المجال السوسيولوجي: مجال عُلماء الاجتماع


فئة :  مقالات

المجال السوسيولوجي:  مجال عُلماء الاجتماع

المجال السوسيولوجي:

مجال عُلماء الاجتماع

مقدمة

ما المجال l’espace؟ قد يبدو هذا السؤال فلسفياً أكثر منه سؤالاً سوسيولوجياً في العُمق؛ لأن الأمر يتعلق بسؤال عام ومفتوح. فالفلسفة تعرِّف وتحدِّد، إنها تُشكل بمعنى ما عِلماً للحدود والتعريفات والمفاهيم، كما هو شأن تحديدها أو تعريفها لمفهوم المجال: المجال الفلسفي (مجال الفلاسفة المعاصرين: التعامل مع المجال بوصفه فضاء سياسياً للنقاش العمومي).

لكن سرعان ما سيتلاشى الطابع الفلسفي العام لذلك السؤال، عندما نحدِّده في مجال معرفي مخصوص من مجالات العلوم الاجتماعية: ما المجال السوسيولوجي؟ مجال علماء الاجتماع. أوليس لعلماء الاجتماع مجالهم المخصوص؟ مع العلم أن الإجابة عن هذا السؤال ستكون من داخل الحقل السوسيولوجي، وليس من خارجه؛ إذ يتعامل علماء الاجتماع مع المجال بصيغة التعدد، أيْ بوصفه مجالات، قد تتضمن الفضاء السياسي (مجال الفلسفة السياسية والأخلاقية) في حد ذاته، باعتباره مجالاً من بين مجالات اجتماعية عدة.

انطلاقاً من المنظور السوسيولوجي للمجال، لا يُمكن اختزاله إلى معطى طبيعي أو جغرافي جاهز، ولا إلى تاريخ مكاني. فالمجال ليس مجرد مقولة فلسفية، وإنما هو في المقام الأول منتوج اجتماعي؛ علاقات اجتماعية. إنه مجال اجتماعي: المفهوم السوسيولوجي للمجال، فهو ليس مفهوماً أو موضوعاً عرضياً لسوسيولوجية المجال (والزمان) وحسب، بقدر ما يمثل شرطاً ضرورياً لأي ممارسة يراد لها أن تكون سوسيولوجية من جهة ويمثل مفهوماً سوسيولوجياً مُحلِّلاً analyseur يتخلَّل أي تحليل يريد له صاحبه أنْ يكون سوسيولوجياً من جهة ثانية.

لا ريب في أن تاريخ سوسيولوجية المجال هو بشكل أو بآخر تاريخ لمفهوم المجال)المجال الاجتماعي(. فللإجابة عن سؤال المقال موضوع التحليل) المجال السوسيولوجي: مجال عُلماء الاجتماع(، سأباشر في لحظة أولى رصد بعض الإرهاصات السوسيولوجية السابقة على تأسيس ميدان سوسيولوجية المجال بوصفه حقلاً سوسيولوجياً مخصوصاً؛ وذلك بالتوقف بعجالة عند ثلاثة مفاهيم سوسيولوجية أولية للمجال، إنْ لم تكن أربعة مفاهيم، وصولاً إلى اللحظة التأسيسية لمجال علماء الاجتماع لدى عالمَي اجتماع مُعينين هما مانويل كاستلز Manuel Castells وهنري لوفيفر Henri Lefebvre.

1. إرهاصات أولية

ما قبل سوسيولوجية المجال

يُشكل المجال موضوعاً للعديد من العلوم، كما هو شأن العلوم الطبيعية التي أضحت تنظر إلى المجال في نسبيته وتعدده؛ أي التعامل معه بوصفه مجالات عدة: تعدد مستويات وأفضية المجال نفسه في حركته وتغيره المستمر؛ وذلك بعدما كانت تلك العلوم -العلوم الأخرى- تنظر إلى المجال في إطلاقه وثباته؛ إذ يخضع لقوانين ثابتة ومنتظمة. ينطبق ذلك على المجال الفيزيائي (مجال علماء الفيزياء) كما ينطبق على المجال الرياضي (مجال علماء الرياضيات)، وغيرها من المجالات الأخرى: مجالات العُلماء والأدباء والفلاسفة.

