الفينومينولوجيا... مشروع المفاهيم المؤجّلة


فئة :  مقالات

الفينومينولوجيا... مشروع المفاهيم المؤجّلة

الفينومينولوجيا... مشروع المفاهيم المؤجّلة

يسعى هذا المقال إلى تسليط الضوء على الفينومينولوجيا كطريقة وأسلوب في النظر الفلسفي، عبر استعراض أهم خصائصها وطرائق ممارستها، لتحديد الموضوعات الأكثر ألفة معها. لا يجيب المقال عن سؤال محدد، بقدر ما يحاول استكشاف كيف تعمل الفينومينولوجيا، ومن ثمّ يمكن تحديد متى تُستعمل كطريقة بحثية. وإذا كان من ثمّة نتيجة يمكن أن ينتهي إليها المقال، فهو أن الفينومينولوجيا قد تكون مفيدة وفعّالة عند وصف الظواهر القابعة عند عتبات التفكير. تلك التي لم تتشكّل بعد، ولم تمتلك إطارا مفاهيميا صلبا.

(1) يؤكّد هوسرل في مدخل كتابه التأمّلات الديكارتية على أهمية المنجز الفكري لديكارت والمتمثّل في تأمّلاته في الفلسفة الأولى؛ فهي لدى هوسرل تمثّل نقطة عودة دائمة للفلسفة، لتبدأ في بعث نفسها من جديد. وإذا كان هوسرل يؤكّد على الأزمة التي صنعها انفصال العلم الغربي عن الفلسفة منذ ديكارت نفسه، وكيف أن تأمّلات هذا الأخير هي التي قادت هوسرل إلى الطريقة الفينومينولوجية التي عن طريقها سيعيد توحيد الفلسفة والعلم من جديد، فإنه لمن المثير للاهتمام كيف أدّت طريقة التأمّلات إلى ولادة الفينومينولوجيا، كما لو أن ديكارت في نظر هوسرل هو أوّل من مارس الفينومينولوجيا، حتى لو لم يعرف هذا المصطلح الذي ظهر بعده بحوالي قرن على أقلّ تقدير.

ونحن نجد أن تأمّلات ديكارت ليست من نمط تلك الطرائق المعقّدة والملتوية في الفلسفات النسقية، بل هي أقرب إلى شخص يتكلّم مع نفسه، أو يعبّر عن نفسه لدى أصدقائه أو قرّائه، ولكن بطريقة منظّمة تدلّ على وضوح الفكرة واكتمالها في الذهن. فهي تأمّلات منهجية، مع الوضع في الاعتبار الأخاديد الكثيرة التي تملأ كلمة المنهج عند محاولة إلصاقها بالنظر الفلسفي، على اعتبار أن الفينومينولوجيا يمكن تصنيفها أيضا كطريقة في النظر أكثر منها مجموعة من القواعد([1]). وإذا كنت هنا أحاول أن أكتب عن الطريقة الفينومينولوجية، فلعلّي أمارسها وأنا أحاول أن أصفها، دون أن أشغل نفسي كثيرا بما يعتبره بول فيرابند ناقدا؛ الهوس بالمنهج([2]).

قد لا يبدو الحديث عن الفينومينولوجيا صعبا، بل ربما هو من السهولة بمكان أن يكفي المرء أن يعبّر عن نفسه، ولكن لأن هذا التعبير عن الداخل بحاجة إلى أن يكون بمستوى تأمّل النفس العارفة؛ فإنه لربما يجدر بي التوقّف قليلا مع الفينومينولوجيا، وخصوصا أني أنوي استعمالها في وصف وإبراز ما أريد أن أسمّيه تجربة عتبات الفكر، وهي تجربة للوعي تمتزج فيها القراءة كورطة في الوجود، مع الحدس السابق للنظريات والبراهين، ومع الحرية المدركة لمسؤوليتها تجاه اللحظة الراهنة. الورطة ستعني العفوية، والحدس بطبيعته لا يهدف إلى الإقناع، والحرية المسؤولة منبع الالتزام تجاه الحقيقة.

وهكذا يمكنني أن أسرف قليلا في تبسيط الفينومينولوجيا، حيث ستكون كما مارسها ديكارت؛ حديث النفس المنظم والمسؤول. طموحها أن تكون منهجا، ولكن نجاحها في ذلك غير مؤكد بسبب التوتّر في تعريف كلمة المنهج، والتي تجعل الفينومينولوجيا دائما مشروعا مؤجلا، أو "مشروع اللامشروع، برنامج لا يعرف له اكتمال"([3]). إنها طريقة تشبه في بعض جوانبها الكتابة الشذرية كما نجدها عند نيتشه وسيوران وآخرين. تتطلب قدرا من الانفصال عن الأسباب والمبررات، والتركيز فقط على وصف الخبرة والشعور الداخلي الذي يتم لملمته داخل الشذرة.

(2) لقد تطوّرت الفينومينولوجيا وتفرّعت كثيرا طوال القرن الماضي، حيث بات من العسير تقييمها اليوم وتحديد أين وصلت، فاليوم نجدها في علم النفس وعلم الاجتماع والتحليل النفسي والاقتصاد وتجربة المستخدم والتسويق والدراسات الدينية، بل وحتى خارج الأكاديميا تماما. فالكلمة فيما يبدو، تحمل وهجا خاصا يدفع بالكثيرين إلى الاستئناس باستعمالها خارج سياقها الفلسفي؛ إذ صارت مغرية للكثير من الفنانين وصانعي المحتوى المحترفين؛ فتجد لها معارض فنية وعناوين لأعمال موسيقية، ومشاريع جرافيكية وتصويرية، ومجموعات شعرية. بالطبع، جنبا إلى جنب مع محاولتها لتكون منهجا صارما في النظر الفلسفي. فلقراءة قصائد مستوحاة من الفينومينولوجيا؛ يمكن مثلا البحث عن الكلمة في منصّة الشعر باوتري سوب Poetry Soup. وعن الفينومينولوجيا في الموسيقى، يمكن البحث عن الكلمة في منصة الساوندكلاود Sound Cloud، ليكتشف المرء حضور الزخم الفينومينولوجي في الشعر والموسيقى.

