حالة القلق الوجودي والاضطراب المجتمعي التي عرفها عصره، من خلال رسم "عقيدة بسيطة، بيّنة، صادقة، توفق بين العقل والوجدان، وتضمن للفرد الطمأنينة وللمجتمع الوحدة والاستقرار".[4]

ستفيدنا هذه التجربة الذهنية المفترضة في الحكم على المشاريع الإصلاحية التي ظهرت في العالم الإسلامي من أبي حامد الغزالي حتى محمد عبده ومحمد إقبال، مروراً بابن رشد.

يتعلق الأمر بحركة تربوية جديدة، تروم التأسيس لإصلاح ديني، لا ينفصل عن تنظيرات روسو السياسية والاجتماعية. إنه جزء من مشروع تربوي متكامل يهدف صناعة إنسان جديد على أساس ما يوحي به الطبع الأصيل والوجدان السليم، وهذا ما عرف بالتربية الجديدة في الأدبيات الحديثة التي يُعدّ كتاب ج. جاك روسو "إميل" علامتها الكبرى والفارقة.

لقد تتبّع روسو "إميل" من الولادة إلى الزواج، مركزاً على ما تتطلبه كلّ مرحلة عمرية من تدابير وما تقتضيه من أشكال توجيهية ومقتضيات تربوية، حتى إذا بلغ الطفل؛ أي إميل، سن الخامسة عشرة فتح مع مربيه ملف العقيدة الدينية، لا ليفرض عليه اختياراً عقدياً معيناً، ولكن لكي يضع قدميه على طريق الاختيار السليم، حتى يتمكن من اتخاذ قراره الاعتقادي بعقله هو، لا بعقل غيره من الأوصياء، سواء كانوا مربيين أو رجال دين أو فلاسفة.

ليس الطريق السليم سوى طريق الفطرة الإنسانية الأصيلة والبريئة، والذي يقود إلى دين الفطرة. وهو طريق سيثير حتماً غضب الفلاسفة؛ لأنه يؤدي إلى الإيمان الديني، ويتسبب في نقمة رجال الدين، لأنه يذهب إلى العقيدة الدينية مباشرة، في بساطتها ووضوحها، بعيداً عن وساطاتهم الطقوسية وتعقيداتهم الكلامية.

وتلك تجربة عايشها روسو نفسه، كواقعة مؤلمة، بعدما "أدانه الفلاسفة على لسان فولتير، والكاثوليك على لسان رئيس كنيسة جنيف"[5]. فعاش سنواته الأخيرة "لاجئاً، وحيداً، مشرداً، نادماً (...) ابتدع أسلوباً جديداً في محاسبة النفس، وذلك في مؤلفه الشهير الاعترافات(1770) وفي كتاب "جان جاك يحاكم روسو"(1776)".[6]

هكذا يلخص العروي مقولات روسو في العبارات التالية: "الإيمان في خدمة النفس، الدين في خدمة المجتمع، المجتمع في خدمة الفرد".[7] إنه الإيمان التلقائي والدين الفطري الذي ينقاد إليه الإنسان بشكل طبيعي، حينما يتحرر من كل المسبقات، سواء كانت مسبقات لاهوتية متوارثة عند رجال الدين، أو مسبقات مادية مقررة عند الفلاسفة الماديين.

إنّ المرجع الوحيد الذي ينبغي للشاب الحائر عقدياً اعتماده هنا، كيما ترسو سفينته على شاطئ الإيمان هو "حكم ضميره، نور وجدانه"[8]، بعدما عمل على "تصفيته من شوائب الاتباع والتقليد حتى يظل بريئاً نقياً صافياً كما خرج إلى الوجود، وحتى ينعكس فيه مباشرة وبصدق، خطاب الصانع الأول".[9]

قد يسأل سائل: لماذا يعود عبد الله العروي إلى هذا النص بالضبط، وفي هذا الزمان بالضبط؟

مهما تكن تأويلات العروي لمنجزه المعرفي هذا، فإننا لن نستطيع كبح جماح الرغبة القوية التي تدفع إلى تأويل هذا المنتج على ضوء ما يعرفه عصرنا من عودة قوية إلى الدين، ومن لجوء جماعي إلى عقيدة الإيمان، وهي ظاهرة لا يمكن أن يبقى عبد الله العروي، وهو المؤرخ والمثقف والمفكر، بعيداً عنها قولاً وتحليلاً، وترشيداً وتوجيهاً.

