المقاربات الحداثيّة للتراث الصوفي العربي


فئة :  مقالات

المقاربات الحداثيّة للتراث الصوفي العربي

المقاربات الحداثيّة للتراث الصوفي العربي

(محمد عابد الجابري نموذجاً)

محمد بن عمارة[1]

الملـــــخص:

شهدت العقود الثلاثة الماضية ازدهاراً فكرياً تمثل في المشاريع النقدية الابستمولوجية التي انبرت على قراءة التراث العربي وتفكيكه في ضوء المناهج الحداثية الغربية المعاصرة، ومراجعة أبعاده التركيبية والإيديولوجية التي تحكمَت في بنائه وتوجيهه؛ ومن أبرز القراءات التي عكفت على تقويم التراث ومساءلته هي قراءة محمد عابد الجابري في ملحمته الكبرى (نقد العقل العربي)، والتي حاول من خلالها مساءلة التراث العربي الإسلامي بكل أبعاده الفلسفيّة والفقهية والتفسيرية والأصوليّة والمذهبيّة والبلاغية والنقدية...إلخ. وما لفت انتباهنا في مشروعه النقدي هو موقفه من التصوف، موقف انفرد به عن باقي القراءات الحداثية، إذ رأى بأن للتصوف العربي الإسلامي أبعادا إيديولوجية ساهمت في بنائه وِفق مقتضيات سياسية واجتماعية ومذهبية طائفية تُوِجت بما يُسمى (بالتصوف السني). ومن هذا المنطلق، جاءت هذه الورقة لتقف عند رؤية محمد عابد الجابري للتصوف العربي الإسلامي والتنويه بالمناهج القرائية الحداثية التي ساعدته في بناء موقفه من التصوف العربي الإسلامي.

مقدمة

إنّ مشاريع نقد التراث المتبلورة في حقل الدراسات الفلسفية العربية اليوم، تؤشر على توجه فكري متشبع بروح فلسفة الأنوار، إذْ منذ أواخر القرن التاسع عشر والمفكرون النهضويون يعملون على تقويم وتقييم التراث العربي بصفة عامة، والإسلامي بصفة خاصة، في ضوء المناهج الحداثية المعاصرة، وتحليل الآليات العقلية التي عرفها النظام العربي، وتشريح خطاباته المعرفية للوقوف على أبعادها وإبراز حدودها ومحدوديتها المعرفية.

ويعتبر التراث الصوفي من أهم القضايا التي انشغل بها الفكر العربي الحديث والمعاصر؛ وذلك من خلال محاولة مناقشة مفاهيمه ومصطلحاته، ورصد قضاياه الفكرية والمنهجية، وجاء هذا الاهتمام نظراً لمكانة التصوف في البنية التركيبية للثقافة العربية معرفياً وفكرياً ونسقياً، وفي ضوء هذه الأهمية انبرى ثلةُ من المفكرين بتقويم التراث الصوفي وتفكيك خطابه المعرفي، ومحاورته في ضوء ما أفرزته الحداثة الغربية من مناهج قرائية، بغيّة إعادة بناء مفاهيمه وتأسيس أفكاره على أسس تنويرية تساعد على نهضة المجتمعات العربية من خلال مساءلة الحاضر للماضي.

وعلى الرغم من تعدد المقاربات التي عكفت على قراءة التراث الصوفي واستنطاقه، تعد تجربة محمد عابد الجابري من أبرز القراءات التي تناولت المعرفة الصوفية بمناهج حداثية تتسم بالوعي في الممارسة والتفكيك، محاولاً من خلالها تحديد موقع المعرفة الصوفية ضمن الأطر المعرفية الأخرى كما حدّدها، والمتمثلة في المعرفة البيانية (القرآن والحديث) والمعرفة البرهانية (الفلاسفة المسلمون)، مع رصد الأبعاد الإيديولوجية التي تحكمت في بناء والخطاب الصوفي من الخارج ؛ أي تلك السياقات التي شكلت الخطاب الصوفي، ولاسيما مصطلح التصوف السني الذي قام بتفكيكه وإعطائه أبعادا إيديولوجية، وعلى ضوء الإشكالية التي عرضتها الهيئة المنظمة للملتقى، جاءت هذه الورقة البحثية لتجيب عن جملة من الأسئلة تتمثل في: ما هو مفهوم الحداثة في الدراسات العربية المعاصرة؟ وكيف قُرِئ مصطلح التصوف في ضوء الحداثة؟ وكيف قرأ محمد عابد الجابري التراث الصوفي بصفة عامة؟ وما هي العُدّة المنهجية المسخرة في هذه القراءة؟ وما هي خصوصيات هذه القراءة، ومميزاتها المعرفية والمنهجية؟ تلكم هي الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها في هذه الورقة البحثية.

1. مفهوم الحداثة في الدراسات العربية المعاصرة.

شغلت الحداثةla modernité ولا تزال، مساحات واسعة في خطابات الفكر العربي المعاصر، فأُعطِيَت له دلالات ومعاني تصل إلى حدّ التداخل والتناقض نظراً للعوامل الإيديولوجية التي ساهمت في صياغة دلالة هذا المصطلح، بالإضافة إلى السياقات التاريخية المنتجة له والمرتبطة بخصوصية المجتمعات الغربية، الأمر الذي أدخل العقل العربي في سجال معرفي بين مجموعة من المفكرين اختلفوا في بناء مفهوم موّحد للحداثة.