ففي الوقت الذي نجد باحثا اجتماعيا يستعملها لوصف خبرات العوائل في التعامل مع موت أحبائهم، أو باحثا صحّيا يوظّفها لاستكناه تجارب الحوامل في أجنحة الولادة، أو تجارب الممرضات اللاتي يعتنين بالحالات الميؤوسة، أو حتى معالجا نفسيا يحاول أن يستفيد من المنهج الفينومينولوجي في وصف وتحليل مشاعر وخبرات عملائه؛ سوف نكتشف أيضا موسيقيّا يستعين بها لاستلهام تجربة صوتية تتجاوز الحدود المعروفة، أو مصوّرا ضوئيا يبحث في أعماق وعيه عن فكرة إنسانية لم يطرقها أحد قبله. هذا يطرح مسألة مهمة عن حدود الفينومينولوجيا وما لا تستطيع بحثه، وهو سؤال متسرّب داخل هذه المقالة، ولكن لأن الفينومينولوجيا لا تطمح لأن تكون أورجانون آخر للمعرفة، فإنها ستوجد بشكل أفضل عند عتبات التفكير، فحدود الفينومنيولوجيا هي فينومينولوجيا الحدود. وما لا تستطيع الفينومينولوجيا بحثه متجذّر داخلها قبل أن تعلن البراءة منه، فهي رؤية يختلط فيها المنهج بالموقف في رؤيتهما للعالم([4]).

الخطوات الأربع في البحوث الفينومينولوجية المنهجية: التقويس، والحدس، وتحليل النصوص/ الكلام، ثم الوصف([5])؛ تصبح خطوة واحدة فقط عندما تتحوّل الفينومينولوجيا إلى شكل ثقافي لدى الشاعر أو الفنان: استكشاف واستنطاق الظواهر الغائرة في أعماق الوعي. يمكن أيضا ملاحظة هذا السحر في كلمة الفينومينولوجيا عبر تتبع بعض المختبرات والمعارض والورش الفنية التي تستلهم الفينومينولوجيا لتطوير الأعمال الفنية، وهناك أمثلة كثيرة يمكن التوصل إليها بسهولة عبر البحث في الانترنت. وربما لهذا السبب يؤكّد ميرلوبونتي بأن الفينومينولوجيين والفنانين يمتحون من نفس المنهل؛ الخبرة المعيشية الخالصة([6]). ميرلوبونتي نفسه استعان بلوحة مواطنه بول سيزان عن جبل سانت-فيكتوار جسر وادي نهر آرك([7])، لتكون غلافا لأهمّ كتبه على الإطلاق؛ "ظواهرية الإدراك"، وهي لوحة تنتمي لمدرسة ما بعد الانطباعية، وقد كتب ميرلو بونتي مقالا عنها، وهو يشرّح الإدراك البشري فينومينولوجيا.

(3) لهذا قد لا أكون مخطئا كثيرا لو قلت إن ‏الفينومينولوجيا أكثر طرائق التفلسف غموضا؛ ما يجعلها وبشكل من الأشكال أقرب إلى الفن. تجتهد لتكون ناعمة جدا مع الواقع بغية إعادة تشكيله بهدوء وفق إحداثيّات ذاتية جديدة؛ كما يفعل الفن. يمكن التأكد من ذلك بمسح بعض العناوين التي تدرسها الفينومينولوجيا؛ لأن التعامل مع الخبرة اليومية مباشرة بدون الحاجة إلى ربطها بسياقات علمية وبمقدمات نظرية معينة؛ هذا هو ما يفعله الفن. فالبحث الفينومينولوجي نشاط شعري([8])؛ أنت تعتني فيه بوصف الواقع الداخلي وليس بنتائج البحث، بل تكفي معرفة بعض الموضوعات التي تطرقها هذه البحوث لتلمّس هذه الروح الفنية في الفينومينولوجيا: تسمية الأطفال، إعادة قراءة كتاب، الخوف من الماء، ممارسة الرياضة، إعطاء حقنة لمريض، ألم الولادة، طاولة المدرسة.

هناك تشابه ملحوظ بين القراءة الفينومينولوجية لظاهرة ما وبين الكتابة عنها أدبيا. ففي الحالتين أنت تجرّب وتختبر اللغة؛ تصنع المشهد وتنحته نحتا؛ تحلم بإصلاح ما حولك؛ لا يوجد لديك إيجاب أو سلب؛ تتوقف عن إصدار الأحكام لبعض الوقت، تتوقف عن النظر للخارج وتنظر للداخل؛ تلتفت إلى أعماقك بحثا عن الخبرة الخالصة؛ تجربتك الغضة التي تعبّر عن إدراكك الحسّي البريء للعالَم، تكون مشغولا بوصف الواقع لا البرهنة عليه. ولهذا لا تحتاج أن تشتبك مع آراء الآخرين ومواقفهم؛ أنت لست مدينا لأحد، ولا تمثل أحدا ولا تنتظر قبولا أو اعترافا. ما يهمّك هو النفاذ إلى أبعد أغوار وعيك لتصف الظاهرة التي تفكّر فيها؛ لمساعدتها على الإفصاح عن نفسها بغية إدراكها. إنها؛ كما يقول هوسرل؛ التفلسف بالعودة المستمرّة إلى نقطة البدء([9])، ورفض الانطلاق من نتيجة في المنتصف أو في النهاية، أو أن تشغل نفسك بتفسير الظاهرة أو أنه يجب عليك أن تنتج معرفة، بل ربما أنت لست متأكدا تماما بأن الظاهرة مما يتّسع لها مفهوم المعرفة؛ بطريقتها العلمية المعروفة.