إذا وضعنا جانباً مجال العلوم الأخرى، فإن المجال يشكل كذلك موضوعا ًخصباً للعلوم الاجتماعية بمختلف حقولها وميادينها. وتعد الجغرافيا والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا من بين أهم تلك العلوم التي تعنى بدراسة المجال، مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف منطقها الإبستيمي مع العلوم الأخرى من ناحية، وكذا اختلافها فيما بينها من ناحية أخرى. فلكل علم من العلوم الاجتماعية منظوره الخاص للمجال، يميزه عن غيره من ميادين العلوم الاجتماعية، مع تسجيل التداخل بينها في دراسة المجال، حسب المنطلقات والخلفيات الإبستيمولوجية والنظرية والمنهجية لكل حقل مخصوص.

ينبغي علينا الاعتراف في هذا المقام، بأن السوسيولوجيا تأخرت كثيراً في تَوْضيعها للمجال سوسيولوجياً وتنظيره؛ أي التعامل مع المجال كموضوع لسوسيولوجية مخصوصة هي سوسيولوجية المجال. شأنها في ذلك شأن الكثير من التخصصات السوسيولوجية والحقول المُستحدثة، والتي لم تولد إلا بعد الحرب العالمية الثانية.

أما سوسيولوجية المجال كحقل مخصوص، فهي لم تتبلور بوصفها حقلاً- معرفياً- سوسيولوجياً قائماً بذاته إلا في نهاية ستينيات القرن المنصرم (القرن العشرين(؛ وذلك على عكس علوم اجتماعية أخرى كما هو شأن الجغرافيا: جُغرافية المجال.

لذا أتحدث هنا عن إرهاصات سوسيولوجية، أكثر من نظريات سوسيولوجية للمجال.

لقد حظي المجال باهتمام ملحوظ لدى رواد ما يسمى في تأريخ الأفكار السوسيولوجية المدرسي- السائد- بالسوسيولوجية الكلاسيكية: من إميل دوركهايم Émile Durkheim إلى مارسيل موس Marcel Mauss، ومن كارل ماركس Karl Marx إلى ماكس فيبر Max Weber؛ وذلك بغض النظر عن جورج زيمل Georg Simmel وموريس هالبفاكس Maurice Halbwachs... وغيرهم كثير.

لعل إرهاصات هؤلاء ومساهماتهم السوسيولوجية المجالية، ما قبل التأسيس الفعلي لسوسيولوجية المجال، لا تخرج عن التصنيف الإبستيمولوجي لأوغست كونت Auguste Comte - في دروس الفلسفة الوضعية- والذي قسم فيه ميدان السوسيولوجيا إلى قسميْن: الفصل بين السوسيولوجية النظامية والسوسيولوجية الحركية، أو بلغة مستحدثة: التمييز بين السوسيولوجية الوضعية والسوسيولوجية التأويلية.

إننا أمام مفهومين مُغايريْن للمجال الاجتماعي، إنْ لم نكن أمام ثلاثة مفاهيم أساسية، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار تصور جورج زيمل للمجال:

1- أما المفهوم الأول، فهو يتعلق بالنظر إلى المجال بوصفه مورفولوجية اجتماعية: يضم هذا المجال السوسيولوجي إرهاصات أو مساهمات إميل دوركهايم وموريس هالبفاكس ومارسيل موس، وإن كان لهذين الأخيرين الفضل الكبير في تأسيس ذلك المفهوم وتطويره.