تهمّ عبد الله العروي طبعاً العقيدة الدينية الإسلامية، بحكم انتمائه لمجتمع إسلامي، لذلك نجده يسجّل من دون حاجة ضرورية إلى ذلك أنه توجد "مؤشرات كثيرة على أنّ روسو لم يكن يحمل أيّ عداء مبدئي للديانة الإسلامية"،[10] بل إنّ الظن يغلب عند العروي أنّ روسو "أدرك أنّ مفهوم دين الفطرة أقرب إلى عقيدة الإسلام منه إلى اليهودية أو المسيحية". لذلك يختم صاحب "السنة والإصلاح" تقديمه بكلمات تتعمد إخفاء ما في نفسه من تفاعل عقلي وحنين وجداني للمنهج التربوي الديني عند روسو، بما هو منهج نابع من ضمير فردي حر متفاعل مع الدين الفطري، حيث يختم قائلاً: "كلام روسو(...) ليس عن الدين بقدر ما هو عن الهمّ الديني. وهذا الهمّ عاد بعد أن غاب، وإن قدر له أن يغيب مجدداً، فهو لا محالة عائد ما دام الإنسان إنساناً".[11]

يتعلق الأمر بخطة نقدية للتعاطي مع الشأن الديني، بما هو شأن إنساني، تستهدف تحريره من كلّ الشوائب والتشويهات التي لحقت به، سواء من طرف خصوم الاعتقاد الديني من ملاحدة ودهريين، أو من طرف الأوصياء على عقائد الناس، من سدنة المعابد وكهنة الكنائس. إنها رغبة قوية من عبد الله العروي في ترشيد الإيمان الديني حتى يكون لبنة من لبنات التحديث الفكري والاجتماعي والسياسي، كما كان الأمر عند روسو، بدل أن يكون وسيلة لفصل الإنسان عن ذاته وفطرته الدينية البريئة، أو سبيلاً للنكوص والتقهقر إلى الوراء إلى عصور الظلام والجمود والانحطاط.

لم تمض إلا سنة وحيدة على نشر عبد الله العروي لهذا النص، حتى فاجأ الدكتور طه عبد الرحمن جمهوره العريض الذي حجّ في بداية ربيع 2013، للقاعة الكبرى بالخزانة العامة للمملكة، لمتابعة محاضرة له، بتخصيص قول لهذا النص[12] الذي نقله العروي إلى قراء العربية في كتابه المشار إليه أعلاه، لينشره في مؤلف مستقل اختار له من الأسماء "بؤس الدهرانية: النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين".[13]

إذا كان العروي من أبرز دعاة الحداثة في العالم العربي، فإن طه عبد الرحمن من أشد المفكرين العرب نقداً للحداثة وملحقاتها من عقلانية وعلمانية...إلخ. وهذا الأخير لا يمكنه أن يكون قد وقع تركيزه على نص "عقيدة قس جبل السافوا" من باب المصادفة مع تركيز العروي على النص ذاته، بل إن المرجح أنه قد اطلع على منشور العروي وما قدمه من تحليلات وتبريرات لاختياره.

هكذا يصرح طه أن ما حمله على الكتابة في هذا الموضوع هو ما "نشاهده لدى المثقفين من أمتنا من استغراق في تقليد (...) مفكري الحداثة"[14]، خاصة في تصورهم للدين ولكيفية التعاطي معه، لا سيما أنّ "نذر الخوض فيه بدأت تلوح في الأفق، ماثلة في الدعوة الأخيرة[15] إلى اختزال روح الدين في نتفة من اعتقاد على طريقة هؤلاء المفكرين".[16]

ما هي هذه "الدعوة الأخيرة" التي دعت إلى اتباع طريقة فلاسفة الحداثة من أمثال جان جاك روسو؟ لن نجد من جواب سوى الإجابة التي تقول إنّ آخر من كتب في هذا الموضوع من العرب المعاصرين هو المفكر المغربي عبد الله العروي.