(4) لا أريد أن أمضي طويلا في هذه المقابلة بين الفينومينولوجيا والفن، والتي ربما تكون شخصية، وخصوصا أني لست متأكدا هل هي قدح في الفينومينولوجيا أم مدح. فإذا كان هوسرل يؤكد أن الفلسفة عمل شخصي من أعمال الفيلسوف، وهي بالتالي ستكون حكمته هو، ومعرفته هو([10])، غير أن ليفي شتراوس وهو المعروف بنقده للفينومينولوجيا؛ يرفض أي فلسفة قائمة على التجربة الشخصية، إذ يسميها فلسفة فتاة المتجر؛ الفلسفة حسب الطلب([11]). الطموح الأقدم عند إدموند هوسرل؛ أن تصبح الفينومينولوجيا علما كليّا؛ تماما كما هي الفلسفة لدى القدماء. أن تضبط الفينومينولوجيا التفكير الفلسفي، وتهيمن على الطريقة العلمية، لكي تتجاوز الوعي الذاتي الديكارتي الذي أفرز الفصل الفجّ بين الذات والموضوع. ما أعطى للعقلانية التجريبية المجال، لكي تتهجّم على الفلسفة وتنحّيها من فضاءات العلم الوليدة بالقرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

هذا يعني أن الفينومينولوجيا عند مؤسّسها هوسرل كانت تروم الوضوح والضبط المنهجي، ولكنها انتهت عمليا بعد قرن من تطبيقها إلى ما عبّر عنه حسن حنفي: "الظاهريات الآن مثقَلة بلغتها؛ غمضت مقاصدها، وقلَّ وضوحها؛ بسبب تعقُّد مصطلحاتها. وطُويت بداهةُ اختياراتها داخل جهاز اصطلاحي مثقَل. الظاهريات ما زالت في المعمل، وما زالت تُصنع، دون أن تخرج بمنهج واضح ومتميِّز"([12]). أو كما عبّر عنه فتحي إنقزّو: "ومهما يكن من أمر هذه المصاعب [التحديّات التي تواجه الفينومينولوجيا]، فإنها تشير إلى الوضع المتحيّر للفينومينولوجيا، وهي تقارب نهاياتها ولا تفلح في استيعاب مجموع المسائل والأغراض في منظومة تامة ونهائية تصلح لمن يبتغيها منهجا وسبيلا... إذ لا يخفى تعلّقها [أي الفلسفة الفينومينولوجية] المفرط - بلغة ملحمية بالغة الحماسة وبنزعة كونية عقلانية متفائلة - بمثال للفكر نظري ومجرد يجاهد نفسه لمسايرة التجربة البشرية، وهي مثقلة بوزر الزمان التاريخي"([13]).

هناك أشكال كثيرة لمحاولات تطبيق الصرامة القديمة التي أرادها هوسرل في طريقته الفينومينولوجية، ولكن لأنه تعمّد أن يجعلها مفتوحة وليست مغلقة؛ كما هو الحال مع الطريقة العلمية، فإنّ تلك الصرامة أفضت إلى هذه الأشكال الكثيرة من الفينومينولوجيا التي يمكن عدّها بعدد ممارسيها؛ لأنها فلسفة ومنهج في الوقت نفسه([14]). الفلسفة ستعني بالضرورة التفكّر الحرّ، بينما المنهج يرتّب مجموعة من القواعد العامّة لهذا التفكّر الحرّ؛ كمحاولة لضبط الذاتية المفرطة في النظر الفلسفي. صفة المنهج هنا ستكتسب صبغة الميتا منهج، فهو تفكير في المنهج ذاته؛ لأن الفينومينولوجيا جاءت أصلا لمقاومة المنهج؛ عبر التفكير فيه لمعالجة ثغراته أو لإعادة تحديد أفقه في كل مرة يتم ممارسته في العلوم الإنسانية([15]).

(5) تحدد الطريقة الفينومينولوجية مجموعة من المبادئ ظلّ إدموند هوسرل يلحّ عليها ويدافع عنها طوال حياته. وقد سال حبر كثير حول هذه المبادئ التي حاول هوسرل من خلالها أن يحرّر الفلسفة من الميتافيزيقا، وبالتالي إعادة العلم إلى حضيرتها بعد أن ادّعى مرارا أنه انطلق في الآفاق متحرّرا من قبضتها الميتافيزيقية. وبالتالي تصبح الفينومينولوجيا هي الميتافيزيقا الجديدة المعدّلة من أجل أن تكون الأرضية المشتركة للفلسفة والعلم معا([16]). هكذا كان طموح هوسرل، وهو يُرسي قواعد الفينومينولوجيا التي لم يطبّقها هو بنفسه، بل تركها لتلاميذه ومن يأتي من بعد، على اعتبار أنه لم يكن من البداية بصدد التأسيس لمنهج مغلق؛ إذ لا تنظر الفينومينولوجيا إلى الواقع الموضوعي كما يتراءى أمامنا، وبالتالي يمكن أن نتحكّم في شروطه، بل إلى انعكاس هذا الواقع في الوعي. هذا الانعكاس الذي يسمّيه هوسرل بالظاهرة؛ لأنه لا ينفكّ عن التجلّي في اللغة أو الفن. فالظاهرة بحسب هوسرل "تشير إلى محتوًى معين يقطن داخل الوعي الذي يعاينه ويكون أساسًا للحكم بواقعيّته"([17]).

هذا يفسّر ما دفع بعض الباحثين للسؤال عن صعوبة الحصول على أدبيّات تشرح كيفية استعمال الفينومينولوجيا([18]). إنها تفكّر حرّ بالدرجة الأولى؛ يتحاشى الفلاسفة الفينومينولوجيون أن يقدّموه كوصفة طبّية جاهزة أو تمرين توجيهي. ربما هذا مما يمكن تبريره بالنظر إلى أن هذا العالَم لا يكون دائما واضحا للوعي، فالغموض يغلب عليه. الغموض هو الأكثر أصالة في هذا العالم الذي تريد الفينومينولوجيا أن تصف تجليّاته الخالصة في الوعي، بل يبدو أننا نحن نكون أكثر إنسانية عندما تتمنّع الطبيعة على العقل وتقاومه. ولعّلي هكذا أفهم عبارة كلود ليفي شتراوس في كتابه الفكر البرّي؛ أن غاية العلوم الإنسانية تذويب الانسان([19])؛ لأنها تنتهك الغموض النابع من أصل ممارسة الحرية، فيفقد هذه الحرية كلما صار واضحا أمام نفسه وأمام الآخرين. سارة بِكْويل تستشهد بهذا التذويب والإلغاء لمفهوم الإنسان، وهي تحاول أن تنتصر في ذلك للوجودية والفينومينولوجيا اللتين تعملان ضمن مساحات الحرية داخل الممارسة البحثية([20]).