2- وأما المفهوم الثاني، فهو مفهوم تاريخاني- اجتماعي: يقع هذا المفهوم في وجهين متناقضين. أما الأول، فهو مجال مادي تاريخي (ماركسي(، وأما الثاني، فهو تاريخي- ثقافي (فيبيري(.

3- وأما المفهوم الثالث، فهو مفهوم شكلاني- تفاعلي: ينفرد زيمل بهذا المفهوم؛ لأنه يقوم على سوسيولوجيته الشكلانية- التفاعلية.

ولأسمّي هذا المفهوم الأخير بمفهوم زيمل السوسيولوجي للمجال، والذي يُحيلنا إلى مساهمة ما ينعت بمدرسة شيكاغو لعلم الاجتماع (علم الاجتماع الحضري(، والتي تعد بحق المساهمة السوسيولوجية الأكثر فعالية، قبل مساهمة هنري لوفيفر.

كي أكون صريحاً: إن أول محاولة تفسيرية مجالية مباشرة، كانت من طرف رواد هذه "المدرسة" السوسيولوجية الحضرية. ستلاحظ معي أن أول محاولة سوسيولوجية مُباشرة وصريحة وفعلية، ارتبطت بنشأة ميدان خصب كالسوسيولوجية الحضرية.

تجدر الإشارة إلى أن جورج زيمل، يُعتبر بالنسبة لهذه "المدرسة"، أو على الأقل بالنسبة إلى مؤرخيها، بمثابة ممهد فعلي لتقليدها السوسيولوجي، خاصة إذا أخذنا في الحُسبان مقاله المعنون ب: "استطرادات حول الغريب" (Digressions sur l’étranger) وكذا مقاله "المدن الميتروبولية والذهنية" (Métropoles et mentalité).

يرتبط الأمر في هذا المقام بنصين مؤسسين لما يصطلح عليه بالإيكولوجية الحضرية l’écologie urbaine، والتي وُلدت من رحم المدرسة المعنية (مدرسة شيكاغو(؛ فإذا كان هناك من نموذج تفسيري يوحد هذه المدرسة، خاصة إذا وضعنا جانباً فكرة الثقافة الحضرية، فهو يكمن في "الإيكولوجية الحضرية" (النظام الإيكولوجي؛ التنظيم الاجتماعي للمجال(.

إذا كان هناك من مفهوم سوسيولوجي للمجال يمكن استشفافه من تلك المدرسة المعنية، فهو: المفهوم الإيكولوجي الحضري، لكنه لم يرق إلى نظرية سوسيولوجية للمجال؛ إذ كان همها الأساس هو المدينة ولا شيء غير المدينة، أو بالأحرى المجال الحضري.

بعد هذا الاستطراد الوجيز، سيجد القارئ نفسه أمام أربعة مفاهيم سوسيولوجية أساسية للمجال: المفهوم المورفولوجي، فالمفهوم التاريخاني، والمفهوم الشكلاني - التفاعلي ثم المفهوم الإيكولوجي الحضري. وغيرها من المفاهيم التي تمثل إلى حد كبير القاعدة السوسيولوجية لفكرة مجال عُلماء الاجتماع قبل التأسيس الفعلي لسوسيولوجية المجال، كما هو حال المفهوم السوسيولوجي لمانويل كاستلز والمفهوم السوسيولوجي لهنري لوفيفر، على سبيل المثال لا الحصر. فهناك أمثلة كثيرة لا تقل أهمية: من المجال الاجتماعي لبيير بورديو Pierre Bourdieu إلى اللا أمكنة لمارك أوجي Marc Augé.

2. مجال عُلماء الاجتماع:

سوسيولوجية المجال

)من مجال مانويل كاستلز إلى مجال هنري لوفيفر(

على الرغم من أهمية الإرهاصات المفهومية للمجال السوسيولوجي سالفة الذكر، وعلى أهمية أصالتها الفكرية والعلمية، فإنها لم توفق في صياغة نظرية سوسيولوجية للمجال، ومن ثمة لم تتمكن من تأسيس سوسيولوجية مخصوصة للمجال كحقل سوسيولوجي مخصوص؛ ذلك الحقل الذي لم يولد إلا في أحضان السوسيولوجية الحضرية الفرنسية، والتي وُلدت بدورها على أنقاض السوسيولوجية الحضرية لمدرسة شيكاغو. لذلك أشرتُ سابقاً إلى المفهوم السوسيولوجي للمجال لدى مدرسة شيكاغو.