ومن هذا المنطلق، انخرط الفكر العربي المعاصر في مساءلة نقدية للحداثة فهماً وتأويلاً، فنتج عن ذلك حداثات متعددة ومتداخلة عكست الاضطراب والانحباس الذي تعرفه الدراسات العربية المعاصرة في شقها الفكري والفلسفي والنقدي، ومن بين المفكرين الذين عكفوا على مقاربة مصطلح الحداثة بالدراسة والتفكيك محمد أركون الذي عرّفها قائلاً: «الحداثة هي موقف للروح أمام مشكلة المعرفة، إنها موقف للروح أمام كل المناهج التي يستخدمها العقل للتوصل إلى معرفة ملموسة للواقع، فالحداثة التي نقصدها هي ليست زمنية أو لزامية»[2]. فالحداثة الأركونية هي موقف يتخذه الإنسان العاقل تُجاه القضايا المعرفية المطروحة في واقعه المعيش؛ وذلك من خلال إعمال النظر العقلي في الموجودات في سبيل الوصول إلى الحقائق العلمية والكونية وحتى الإلهية، مع العمل على الخروج من الوصاية التاريخية التي فُرضت على العقل الإنساني. كما أنّ الحداثة الأركونية هي حداثة زمنية مرتبطة بسياقات كل عصر، وبذلك يمكن الحديث عن وجود حداثات قائمة على خصوصية المجتمعات والأزمنة.

أمّا عبد الله العروي، فتناول الحداثة من منظور نهضوي شمولي، ليُعرفها قائلاً: «الحداثة هي ثورة اقتصادية، وثورة علمية مبنية على الملاحظة والتجربة، وإصلاح ديني موجه ضدّ الكنيسة واحتكارها التأويل للمقدس، وثورة فكرية تعتمد أساسا على العقل.»[3] فالحداثة في فكر عبد الله العروي هي عبارة عن مجموعة من المبادئ المتظافرة في ما بينها، والتي تؤدي إلى نهضة شاملة ومتماسكة في جميع ميادين الحياة، لتمس بذلك حداثته جميع خطابات العلم والمعرفة، هذا ونجد عبد العروي يرفض الوعي التجزيئي أو الانتقائي للحداثة، ويدعو إلى حداثة متكاملة تمس جميع القطاعات المعرفية والاقتصادية والصناعية والسياسية والفلسفية والدينية.

أماّ أدونيس، فيعرّف الحداثة قائلاً: «فالحداثة تعني التغاير والخروج عن النمطية، والرغبة في خلق المغاير.»[4] وبهذا تقترن الحداثة لدى أدونيس بالتحرر من مختلف المعوقات التي قد تُشكل عقبة أمام تقدم الإنسانية، وفي تعريف آخر نجده يُعطيها أبعاداً ثورية مرتبط بالتغيير والتمرّد، فيقول: «الحداثة رؤية جديدة وهي جوهرياً رؤيا تساؤل واحتجاج، تساؤل حول الممكن واحتجاج على السائد في المجتمع، وما تتطلبه حركته العميقة التغيرية من البنى التي تستجيب لها وتتلاءم معها».[5] فالحداثة هي حركة تجاوز مستمرة، رافضة للاستقرار والاستكانة والمهادنة؛ فالحداثي هو الذي يخالف السائد، ويثور على الثابت، ويسعى إلى عدم الانخراط فيما هو متاح والبحث عمّا هو متغير. فالحداثة هي فعل واعٍ يتسم بالشك والاحتجاج والرفض، مع العلم أنها غير مرتبطة بزمن معيّن، فما هو حداثي اليوم قد يكون مرفوضاً في الغد.

وإذا كانت الحداثة عند أركون والعروي وأدونيس تحمل طابع الثورة والتغيير والانسلاخ والتجديد، فإنّ الجابري يُقدم لنا رؤية مغايرة لما قدّمه هؤلاء، رؤية تتسم بالوعي والعمق والتريث في تقديم الحداثة إذ يقول في هذا الصدد: «والحداثة في نظرنا، لا تعني رفض التراث ولا القطيعة مع الماضي بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما، نسميه بالمعاصرة، أعني مواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي»[6] وعليه، نستنتج أنّ الحداثة في فكر الجابري لا تعني القطيعة مع التراث بقدر ما تعني إعادة إنتاجه ومحاورته ومساءلته والتواصل معه في ضوء ما أفرزته المناهج الحداثية؛ فالقطيعة مع التراث في نظر الجابري هي فعل حداثي متطرف، لا يختلف كثيراً عن القراءات المتشدّدة للتراث، والتي تدعي الإطلاق في تملّك الحقيقة. ولذلك يجب خلق حداثة عربية واعية «تنطلق من الانتظام النقدي في الثقافة العربية نفسها؛ وذلك بهدف تحريك التغيير من الداخل»[7] فالجابري يسعى إلى بناء حداثة تستند إلى مرجعيّة عربيّة، وتراعي الخصوصيات المكونة لهذه الثقافة، فلا سبيل إلى بناء حداثة وعقلانية إلا من داخل المعطى التراثي. أمّا تلك الإسقاطات المباشرة لمفاهيم الحداثة على التراث العربي، فتُعدّ من الأخطاء المنهجية التي يجب الحذر منها، فالحداثة الغربية، وعلى الرغم من النجاعة التي أبانت عنها في مقاربتها للتراث المسيحي، إلاّ أنه لا يمكن لها أن تنتظم داخل معطيات الثقافة العربية لاعتبارات تاريخية وسياقية وفكرية ودينيّة.