لا أعرف إذا ما كان يجوز لي هنا أن أستشهد بنوربرت إلياس في رؤيته للطفولة وعمليّة التمدين التي بدأت تلتفت إلى الأطفال فقط مع أواسط القرن التاسع عشر، حيث أخذت تدمجهم داخل المدينة، بعد أن ظلوا زمانا فئات غير معترف بها([21]). تخصيص غرف للأطفال في المساكن هو مثال على هذا التمدين الذي يعنيه إلياس. ونحن نقرأه كمؤشر على التسامح مع الغموض الذي في الأطفال بعد أن ظل قرونا طويلا مطرودا من مساحات الوضوح في عالم البالغين. مشروع الفينومينولوجيا؛ إن كان ثمّة مشروع لها، سيكون هو الاعتراف بالغموض الذي يسم عتبات التفكير والتسامح معه، وإيجاد طرائق للبحث داخل الحرية بدون الانتهاك الذي هو في صلب الطريقة العلمية التجريبية. فما ينتج عن الوضوح هو المزيد من العقلانية الأداتية، والطبيعة بطبيعتها تتمنّع على العقل، وهكذا فإذا انتهت الظاهراتية في بعض تياراتها إلى نصوص أقرب إلى الفن منها إلى الفلسفة، فليكن. ما الضير وما المشكلة ما دامت تحقق نفعا بأن تجعل الإنسان متسائلا على الدوام؟

(6) الفينومينولوجيا هي فلسفة للتخوم كما يعنون فتحي إنقزّو كتابه المهم حول الموضوع. عند حسن حنفي؛ الفينومينولوجيا طريقة داخل التصوّف، أو أن التصوّف شكل فينومينولوجي([22]). ولهذا السبب هي دائما تُتهم بافتقارها للمعيارية وللتاريخية، وخصوصا في العالم الأنجلوسكسوني. في العالم الإسلامي هي أيضا متّهمة، ولكن المسلمون بطبيعة الحال لديهم أسبابهم الخاصة في الحذر مع الفينومينولوجيا، وخصوصا أن تطبيقات حنفي الفينومينولوجية أنزلت بعض المفاهيم كالوحي من عليائها المقدّس، لتصبح مجرّد تجربة للوعي الخالص([23]).

سيّد حسين نصر أيضا يبدي مثل هذا الحذر؛ في مقابلة له على مجلة كيو ساينس، ولكن لأسباب مختلفة، فالفينومينولوجيا لديه لا تفرّق بين الظاهرة الدينية ذات العمق الميتافيزيقي من تلك الظاهرة السطحية التي تتلاشى مع الوقت، فهي لا تعتني بما يسميه كانط النومينا([24]). بطبيعة الحال هذا لا ينفي أن نصرّ في بحث آخر يستعرض أهمية الطريقة الفينومينولوجية وحسناتها، وأنها أقرب إلى الدين من الطرق التاريخانية التي تلغي المقدّس([25]). سيّد حسين نصر يؤكّد أنه في الفينومينولوجيا؛ المعيار من داخل الظاهرة نفسها وهذا ما لا يصلح عند تطبيقها على الظواهر الدينية؛ حيث المعيار يجب أن يأتي من خارج الظاهرة.

في الواقع إن دخول الفينومينولوجيا إلى المنطقة العربية جاء متأخّرا وعرَضيا؛ إذ جاءت أولا عبر الوجودية الفلسفية مع رسالة الدكتوراه لعبد الرحمن بدوي عن الزمان الوجودي في 1944، وثانيا مع الزيارة الشهيرة لسارتر ودي بوفوار إلى مصر في 1967. فدخول الفينومينولوجيا عربيا ارتبط بالوجودية كثقافة وتيار إنساني يدعو إلى الإعلاء من شأن الفرد والحريّات الخاصة، وهذا ما جعل حضور الفينومينولوجيا ضعيفا في الجامعات العربية. وخصوصا أنها لا تفصل بين الوجود والماهية؛ على العكس من الفلسفة العربية الإسلامية التي تقوم أساسا على هذه الثنائية، وهذا يعني أن جهدا آخر كان يجب أن يبذل لتبيئة الفينومينولوجيا عربيا؛ وهو محاولة إثبات أنها ما تزال تحتفظ بثنائية المفارق والمحايث داخل تلافيف نظريّاتها، وبالتالي بينها وبين الوجودية مسافات، وهذا ما قام به مؤخرا الباحث السعودي شايع الوقيان في كتابه "الوجود والوعي. استئناف الفينومينولوجيا". وأظنّ أن هذا جهد مهم، وخصوصا أن الفينومينولوجيا تطوّرت وتفرّعت كثيرا خلال الخمسين سنة الأخيرة، ووصلت تطبيقاتها حتى إلى الطب والتصميم والتسويق، حيث بات من المهمّ جدا إعادة التفكير فيها وتضمينها كمنهج وكممارسة في الجامعات العربية.

(7) من غير المؤكّد أن الفينومينولوجيا تهدف إلى إنتاج المعرفة، ويبدو أنه إذا حصل وصارت تنتج أحكاما معرفية؛ فغالبا لأن الباحث استعمل معها طرقا إبستمولوجية رديفة، وإلا فإن الفينومينولوجيا هي الوجه الآخر لخبرة الوعي الخالص؛ ذلك الوعي الذي سيكون هو الوعي بالظاهرة نفسها وليس شيئا آخر ألتصق بها؛ نظرية أو تفسيرا أو إطارا سابقا للظاهرة. العلم لا يعمل بهذه الطريقة، فهو يقدّم افتراضاته بين يدي الظاهرة، ومن ثم يختبر هذه الافتراضات لإنتاج المعرفة العلمية الجديدة. كان طموح هوسرل هو أن تكون الفينومينولوجيا علما كليّا، ولكن لا يبدو أنه نجح في ذلك([26]). ومع ذلك فهذا لا يعني أن الفينومينولوجيا فشلت تماما أو أنها غير مهمّة؛ ذلك لأن أهميّتها تجلّت في تجهيز الظواهر للتعاطي المفهومي في الإبستمولوجيا. وهي لهذا السبب، فلسفة للتخوم والحدود، هناك حيث تنعدم المسافة بين الذات الواعية وموضوعها؛ الظاهرة. ومن هنا أقول إن القراءة الفينومينولوجية شيء يشبه قصيدة شعرية أو لوحة فنية أو منحوتة يتأمّلها الإنسان؛ فقط ليكتشف نفسه؛ أين هو داخل هذا العمل.