ويعد النقد الجذري لمانويل كاستلز، من أعنف الانتقادات التي وجهت إليها. إنه نقاش حامي الوطيس؛ إذ أسفر عن تأسيس تقليد سوسيولوجي حضري فرنسي متفرد.

أ. في مقاله المؤسس لهذا النقد (النظرية والأدلوجة في السوسيولوجية الحضرية، 1969)، يَعتبر كاستلز أن السوسيولوجية الحضرية التي جاءت بها مدرسة شيكاغو بمثابة أدلوجة محضة، كانت تستجيب لوظيفة اجتماعية معينة، وهي وظيفة انتقلت من المساعدة الاجتماعية إلى التكنوقراطية. ولاسيما أن تلك الأدلوجة التي تقدم نفسها كعلم اجتماعي تفتقد في نظره إلى موضوع نظري وموضوع واقعي محدديْن، كما أن الثقافة الحضرية التي يُنظِّر لها روادها ليست أكثر من أسطورة. بعبارة أخرى: إنها تمثل أدلوجة للحداثة، أدلوجة رأسمالية- ليبرالية وإدماجيّة، فهي شكل جديد من أشكال التمركز- الإثني- الغربي حول الذات.

من هذا المنطلق، يتحدث كاستلز عن نهاية السوسيولوجية الحضرية، ويدعونا إلى إعادة صياغة سوسيولوجية للتصميم/ التخطيط الحضري، كبديل علمي ونظري عن السوسيولوجية الحضرية أو بالأحرى كعملية لإعادة تعريفها. إذا كان هناك من إرث أساسي للسوسيولوجية الحضرية، فهو يكمن في نهج التحليل التاريخي الخاص بدراسة التخطيط الحضري بما هو تخطيط مجالي بالضرورة.

يقترح علينا كاستلز بهذا الصدد سوسيولوجية تقوم على التحليل السوسيولوجي لإنتاج المجال أو سوسيولوجية إنتاج المجال: تحليل مجالي مُفسِّر، أي التعامل مع المجال كعامل مُفسر. لذا ينبغي في نظره تحليل تحولات المجال باعتبارها عنصراً تعريفياً لتحولات البنية الاجتماعية. فالمنظومة الحضرية عنده ليست أكثر من بنية مجالية، كما أن البنية المجالية هي تمفصل مجالي محدد للعناصر الأساسية للبنية الاجتماعية.

إننا أمام علامة نظرية سوسيولوجية فارقة في التاريخ السوسيولوجي للمجال: لم يعد المجال مجرد موضوع هامشي أو عرضي ضمن موضوعات السوسيولوجية الكلاسيكية العامة، بل صار موضوعاً مركزياً، إن لم نقل آل إلى نموذج تفسيري أو بالأحرى برنامج علمي بديل للسوسيولوجية الحضرية. لم يتوقف كاستلز عند هذا الحد، بل تمكن من صياغة مُعادلة سوسيولوجية مجالية للمنظومة الحضرية بوصفها منظومة مجالية، حددها في أربعة متغيرات أو عناصر أساسية محددة ومفسرة، ألا وهي: الإنتاج؛ الاستهلاك؛ التبادل؛ التدبير.

- الإنتاج: ويشمل البعد المجالي لمجموعة من الممارسات الإنتاجية للخيرات (المصانع) والخدمات (المكاتب) والمعلومات (مراكز الإعلام).

- الاستهلاك: يضم البعد المجالي للممارسات الاستهلاكية المتعلقة بالتملك الاجتماعي الجماعي والفردي.