لذلك، نكاد نجزم أنه هو المقصود من طرف طه عبد الرحمن هنا الذي يعتبر أنّ مثل هذه الأعمال تتحايل على القراء من أجل خلق القابلية عندها لاختزال الدين في "نتفة من الاعتقاد"، وتلك مقدمة لاستدراجها "شيئاً فشيئاً إلى الانصراف عن الدين انصراف أتباع هؤلاء المفكرين عنه غير نادمين".[17] إنهم، في نظر طه، لا يطلبون الحق، أو قُلْ دين الحق والفطرة كما يدّعون، و"إنما يطلبون الحيلة في نصرة ما يعتقدون".[18]

لقد تعرّض طه لنقد تصور ج. جاك روسو، وغيره من مفكري الحداثة الذين لم يعرفوا بعدائهم للدين، لأن من ينعتهم بـ"مقلدة الحداثة" يتخيرونهم من أجل"إفهام قرائهم بأن هؤلاء المفكرين، على تمسكهم بالدين كما يتمسكون، لم يترددوا في القول بالفصل بين الأخلاق والدين كما يترددون، حتى يغروهم بأن يحذو حذوهم في القول بهذا الفصل كما يقولون".

إنّ الحديث عن "دين الفطرة" عند روسو ليس حديثاً بريئاً في اعتقاد طه، وإنما تكمن وراءه نية "مغرضة"، الغرض منه "فصل الدين عن ذاته" والدعوة إلى "أخت العلمانية"، وهي "الدهرانية"، حيث يعتبر طه أنّ الدهرانية والعلمانية (بفتح العين) والعلمانية (بكسر العين)، "كلها بنات للدنيانية".[19]

هكذا سيخضع طه عبد الرحمن تصور روسو للتربية الدينية، المبثوث في نص "عقيدة القسيس سافوا"، والذي سبق للعروي نقله إلى اللغة العربية، كما تطرقنا إلى ذلك أعلاه، لمنهج نقدي سمّاه بمنهج "النقد الائتماني" المرتبط بفلسفته التي يسميها بـ"الفلسفة الائتمانية".[20]

تقوم فلسفة طه هذه على مبادئ أولية ثلاثة، وهي: أولاً، مبدأ الشهادة، ويقابله في الفلسفة الكلاسيكية "مبدأ الهوية". وثانياً، مبدأ الأمانة الذي يتخذه بديلاً لمبدإ "عدم التناقض". وثالثاً، مبدأ التزكية، الذي يروم طه من خلاله تجاوز مبدأ "الثالث المرفوع" الذي تواتر عن التقليدي الفلسفي منذ أرسطو طاليس.[21]

هذه المبادئ الثلاثة، تؤسس لفلسفة طه الائتمانية التي تتضمن بدورها، حسب قوله، "فلسفات ثلاث هي: "فلسفة الشهادة" و"فلسفة الأمانة" وفلسفة التزكية". مما يجعلها جديرة بأن "توصف بأنها فلسفة إسلامية حقيقية أو حتى فلسفة إسلامية خالصة".[22]

ينطلق الدكتور طه من قناعة راسخة هي أنّ فلسفته التي يسميها بالتسميات المتعددة السابقة، هي الفلسفة الإسلامية الخالصة، وما عداها من إنتاجات فكرية لا علاقة لها بالإسلام عقيدة وديناً، سواء تعلق الأمر بالإنتاجات الفلسفية لمفكري الإسلام في العصور الوسطى، أو بما ينتجه المتفلسفة من المسلمين المعاصرين، بل إنّ طه يذهب إلى أبعد من ذلك، وينفي عن كل تلك الإنتاجات، القديمة والحديثة، صفتي "الإسلامية" "والفلسفية" معاً.[23]