بطبيعة الحال؛ هذه الشعرية في الفينومينولوجيا ليست على إطلاقها، فهذه الأخيرة حتى مع كونها وصفية، وتتعامل مع الكيفيات وليس الكميّات؛ غير أنها قادرة على الالتفات إلى الوضعيّات التي تحتاج فيها أن تكون هوسرلية؛ تطبّق المبادئ الصارمة التي نادى بها هوسرل، ولكن يجب أن يكون المحتوى القصدي من الجلاء، حيث يمكن فصله عن المحاكمات والموضوعات السابقة. الذات جليّة وقادرة على التعبير عن نفسها كموضوع لنفسها. والفيصل بين الذاتية (الفلسفية) والموضوعية (العلمية) هو ألا يكون للذات غرضا، وهي تتحدث عن نفسها كموضوع؛ بمعنى أن يتم تجميد الإرادة وقت وصف الظاهرة الماثلة في الوعي، فلا يبقى هناك أي سببيّات خارجية ولا داخلية تشاغب على اللحظة الفينومينولوجية، أو على حد تعبير ميرلوبونتي: الفينومينولوجيا تبحث لاستعادة العالم في لحظة ولادته داخلنا([27]).

إن استمرار حالة عدم الثقة في الفينومينولوجيا منذ لحظة ولادتها، وما زالت تتسرّب في الكثير من الكتابات حولها حتى اليوم، ليدفعنا إلى التساؤل: ألا يجعلها ذلك على مسافة ما من الفن؟ فعلى الرغم أن الفينومينولوجيا انتقلت من موضوعاتها الكلاسيكية كالوعي والزمن والإدراك؛ إلى موضوعات جديدة كانت وما تزال حكرا على المناهج الكلاسيكية في العلوم الاجتماعية والنفسية؛ فاليوم لن يعدم القارئ المهتم أن يجد دراسات فينومينولوجية تتناول ظواهر كالعنصرية، والحب، والهجرة، أو فينومينولوجيا المكان عند المصممين المعماريين، أو حتى ظواهر ذات أبعاد سياسية كالعنف والمعارضة والتفاوض، ولكن مع ذلك ما تزال الشبهات تثار حول الفينومينولوجيا وذاتيّتها؛ إلى اليوم، وربما حتى الغد.

يناقش فتحي إنقزّو مدافعا عن هذه الطريقة؛ أن الفرق بين الفينومينولوجيا كمنهج وبين ما سواها من المناهج؛ في أنها أقرب للتأملات([28])، وليس الجميع مستعدّ لقبول التأمّلات كطريقة في البحث العلمي، حتى لو كانت تأمّلات وليدة التجربة الحيّة، وليست مجرد إسقاطات الذات التي تحاول الظهور. شايع الوقيان يدافع عن هذه الطريقة بالتمييز الذي يقيمه هوسرل بين فعل الإدراك وموضوعه؛ النويسس والنويما. الفعل هو الشيء الواقعي؛ الإدراك المحدود زمانيا ومكانيا، بينما النويما هي المضمون المثالي الذي لا ينتهي بانتهاء الفعل([29]). النويما هنا ليست تمثيلا أو صورة، بل هي وجود فعلي للشيء، ولكن في كيفية مختلفة، وهكذا فالتأمّل كتناول لهذا النويما وتقليب له في الفكر هو نشاط فينومينولوجي بامتياز. ليس كبحث في تاريخ هذا النويما ولا في أشكاله التجريبية، بل بتناول القصديّة التي تعبّر عنه وتملأه.

(8) الهدف في الفينومينولوجيا ليس أن نفهم الظاهرة بقدر ما هو أن نفهم أنفسنا من خلال إبراز ووصف الظاهرة عبر التماهي معها لتوثيق تجربتنا داخلها أو تجربتها داخلنا. وفي ظل هكذا غاية، فنحن متحررين من أيّ سببية دأبت المناهج العلمية على الكشف عنها. فيمكن مثلا أن نتناول فينومينولوجيا ظاهرة طبيعية كالبرق عبر البحث عن معنى ما في إدراكنا للبرق. ما هي المعاني التي نربطها بظاهرة البرق؟ هل يثير الرعب أو الدهشة أو الجمال؟ فنحن نستكشف كيفية تشكل المعاني الشخصية ونحن نتفاعل مع البرق. أو يمكن استكشاف التفاصيل الدقيقة لتجربة الوعي مع البرق، مثل الشعور بالتوتر أو الإثارة قبل ظهور البرق، وتأثيره على حالة الانتباه والانتشار الذهني.

في الفينومينولوجيا الأمر مرتبط بوصف قصديّتنا تجاه البرق، إذ يمكن أن نقرأه كشكل من التواصل غير الواضح مع الطبيعة أو الله أو ذات أخرى عميقة داخلنا؛ أب قديم، أو صديق راحل، أو شخصية ما ظهرت لنا في حلم. هنا نحتاج فقط للخبرة الخالصة لكي نكتشف طبيعة هذا الوعي بالبرق الذي لن يكون موضوعا للمعرفة بقدر ما هو تجربة لها معطياتها التي نحتاج لضمها إلى ذاتيتنا كخيوط الضوء، والوهج المنتشر في الأرجاء، والرعد المرتبط بهذا البرق، والنهاية التي نستشعرها مع تدفّق البرق. جميع المعطيات التي تتغذّى عليها الفينومينولوجيا مادّية؛ تأتي عبر الحواس.

لهذا يمكن أن نقرأ الفينومينولوجيا كشكل من أشكال التألّه، ربما لم يكن مؤسّسو الفينومينولوجيا مؤمنين بالإله بالمعنى المفارق، ولكنهم بالتأكيد لم يكونوا فلاسفة ماديين؛ بما تحمله المادية من نقيض يرفض المثالية المتجذّرة داخل الفينومينولوجيا التي لم تنشأ أصلا إلا كردّ فعل على محاولة المادّيين بالنصف الثاني من القرن التاسع عشر لاستعمال مناهجهم الصارمة على العلوم الإنسانية. يمكنني هنا أن أحيل على مفهوم العطاء في فينومينولوجيا جان لوك ماريون؛ كشكل لاستعادة الحالة الإلهية في الإنسان عبر الفينومينولوجيا. العطاء عند ماريون يسبق حتى الحدس، وعندما نقوّس العالم بالمطلق؛ ما يتبقى ليس الذات الديكارتية بل العطاء؛ لأن الذات هنا لا تستقبل الظاهرة فقط، بل هي تُعطى مع الظاهرة في الوقت نفسه([30]).