2. مفهوم التصوف في الدراسات العربية الحداثية

ما يُثير الاستغراب في مفهوم التصوف في الدراسات العربية المعاصر، هو ذلك الاختلاف الكبير بين الحداثيين في فهمم للتصوف؛ فمنهم من يعتبره الحل الأمثل لمزالق التطرف والتشدّد نظراً لرحابة الرؤية الصوفية، في حين رأى آخرون أنّ التصوف هو تجربة معادية للمعرفة العلمية العقلية البرهانية، ويسوّق لمعارف مبنيّة على الخرافات غير مؤسسة على النظر العلمي الاستدلالي. أمّا فريق آخر، فقد أساء إلى التجربة الصوفيّة، وذلك بإدخال مفاهيم ومصطلحات غريبة على التجربة الصوفية مستوردة من الحداثة الغربية، يتقدّمهم في ذلك أدونيس الذي عرّف التصوف مستنداً إلى الحداثة بقوله: «والتصوف هو تجاوز الواقع، أو ما يمكن أن نسميه باللاعقلانية، واللاعقلانية تعني الثورة على قوانين المعرفة العقلية، وعلى المنطق، وعلى الشريعة، من حيث هي أحكام تقليدية تُعنى بالظاهر...هذه الثورة تعني بالمقابل التوكيد على الباطن، أي على الحقيقة مقابل الشريعة، وتعني الخلاص من المقدس والمحرم, وإباحة كلّ شيء للحرية؛ فالله في التصور الإسلامي التقليدي نقطة ثابتة متعالية منفصلة عن الإنسان، التصوف ذوّب ثبات الألوهية، جعله حركة في النفس، في أغوارها، أزال الحاجز بينه وبين الإنسان...المتصوف يحيا في سكره، وهذا السكر نابع من قدرته الكامنة على أن يكون هو الله واحد.»[8] إنّ هذا الفهم الجديد للتصوف في ضوء مبادئ الحداثة، هو في حقيقة الأمر يسعى إلى إنشاء وإيجاد واقع فكري جديد منفصل ومقطوع عن ذاكرة الأمة في تصوفها الأصلي النقي المتسامح في مبادئه والسمح في رؤيته، فالتصوف الذي يقدمه أدونيس هو تصوف غربي مسيحي في جوهره منقطع نهائياً عن التصوف العربي الإسلامي الأصيل؛ لأن التصوف الإسلامي على عكس ما يروج له أدونيس، التزم منذ نشأته بثوابت الإسلام العامة من كتاب وسنة، ولعل التسامح الذي أبان عليه التصوف في خطابه هو ما دفع بأدونيس إلى استغلاله في سبيل تحقيق مآرب لا تمت للتصوف بعلاقة في جوهره ومنهجه.

أمّا نصر حامد أبو زيد، فنجده يُعرّف التصوف قائلاً: «والذي لا شك فيه أنّ التصوف يُمثل - بجانبيه العملي والنظري - موقفاً من الحياة يتسم بالتعالي والازدراء والترّفع، ولا شك أنّ هذا الموقف ذاته لا ينفصل عن إطار الواقع الذي يدفع إلى رد فعل، فيسعى الصوفي للبحث عن حلول متعالية لمشكلات هي حقيقتها واقعية، إنّ الصوفي يحاول أن يُحاول أن يتجاوز إطار الواقع الحسي العياني المباشر بكل تناقضاته وصراعاته وهمومه سعياً إلى المطلق الثابت الخالد يتجاوز إطار الصراع والقلق والتوتر»[9] والحق أنّ نصر حامد أبو زيد من خلال هذا النص، يحاول التأسيس لتصوف فلسفي يجد من خلاله ما هو مشترك مع فلسفة الحداثة؛ فالتعالي والترفع هو من سمات خطابات الحداثة الغربية، سواء في نصوصها الشعرية أو النثرية أو الفلسفيّة، بينما تعالي الخطاب الصوفي هو نتيجة تجربة روحية لها سياقها وسلوكياتها الخاصة بالإنسان الصوفي.

ولعل عدم قدرة نصر حامد أبو زيد على تفسير الخطاب الصوفي هو ما دفعه به إلى رميِّه بالتعالي والازدراء؛ فالخطاب الصوفي كما هو معلوم نص محاط بخصوصياته الروحية واللغوية، لذلك من الصعب القبض على دلالاته بذلك اليُسر الذي يدعيه الحداثيين، ولا يعيب الإنسان المفكر أبداً أن يُقرّ بعجزه عن إدراك كنه الخطاب الصوفي؛ فالعيب هو أن يسارع فيُنكر عموم التجربة بناء على عجزه في فهمها.

3. التصوف العربي الإسلامي في مشروع محمد عابد الجابري.

يرى الجابري أنّ التراث بصفة عامة، يستدعي قراءة جديدة تستوجب الحفر فيه وتفكيكه، قصد إعادة بنائه وتشكيله والتواصل معه من خلال المناهج الحداثية التي أبدت نجاعتها في التعامل مع التراث الغربي، وعلى ضوء مقاربته النقدية لمكونات التراث العربي الإسلامي، رأى الجابرى أنّ التصوف العربي الإسلامي من المكونات المهمة التي نجحت بطريقة أو بأخرى في بناء معرفة خاصة بها ومستقلة عن باقي المعارف الإسلاميّة الأخرى، والمتمثلة في المعرفة البيانية (القرآن والسنة)، والمعرفة البرهانية (الفلسفة الإسلامية)، وعلى ضوء الأنظمة المعرفيّة (البيان، العرفان، البرهان) التي تحكمت في بناء الثقافة العربية الإسلاميّة، سنحاول رصد موقف محمد عابد الجابري من المعرفة الصوفيّة على المستوى المنهجي والمعرفي والحضاري، مع محاولة الوقوف على مكانتها بين الأنظمة المعرفية الأخرى.

1.3. المناهج الحداثية المسخرة في قراءة الجابري للتراث الصوفي

شكلت الحقول المعرفية الغربية وآلياتها المنهجية مصدراً مهماً للمفكر العربي المعاصر في ظل الفقر المعرفي والمنهجي الذي يعيشه الخطاب النقدي في الدول العربية، فنجد معظمهم يلجؤون إلى ما توفره لهم الحداثة الغربية من متطلبات منهجية يستعينون بها إيماناً منهم بأنها السبيل الوحيد لتحقيق نهضة عربية قائمة على أسس عقلية تضاهي تلك التي عرفتها أوروبا، ومن بين الذين استعانوا بهذه المناهج في قراءة التراث، نجد محمد عابد الجابري الذي استثمر المعطيات المنهجيّة التي أفرزتها الحداثة الغربية بوعي يتسم بالعمق في تقويم التراث العربي الإسلامي ومقاربته.

