الكنيسة والساحرات
فئة : مقالات
الكنيسة والساحرات
صدر مؤخراً فيلم الخيال العلمي المنتظر In the last lands من بطولة النجمين باتيستا وميلا جوفيفيتش، من إخراج بول أنديرسون صاحب سلسلة الأكشن الشهيرة Resident Evil، وتأليف المبدع جورج مارتن الذي كتب المسلسل الشهير Game of Thrones.
تدور قصة الفيلم حول انقراض الجنس البشري مستقبلاً نتيجة الحروب النووية وتدهور النظام البيئي، ومن بقي منهم تجمعوا للعيش في مدينة واحدة يحكمها ديكتاتور بالحديد والنار، إضافة إلى وجود سلطة دينيّة مسيحيّة لا تقّل عنفاً عنه، ورغم الخلاف بينهما من أجل من له السلطة الأقوى، إلاّ أنّهما متحالفان في استخدام القساوة ضد الثوار والمعارضين؛ إذ تتّم الإعدامات في الشوارع بعد إقامة محاكم تفتيش دينيّة صوريّة.
أعاد الفيلم التسليط على ظاهرة ملاحقة الكنيسة للساحرات والمتهمين بالتجديف والزندقة خلال القرون الوسطى، خاصة وأنّ المخرج استخدم نفس ألبسة رجال الدين أثناء ممارسة حربهم المقدسّة هذه لحماية الإيمان المسيحي، كما حافظ على نفس خطابهم الديني ومصطلحاتهم التي حاكموا بها المتهمين، ونفس طرائق الإعدام بتعليق حبال المشانق وأوتاد المحارق في الشوارع العامة أمام الجميع، ولعّل هذه المنهجية المتوحشة التي مارستها الكنيسة تحت ظّل الصليب هي التي أخضعت الناس لهم لقرون طويلة، رغم استبدادها وطغيانها، ومنه فلم يُعِد هذا الفيلم إحياء التاريخ فقط، بل أعاد إثارة مجموعة من التساؤلات والإشكاليات، والتي من أبرزها: لماذا تحوّل اضطهاد السلطات الكنسيّة من اليهود والزنادقة إلى العنصر الأنثوي تحت مسمى الساحرات؟ ولماذا أصلاً يرى النظام الديني المسيحي بصفة خاصة، وأنظمة أديان الشرق الأوسط بصفة عامة في المرأة الدونية جسديًّا وعقليًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا وحتى دينيًّا؟
لقد أعلنت الكنيسة عن قانون الإيمان بوجود السحر واعتباره عملاً شيطانيًّا يستوجب لصاحبه الموت دون قبول توبته سنة 906م، ومنذ هذا التاريخ بدأت الحملة الصليبيّة لمحاربة السحرة والمشعوذين، صحيح أنّ معظم رجال الدين كانت معارفهم العلميّة محدودة جدًّا وتصديقهم للخرافات هو الغالب، وهذا ما ساهم في توسع مساحة المتخيّل المسيحيّ عن السحر، ومنه بدأت عمليات تعذيب وحشيّة لآلاف النساء بحثاً عن الاعتراف بتحليقهنّ في السّماء، أو تحولهنّ إلى حيوانات، أو ممارستهنّ الجنس مع الشياطين، أو استخدام السحر الأسود الذي يتسبب في الأمراض والأوبئة والجفاف وقلة منتوج المحاصيل ...إلخ، وهذا الجهل المعرفي لم يتوقف عند الاعتقاد بوجود الشيطان ككائن حقيقي يوسوس للساحرات، بل تجاوز إلى مرحلة الإيمان بوجود اتصال مادي وواقعي بينه وبينهنّ، وهكذا تمّ ربط كل متهمة بالسحر بأخطر شرّ في الكون والعدو الأبدي لله والبشر، وهذا النوع من شيطنة النساء نزع عنهنّ ثوب الإنسانية في نظر الكنيسة وعوام الناس، وصار التعامل معهنّ بلا رحمة؛ لأنّ هزيمة إبليس لا تكون إلاّ بإبادة شاملة لأعوانه وأتباعه، وهو ما يفسّر استخدام المحققين أدوات تعذيب بشعة لانتزاع اعتراف كلّ من تُتّهم بممارسة السحر، وغالباً ما تنتهي العمليّة بالاعتراف نتيجة هول الألم، بل حتى أطفالهنّ تعرضوا إلى التعذيب للحصول على شهادات تدين أمهاتهم من جهة، ولتطهير أجسادهم من أثر الشياطين كما تروي سجلات الكثير من الكنائس الأوروبية من جهة أخرى. وكتحصيل حاصل، تمكّن القساوسة والقضاة المسيحيّين من خلق عدّو وهميّ مرعب (الساحرات)، ونشر الكثير من القصص الخيالية عنه جعلت الناس يخشونه، ولا يرون نجاتهم منه سوى بطاعة رجال الكنيسة وخدمتهم، كما أنّ وثوق الناس في قادتهم الدينيّين والسياسيّين أطال من عمر قصص السحرة ومحاربة الكنيسة لهم، وساهم بشكل أو بآخر في زيادة التماسك الديني والسياسي القومي؛ لأنّ الناس يتّحدون لمواجهة عدّو يريد هلاكهم.