هذه الحالة الإلهية التي أقصدها؛ تحافظ على تعالي الوعي على المادة، ليس التعالي المفارق بقدر ما هو التعالي الذي يمنع المادة من أن تحتلّ كامل المشهد، فالوعي هو الجزء الذي تفتقر إليه المادة. الفينومينولوجيا لا تستعين بعناصر غيبية في التعامل مع الظاهرة، بل على العكس، تغوص تماما في مادّية هذه الظاهرة، ولكن ليس لتفسيرها؛ لأن التفسير يستدعي بالضرورة الاستعانة بنماذج وأطر نظرية سابقة، وهذا ما لا تريده الفينومينولوجيا، بل لاختبارها كوعي، ومن ثمّ وصفها كماهيّة لإبرازها، ومع بروزها يتجلّى الوعي داخل الظاهرة. على اعتبار أن الوعي في الفينومينولوجيا؛ هو دائما وعي بشيء ما كما يقرر إدموند هوسرل.

(9) القراءة الفينومينولوجية يوجد فيها تجريب، ولكنه تجريب لا يقيم فاصلة مع الظاهرة؛ لأنها ليست حدثا منفصلا، بل هي حدث نخلقه ونحن نفكّر فيها، الأسئلة التي تُطرح في القراءة الفينومينولوجية لا تسأل عن موضوع، بل عن الذات نفسها. هنا نستند إلى هايدغر وتفريقه بين الفهم والمخيلة، باعتبار المخيّلة سابقة على الفهم، وهي المادة الخام للفهم، وإذا كان الفهم يعني إغلاقا للمخيّلة، فإن المخيّلة متمرّدة على هذا الإغلاق، حيث يمكن أن تكون مادة لفهم آخر([31]). المخيّلة بالتالي ستعني وبشكل من الأشكال أننا لا ننتظر الحدث ثم نذهب لنوثّقه أو نسجّله، بل نحن نخلق الحدث. الفنان هو من يصنع موضوعه. وبالتالي نحن هنا نركّب قبل أن نحلل. فالمخيلة تركيب للعناصر. التجريب في الفينومينولوجيا هو تماما كتجريبية الفن. توليف للعناصر بشكل مختلف لصنع شكل جديد مبتكر. العناصر نفسها يمكننا أن نعيد تركيبها وفق مخيّلة جديدة. القهر الذي يصنعه العقل وهو يحلل العناصر المادية لفهم ظاهرة طبيعية غير حاضر هنا في القراءة الفينومينولوجية؛ لأن ظواهر الوعي هي تجلّي الوعي نفسه؛ الوجه الآخر للورقة على تعبير ميرلوبونتي.

أن تكتب بطريقة فينومينولوجية يعني أن تنظر إلى الشيء من مكان لم يره منه أحد غيرك، أو بعدسة لم يستعملها أحد قبلك، أو تخترع الشيء الذي تريد أن تراه اختراع؛ أنت تصنع الشيء الجديد. أنت هنا في معمل فينومينولوجي. في هذا المعمل يتم ابتكار الماهيات الجديدة أو اكتشافها. هذا المعمل ليس افتراضي ميتافيزيقي، بل هو معمل حقيقي، يتم التحضير له أو تجهيزه بأدوات ومعدّات تساعد على تشكيل أو تخليق أو وصف الشيء/الظاهرة بين يدي الباحث. الباحث سوف يكون فنّانا بالضرورة، وهو يتفلسف للنفّاذ إلى الماهية التي يريد أن يستكشفها. لا يحتاج هذا الباحث أن يعيد ما قاله غيره، وربما حتى أن يقتبس منهم، بل ولا يحتاج حتى أن يبني على ما قاله السابقون؛ لأنه يؤسس أو يستأنف أو يخلق ظروفا جديدة أو بداية جديدة، اختراقا جديدا. يمكن استعادة مثال البرق هنا لفهم التجريب المقصود في الفينومينولوجيا. تجربة المشاهدة المتواصلة للبرق لاستحضار الحالة الشعورية المراد وصفها. أحيانا يمكن الذهاب لمتحف خاص للبقاء في الحالة الشعورية المراد وصفها، كزيارة متحف خاص بالضوء أو الموت أو متحف لفنّ الشوارع أو متاحف الرعب.

الفينومينولوجيا معمل لاختبار الماهيات قيد التشكّل، تلك الماهية بعد أن تنضج وتتّضح؛ سوف ترتحل إلى حقول العلم الأخرى. وبما أن الوعي بهذه الماهية قصدي؛ أي إنها ذاتية؛ فإن ارتحالاتها المتتالية لن يقطعها من جذورها الفينومينولوجية، بل هي تحتفظ بكامل تاريخ البصمات القصدية التي شكّلتها فلسفية أو فنية. وهذا التاريخ من القصديات التي صاغت الظاهرة وحوّلتها إلى مفهوم أو نظرية أو لوحة فنية؛ يظل هو مطلب القرّاء والنقّاد والفلاسفة والعلماء؛ للانطلاق نحو تأسيس المعنى/الفهم.

(10) هذا يأخذني إلى فكرة أخيرة في هذا المقال؛ يطرحها هوسرل عن حيادية الفينومينولوجيا، فتقويس العالم وعزله في لحظة الردّ أو الاختزال الفينومينولوجي لوصف الوعي/الخبرة؛ يعني قطع الطريق لتدخّل العقل الاستدلالي المنطقي؛ وربما حتى الاستقرائي؛ في الاتّصال بالوعي الخالص. الوصول إلى تلك المنطقة الخام يتطلّب حمايتها من طرائق ومناهج العلم الطبيعي؛ لأنها الأساس الذي تبني عليه العلوم مفاهيمها ونظريّاتها لاحقا([32]). وربما أضيف؛ ويشتغل عليها الفن أيضا لاستخراج الصور والتراكيب، حيث يعمل ضمن هذه المساحة المحايدة ميتافيزيقيا. هذه الحيادية لا تعني إنكار العالم، بقدر ما هي محاولة لعزله من أجل وصف حضوره في الوعي، كيف يُظهر هذا العالم نفسه لنا؛ بمعنى آخر، الفينومينولوجيا لا تطمح لأن تمتلك رؤية حول العالم؛ فهذا تتركه لعلماء الطبيعة واللاهوتيين، وتركز فقط على وحدات المعنى الذي تخلقه أشياء العالم في الوعي([33]).

