الوضع الرّاهن لعلم الاجتماع في السعودية وآفاقه


فئة :  مقالات

الوضع الرّاهن لعلم الاجتماع في السعودية وآفاقه

الوضع الرّاهن لعلم الاجتماع في السعودية وآفاقه[1]

يعدّ المجتمع السعودي من أخصب المجتمعات التي تشهد تغيرات سريعة وعميقة بشكل يستهوي مراكز البحوث والجامعات والصحف والقنوات العالمية ويدفعها إلى دراسته؛ وخاصة في مستوى تغير القيم الاجتماعية والاقتصادية. ويمكن أن أشبّه المجتمع السعودي، مع الفارق، بمجتمع مدينة شيكاغو في الولايات المتحدة الأمريكية بداية القرن العشرين من حيث سرعة التغير الاجتماعي والاقتصادي والحضري، ويصح تسجيل سرعة التغير وعمقه في المجتمع السعودي على الأخص، بعد كل أزمة تمرّ بها الأمة أو المحيط المباشر الذي يتفاعل معه المجتمع السعودي، ومن ذلك ما بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وسقوط بغداد عام 2003، وثورات الشعوب في "الربيع العربي" عام 2011

على هذه الخلفية، يتضمن هذا العرض وصفاً تاريخياً، يمتدّ إلى نحو مئتي عام منذ الآن، بهدف التعريف ببدايات علم الاجتماع في السعودية. وسوف يتم ذلك من خلال وصف مزاج الملامح الكبرى لبدايات علم الاجتماع في السعودية وتطوراته الأولى، وبالاعتماد على بعض المراجع، والملاحظات الشخصية، نتيجة لعملي مستشاراً في عدد من المراكز البحثية، ثم رئيساً لمركز دراسات خاص، ومن لقاءات مع أكاديميين ومسؤولين حكوميين تعاملوا مع الدراسات الاجتماعية. وفي قسم ثان، أخلص إلى التعريف بمظاهر ما أعتبره أزمة في علم الاجتماع في السعودية؛ وذلك من خلال مواكبة عمل الجامعات ذات الصلة ومراكز البحث الاجتماعي وأدائها في نشر المعرفة العلمية الاجتماعية ومساهمتها في فهم المجتمع وتفسير تغيراته.

أولاً: بواكير الدراسات الاجتماعية في السعودية

يمكن القول إن بواكير الدراسات الاجتماعية في السعودية ذات مصدرين أساسيين؛ كلاهما من خارج المجتمع السعودي، وهما الاستشراق الكلاسيكي والاستشراق الجديد.

 

1- الاستشراق الكلاسيكي:

قدّم المستشرقون والرحالة والمبعوثون السياسيون معلومات مهمة عن المجتمع السعودي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكانت بالأخص معلومات إثنوغرافية وأنثروبولوجية. وتعدّ رحلة الإيطالي فارتيما المعروف بالحاج يونس المصري، إلى بلاد الشرق بما فيه الحجاز بين عامي (1503-1509) أقدم رحلة أوروبية، ولكن التحول الكبير في تعاطي الرحالة الأوروبيين مع السعودية كان في القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي؛ وذلك في اتجاه تعمق أكبر في دراسة المجتمع. ويعود ذلك التحول إلى رغبة بلدان غربية كثيرة في اكتشاف الشرق، وإلى سبب آخر هو ظهور الدّعوة السلفية على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقيام الدولة السعودية الأولى. لقد توجه رحالة تلك الفترة الذين زاروا السعودية إلى وصف المجتمع وعاداته ونظمه وقيمه، وكذلك البلدان (المدن والقرى) من النواحي المعمارية من حيث التخطيط، والرفع المساحي. وامتدت هذه الرحلات بشكل منظم بين عامي 1761 حتى 1960 إذ تبدأ، حسب تقديري، بنيبور وتنتهي بوفاة فيلبي.

وبالفعل، كان من رواد هذا الاتجاه الرحالة الدنماركي كارستن نيبور Carsten Niebuhr (1733- 1815)، إذ زار الحجاز والجنوب ضمن فريق علمي عام 1761، وهو أول من زار جزيرة العرب، ووصف الرحالة الإثنوغرافي المجتمع وعاداته ومذاهبه الدينية، وأشار إلى الدعوة الوهابية في بداية نشأتها، وترجمت رحلته بعنوان: "رحلات إلى شبه الجزيرة العربية وإلى بلدان أخرى مجاورة لها". أما الرحالة البريطاني وليم بلجريف William Palgrave (1826-1888)، فقد زار كثيرًا من البلدان التي تقع الآن شمال المملكة ووسطها، وتنقل فيها عاما كاملا، ثم أصدر كتابا تُرجم إلى العربية بعنوان: "وسط الجزيرة العربية وشرقها". ويعد الرحالة البريطاني جو فيلبي John Phillby (1885- 1960) أشهر رحالة زار المملكة، وقد بدأ حياته بوصفه ضابط مخابرات مهمته إقناع الحكومات العربية بالتخلي عن الدولة العثمانية وبناء علاقات مع بريطانيا، وقد أولع باستكشاف جزيرة العرب، وكتب حولها أكثر من ثلاثة عشر كتاباً، من أشهرها "قلب الجزيرة العربية". ومن أواخر كتبه "أربعون عاماً في البرية". وإلى جانب من ذكرنا، يوجد رحالة غربيون كثر، من أمثال: داوتي، وسادلير، وبوركهارت، ويمكن تتبع أكثرهم في كتب مترجمة، مثل "الرحالة الغربيون في الجزيرة العربية" لروبن بدول Robin Bidwell، و"اكتشاف جزيرة العرب" لجاكلين بيرين، و"مسيحيون في مكة" لأوغست رالي.