لا يمكن إنكار أثر الجهل والخرافة في هذه الظاهرة كما أشرنا سابقاً، إلاّ أنّ الاضطهاد المسيحيّ للإناث موجود أصلاً في الكتابات الكنسيّة الأولى، ولعلّ السبب كون المسيحيّة مشتقة من اليهودية ومرتبطة بأسفارها ارتباطاً عضويًّا؛ إذ عرفت المرأة ذروة التحقير من النظام الكهنوتي العبراني نتيجة قصة آدم وحواء التوراتية، حيث حَمَّل الكهنة اليهود حواء خطيئة الأكل من الشجرة المحرّمة والطرد من الجنّة، وكعقوبة لها عن هذه المعصية، صار الرجل سيداً عليها إلى الأبد، جاء في التوراة: "وقال للمرأة: تكثيرا أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادا. وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك (16) وقال لآدم: لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلا: لا تأكل منها، ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك (17)" [سفر التكوين: الإصحاح 03]، ومنه ترسّخ في العقل اليهودي فكرة تحميل حواء مسؤوليّة الطرد من الجنّة واعتبارها سبباً للعنة الربانيّة، ورجساً شيطانياً، بل وجعلوا هذه الخطيئة الملعونة أبديّة تنتقل بالوراثة إلى كل بنات حواء "هأَنَذَا بِالإِثْمِ صُوِّرْتُ، وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي" [سفر المزامير: الإصحاح 51/05]. ومنه، فإنّ الفكر الديني اليهودي وضع المرأة في منزلة أقّل من منزلة الرجل وتابعة له، وصارت هذه الفكرة مقدسّة لاعتبارها مشيئة الله، ولهذا تدعو المرأة اليهودية في صلاتها "أحمدك يا رب لأنك خلقتني كما تريد". أما الرجل اليهودي، فيسأل في صلاته "أحمدك يا ربّ لأنك لم تخلقني امرأة"، وبالتالي لا غرابة في اعتبار تبعيّة النساء للرجال في المسيحيّة التقليدية من الأركان الإيمانية، إلاّ أنّ هذا أيضاً لا يكفي لتفسير ذلك العنف الشديد الموجّه للنساء تحت تهمة الساحرات في المجتمع المسيحي، بل هذا الاضطهاد وإن كان مبرراً دينيًّا وسياسيًّا، فهو ليس سوى قمع للمرأة لجنسها الأنثوي misogyne، فقد كان حب السيدة مريم العذراء تهمة تعاقب عليها محاكم التفتيش. أما مريم المجدلية التي تعّد من أخلص تلاميذ السيد المسيح، فقد شيطنتها الكنيسة، ونسبت إليها صفات العهر والدعارة، رغم أنّ الأناجيل القانونية ذكرتها كثيراً ولم تصفها بهكذا صفات، ورغم أنّ الكنيسة حالياً وخاصة الكاثوليكية جعلت من العذراء شخصية مهمة في النسق المسيحيّ، كما برّأت المجدلية من تهم الخطيئة والدنس ومنحتها لقب القديسّة، إلاّ أنّ هذا لا يمنع من الحفريات واكتشاف سبب السعار المسيحي الذكوري قديماً على كلّ ما هو أنثوي؛ لأنّ مقاربته بواقعنا لا يزال موجوداً، والدليل لحد الآن فالرجال يهيمنون على هرمية السلطة الدينية الكنسيّة. أما النساء، فلا يتجاوزن مرحلة الرهبنة، ويُحرمن من مناصب القيادة والمسؤولية عمداً، فلا وجود لسلطة مشتركة بين الجنسين، وحتى على مستوى الجماعات والأخويّات الأصوليّة أو في المنازل المحافظة، فلا بديل عن الالتزام بالتسلسل الهرمي (هيمنة الذكور).