هذا يعني أن شرط وجود الشيء الذي يتم وصفه ليس ضروريا؛ فما تصفه الفينومينولوجيا لا يعني بالضرورة وجوده ماديا، فيمكن أن تتحدث عن كرسي غير موجود في تلك اللحظة. قد يكون موجودا في الماضي، ولكنه انتهى كشيء مادّي في الواقع، وما بقي هو فقط حضوره المستمر في الوعي. وبالرغم من صعوبة تخيّل فينومينولوجيا ما من دون حضور ميتافيزيقي معين، باعتبار أن المعطى في الظاهرة هو بنهاية المطاف شكل ميتافيزيقي، فالحياد التام أمر مستحيل بحسب ميرلو بونتي([34])، غير أن هذا العيب الذي يعتبره توم سبارو نقصا شديدا في الفينومينولوجيا، وبسببه يظن متفائلا أنه مؤشّر على نهاية الفينومينولوجيا؛ هو نقطة قوّة لأنه يجعل الفينومينولوجيا مفتوحة على التأويلات، ويسمح لها بأن تنتج عدد لا نهائي من الطرائق في البحث. تلك الطرائق التي تكون أقرب إلى الأسلوب منها إلى المنهج. فميرلو بونتي يؤكّد أن الفينومينولوجيا هي أسلوب في التفكير أكثر منها طريقة([35])([36]).

لا يوجد يقين تام أن هذا الحياد ممكن على الإطلاق؛ لأن الردّ الفينومينولوجي يمكن أن يعزل الواقع العيني المادي عن الوعي، ولكن لا يستطيع أن يعزل الذات الواعية تماما. هذه الذات نفسها ما هي سوى معطى ميتافيزيقي، تتقدّم على الظاهرة. فعلى سبيل المثال، عندما تستخرج الذات من لحظة البرق معنى سالب، في مقابل ذات أخرى تستخرج من لحظة البرق نفسها معنى موجب؛ فهذا يعني أن جهدا آخر يتطلّب من الباحث بذله لتمييز المفارق الذي صنع هذا الاختلاف، ومن ثم تقويس هذا المفارق أيضا، باعتبار زاوية النظر إلى الظاهرة هي في الأصل محتوى ميتافيزيقي سابق لها ومؤثّر عليها.

هذا الحياد حتى لو كان جزئيا؛ مفيد لقطع الصلة السببية مع المادة، لحينما يتم الانتهاء من الوصف، بعد ذلك ليكن ما يشاء من الردود والتعليقات على هذا الوصف؛ ففي أقل تقدير استطاع الباحث أن يمسك بشيء ما من محتوى الظاهرة، كما أنه مفيد لأمر آخر، وهو لتحديد ما الذي بقي بعد مما يمكن قوله، كما لو أن الشيء المراد وصفه لا يتجلّى دفعة واحدة. وبالتالي الانتظار وعدم التعجّل في إصدار الحكم سيكون مهما لحين اكتمال الصورة، يمكن أن يتم ذلك باختبار الظاهرة عند أكثر من ذات واحدة أو وعي واحد. وحتى عندما يتم استخراج شكل نهائي للظاهرة بعد سبر أغوار عدّة تجارب في عينة البحث، سيكون الحياد مهما أيضا لفسح المجال لباحثين آخرين، للإضافة إلى الوصف المطروح وصولا إلى المفهوم. ومن هنا تصبح الفينومينولوجيا هي الميتافيزيقا الجديدة، الميتافيزيقا المحايدة التي تنزع إرادة السيطرة والإغلاق المتضمنة في الفهم، فتجعلها هامشية إلى أكبر فترة ممكنة. وباختصار، لعزل أو تأجيل المطلق، كما لو أن الحياد المقصود هو الانفتاح المستمر على الظاهرة.

 

الببلوغرافيا:

A. V. Fernandez، و S. Crowell. (2021). Introduction: the phenomenological method today. Continental Philosophy Review، 54، 119–121. doi: https://doi.org/10.1007/s11007-021-09539-8

Dermot Moran، و Timothy Mooney. (2002). The phenomenology reader. Routledge.

Jean-Luc Marion. (2016). Givenness and Revelation. (Stephen E. Lewis، المترجمون) Oxford University Press.

Jeff Yoshimi، Philip Walsh، و Patrick Londen (المحررون). (2023). Horizons of Phenomenology. Springer.

Max van Manen. (1984). Practicing Phenomenological Writing. Phenomenology + Pedagogy، 2(1)، الصفحات 36-69. doi: https://doi.org/10.29173/pandp14931

Neville Greening. (May, 2019). Phenomenological Research Methodology. Scientific Research Journal، الصفحات 88-92. doi:10.31364/SCIRJ/v7.i5.2019.P0519656

Robert Hanna. (August, 2003). Heidegger's Interpretation of Kant: Categories, Imagination, and Temporality. تاريخ الاسترداد 28 August, 2023، من Notre Dame Philosophical Reviews: https://ndpr.nd.edu/reviews/heidegger-s-interpretation-of-kant-categories-imagination-and-temporality/

Samantha Matherne. (2023). Are Artists Phenomenologists? Perspectives from Edith Landmann-Kalischer and Maurice Merleau-Ponty. تأليف Jeff Yoshimi، Philip Walsh، و Patrick Londen (المحررون)، Horizons of Phenomenology, Essays on the State of the Field (الصفحات 247-263). Springer.

Seyyed Hossein Nasr. (2005). The Need for a Sacred Science. UK: Taylor & Francis e-Library.

Seyyed Hossein Nasr. (August, 2015). Interview with Dr Seyyed Hossein Nasr. (Religions: A Scholarly Journal، المحاور) Qatar: QScience.com. doi: https://doi.org/10.5339/rels.2009.commonground.3

Tom Sparrow. (2014). The End of Phenomenology, Metaphysics and the New Realism. Edinburgh University Press.