ويذهب الجابري إلى أنّه من المستحيل تحقيق نهضة عربية إسلامية معاصرة، من دون أن ننطلق من تراثنا العربي، وقراءته بأدوات جديدة، وبعقلية معاصرة، تنطلق من تصورات بنيوية داخلية تسمح لنا ببناء ثقافة عربية أصيلة ومستقبلية، ولا يتأتى ذلك إلاّ بالقراءة النقدية الموضوعية المتسِّمة بالعقلانية، يقول الجابري في هذا الصدد: «إنه بممارسة العقلانية النقدية في تراثنا، وبالمعطيات المنهجية لعصرنا، وبهذه الممارسة وحدها، يمكن أن نزرع في ثقافتنا الراهنة روحاً نقدية جديدةً وعقلانية مطابقة، وهما الشرطان الضروريان لكل نهضة.»[10] وإلى جانب العقلانية التي يُنادي بها الجابري في التعامل مع التراث وتقويميه، يمكن رصد ثلاثة مناهج قرائية استعان بها الجابري في مشروعه، وهي على النحو التالي:

1.1.3. الطرح البنيوي الداخلي

إنّ المعالجة البنيوية في نظر الجابري تنطلق من النص، باعتباره ألفاظا أولاً، ومعاني ثانياً، ثمّ قضايا وإشكاليات تتحددّ وِفق النص في بنيته المجردة من كل الأحكام المسبّقة، أو الرغبات الحاضرة في ذهنية المفكر. لذلك ومن الضروري «وضع جميع أنواع الفهم السابقة لقضايا التراث بين قوسين، والاقتصار على التعامل مع النصوص كمدونة، ككل تتحكم فيه ثوابت، ويغتني بالتغيرات التي تجري عليه...إن القاعدة الذهبية في هذه الخطوة الأولى هي تجنب قراءة المعنى قبل قراءة الألفاظ كعناصر في شبكة من العلاقات، وليس كمفردات مستقلة بذاتها»[11] وعليه، نستنتج أنّ الجابري يتعامل مع النصوص كمعطى، أو كمادة خام أوَّلية، لا تهتم بالأحكام الخارجية والتاريخية المسبقة، ولا تتحقق هذه القراءة إلاّ باعتماد المنهج البنيوي الذي يستجيب بنجاعة لتطلعاتنا في مقاربته للتراث.

2.1.3. القراءة التاريخية

تتكئ هذه المرحلة على قراءة الظروف التاريخية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والمعطيات الثقافية المحيطة بالتراث؛ وذلك بُغية فهم أطروحاته وتفسيرها تفسيراً يستند على مرتكزات سياقية تساعد العقل على صياغة معرفة علمية، وهذه الجزئية حسب الجابري ضرورية من ناحيتين: «فهي ضرورية لفهم تاريخية الفكر المدروس...وضرورية لاختبار صحة النموذج البنيوي الذي قدّمته المعالجة السابقة، والمقصود بالصحة هنا ليس الصدق المنطقي، فذلك ما يجب الحرص عليه في المعالجة البنيوية، بل المقصود الإمكان التاريخي، الإمكان الذي يجعلنا نتعرف على ما يمكن أن يقوله النص، وما لا يمكن أن يقوله، وما كان يمكن أن يقوله، لكن سكت عنه»[12] ومن هنا، تتضح أهمية القراءة التاريخية، والتي تُبِين عن نجاعة التحليل البنيوي وتدعّم النتائج التي توصل إليها؛ فالتقييم التاريخي يأتي كمرحلة معلّلة لأحكام القراءة البنيوية بكل أبعادها الحفرية؛ أي فيما قالهُ النص وفيما لم يقله، وفيما كان يمكن أن يقوله لكن سكت عنه لاعتبارات إيديولوجية وتاريخيّة.

3.1.3. منهجية الطرح الإيديولوجي

ترتبط هذه المرحلة باستقراء الوظائف الإيديولوجية التي يؤديها الفكر داخل سياقه الدلالي والتاريخي والمرجعي؛ فالكشف عن «المضمون الإيديولوجي للنص التراثي، هو الوسيلة الوحيدة لجعله معاصراً لنفسه، ولإعادة التاريخيّة إليه.»[13] فالجابري يرى أنّ الهاجس الإيديولوجي كان حاضراً وبقوة في جل المعارف التراثية، بل كان مركزاً مهما في إنتاج المعارف التراثيّة، ولذلك يُعدّ من الضروريات المنهجية استحضار المواقف الإيديولوجية التي أسست للتراث العربي الإسلامي بُغية تجفيف منابعه الإيديولوجية، واستغلاله فيما من شأنه أن يؤسس لنهضة عربية إسلامية مجردة من هواجس الايديولوجيا والانتماء، وفي نفس الوقت تراعى البنية الثقافية والفكرة للأمة العربية.