- التبادل: يُحيل إلى البعد المجالي التبادلي للممارسات القائمة بين مجالي الإنتاج والاستهلاك أو في صلب أحدهما.

- التدبير: يمثل عملية تنظيم تلك الأبعاد المجالية من الإنتاج والاستهلاك إلى التبادل، والتي تشكل في نهاية المطاف القاعدة المحورية للتخطيط الحضري.

ب. لم يكن نقد كاستلز آنف الذكر مقتصراً على السوسيولوجية الحضرية لمدرسة شيكاغو، بل على النقاشات السائدة آنذاك، في ستينيات القرن المنصرم، حول السوسيولوجية الحضرية، باعتبارها سوسيولوجية عامة، وليست مجرد ميدان تخصصي من ميادين السوسيولوجيا.

غير أن نقده ذاك ساهم بشكل أو بآخر في وضع أرضية صلبة لتأسيس سوسيولوجية المجال، مثله في ذلك مثل هنري لوفيفر، وإنْ كان هذا الأخير قد تمكن من تطوير نظرية ليس في سوسيولوجية المجال وحسب، بل في علم المجال بصفة عامة، مساهماً بذلك في تأسيس علم للمجال ماركسي النزعة.

لا أعرف إن كان من المصادفة بمكان أن يكون تأسيس سوسيولوجية المجال ماركسياً- بنيوياً، ليس من حيث الأيديولوجية، بل من حيث المنظور والمنهج المادي التاريخي، لكن ما أعرفه هو أن مساهمتهما، وبدرجة أكثر مساهمة لوفيفر، فتحت الباب أمام علماء الاجتماع للتفسير السوسيولوجي المجالي.

وإن كانت مساهمة لوفيفر مساوقة إلى حد ما للنقاش سالف الذكر، خاصة في كتابه المشهور "الحق في المدينة" (1968)، وهو يحظى بأسبقية في النشر مقارنة بمقال كاستلز المعني وبكتابه اللاحق "المسألة الحضرية" (1972)، فإن مساهمته المتينة في سوسيولوجية المجال جاءت في كتابه "إنتاج المجال" (1974)، والذي يعد بحق، بمثابة بيان لسوسيولوجية المجال وعلم المجال بصفة عامة.

مع العلم أن مفهوم الحَضَر l’urbain للوفيفر، مُساهمته الأصيلة في الدراسات الحضرية لكيلا أقول السوسيولوجية الحضرية، يظل إلى اليَوم يتمتع بخصوبة مفهومية مركزية في السوسيولوجيا، إلى درجة الحديث عن سوسيولوجية الحضَر بدل السوسيولوجية الحضرية؛ ذلك أن الحَضر عنده ليس هو المجال الحضري بمعناه المعهود، بقدر ما يعبر عن لحظة مجتمعية جديدة، انفجرت فيها المدينة في هوامشها، خاصة مع التعميم الشامل للتمدين.

يتعلق الأمر هنا بتشكيلة اجتماعية اقتصادية جديدة: من الحاضرة (المدينة التجارية(، مروراً بالمدينة الحديثة (المدينة الصناعية) وصولاً إلى الحَضر (نمط إنتاج حضري). إن الحَضر عنده يماثل ما يسمى اليوم بالمجتمع ما بعد الصناعي.

بغض النظر عن مساهمة كاستلز، لم يصبح المجال كموضوع مباشر للسوسيولوجيا إلا مع لوفيفر. صحيح أن هناك العديد من الأعمال السوسيولوجية التي تضمنت أفكاراً مهمة حول مفهوم المجال توسم في التأريخ السوسيولوجي المدرسي بالإرهاصات، لكنها لم ترق إلى مستوى النظرية السوسيولوجية.