وتمثل المادة العلمية التي خلفها لنا هؤلاء الرحالة الوصافون الإثنوغرافيون الذين أدلى البعض منهم بتحاليل أنثروبولوجية مهمة، مادة تاريخية واجتماعية غنية ودسمة، يمكن من خلالها تتبع تطور المجتمع السعودي وتبدل قيمه وعاداته في الكثير من الموضوعات، ومنها تأثير الدين في سلوك الناس، وخصوصيات مجتمع الحجاز، وحركة الأسواق، وأشكال الأزياء، ومجال حياة المرأة، وكيفية قبول الآخر، وحياة البادية. ومن المعلوم أن من أهم الدراسات النقدية لهذا الاستشراق الكلاسيكي كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد.

2- الاستشراق الجديد:

يمكن التأريخ لتحول الخطاب الاستشراقي بما بعد عام 1960. ويمكن قراءة ذلك التحول بالانتقال من استقاء المعرفة بالشرق من تقارير الرحالة والمبعوثين، إلى استقائها على نمطين جديدين؛ أما النمط الأول، فهو ما تقوم به مراكز الدراسات الفكرية (Think Tank)، والصحف الكبيرة التي تعنى بمجتمعات الشرق الأوسط عامة، وقد استقطب البعض منها مفكرين وخبراء لإجراء دراسات عن المملكة السعودية. ومن آخر الدراسات التي صدرت فيما يخص الربيع العربي، دراسة تبحث في القيم التي منعت المجتمع السعودي من الثورات، وهو السؤال ذاته الذي طُرح حول الشعب البريطاني أثناء ثورات الشعوب الأوروبية، وهي دراسة وجدت أن القيم الدينية هي السبب الأكثر ترجيحاً. وفضلا عن ذلك، يمكن تسجيل دراسات وتقارير صحفية حديثة تبحث في التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي جرت في المملكة بين عامي (2015-2017).

أما النمط الثاني، فهو ما يقوم به الأكاديميون الذين ينتمون إلى بلدان غربية، أو طلاب الدراسات العليا، والموظفون الخبراء الذين تركزت أطروحاتهم للماجستير والدكتوراه على المجتمع السعودي. وقد كانت تلك الدراسات قد بدأت بالدراسات التاريخية لمحاولة فهم المذهب الوهابي وتأثيره، وأول أطروحة دكتوراه اطلعتُ عليها في هذا السياق، كانت بعنوان: "الإخوان السعوديون في عقدين 1910- 1930" أنجزها جون حبيب عام 1977، ويقصد بالإخوان جماعة دينية متشددة انتهت، كانت تتمثل "إخوان من طاع الله"، وليست جماعة الإخوان المسلمين الحزب المعروف. وفي فترة لاحقة، توسعت الدراسات التي افتتحت الاستشراق الجديد، لتشمل الدراسات الاجتماعية والحياة العامة من خلال إشكالات تهمّ الشباب، والمرأة، والثقافات الفرعية، والعرقيات، والأنساب، أو العادات، والجماعات الدينية. وما تزال تلك الدراسات مستمرة حتى الآن، وقد ترجمت منها بعض الأطروحات إلى اللغة العربية.

ثانياً: علم الاجتماع المؤسسي

في عام 1441هـ/ 2021، سوف يبلغ عمر علم الاجتماع الأكاديمي في السعودية خمسين عاماً. ويعد الحقل العلمي الاجتماعي السعودي من أهم الحقول العلمية وأكثرها انتشاراً. وفي المستوى المؤسساتي، يمكن أن نعد من بين مكونات ذلك الحقل أقسام علم الاجتماع بالجامعات، والمراكز البحثية المتخصصة، والجمعيات العلمية، والكراسي العلمية، وجملة من الوظائف التخصصية المنبثة في هياكل الدولة وإداراتها ومصالحها.

1- أقسام علم الاجتماع في الجامعات:

تأسّس أول قسم رسمي للدراسات الاجتماعية بجامعة الملك سعود عام 1391هـ (1971)، وبدأت الدراسة فيه بعد سنتين خلال العام الجامعي 93/ 1394هـ. وقد كانت بداية الأقسام الاجتماعية قوية، إذ ضمت أساتذة سعوديين بارزين منتجين للمعرفة العلمية، مثل أبي بكر باقادر، وسعد الصويان (أنثروبولوجي)، وثريا التركي، وأساتذة بارزين، ولكن إنتاجهم العلمي كان قليلا، مثل عبد الله الفيصل الشمري، ومتروك الفالح. كما كانت أقسام علم الاجتماع في بداياتها تتعاقد مع أساتذة متميزين ومعروفين بالنشاط العلمي والأكاديمي والتأليف مثل الدكاترة علي ليلة، وأسعد نظامي تالش، والسيد شتا، ومعن خليل العمر، وعبدالقادر عرابي. ومن ثم، فقد كانت الأطروحات العلمية للماجستير والدكتوراه ذات جودة تليق بالمستوى الأكاديمي.

ويلخص الجدول التالي المسار التاريخي لمؤسسات علم الاجتماع السعودي الأكاديمي الرسمي التي ظهرت حتى (2017).

جدول وحيد: أقسام علم الاجتماع بالجامعات السعودية

الجامعة

القسم

الكلية التي يتبع لها القسم

البكالوريوس

الماجستير

الدكتوراه

الملك سعود

الدراسات الاجتماعية

كلية الآداب

افتتح

1391هـ/ 1971

افتتح

1399هـ/1979

افتتح

1418هـ/1998

جامعة الملك عبد العزيز

علم الاجتماع

كلية الآداب والعلوم الإنسانية

افتتح

1395هـ/1975

افتتح

1401هـ/1981

افتتح

1423هـ/2003

الإمام محمد بن سعود

الاجتماع والخدمة الاجتماعية

كلية العلوم الاجتماعية

يوجد

يوجد

يوجد

القصيم

الاجتماع والخدمة الاجتماعية

الكليات العربية والاجتماعية

افتتح

1403هـ/ 1983

يوجد

يوجد

الملك فيصل

الدراسات الاجتماعية شعبة علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية

الآداب

يوجد

يوجد

لا يوجد

الإمام عبد الرحمن بن فيصل

علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية للبنات فقط

كلية الآداب

 

افتتح

1432هـ/ 2012

لا يوجد

لا يوجد

المصدر: مواقع الجامعات السعودية على النت

نلاحظ من خلال الجدول، وجود ست جامعات حكومية لديها قسم أو مسار خاص بعلم الاجتماع، وهي من أصل ثمان وعشرين جامعة حكومية، منها ثمان جامعات أساسية، والبقية تسمى الجامعات الناشئة، وهي التي تعتبر ذات وظيفة أساسية هي توفير ما يخدم سوق العمل واحتياجاته. وليست العلوم الاجتماعية من بين ما يُدَرَّسُ في هذه الجامعات إلا بحدود مقرّرات لا تحتضنها أقسام، بل هي تدرّس ضمن كليات مختصة في التربية أو في الإدارة مثلا. ويوجد في المملكة أكثر من ثلاثين جامعة وكلية أهلية تأسّست مؤخراً وبرامجها موجهة لخدمة سوق العمل أيضاً، حيث لا تحتضن مقررات مهمة وذات بال في علم الاجتماع. وواقع ضمور علم الاجتماع ضمن التدريس الجامعي يلفت الانتباه إلى تهميشه في الجامعات الحكومية الأساسية و"عدم جاذبيته" في الجامعات الحكومية الناشئة والجامعات الأهلية. وفضلاً عن ذلك، تعثر الإنتاج العلمي بين الأكاديميين مؤخراً، ويكاد يكتفي كثير منهم بأعباء التدريس والانهماك في اللجان الجامعية، وما يتبقى من وقت يخصص لأبحاث الترقية والاستشارات للقطاعين الحكومي والخاص.

2- الابتعاث الخارجي

بدأت الجامعات بتنفيذ برنامج البعثات الخارجية لتأهيل خريجيها أكاديمياً، إذ نفذت جامعة الملك سعود مشروعها الأول للابتعاث الخارجي لمعيديها المتخرج أغلبهم من جامعات مصرية لإكمال دراساتهم العليا في بريطانيا، فعادوا في أوائل ستينيات القرن العشرين، وانهمكوا في العمل الأكاديمي منعزلين عن المجتمع (الغذامي، 2005: 72).

وفي بداية ثمانينيات القرن العشرين، نفذت وزارة التعليم العالي وبعض الجامعات مشروعها الثاني من خلال برامج ابتعاث لخريجيها، ليكونوا طليعة الأكاديميين المؤهلين بدرجات الدكتوراه من أمريكا وبريطانيا. وبعد عودتهم، صاروا أساتذة الأقسام ورؤساءها، وبعضهم أمسى من العمداء ومديري الجامعات، وأعضاء في كثير من لجان الكليات والجامعات، كما ظلت الجامعات منجماً لتزويد الحكومة بالنخب الوزارية والمناصب الإدارية العليا.

وبداية من 2005، نفذت وزارة التعليم العالي "برنامج الملك عبد الله للابتعاث الخارجي" الذي يعد أكبر برنامج في تاريخ المملكة، وإن كانت سنة 2015 قد شهدت بداية تخفيضه. وعلى الرغم من أن البرنامج موجه بشكل أساسي للتخصصات العلمية الطبيعية والفيزيائية، أو تلك التي يحتاجها سوق العمل في الاقتصاد والإدارة والتسويق والتصرف، فقد كان من بين التخصصات المدرجة فيه علم الاجتماع الطبي. ولكن يصعب تحديد أعداد المبتعثين نظراً لأن إحصاءات التعليم العالي السنوية المنشورة تدمج تخصصات "اجتماعية" مختلفة تحت حقل واحد.

3- الجمعيات العلمية

تعنى بعلم الاجتماع في السعودية جمعيتان؛ أولهما "الجمعية السعودية للدراسات الاجتماعية"، التي تأسست عام 1405هـ/ 1985، ولكن لم تشهر وتبدأ نشاطاتها إلا عام 1428 هـ/ 2008، وهي تتبع قسم الدراسات الاجتماعية بجامعة الملك سعود، وأبرز نشاطاتها، على ضعفها، جاءت من الخدمة الاجتماعية، وليست لها مجلة ولا إصدارات. والجمعية الثانية هي "الجمعية السعودية لعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية" التي تأسست عام 1421هـ/ 2001، وبدأ نشاطها عام 1423هـ/ 2003، ومقرها جامعة الإمام محمد بن سعود، ولها مجلة علمية محكمة اسمها "الاجتماعية"، صدر منها عشرة أعداد، ولها كتب منشورة منها "بحوث ندوة ابن خلدون"، و"بيبليوغرافيا الدراسات الاجتماعية".

4- مراكز البحث الحكومية

يوجد عدد من مراكز الأبحاث الاجتماعية الحكومية حديثة التأسيس مثل "مركز البحوث الاجتماعية والإنسانية" بجامعة الملك عبد العزيز، و"مركز الأبحاث الواعدة في البحوث الاجتماعية ودراسات المرأة" الذي أنشئ بجامعة الأميرة نورة (1432هـ/2011)، ويعد المركز الاجتماعي الوحيد المدعوم من وزارة التعليم ضمن مشروع مراكز التميز. كما أنشئ مؤخراً (1431هـ/ 2011) "المركز الوطني للدراسات والبحوث الاجتماعية"، وهو مركز حكومي مرتبط بمجلس إدارة يرأسه وزير العمل والتنمية الاجتماعية.

أما المراكز والمؤسسات الاجتماعية الأهلية، فهي قليلة ولها نشاطات متنوعة، ومنها "مؤسسة الملك خالد الخيرية"، التي تميزت بنشر الدراسات الاجتماعية ودعمها.