2.3. التصوف الإسلامي والأصول الهرمسية

يذهب الجابري في قراءته للتصوف العربي الإسلامي، إلى أنّ هذا الأخير اتخذّ من الهرمسية منطلقاً في تأسيس معارفه ومنهجه ورؤيته للوجود، وتعود الهرمسية في أصلها إلى «هرمس herms الذي هو اسم لأحد الآلهة اليونانية، وقد طابقوا بينه وبين إله مصري قديم، هو الإله طوط، كما طابق بعض اليهود بين هرمس طوط، وبين النبي موسى.»[14] وتذكر الأساطير اليونانية أنّ هرمس كان أحد أبناء الإله الأكبر زوس zeus ونُسبت إليه وظائف عديدة كاختراع الكتابة والموسيقى والتنجيم والأوزان[15] أمّا المصادر العربية، فقد قدمت هرمس على أنه النبي إدريس عليه السلام المذكور في القرآن الكريم؛ وذلك لأن إدريس عليه السلام له وظائف مقاربة لما سبق كالكتابة والطب والتنجيم والسحر.[16] ولعلّ نسبة الهرمسية إلى الني إدريس عليه السلام من قِبل المتصوفة، هو في الحقيقة راجعة إلى محاولة إضفاء الشرعية الدينية على التصوف، أمّا الهرمسية كعلوم وفلسفة دينية، فهي ترجع حسب الجابري إلى مجموعة من الكتب والرسائل التي تُنسب إلى «هرمس المثلث الحكمة الناطق باسم الإله وأحيانا يُقدّم على أنه هو الإله نفسه، ولذلك اُعتبرت مؤلفاته وحياً إلهياً».[17]

ويخلص الجابري في قراءته للهرمسية إلى أنّ هذا التيّار يقوم على جملة من الثوابت يمكن إجمالها في ما يلي:

-القول بوجود إلهين؛ الإله المتعالي الذي لا يصدق عليه الوصف ولا تدركه العقول، ومنزّه عما هو ناقص، والإله الخالق الصانع، الذي خلق العالم وتجلى فيه، يمكن إدراكه والتعرف عليه بتأمل ونظامه.

موقفهم من النفس، والتي هي الحلقة الموصلة بين الإله المنزه والعالم، وهي من أصل إلهي لكونها بنت الله؛ أي النفس تحمل هي ذاتها صورة الله في الإنسان.[18]

وعلى ضوء عقيدة التيار الهرمسي، راح الجابري يبحث عن مواطن هذه العقيدة في التراث الصوفي الإسلامي، ومن أبرز ما توصل إليه أنّ التصوف العربي الإسلامي يطابق التصوف الهرمسي في ما يلي:

  • التصوف بالانتشار mystique par extraversion

يخرج في هذا النوع من التصوف الإنسان عن ذاته، ليتحدّ بالله الذي يتصوره في هذه الحالة على أنه كليّة الوجود في الزمان والمكان؛ فالإنسان هنا يذوب في الله، وهذا ما عرف بالفناء في التعبير العربي الإسلامي.

  • التصوف بالانكفاء mystique parentrovosio

أمّا في هذا النوع من التصوف، فالله نفسه يغزو النفس الإنسانية، فيحلّ فيها ويتحول الإنسان حينئذٍ إلى كائن جديد، وهذا ما يقابل نظرية الحلول بالتعبير العربي الإسلامي.[19]

وعلى ضوء هذه القراءة المقارنة بين النصوص الهرمسية ونصوص المتصوفة، يخلص الجابري إلى أنّ التصوف بالانتشار له ما يقابله في التصوف العربي الإسلامي، ولاسيما عند القائلين بالاتحاد والفناء ووحد الشهود. أمّا التصوف بالانكفاء، فيذكرنا بتصوف الحلاج[20]

3.3. موقف الجابري من استقالة العقل عند أعلام المتصوفة

يعمل الجابري في قراءته لنِتاج أعلام التصوف العربي الإسلامي على تحديد ملامح هذه المعرفة من حيث ثنائية العقل واللاعقل؛ وذلك رغبة منه في إعادة بناء التراث الصوفي العربي الإسلامي وِفق رؤية نقدية قوامها العقل، بعيداً عن الخرافة والأساطير والتنجيم والسحر وغيره ممّا نُسِب إلى المتصوفة.

ويتطرق الجابري إلى (أبو القاسم بن محمد الجنيّد المتوفى سنة 297 هـ) الذي رأى أنه من أوائل المتصوفة الذين كانت لهم آراء هرمسية من خلال طريقة رؤيته للتوحيد، إذْ اعتبر أنّ التوحيد العقلي (توحيد المتكلمين والفلاسفة والعوام). أمّا توحيد الخواص، فهو توحيد القلب والشهود، فكان بذلك أول من نقل التوحيد من الميدان الكلامي إلى الميدان الصوفي.[21] وتتلخص نظرية الجنيد في توحيد الخواص، في أنّ المتصوف إذا بلغ مرتبة الفناء أو الاتحاد، «يصير شبحا قائماً بين يدي الله ليس بينهما ثالث.»[22] ليصبح بذلك توحيده مدعماً بالمشاهدة العينيّة المباشرة لله.

أمّا أبو منصور الحلاج (المتوفى سنة 309ه)، فقد تبنى آراء هرمسية من خلال تأسيس نظريته في الحلول، أو التصوف بالانكفاء الذاتي[23] كما سمّاها المستشرقون، ويبني الحلاج تصوفه على مقولة (خلق الله آدم على صورته)، في حين يُرجع أهل السنة الضمير في (صورته) على آدم، يُرجع الحلاج الضمير على الله، ويشرح ذلك في كتابه الطواسين بقوله: «تجلى الحق لنفسه في الأزل قبل أن يخلق الخلق وقبل أن يعلم الخلق...وكانت المحبة عِلة الوجود والسبب في الكثرة الوجودية، ثم شاء الحق سبحانه أن يرى ذلك الحب الذاتي ماثلا في صورة خارجية يشاهدها ويخاطبها، فنظر في الأزل وأخرج من العدم صورة من نفسه لها كل صفاته وأسمائه، وهي آدم الذي جعله على صورته أبد الدهر.»[24] وانطلاقاً من هذه الرؤية في خلق الإنسان، بنى الحلاج حسب الجابري نظريته الحلولية؛ أي إنّ الله عزّ وجل انحل في آدم، فخرج آدم على صورته. ولعلّ عبارته الشهيرة (أنا الحق) هي تلخيص لمذهبه الحلولي.