ليس المجال) والزمن (عند لوفيفر شيئا كباقي الأشياء، مجرد معطى طبيعي وجاهز. إنه ليس طبيعة ثابتة أو جامدة، بل هو عبارة عن منتوج produit بالدرجة الأولى. وكل منتوج ينتج بالضرورة. على غرار ذلك، لا يمكن اعتبار إنتاج المجال كإنتاج موضوعات وأشياء ووقائع طبيعية صرفة؛ فالطبيعة لا تنتج، بقدر ما تخلق. إن فعل الإنسان في الطبيعة الأولى ينتج طبيعة ثانية (المجال الاجتماعي بوصفه طبيعة ثانية). وما يجعل من المجال بمثابة منتوج هو تأثير فعل المجتمعات والثقافات في الطبيعة الأولى.

إذا كان المجال عبارة عن منتوج، وفعل الإنتاج نفسه يفرض تدخل كل من الإنسان والمجتمع، فإن المجال الاجتماعي هو منتوج اجتماعي بالضرورة. إنه يتضمن علاقات اجتماعية. إن المجال هو مصدر للعلاقات الاجتماعية. لهذا هناك علاقة جدلية بين المجتمع والمجال. وبالتالي، فإن المجتمع ينتج ذاته من خلال إنتاجه للمجال.

بحسب لوفيفر، يتحدد المجال بأبعاده. إذ يمكن التمييز في المجال عنده بين ثلاثة أبعاد أساسية:

- المجال المصمَّم le conçu؛

- المجال المُدرك le perçu؛

- المجال المَعيش le vécu.

تقع تلك الأبعاد الثلاثة للمجال أو ثالوث المجال فيما بين تمثلات المجال les représentations de l’espace والممارسة المجالية la pratique spatiale ومجالات التمثل les espaces de representations.

تتعين تمثلات المجال في المجال المصمم، كما يصممه علماء التصميم أو التخطيط الحضري (تصميم المدن، التجمعات السكنية، الأحياء، الطرق، النقل ...)، المتخصِّصون في التعمير، من مهندسين ووكلاء إلى تكنوقراطيين؛ وذلك بتوجيه مؤدلج، مما يجعل من المجال المصمم هو المجال المهيمن في المجتمع (نمط الإنتاج). ترتبط تمثلات المجال بعلاقات الإنتاج. فالمجال المصمم هو المجال المفكر والمعقلن، أو الرسمي، الذي ينتج الأطر المادية والحياة الاجتماعية. يتعلق الأمر إذن بأدلوجة المجال؛ أي ما يسمى في الأدبيات الماركسية بالبنية الفوقية.

أما مجالات التمثل، فهي تحتوي على المجال المعيش، هي مجالات السكان والمستعملين، بما في ذلك الصور والرموز المصاحبة لذلك الاستعمال. إنها تتضمن المجال الفيزيائي والاستعمالات الرمزية لموضوعاته. باختصار شديد: تحيل مجالات التمثل إلى استعمالات السكان للمجال، فتجاربهم، وكذا صورهم المشكلة حول هذا المجال. ماذا عن الممارسة المجالية؟ إنها تمثل المجال المدرك حسياً، وهو يمثل الحياة الاعتيادية؛ أي حقيقة الحياة اليومية المعيشة: الواقع الاجتماعي. إنه المجال الذي يدرسه عالِم الاجتماع.

لعل مكونات هذا الثالوث المجالي (المصمم، فالمدرك، والمعيش) وما تقوم عليه من علاقة جدلية، فيما بينها من ناحية وفيما بينها وبين أشكال المجال (المجال الفيزيائي، والمجال العقلي، والمجال الاجتماعي) من ناحية أخرى، هي التي تشكل وتنتج صيرورة المجال كمنتوج: نظرية المجال لدى لوفيفر. ذلك ما يجعل من المجال، تجاوز كونه مجرد مفهوم نظري أو إجرائي، إلى اعتباره مفهوماً محللاً ومفسراً.