وبسبب ضعف أداء المراكز لجأت بعض المؤسسات الحكومية التي تعمل في مجالات الصحة، والاقتصاد والتخطيط، والعمل، إلى الاستعانة بشركات أمريكية وأوروبية تمتلك خبرات بحثية وقوة تفاوضية تمكنها من الحصول على فرص تنفيذ الدراسات بسهولة لعدم وجود المنافس المحلي لإعداد الدراسات والبحوث التي تحتاجها في المجالات التي تؤثر بها في المجتمع.

5- الكراسي العلمية:

انتشرت في الجامعات السعودية مؤخراً ظاهرة الكراسي العلمية التي تمولها مؤسسات، ويدعمها أشخاص من خارج الجامعة أو من الجامعة ذاتها، وتكون عادة موجهة لموضوع عام أو جزئية محددة. ويضم قسم الدراسات الاجتماعية في جامعة الملك سعود كراسي في العلوم الاجتماعية هي: "كرسي إنسان للبحث العلمي"، و"كرسي الملك عبد الله لأبحاث الإسكان التنموي"، و"كرسي الأميرة صيته لأبحاث الأسرة".

ويصعب حصر الكراسي العلمية في الجامعات السعودية المتخصصة في العلوم الاجتماعية، لتداخل مجالات اهتمام الكثير منها وامتزاجه مع موضوعات إنسانية وشرعية، ولعدم وجود دليل تعريفي لها.

ثالثاً: الإنتاج المعرفي السعودي في مجال علم الاجتماع

1- الأستاذ الجامعي وإنتاج المعرفة العلمية الاجتماعية:

يفترض أن يكون "الإنسان الأكاديمي" حامل لواء البحث العلمي، لأنه يحظى بارتياح مادي وامتيازات أكاديمية تمكنه من التفرغ لإنتاج المعرفة العلمية، ولأنه يحتل مواقع علمية تمنح إنتاجه الشرعية العلمية. واقعيا، يمكن أن يكون أهم انتقاد يوجه لـ"لإنسان الأكاديمي" في السعودية هو انغماسه، على غرار بعض الأكاديميين في البحث الاجتماعي، دون احتكاك بالظواهر الاجتماعية مباشرة، مما يفقده سعة الخيال ودقة الملاحظة والقدرة على التحليل. وبمراجعة عدد من دراسات أساتذة علم الاجتماع والاطلاع على السير الذاتية للكثير منهم في مواقعهم الشخصية الجامعية، لاحظتُ ثلاث سمات أساسية تجمع بينهم هي:

- استخدام منهج واحد كمّي وصفي غير تحليلي، حتى وإن ادّعى بعضهم بأن دراسته تحليلية؛

- ضعف تطبيق هذا المنهج وتناقض إجراءاته المنهجية ونقصها، وخاصة لدى تحديد هدف الدراسة وتصميم الاستبانة؛

- كثرة السّرقات العلمية واستسهال عدم الإحالة على المصادر والمراجع الأصلية، وهو ما قد يعود إلى عدم وجود مؤسسات تراقب الجودة رقابة فعلبة وواقعية، وانعدام نظام أكاديمي يدين السرقات العلمية كما يتضح من "نظام مجلس التعليم العالي والجامعات ولوائحه" (2015).

ويمكن أن أضيف إلى السّمات السابقة، خلو الحقل العلمي الاجتماعي عامة من النقد. ولعلّي أبدي تفاؤلي بصعود جيل جديد من الباحثين السعوديين الراغبين في تطوير البحث العلمي الاجتماعي، والشغوفين باكتساب المعرفة السوسيولوجية وإنتاجها وفق النظريات الحديثة والأساليب البحثية المتطورة. ومن أهم ما يتميز به هذا الجيل الجديد، حسب رأيي، هو إيمانه بجدوى البحث العلمي الاجتماعي الذي يعتمد المناهج النوعية أكثر مما يعتمد المناهج الكمية.

2- الأطروحات العلمية:

تمتاز برامج الدراسات العليا في أقسام علم الاجتماع بالجامعات السعودية (ماجستير، دكتوراه) بأنها نظام مزدوج للدراسة والبحث، وأنها تشترط اللغة الإنجليزية في برامج الدكتوراه، كما تشترط اجتياز اختبار القدرات الذي يجريه المركز الوطني للقياس والتقويم. وتعد كل هذه المميزات ذات قيمة فعلية في الدفع نحو تطوير مهارات الطالب المنهجية وتعميق معارفه النظرية السوسيولوجية.

وفي نطاق عملي الميداني في سياق إعداد هذه الورقة، حصلتُ على قائمة عناوين غير حصرية لنحو مئتي رسالة ماجستير ودكتوراه مجازة في أقسام علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية بالجامعات السعودية، وكذلك "بيبليوغرافيا الدراسات الاجتماعية" التي تتضمن 193 أطروحة في علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية مجازة من جامعة الإمام، منذ بداية العمل بنظام الماجستير قسم الدكتوراه وحتى يناير 2017.

وبتحليل مضامين العناوين، وكذلك بالاطلاع على بعض محتويات عدد من الرسائل، لاحظت أن عددا غالباً منها عُني بدراسة المجتمع المحلي، ولم يدرس مجتمعات خليجية وعربية وغير عربية. كما لاحظت أنها اتبعت منهج المسح الاجتماعي بالعينة، واستخدمت أداة الاستبانة. أما في مستوى الاستنتاجات والخلاصات، فقد سجّلتُ أنها غالباً ما تخرج بنتائج بدهية. وبالقيام بعملية إحصائية بسيطة لاحظت أن المفردات الأكثر تكرارا في العناوين هي "المحددات"، "الخصائص" و"العوامل" (الاجتماعية والاقتصادية) و"الاتجاهات".

من حيث المحتوى، تركزت الدراسات حول موضوعات تقليدية، مثل الجريمة والانحراف ومشكلات الشباب والطلاق وقضايا التكيف الاجتماعي، كما اهتمت بدراسة الشباب والمرأة والمسنين مقابل إهمال الأطفال إلا ما ندر. وقد تتناول الدراسات موضوعات عصرية، ولكنها تعالجها بنظريات وأساليب بحث تقليدية، حيث اهتمت بعض الأطروحات مثلا بدراسة الطبقات الوسطى والفقيرة مقابل إهمال دراسة النخب السياسية والاقتصادية والعلمية.