إلى جانب الجنيْد والحلاج، تطرق الجابري إلى أصول نظرية وِحدة الوجود، والتي اشتهر بها ابن عربي، والتي ترجع حسب الجابري إلى أصول يونانية قديمة تتصور بأنّ «العالم إنسان كبير، والإنسان عالم صغير.»[25] مبدأ يُبرز ذلك الترابط الموجود بين أجزاء العالم كترابط أجزاء الإنسان، وسريان قوة واحدة فيه ككل مثلما تجري الحياة في جميع أجزاء الجسم البشري، وانطلاقا من هذه الرؤية الوجودية للعالم انتقل ابن عربي من ثنائية (الله والكون) أو (الخالق والمخلوق) إلى أحادية وجودية كونية ترى اتحاد الخالق مع المخلوق، بل يُصبح المخلوق ظل للخالق، فلا موجود بحق إلاّ الله، ويتجلى ذلك في قوله: «فإنّ العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء».[26]

5.3. التصوف السني وإيديولوجيا التأسيس في قراءة الجابري

يذهب الجابري في تحليله لمكونات الثقافة العربية الإسلامية إلى أنّ هناك ثلاثة أنظمة حكمت بناء الموروث العربي القديم تمثلت في: النظام البيان (القرآن والحديث والأثر) والنظام البرهاني (الفلاسفة المسلمون) والنظام العرفاني (المصوفة والشيعة)، وكان كلّ نظام رافض للآخر، سواء لدوافع معرفية أو سياسية أو إيديولوجية، إلاّ أنه حدث أمر جعل نظام البيان يتحالف مع نظام العرفان الصوفي، والسبب راجع إلى أنّ المتصوفة «أصبحوا يضايقون الشيعة وينافسوهم على الهرمسية ويتبنون الهيكل العام لمدينتهم الروحية، مجرداً عن الوظيفة السياسية.»[27] موقف جعل نظام البيان (أهل السنة) يُعيد النظر في التصوف، ويتبنى موقفاً جديداً تُجاهه، محاولاً إعادة بنائه وإضفاء المشروعية السنية عليه، فتبلور ما يُسمى بالتصوف السني[28] أي التصوف الذي يتحرك داخل إيديولوجيا أهل السنة، ويستمد مشروعيته من الكتاب والسنة.

ربماّ كان هذا الموقف المزدوج الذي سلكه المتصوفة في منافسة الشيعة في سلاحهم المعرفي، ونزع الطابع السياسي عنه، ومهادنة الدولة وخدمتها، هو الذي جعل الأمور تسير نحو تقويم جديد للتصوف من جانب أهل السنة والأشاعرة، والعمل على إعادة كتابة تاريخه بالشكل الذي يضفي عليه المشروعية[29] وفي سياق مزاحمة التشيّع ومهادنة الدولة السنية، وقعت المصالحة بين البيان والعرفان، ولا سيما على يد محمد أبو بكر الكلاباذي (380ه) الذي اُعتبرت محاولته أقدم محاولة، سعى من خلالها نقل العرفان إلى ميدان البيان عن طريق كتابه الشهير (التعرف لمذهب أهل التصوف)[30]. وتبدأ بوادر المصالحة من خلال الرجوع بكلمة الصوفية إلى «أوصاف أهل الصفة الذين كانوا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلّم، أو إلى الصوف لباس الأنبياء وزي الأولياء.»[31] وبهذا يكون الكلاباذي قد رسم طريقاً جديداً للتصوف غير ذلك الذي عُرف لدى أسلافه، طريق حاول من خلاله بعث التصوف في ثوب جديد يستمد مشروعيته من الرسول صلى الله عليه وسلّم والصحابة والأنبياء والرجال الصالحين، لتصبح بذلك مرجعية التصوف سنيّة في جوهرها ومنهجها.

وبالإضافة إلى الكلاباذي، حاول أبو نصر السرج الطوسي (378ه) في كتابه (اللمع) التماس المشروعية السنية للتصوف؛ وذلك من خلال «ردّ مسائل التصوف إلى القرآن والسنة، وتأسيس أقاويل المتصوفة على آيات وأحاديث ومرويات عن الصحابة.»[32] وبهذا، يكون التصوف قد أسس لنفسه مرجعية جديدة مستمدّة من القرآن والسنة وأقوال الصحابة. وعلى ضوء هذا التجديد، أعاد أهل السنة والأشاعرة تقييم التصوف، وتغيير موقفهم منه، وإدماجه في منظومتهم البيانيّة مع العمل على التماس الشرعيّة له.

ويذهب الجابري إلى أنّ السبب الرئيس للتحالف بين العرفان والبيان هو «المد الفاطمي الذي كان يُمثله العرفان الشيعي في القرنين الرابع والخامس على الخلافة العباسية ودولها السنية، الأمر الذي فرض المصالحة، بل التحالف بين البيان والعرفان الصوفي.»[33] وبهذا، تنتقل المصالحة من المجال المعرفي المرجعي، إلى المجال السياسي الذي فرض نوعا من التسامح مع المتصوفة، وتقريبهم لمواجهة المد الشيعي الذي كان يُمثل تهديداً للدولة السنية.

6.3. الخطاب الصوفي وأزمة الأسس في قراءة الجابري

يذهب الجابري إلى أنّ أزمة الخطاب الصوفي هي أزمة أُسس، أو ما يُسمى بالآليات الاستدلالية التي يعتمد عليها في إنتاج المعرفة الخاصة بنظامه؛ «فالعارف يستعين بالرياضات والمجاهدات...إلى أن تنفجر ينابيع المعرفة، فيطلعون على الحقائق والأسرار»[34] لتصدر بذلك عن العارف معرفة مجردة من العقل ومن الآليات الاستدلالية الاستنباطية التي تساهم في بناء خطاب مؤسس على معرفة برهانية؛ فالمعرفة الصوفية حسب ما يُفهم من نص الجابري، هي معرفة ظرفية تخص الشخص، وتستمد صدقها من قراره واختباره أثناء تجربته الروحية.