انطلاقاً من هذه الخلفية النظرية، يرفض طه اعتبار ما كتبه روسو في رسالته المعروفة بـ"عقيدة قسيس سافوا" بـ"دين الفطرة"؛ ففي هذه التسمية تمويه وتدليس على القارئ، لأن ما يدعو إليه روسو هو "الدين الطبيعي" الذي يعتبر خير من يمثل الصيغة الطبيعية لـ"الفصل الدهراني" بين الدين ونفسه.[24]

إنّ روسو يجعل من "الدين الطبيعي" مضاداً لـ"الدين المنزّل"، لذلك من الخطأ الاعتقاد أنه "يطابق الصورة الفطرية للدين المنزّل"، فنجعل منه، والقول لطه، "دين الفطرة". وذلك من عدة وجوه نذكر منها وجهين اثنين:

أ-إنّ دين الفطرة يرتبط بالوحي في حين أنّ الدين الطبيعي عند روسو "لا يأخذ بالوحي"، بل يشك فيه، وهو ينبني على إنكار الوحي والملائكة والنبوة.[25]

ب-يرتبط مفهوم الفطرة في نظر طه بمبدإ الخلق، في حين نجد الدين الطبيعي عند روسو يشك في مبدأ الخلق هذا.[26]

يثمّن طه ربط روسو بين الدين الطبيعي وأخلاق الباطن، أو الأخلاق الجوانية، ممّا يجعله أقرب إلى الصورة الفطرية للدين المنزّل، لكن، مع ذلك، يعتبر طه أنّ إيمان روسو إيمان منقوص، لأنه "لا يؤمن بملك مكرم، ولا نبي مرسل، ولا كتاب منزّل"[27]، وبالتالي لا يمكن أن ننعته بـ"دين الفطرة" أو نعتبره أقرب إلى عقيدة الديانة الإسلامية.

حاصل القول إذن، هو أنه سواء كان الغرض من تخصيص طه لقول في "عقيدة كاهن سافوا" تفنيداً لاحتفاء عبد الله العروي بهذا النص، أم كان الأمر مجرد "صدفة فكرية"، فإن الثابت هو أنّ طه يحمل تصوراً مناقضاً لذلك الذي نوّه به العروي في كتابه "دين الفطرة"، الأمر الذي يضفي مزيداً من الحيوية والنشاط على التلقي المغربي للفكر الأنواري، نتمنى أن يستمر ويتواصل.


[1]- جان جاك روسو، إميل أو تربية الطفل من المهد إلى اللحد، ترجمة نظمي لوقا، تقديم أحمد زكي محمد. القاهرة، الشركة العربية للطباعة والنشر.

[2]- عبد الله العروي، دين الفطرة، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2014

[3]- نفسه، ص15

[4]- نفسه، ص9 و10

[5]- نفسه، ص10

[6]- نفسه، ص11

[7]- نفسه، ص16

[8]- نفسه، ص17

[9]- نفسه، ص17

[10]- نفسه ص18

[11]- نفسه،ص21

[12]- يمكن مشاهدة تسجيل المحاضرة على الموقع الإلكتروني التالي: http://www.tahaphilo.com

[13]- طه، "بؤس الدهرانية: النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين"، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2014

[14]- ص20

[15]- التـأكيد من عندنا. وليس من طرف الدكتور طه.

[16]- ص21

[17]- ص21

[18]- ص21

[19]- ص13

[20]- ص13

[21]- نفسه ص 14، 15، 16، 17، 18 و19

[22]- نفسه، ص19 (التأكيد يوجد في النص الأصلي).

[23]- تتكرر هذه الفكرة في كتابات طه عبد الرحمن المختلفة، ويؤكد عليها في المؤلف الحالي، انظر ص20

[24]- نفسه، ص35

[25]- نفسه، ص36

[26]- نفسه، ص36

[27]- نفسه، ص50