طبعاً لم تنته سوسيولوجية المجال مع لوفيفر، لكن نظريته تلك تعد أرضية صلبة للامتدادات السوسيولوجية المعاصرة للمجال؛ وذلك بتشغيلها أو تفعيلها في أبحاث سوسيولوجية ميدانية دقيقة وتطعيمها بأنثروبولوجية المجال؛ لأن الأنثروبولوجيا اليوم أضحت تفرض نفسها أكثر من أي وقت مضى. الكفيل بتحريرها- نظرية لوفيفر- من بنيويتها المتخشبة، والتي تحول بينها وبين دراسات المجالات الاجتماعية الملموسة. مع ذلك، تظل نظرية لوفيفر كما قلت أرضية نظرية صلبة، أرخت بظلالها على السوسيولوجية الحالية، إلى درجة أضحت فيها اليوم سوسيولوجية المجال بمثابة سوسيولوجية عامة، تتخلل كل ميدان سوسيولوجي وكل ممارسة سوسيولوجية.

خاتمة

على سبيل الختم، يمكن القول إن كل شيء يشكله الإنسان ويفعله مرتبط بتجربة المجال؛ فلا وجود اجتماعي أو ثقافي خارج المجال والزمن. لهذا، فإن التجربة الاجتماعية والثقافية هي تجربة مجالية في العمق. وعلى هذا النحو، أصبح المجال هو الموضوع المركزي للسوسيولوجيا، كما ينبهنا إلى ذلك جون ريمي Jean Remy صاحب كتاب "المجال: موضوع مركزي لعلم الاجتماع" (L'espace, un objet central de la sociologie)؛ لأن مفهوم المجال صار مركزياً في كل ممارسة سوسيولوجية.

إن هذا المقال ليس أكثر من مساهمة موجزة في تسليط الضوء على أهمية المجال بالنسبة إلى علم الاجتماع؛ فهو ليس أكثر من مقدمة مكتنزة إلى مفهوم المجال السوسيولوجي كما يتصوره علماء الاجتماع.

 

المراجع

Augé, Marc. Non lieux: introduction à une anthropologie de la surmodernité. Paris: Seuil, 1992

Bourdieu, Pierre. La distinction: Critique sociale du jugement. Paris: Les Éditions de Minuit, 1979

Castells, Manuel‎. Sociologie de l'espace industriel. Paris: Editions Anthropos, 1975

Castells, Manuel. «Théorie et idéologie en sociologie urbaine». In: Sociologie et sociétés. Montréal: Les Presses de l’Université de Montréal. vol. 1, no 2, novembre 1969, pp. 171-192

Comte, Auguste. Cours de philosophie positive. In: La science sociale. Paris: Éditions Gallimard, 1972

Durkheim, Émile. De la division du travail social. Paris: Puf, 2013

Hall, E. T. La dimension cachée. Paris: Editions du Seuil, 1971

Halbwachs, Maurice. La morphologie sociale. Paris: Armand Colin, 1970

Lefebvre, Henri. Le retour de la dialectique: 12 mots clefs. Paris: Messidor/ Editions sociales, 1986

Lefebvre, Henri. La production de l’espace. Paris: Editions Anthropos, 1974

Lefebvre, Henri. Le droit à la ville: suivi de Espace et politique. Paris: Editions Anthropos, 1968

Mauss, Marcel. «Essai sur les variations saisonnières des sociétés eskimo: Étude de morphologie sociales». In l'Année Sociologique (tome IX, 1904-1905).

Paquot, Thierry. L’espace public. Paris: Editions La Découverte, 2009

Joseph Isaac, Grafmeyer Yves. L’école de Chicago: naissance de l’écologie urbaine. Paris: Les éditions du Champ Urbain, 1990

Remy, Jean. L'espace, un objet central de la sociologie. Toulouse: Érès, 2015

Weber, Max. Économie et société, 1. Les Catégories de la sociologie/2. L'Organisation et les puissances de la société dans leur rapport avec l'économie. Paris: Plon, 1995