وإذا كانت النظام البياني (الفقهي، أهل الأثر في التفسير) يتجه من اللفظ إلى المعنى في استنباط المعارف من القرآن والحديث، فإن النظام العرفاني على عكس ذلك، يكون فيه الاتجاه بالعكس من المعنى إلى اللفظ، والنتيجة أنّ التأويل العرفاني يتحرر من قيد القرينة التي تُلزم في التأويل البياني، وبالتالي يكون التأويل العرفاني دون جسر وواسطة[35]، مجرد من العلة، أو ما يسمى بالحد الأوسط عند المنطقيين.

ويصل الجابري بعد تحليله لنماذج من الخطاب العرفاني إلى نتيجة مفادها أنّ الآلية الذهنية للعرفان الصوفي تقوم على القاعدة الإبستمولوجية المسماة بالمماثلة analogie أو كما اصطلح عليها النظير يُذكر بالنظير؛ بمعنى الاعتماد على معانٍ وآراء جاهزة تشكل قوام وجوهر مذهبهم[36] وإسقاط على المستجدات الطارئة، أي على ما يماثلها من قوالب جاهزة أسسّ لها العارفون على بالمشاهدة والمعاينة والإلهام. وبهذا يصبح القياس العرفاني يختلف عن نظيره الموجودة عند المناطقة أو حتى الفقهاء والمفسرين وعلماء الكلام والفلاسفة عموماً؛ فالقياس العرفاني يعتمد على آلية ذهنية تقوم على المشابهة بين بنيتين أو أكثر، تتكون كل منهما من عنصرين، وتنبني العلاقة بينهما على الصورة التالية:

بمعنى (أ) بالنسبة ل (ب) مثل (ج) بالنسبة (د) ومثل (ه) بالنسبة لـ (و)...إلخ؛ فالعلاقة في هذه الأقيسة تناظرية لا استدلالية؛ أي إن النظير يُذكر بالنظير، فالبنية الأصل تناظر البنية الفرع[37]، والبنية الفرع تُقاس على البنية الأصل؛ أي يتم الاعتماد على نوع من المطابقة بين البنيتين على أساس أنّ العناصر المكونة للبنية الفرع تشبه عناصر البنية الأصل المتوارثة، ويتطرق الجابري في إثبات دعواه على أمثلة من تفاسير المتصوفة أبرزها ما ذهب إليه عبد الكريم القشيري في تفسيره لقوله تعالى: [«وَأَتِمُوا الحَجَ والعُمْرَةَ لِلَّه» البقرة 196] فيعلق عليها قائلاً: «إتمام الحج على لسان العلم (البيان الشرع) القيام بأركانه وسننه...أمّا على لسان الإشارة (العرفان) الحج هو القصد، فقصد بيت الله (الكعبة)، وقصد الحق (الله) فالأول حج العوام، والثاني حج الخواص، فمن يحج بنفسه يطوف ويسعى ثم يحلق، فكذلك حينما يحج بقلبه فإحرامه يعقد صحيح على عقد صريح ثم يتجرد عن لباس مخالفاته وشهواته...»[38] فالقشيري هنا حسب نظرية المماثلة يُقيم تناظر بين أركان الحج والتصوف، إذْ يرى أنّ الحج حجان، حجّ الشرع، وحج القلب، ويستمد هذا الأخير شرعيته من الحج الأصل، فالمماثلة هنا بين بنيتين الأصل (الحج) والفرع (القلب) ويمكن التمثيل لها بـ:

حج الشرع هو نظير حج القلب، والطواف بالكعبة هي تناظر التجرد من الشهوات والمخالفات؛ فالأول حج العوام والثاني هو حج الخواص. وما يُعاب على هذه المماثلة أو هذا التناظر حسب الجابري ما يلي:

-  أنّ المماثلة العرفانية مجرّدة من القرينة.

-  أنّ المماثلة العرفانية منزلقة في المطابقة.

-  أنّ المماثلة العرفانية فاقدة للعقلانية.[39]

يتبيّن لنا من هذا الكلام، أنّ الجابري يخالف المتصوفة في آليات استنباط المعرفة؛ وذلك لغياب المنهج الاستدلالي البرهاني، والاكتفاء بمنهج المماثلة الذي يسعى إلى الربط بين العالم العلوي والعالم السفلي، فالقياس العرفاني بشكل عام يفتقد للقرينة والعلة، أو ما يسمى بالحدّ الأوسط، ويميل إلى عملية المطابقة بين الموجودات الأصلية، ولاسيما الحقائق الإلهية المطلقة وبين المستجدات الطارئة، بالإضافة إلى أنّ القياس العرفاني متدنٍّ في عقلانيته؛ أي يعمل على حجب العقل «وإلغائه...ومن حق العقل أن يدافع عن نفسه[40] بالتأسيس لمعرفة خاضعة لنظامه الخاص، نظام قوامه الاستدلال والبرهان.

4. خاتمة نقدية لقراءة الجابري

عمل الجابري من خلال قراءته النقدية على حشر التصوف الإسلامي في زمرة اللامعقول؛ وذلك من خلال نعته بالعقل المستقيل العاجز عن تقديم معرفةً نقدية علمية عمليّة، معتبراً إياه عرفاناً تعود أصوله إلى الهرمسية والفلسفة الغنوصية، إلاّ أنّ هذا الحكم الإطلاقي من قِبل الجابري فوَّت عليه قراءة معرفية متأنية، تنطلق من فهم معياري لمصطلحات ومفاهيم وتجارب المتصوفة، بدل التعرض للتصوف من باب كتابات أحوال المتصوفة. فالجابري لم يعمد في مقاربته للتراث الصوفي إلى سلوكيات وقيّم التسامح التي دعا إليها المتصوفة، بل راح يتبع التجارب الروحانية التي مرّ بها بعض المتصوفة في مقاماتهم، تجارب قام الجابري بمحاكماتها وٍفق منظوره الخاص؛ وذلك بنقلها من سياقها إلى سياقه، أو من خلال مقارنتها بالأنظمة المعرفية الأخرى (البيان والبرهان).