فإذا اعتمدتُ تقسيماً للإنتاج المعرفي في علم الاجتماع إلى ثلاثة أنماط هي:

-  ظواهر كلاسيكية "مزمنة" كالجريمة والأسرة تعالج باستخدام نظريات كلاسيكية؛

-  ظواهر كلاسيكية تعالج باستخدام نظريات حديثة؛

-  ظواهر حديثة؛

أمكن لي أن ألاحظ هيمنة النمط الأول، مما يعطي مؤشّراً بأن الأكاديمية العلمية الاجتماعية السعودية لم تطور منتجها العلمي، وأن القضايا الكلاسيكية سهلة الإنجاز وتتكرر، لأنها لا تتطلب بذل جهد إضافي لكثافة ما كُتب فيها.

من الناحية النظرية، اهتمت بعض أطروحات جامعة الإمام بقضايا التأصيل الإسلامي لعلم الاجتماع، كما لاحظتُ اهتمام الأطروحات بتفسير مشكلات البحث فيها باستخدام نظريات المدرسة الوظيفية، بوصفها التفكير السائد الملائم للمجتمع، وعاينتُ أنه من النادر استخدام نظريات التفاعلية الرمزية مثلا، وقد يعود ذلك لعدم الاهتمام بها أو عدم معرفتها أصلا. أما المدرسة الماركسية، فتكاد تكون مُحرّمة عرفاً لا نظاماً، على الرغم من أن الحساسية تجاهها قد زالت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وبروز نظريات العولمة، وما بعد الحداثة.

ومقابل تركز الدراسات على المشكلات الاجتماعية، لاحظت من خلال دراستي للإنتاج العلمي الاجتماعي في جامعة الإمام غياب الدراسات التي تهتم بتاريخ الفكر العلمي الاجتماعي وتطوره، وانعدام الدراسات التحليلية لمصادر التفكير لدى علماء الاجتماع وندرة مراجعة نظرياتهم على ضوء والدراسات التحليلية والنقدية لفكر رواد علم الاجتماع أو تلاميذهم أو من اتبعوا خطاهم.

وبتحليل بنية خمس عشرة رسالة من الأطروحات المجازة من جامعتيْ الملك سعود والإمام، لاحظت أنها تسير وفق قوالب بحث معدة مسبقاً، وما على الباحث إلا تعبئتها بالمعلومات العامة وتحليل البيانات إحصائياً. ومع الاكتفاء بالقراءة الإحصائية، تغيب القراءة الاجتماعية التي تمثل جوهر البحث الاجتماعي.

مستعينا بالتصنيف الافتراضي الذي اقترحه أحمد موسى بدوي في كتاب "الأبعاد الاجتماعية لإنتاج واكتساب المعرفة" (2009) أثناء دراسته للرسائل العلمية المجازة من خمس جامعات مصرية؛ يمكنني أن أقول، انطلاقا من تقييمي للرسائل الجامعية، إنّ من أبرز ملامح إنتاج المعرفة السوسيولوجية:

- الاختيار المشوش لعنوان الأطروحة مع كثرة لجوء الطلاب- الباحثين للأساتذة، ليقدموا لهم مواضيع جاهزة للدراسة؛

- الاستشهاد الاستعراضي، إذ يحشد كثير من الباحثين عددًا كبيرًا من النظريات والنصوص التي لا يناسب كثير منها الموضوع المبحوث فيه، وهو ما يصعب عليه تحليلها وربطها بالظاهرة المدروسة؛

- الإغراق في العبارات العامة التي قد تلفت الانتباه، ولكنها لا تقيس شيئًا محدّدًا، والعجز عن إنتاج لغة علمية مركزة على موضوع الدراسة.

رابعاً: الطالب وسوق العمل

من الأوهام التي عاشها التعليم السعودي مدة من الزمن، شعار أن التعليم الجامعي وجد لخدمة سوق العمل، واتُخذت بسبب هذا الوعي الزائف قرارات عشوائية في حق التخصصات الأدبية والاجتماعية؛ فقد حدث تكدس في الدراسات الاجتماعية، وخاصة في مرحلة الماجستير في تخصص "علم اجتماع والخدمة الاجتماعية"، وتضاعفت أعداد طلاب وطالبات الدراسات الاجتماعية في مرحلة البكالوريوس في بعض الجامعات، لتصل إلى 3000 طالب وطالبة في عام 1435هـ/ 2015. ويبدو أن هذا التكدس لم يكن مدروساً لا داخليا، حيث لم تطور خطط الأقسام لرفع كفاءة المخرجات، ولا خارجيا، إذ لم يعدل التصنيف الوظيفي (في سوق العمل)، حيث يزاد من مجالات استيعابهم.

ومن أهم ما يمكن أن يرصد في مخرجات العلوم الاجتماعية، وجود مسافة تباعد كبيرة بين ما يدرسه الطالب في الجامعة وما تحتاجه المؤسسات التي يعمل بها، حيث ما يزال هناك فراغ كبير في تعرّف الخريج على أخلاقيات ومواثيق مهنة الممارسة الاجتماعية، واستيعابه ثقافة التعامل مع العملاء في المستشفيات والدور الاجتماعية والسجون...، وعلى الرغم من وجود اختبار قدرات تجريه هيئة التخصصات الصحية، وتمنح بموجبه رخصة مزاولة مهنة "أخصائي اجتماعي"، فإن كثيرًا من مؤسّسات الحكومة توظف بموجب الشهادة وتتغاضى عن رخصة مزاولة المهنة الاجتماعية، كما أن كثيرًا من خريجي علم الاجتماع لا يعرفون عن هذه التخصصات المهنية شيئاً، على الرغم من أهميتها بالنسبة إليهم في دعم موقفهم المهني.