إدموند هوسرل. (1958). تأملات ديكارتية. (تيسير شيخ الأرض، المترجمون) دار بيروت للطباعة والنشر.

حسن حنفي. (1990). في الفكر الغربي المعاصر (الإصدار الطبعة الرابعة). بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر.

حسن حنفي. (2023). تأويل الظاهريات. مؤسسة هنداوي.

حميد بارسانيا، وهاشم مرتضى محمد رضا. (2022). المنهج الفينومينولوجي وتطبيقاته في العالم الاسلامي.. استتباع التهافت. الاستغراب، 7(27-28)، 91-106.

سارة بكويل. (2019). على مقهى الوجودية. (حسام نايل، المترجمون) دار التنوير.

سارة بكويل. (2019). على مقهى الوجودية، الحرية والوجود وكوكتيلات المشمش. (حسام نايل، المترجمون) بيروت: دار التنوير.

سماح رافع محمد. (1991). الفينومينولوجيا عند هوسرل، دراسة نقدية فى التجديد الفلسفى المعاصر. بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة.

شايع الوقيان. (2020). الوجود والوعي، استئناف الفينومينولوجيا. بيروت: جامعة الكوفة.

عادل مصطفى. (2018). فهم الفهم.. مدخل إلى الهرمنيوطيقا. مؤسسة هنداوي.

عبد القادر بودومة. (2012). المنهج الشامل والإنهاء الفينومينولوجي لجدل الفلسفة والعلم. تأليف نابي بوعلي (المحرر)، حوار الفلسفة والعلم.. سؤال الثبات والتحوّل. الجزائر: منشورات الاختلاف.

عبد القادر بودومة. (فبراير, 2014). الدلالة الفينومينولوجية للمنهج. مجلة لوغوس(2)، 17-30

عبد القادر بوعرفة. (2010). مشكلة المنهج في العلوم الإنسانية. مجلة كلمة(69). تم الاسترداد من http://kalema.net/home/article/list/960

فتحي إنقزو. (2014). قول الأصول؛ هوسرل وفينومينولوجيا التخوم. منشورات الاختلاف.

فتحي إنقزو. (يناير, 2020). قراءة في كتاب العنف والفينومينولوجيا. تاريخ الاسترداد 23 يونيو, 2023، من مؤمنون بلا حدود: https://www.mominoun.com/articles/%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%86%D9%81-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%8A%D9%86%D9%88%D9%85%D9%8A%D9%86%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A7-6969

كلود ليفي شتراوس. (2007). الفكر البرّي (الإصدار الطبعة الثالثة). (نظير جاهل، المترجمون) بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر.

مجموعة مؤلفين. (2012). المنهج الشامل والإنهاء الفينومينولوجي لجدل الفلسفة والعلم. تأليف نابي بوعلي (المحرر)، حوار الفلسفة والعلم.. سؤال الثبات والتحوّل (الصفحات 245-258). الجزائر: منشورات الاختلاف.

محمد العجمي. (2019). داخل العقل النقدي. بيروت: دار سؤال.

محمد سباع. (ديسمبر, 2014). المنهج الفينومينولوجي، المبادئ والتطبيقات. مجلة العلوم الانسانية(42)، 143-168

نوربرت إلياس. (2013). صياد الأساطير. (هاني صالح، المترجمون) اللاذقية: دار الحوار.

([1]) (Moran & Mooney, 2002, p. 1)

([2]) (بوعرفة، 2010)

([3]) (بودومة، 2014)

([4]) (إنقزو، 2014، صفحة 20)، (بودومة، 2014)

([5]) يوجد اختلاف في تحديد خطوات الطريقة الفينومينولوجية عند ممارستها كبحث منهجي؛ بحسب الحقل الذي تطبق فيه، ولكن تم الاعتماد هنا على ورقة Neville Greening، والخطوات هي: Bracketing, Intuiting, Analyzing, Describing (Greening, 2019).

([6]) (Matherne, 2023)

([7]) Mont Sainte-Victoire and the Viaduct of the Arc River Valley, Paul Cézanne, 1882–1885

([8]) (Manen, 1984, p. 39)

([9]) (هوسرل، 1958، صفحة 53)

([10]) (هوسرل، 1958، صفحة 44)

([11]) (بكويل، 2019، صفحة 37)

([12]) (حنفي، 2023، صفحة 32)

([13]) (إنقزو، 2014، الصفحات 99-100)

([14]) (سباع، 2014)

([15]) (بودومة، 2014)

([16]) (بودومة ع.، 2012)

([17]) (مصطفى، 2018، صفحة 93)

([18]) (Fernandez & Crowell, 2021)

([19]) (شتراوس، 2007، صفحة 295)

([20]) (بكويل، على مقهى الوجودية، 2019، صفحة 37)

([21]) (إلياس، 2013، صفحة 198)

([22]) (حنفي، في الفكر الغربي المعاصر، 1990، صفحة 269)

([23]) يمكن على سبيل المثال لا الحصر مراجعة مقالة حميد بارسانيا في مجلة الاستغراب بعنوان المنهج الفينومينولوجي وتطبيقاته في العالم الإسلامي: استتباع التهافت. العدد 28+29.

([24]) (Interview with Dr Seyyed Hossein Nasr, 2015)

([25]) (Nasr S. , 2005, p. 55)

([26]) (سماح رافع محمد، 1991)

([27]) (Moran & Mooney, 2002, p. 2)

([28]) (إنقزو، قراءة في كتاب العنف والفينومينولوجيا، 2020)

([29]) (الوقيان، 2020، صفحة 30)

([30]) يُنظر إلى المقدمة التي كتبها رامونا فوتياد وديفد ياسبر لكتاب جان جاك ماريون؛ العطاء والوحي (Marion, 2016, pp. xiii-xiv)

([31]) (Hanna, 2003)

([32]) (Moran & Mooney, 2002, p. 66)

([33]) (Yoshimi, Walsh, & Londen, 2023, p. 7)

([34]) (Sparrow, 2014, p. 14)

([35]) (Sparrow, 2014, p. 4)

([36]) يمكن العودة إلى كتابنا "داخل العقل النقدي" حيث تحدثتُ مطوّلا عن المنهج والأسلوب بالصفحات (العجمي، 2019، الصفحات 171-186).