والحقيقة أنّ الجابري لم يقرأ الخطاب الصوفي الإسلامي انطلاقا من قاعدة قراءة اللفظ قبل المعنى، والتي دعا إليها وجعلها من ثوابت مشروعه النقدي من أجل ضمان قراءة موضوعية، بل قرأ التراث الصوفي بأحكامٍ مسبقة إبستيمولوجياً، وذلك من خلال مناصرته لقضايا العقل، وانتصاره للعقلانية، لذلك نجده حريصاً على أن لا يؤصل للتصوف العربي الإسلامي من داخل الثقافة العربية، بل يعمل على التأصيل له من خارج الثقافة العربية الإسلامية، ليثبت غرابة التصوف عن البيئة العربية الإسلامية، فالتصوف عنده هو ذات الآخر متماهية مع الذات الإسلامية.

أمّا فيما يخص موقفه من منهج المماثلة الذي تمسك به المتصوفة في إنتاج معارفهم، فقد رأى الجابري أنّ المماثلة منهج احتمالي في الاستدلال؛ وذلك من خلال التمييز بين نوعين من الاستدلال، استدلال برهاني يقيني في نتائجه، واستدلال خطابي احتمالي في نتائجه، ولعلّ تميّز المماثلة بصفة الممكن والاحتمال هو الذي جعل الجابري يرفض المعرفة الصوفية التي تتميّز بالاحتمال في نتائجها لا القطع. لذلك وصفها بأنها تمثل أدنى درجات العقل لاحتمالية معارفها.

صحيح أنّ المماثلة لم يكن لها نصاب من البرهان اليقيني، إلاّ أنها تبقى لدى المناطقة آلية غير لا استغناء عنها في مناهج التفكير، باعتبارها إحدى آليات إنتاج العلم في نشأته عبر الانتقال من الاحتمال إلى البرهان.

وعلى الرغم من العداء المعلن تجاه منهج المتصوفة من قِبل الجابري، إلاّ أنه لم يستطع الاستغناء عنه حين راح يستعين بالمماثلة متى دعت إليها الحاجة، ونلتمس ذلك في المماثلة التي يُقيمها بين الفقه والفلسفة والعلم حين راح يقول: «إنّ الفقه هو للحضارة العربية الإسلامية ما للفلسفة للحضارة اليونانية، وما العلم والتقنية بالنسبة للحضارة الأوروبية الحديثة.»[41] ولعلّ هذا الاستدلال يمثل أعلى درجات المماثلة في تعددها.

 

[1] - باحث جزائري.

[2] محمد أركون، تحديث وليس حداثة، تر: محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العلي، دار توبقال للنشر، ط، 3، 2008، المغرب, ص 104/105

[3] محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العلي، الحداثة وانتقاداتها (نقد الحداثة من منظور عربي إسلامي)، دار توبقال للنشر، ط، 2 المغرب، 2006، ص92

[4] أدونيس، فاتحة لنهايات القرن - بيانات من أجل ثقافة عربية-، دار العودة، بيروت(لبنان)، ط، 1، 1980، ص 244

[5] عبد الله محمد الغدامي، تهافت النقد وقراءة التنميط واقصر، مجلة نزوة، مؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلان، عمان، ع، 32، 2009، ص9

[6] محمد عابد الجابري، التراث والحداثة - دراسات ومناقشات – مركز دراسات الوحدة العربية، ط, 1, 1991, بيروت، لبنان، ص15

[7] محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، ص16

[8] أدونيس، مقدمة في للشعر العربي، دار العودة، ط، 3، 1989، بيروت، ص131

[9] نصر حامد أبو زيد، فلسفة التأويل، دار الوحدة للطباعة والنشر، ط، 1، 1983، لبنان، ص33

[10] محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، مركز دراسات الوحدة العربية ط، 1، 1999، بيروت، ص35

[11] محمد عابد الجابري، نفسه، ص32

[12] محمد عابد الجابري، نفسه، ص32

[13] محمد عابد الجابري، نفسه، ص32               

[14] محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ص174

[15] يُنظر، محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ص158

[16] يُنظر، محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ص158

[17] محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ، ص175

[18] يُنظر، محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ص177/178

[19] يُنظر، محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ص178

[20] محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ص179

[21] يُنظر، محمد عابد الجابري، تكوبن العقل العربي، ص208

[22] الجنيد، رسالة التوحيد، تح، عفيفي ص161، نقلاً عن الجابري، تكوبن العقل العربي، ص207

[23] يُنظر، محمد عابد الجابري، تكوبن العقل العربي، ص208

[24] أبو منصور الحلاج، الطواسين، نفلاً عن أحمد أمين، ظهر الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1962م ج/2، ص78

[25] محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ص181

[26] محي الدين بن عربي، فصوص الحكمة، تح، أبو العلاء عفيفي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ص197

[27] محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ص275

[28] يُنظر، محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ص275

[29] يُنظر، محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ص 278

[30] يٌنظر، المصدر نفسه، ص278

[31] محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ص277

[32] المصدر نفسه، ص279

[33] المصدر نفسه، ص280/281

[34] محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، ص295

[35] يُنظر، محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، ص291

[36] محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، ص305

[37] ينظر، محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، ص305

[38] عبد الكريم القشيري، لطائف الإشارات، تح، ابراهيم بسيوني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط، 2، 1981، القاهرة، ص307

[39] ينظر، طه عبد الرحمان، تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، ط, 2، الدار البيضاء، ص66

[40] محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، ص379

[41] محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، ص96