مجالات عمل الخريج:

يمتاز علم الاجتماع بأنه علم ومهنة، ومن هنا تتوسع المجالات الوظيفية التي يمكن أن تتاح أمام خريج علم الاجتماع. ومن المهم التنبيه على أن تخصص علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية غير منفصلين في تصنيف الوظائف بوزارة الخدمة المدنية في المملكة العربية السعودية، لاعتبارها إياهما رديفين مهنياً.

توجد مئات الآلاف من الوظائف النشطة والخاملة، والتي تحتاج إلى إحداث أو تحديث، وتعد وزارة العمل والتنمية الاجتماعية أكبر حاضن للخريجين من خلال المؤسسات التي تتبع لها، مثل الضمان الاجتماعي، ورعاية الأحداث، والمسنين، والمعوقين، والأيتام، ومراكز تأهيل المدمنين، وكذلك الجمعيات الخيرية الحكومية والأهلية، ومراكز الأحياء.

إن فرص العمل في وزارة التعليم لخريجي علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية متوفرة من خلال وظيفة المرشد أو الأخصائي الاجتماعي في كل مدرسة، وفي المستشفيات الجامعية، وفي وزارة الصحة من خلال المشرف الاجتماعي والخدمة الاجتماعية في كل مستشفى، ومستوصف، والمستشفيات الأهلية، وكذلك في وزارة الداخلية من خلال الإرشاد الاجتماعي في السجون بأنواعها. وتوجد مجالات لها تصنيف، ولكنها غير نشطة وليست مفعلة بما يكفي، مثل رعاية الشباب وما يتبعها من أندية رياضية وبيوت الشباب. كما توجد مجالات جديدة مهمة للمجتمع وتحتاج أخصائيين اجتماعيين، ولكنها ليست مثبتة في تصنيف الخدمة المدنية، مثل الإرشاد والاستشارة الاجتماعية في القطاع الخاص، كالشّركات، والمؤسسات الكبرى، والمصانع؛ وفي الهيئات الحقوقية المتخصصة لقضايا المرأة والطفل والمعوقين، وتنمية المجتمعات الريفية والحضرية وحماية البيئة. وفضلاً عن كل ما سبق، تم منذ عقود تفعيل استراتيجية سَعْوَدَةِ عشرات أسواق العمل، ولكنها ما تزال تحت الهيمنة العددية للعمالة الوافدة. هذا وقد بدأت وزارة العمل بسعودة أسواق الاتصالات، والذهب، وتأنيث محلّات الملابس النسائية، وما يزال طريق توطين المهن البسيطة طويلاً.

وآمل أن تسبق مشروعات السعودة المستقبلية تدريبات كافية للمرشحين، لاحتلال الوظائف على أصول المهنة وأخلاقياتها، وقوانين السوق الاقتصادية، إضافة إلى إمكانية إنشاء المراكز والمعاهد المتخصصة في التدريب المستمر للأخصائيين والمرشدين الاجتماعيين، وتقسيم عملهم ليكون له تخصصات فرعية ليقدم خدمة أفضل. إن سدّ فجوة مخرجات التعليم الجامعي التي تفتقر إلى مهارات التدريب العالي هو جوهر التعليم الحديث بشكل يلبّي حاجة السوق.

خامساً: هل يعيش علم الاجتماع السعودي أزمة؟

نعم، إذ يتضح من العرض السابق لواقع علم الاجتماع في السعودية أنه يواجه أزمة هوية علمية (علم الاجتماع/الخدمة الاجتماعية)، وأزمة في الإنتاج المعرفي. ويبدو أن جذور الأزمة، تعود إلى مجموعة أسباب، وليس إلى سبب واحد، ومن هنا سوف يشار إلى عدد منها.

1- كساد سوق علم الاجتماع:

يقصد به عزوف الشركات والمؤسسات والحكومة عن التعبير عن الطلب على علم الاجتماع. ولكن الحكومة والشركات تلجأ إلى الاستعانة بمراكز الدّراسات الأمريكية والأوروبية لإنجاز الدراسات الضخمة والمهمة في حين يُكتفى بإعطاء الباحث المحلي دراسات عن ظواهر "مزمنة" كالمخدرات والطلاق ونحوها. ويبدو أن هذا يرجع إلى عدد من الأسباب، من أبرزها عدم الثقة في الباحث السعودي الذي قد يكون قد فشل في تقديم دراسات جيدة.

ومع أنه يوجد بعض الدعم المقدم من المؤسسات المانحة لبعض مراكز الدراسات الاجتماعية، فإن هذا الدعم لا يثمر على ما يبدو بسبب أنه يقدم وفق التقاليد البيروقراطية التي تكتفي بالدعم مقابل تقديم خطة للإنجاز، وهو ما لا يضمن متابعة احترافية رقابية على المصروفات، والتأكد من الإنجاز الفعلي لما هو مضوع في الخطط المعلنة. وهذا بطبيعة الحال، عيب من المانح والممنوح له، وليس عيبا في علم الاجتماع ولا البحث العلمي الاجتماعي.

2- تهميش الجامعات لعلم الاجتماع:

يبدو أن الجامعات السعودية قد أسهمت في تهميش علم الاجتماع باعتماد ثلاثة توجهات أكاديمية:

الأول: ربط تخصصي علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية في قسم واحد يديره مجلس علمي مشترك. وعلى الرغم من جدلية الموضوع وعدم حسمه، فإن الاتجاه العالمي يميل إلى استقلالية كل تخصص، بوصفهما علمين مختلفين، لكل منهما هويته الخاصة به، وأدبياته، ونظرياته، وحقله الخاص.

الثاني: بقاء الجامعات على تدريس علم الاجتماع الكلاسيكي، وهو ما تسبب في تعثر الممارسة الأكاديمية وهيمنة المناهج التقليدية بنسخها القديمة مثل مقرر علم اجتماع المجتمع الحضري والبدوي الذي يدرسه طالب الماجستير بجامعة الملك سعود. ومن المناسب مواكبة العلوم العصرية واعتماد مقررات تلائمها ولها اتجاه عالمي جديد، مثل: علم اجتماع التقنية والاتصال والميديا، وعلم اجتماع التفاؤل، وعلم اجتماع المستقبل.