تشير الكثير من الكتابات المسيحيّة التي تعود إلى العصور الوسطى إلى وجود كراهية تجاه العلاقات الجنسيّة، ولعّل هذا ما تحوّل إلى حقد نحو النساء نظراً للدخول في صراع مع غرائز طبيعية بيولوجية، فحياة العزوبية لجمع من الذكور في مكان محدد طيلة حياتهم باسم الإيمان المسيحي والحب اليسوعي بلا شك سيخلق لأغلبهم أمراض نفسيّة (الهوس الجنسي)، ومنه صار تركيز علماء اللاهوت وفلاسفتهم على النساء وكيفيّة التغلّب عليهن لأنّهن أكبر عائق روحاني، وأهّم سبب يُبعد الرجل عن معرفة الله انطلاقاً من فكرة (عقيدة) أنّ العلاقة الجنسيّة أو حتى التفكير فيها وتخيّلها هي شهوة نجسة تمنع الاتحاد مع الله، وهو ما يفسّر اهتمام هؤلاء الرجال المؤمنين بتعذيب الساحرات المزعومات على أجهزتهن التناسليّة وصدورهنّ تحت شعار البحث عن علامة الشيطان، وإن كان هذا الإيذاء الجنسي في حقيقته سوى بسبب جاذبية هذه الأجهزة للرجل، وهوسه بها، ما يدفعه إلى الانتقام منها، وكأنّ الدافع الحقيقي لهذه المطاردة بين الرهبان والنساء البحث عن اعترافهنّ بأنهنّ مثيرات جنسيًّا، ويتسببن في إثارة المؤمنين جنسيًّا، رغم عزلتهم الروحيّة الرهبانية، أو بتعبير آخر، فإن اضطهاد الساحرات كان إسقاطاً لاضطهاد المرأة والحياة الجنسية بصفة عامة؛ فالكهنة كانوا يعانون الهواجس الجنسية، وبما أنّ معتقدهم الديني يمنعهم من ممارستها، فقد قاموا بتحميل المرأة المسؤولية عن هذه الرغبة المثيرة التي تمكّنت منهم؛ لأنّهم يعيشون عالم القداسة والمثالية ويشعرون بالأفضلية من البقيّة، فلا يمكن أن يكون الخطأ والفشل منهم، وهكذا ربطوها بالشيطان والشعوذة والشرّ، وصار هذا التهديد المتخيّل ذريعة لممارسة ساديتهم وإشباع مكبوتاتهم الجنسية، كما صارت الساحرة كبش فداء.
ينتهي الفيلم بانتصار الساحرة والثوار على رجال السلطتين الدينية والسياسية، وإسقاط نظامهما الحاكم المستبد، وكأنّ بالمخرج يشير إلى ما يحدث الآن في الغرب ليس فقط من انقلاب على التقاليد الأبوية المسيحيّة، بل ظهور إيديولوجيات كنسيّة مؤخراً تبحث في إعادة تعريف وتصنيف البشر جنسيًّا.