الثالث: إقصاء الأنثربولوجيا، إذ إن علم الاجتماع أقرب، نسبيا وتاريخيا، إلى الأنثربولوجيا والفلسفة من الخدمة الاجتماعية. لا يوجد تخصص مستقل للأنثروبولوجيا في الجامعات السعودية. أما الفلسفة فهي، كما يذكر الغذامي، تحظى بكراهية المجتمع وتحسسه منها، حيث يرد الفيلسوف في سياق الكلام مرادفاً للمدّعي أو المهرّج (الغذامي، 2005: 74). ويبدو أن سبب إقصاء الأنثروبولوجيا والفلسفة هو تحفظ المدرسة الدينية عليهما لتعارض بعض نظرياتهما مع المسلمات السلفية التي تحظى بنفوذ اجتماعي كبير، زاده قوة نفوذ جيل الصحوة في الجامعات، (صحوة دينية برزت ما بين عامي 1979- 1990). ولا تزال الجامعات السعودية في الملامح الكبرى لما تؤمّنه من معرفة إنسانية واجتماعية واقعة تحت هيمنة التخصصات الدينية وإقصاء التخصصات الأخرى، وتصنيف المشتغلين بتلك المعرفة إلى صنفين، بحسب ستيفن لاكروا، هما: "العلماء المختصون في علوم الدين من ناحية، والمثقفون العلمانيون بحكم تخصصهم في العلوم الإنسانية (الأدب، علم الاجتماع، علم النفس، إلى آخر ذلك) أو في العلوم الصحيحة (رياضيات، فيزياء، طب، هندسة...) من ناحية أخرى" (لاكروا: 2012: 182).

ومن نتائج تعرض تخصص العلوم الاجتماعية للإقصاء من الجامعات، إقصاؤه من الفضاء العمومي أيضا، فقد صارت الاستشارات الاجتماعية والنفسية ومشكلات المجتمع، تحلّ برؤية شرعية كاملة، بما في ذلك الاستشارات الاجتماعية المقدمة من قبل الجمعيات الخيرية، ولجان الإصلاح الأسري والاجتماعي في المحاكم والتنمية الاجتماعية.

3- غياب النقد والانسداد المنهجي:

من أبرز ما يتّسم به الحقل العلمي الاجتماعي العربي عامة، والسعودي خاصة، غياب حركة النقد ومراجعة الأعمال العلمية، وقد تسبب هذا الركود العلمي في بزوغ ظاهرتين سلبيتين هما:

- سيادة الدّراسات الكمية، مما يؤكد التحفظ عليها من حيث ضعف أساليب جمع بياناتها، وقبولها التحليلات الإحصائية التي تنجزها مكاتب دراسات لا تعتمد أساليب علمية ولا علاقة لها بالبحث ولا بالباحث ذاته ولا بموضوعه، وذلك هو سبب عدم ظهور بصمة تحليلية ونقدية واضحة للباحث في دراسته.

- بروز جيل من أساتذة الجامعات الذين يعمدون إلى التأليف في جميع تخصصات علم الاجتماع دون تمييز، أو بمعنى أدق يؤلفون في كل التخصصات العلمية الاجتماعية المقررة على طلاب الجامعة من دون الاعتماد على تخصص حقيقي فيها لا من حيث الثقافة العلمية، ولا من الاختصاص البحثي ومراكمة البحوث الميدانية والتحليلية فيها.

ومن المتفهم أن هذه الظاهرة موجودة عربياً، وأصحابها معروفون بكثرة الإنتاج، ولكنها في كل حالاتها العربية تتميز برداءة جودة المؤلفات ولا علميتها نتيجة للاستعجال في التأليف، وهو في الحقيقة عبارة عن تلاخيص وترجمات واقتباسات غير دقيقة لا تدل إلا على الرغبة في الربح السريع. وإذا ثبت، بالتوازي مع ذلك، أن غياب حركة النقد تؤدي إلى استشراء العبث العلمي والأكاديمي، فإن غياب النقد في هذه الحالة يكون عبارة عن صمت الكل عن مساوئ الكل.

وبعد؛

قد يكون دخول علم الاجتماع إلى المجتمع العربي عامة، والسعودي خاصة، ترفاً أكاديمياً، وتبعية غربية، وأنه في انعزاله الأكاديمي لم يكن يعبر عن حاجة اجتماعية حقيقية لفهم النفس وتفسير التغيرات التي طرأت عليه، كما كان الحال عند تأسيسه في أوروبا. ولكن الآن ينبغي تغيير هذه النظرة، ويجب أن يتم التعامل مع علم الاجتماع بوصفه مؤسسة اجتماعية فاعلة، لها وظيفة، إذ يواجه المجتمع السعودي تحديات التغير الاجتماعي والاقتصادي وقضايا التنمية والتحديث في كل المجالات تقريباً. وليس من المقبول أن يتواصل عجز الجامعات عن أن تقوم بدورها، في التنسيق وترشيد الجهود من خلال تناغم موضوعات الأطروحات العلمية، وتغيرات المجتمع، والتخطيط التنموي. ونحن لا نزال بعيدين عن ذلك، إذ وعلى الرغم من إعلان المملكة عن برنامج التحول الوطني 2020 وبرنامج رؤية 2030، لا نجد للبحث العلمي ولا للجامعات ذكراً واضحاً في البرنامجين.

بمواصفاته التي ذكرنا وبطبيعة ميلاده، لم يتمكّن حقل العلوم الاجتماعية السعودي في مستواه المؤسّسي، الحكومي منه والأهلي، من استيعاب حجم التغيرات السريعة، ولا من استقراء خطورة انعكاساتها على استقرار المجتمع ولا مساعدته في التكيف معها، وهو حقل ما يزال يعيش ظواهر الركود العلمي، والنشاطات الهشة، وغياب حركة عقد المؤتمرات، والتأليف والترجمة والنقد، وهو لذلك لم يشعر بحجم الفراغ الذي يمكن أن يملأه بعد تعثر كثير من مراكز البحث والترجمة العربية المتضررة من أحداث الربيع العربي، بل ارتضى، إلى حدّ الآن، أن يبقى في انعزال عن الإصلاحات الاجتماعية وعن المشاركة في التنمية وفي التحديث وأحجم عن دعم اتخاذ القرار تجاه التغيرات الكبيرة التي تعصف بالمجتمع العربي عامة، وتجاه انعكاساتها على المجتمع المحلي خاصة؛ فهل من بارقة أمل في أن يتغير الوضع؟

توصيات:

1- يوصى بتأسيس سلسلة من مراكز البحث الاجتماعي المتخصصة في قضايا فروع علم الاجتماع، حيث ترصد قضاياه الكلاسيكية والحديثة وتزود بأدوات استشراف مستقبل قضاياها، كمركز أبحاث متخصص في الأسرة، ومركز أبحاث متخصص في الطفولة، ومركز أبحاث متخصص للجريمة، ومركز أبحاث متخصص للشباب، ومركز أبحاث متخصص للمسنّين، ومركز أبحاث متخصص في رصد الظواهر المستجدة، وهكذا، وتكون ذات ميزانيات منخفضة، ولكنها تكفي لتشغيل المركز وتحدث وظائف قليلة، وتصدر دراسات سنوية، وعدد كافٍ من الاستشارات، وتعتمد على التشغيل الذاتي جزئياً ومرحلياً، حيث تضمن التنافس والتخصص الدقيق والانتشار.

2- يوصى بتطوير الخطط الدراسية الحالية، حيث تكون المقررات النظرية ذات جودة عالية، ومكثفة التدريب الميداني، كما هو الحال في التخصصات الصحية، حيث تكون للطلاب مسارات موجهة للعمل في القطاع الصحي منتهية بالتوظيف الفوري، مع الأخذ في الحسبان إلزام الخريج بالحصول على رخصة مزاولة مهنة، وأن يمر بسنة امتياز.

3- يوصى بدعم مراكز الفكر (Think Tank)، ويمكن تحقيقها بتحويل نشاط مراكز الدراسات الاجتماعية من الدراسات الكمية إلى الدراسات النوعية، وأن تحقق التوازن بين الدراسات النوعية المطولة، وبين ابتكار أساليب بحثية تضمن تحقيق الجودة العلمية، وتلبي متطلبات صانع القرار، من خلال إعداد الأوراق البحثية القصيرة (ما بين 1500-2500 كلمة)، وإعداد قوائم تشمل مئات الموضوعات التي تمثل ظواهر، وشبه ظواهر، واستشراف الظواهر، ومتابعة القضايا الآنية، ومراجعة أهم ما يصدر عالمياً من: كتب ودراسات، وقرارات وأنظمة تمس المجتمع، وأفلام، ومتابعة ما يستجد، وتجهيزها بأبرز ما يمكن دراسته، مع تحديثها باستمرار، وتزويد المشرع وصانع القرار بها.

4- يوصى بإجراء إصلاحات في البيئة الجامعية تطبق معايير حوكمة الجامعات، وزيادة تفعيل دور برامج الاعتماد الأكاديمي، وإلزام الأقسام بالنشاطات العلمية الدائمة، وتعدل أنظمة ترقية الأستاذ بتحميله تكاليف أكاديمية تمثل نشاطًا علمياً تضمن تنوع إنتاجه المعرفي وجودته.

5- يوصى بمراجعة أداء المراكز البحثية الحكومية، وتطبيق إجراءات الحوكمة والشفافية عليها، ويمكن قياسه بثلاثة مهام، وهي: متى تأسس المركز، وكم أنفق عليه من مال، وماذا أنجز من أهدافه؟ والمركز الذي لم يحقق مؤشرات عالية لهذا القياس يغلق أو يدمج مع غيره.

المصادر والمراجع:

-          بالجريف (2001) وليام جيفورد. وسط الجزيرة العربية وشرقها (1862-1863)، ترجمة صبري محمد حسن، القاهرة: المركز القومي للترجمة.

-          بدول (1989) روبن. الرحالة الغربيون في الجزيرة العربية، ترجمة عبدالله آدم نصيف، الرياض: جامعة الملك سعود.

-          بدوي (2009) أحمد موسى. الأبعاد الاجتماعية لإنتاج واكتساب المعرفة: حالة علم الاجتماع في الجامعات المصرية، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط 1

-          بيرين (د. ت) جاكلين، اكتشاف جزيرة العرب: خمسة قرون من المغامرة والعلم، ترجمة قدري قلعجي، بيروت: دار الكاتب العربي.

-          جمعية (2017) بيبليوغرافيا الدراسات الاجتماعية، الرياض: الجمعية السعودية لعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية.

-          سعيد (2006) إدوارد. الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة محمد عناني، القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع.

-          الغذامي (2005) عبدالله. حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية، المغرب: المركز العربي الثقافي، ط 3

-          فيلبي (2004) هاري سانت. أربعون عاماً في البرية، ترجمة يوسف مختار الأمين، الرياض: مكتبة العبيكان للنشر والتوزيع.

-          فيلبي (2009) هاري سينت. قلب الجزيرة العربية: سجل الأسفار والاستكشاف، ترجمة صبري محمد حسن ورؤوف عباس، القاهرة: المركز القومي للترجمة، ط 2

-          لاكروا (2012) ستيفان، زمن الصحوة: الحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1

-          نيبور (2007) كارستن. رحلة إلى شبه الجزيرة العربية وإلى بلاد أخرى مجاورة لها، ترجمة عبير منذر، المغرب: الدار الانتشار العربي، ط 1

[1]- ذوات العدد50