الأخلاق الحديثة في ضوء نقد إدموند هوسرل للأسس العلمية للحداثة


فئة :  مقالات

الأخلاق الحديثة في ضوء نقد إدموند هوسرل للأسس العلمية للحداثة

الأخلاق الحديثة في ضوء نقد إدموند هوسرل للأسس العلمية للحداثة

على سبيل التقديم:

إذا كان علينا تحديد الحداثة في فهم ما، فتحديدنا لها سيكون وفق ضربين؛ الضرب الأول يذهب مذهب اعتبار أن الحداثة تتويج للوضع الإنساني ضمن العالم، بجعل الذات الإنسانية هي المركز، وذات الأولوية المتقدمة عن الموضوعات، حيث لا تعدو هذه الأخيرة أن تكون إلا برانيات تنضوي تحت تصرف كل ما هو ذاتي عقلاني. وضرب ثان يحدد الحداثة من حيث إنها جسٌّ لأزمة، ومن ثمة يكون تصويب الوضع من خلال القطع مع كل ما سبق، وكان عنصرًا فاعلاً في الارتكاس، من أجل الانفتاح في المقابل على الراهن والوقوف على متطلباته. بيد أن هوسرل قد كان له تجاوز هذا التضارب حول ماهية الحداثة ما بين الاعتبار الذي يراه فعلا للعقل، واعتبار ثان يجعله تعقلا لأزمة إزاء العقل بعينه، نحو القول بازدواج الضربين معا؛ إذ تكون الحداثة بالنسبة إلى هوسرل فعلا للعقل، غير أن هذا الأخير لم يوفق في تشخيص أزمته والوقوف عندها من أجل تأزيمها، وهذا بسبب وجود أزمة في المنهج الذي تعهدت به الحداثة في نموذجها الجديد، ومنه فمادام الأساس الحداثي القبلي عن الفترة المعاصرة ملغوم، فكل ما سيتأتى مبنيٌّ على أساس أسه ينطوي على أزمة، سيشهد هو الآخر أزمة بدوره.

هكذا انبثقت الأزمة المعاصرة، التي أوقدت بدورها فيما بعد جذوة النقد الما بعد حداثي للحداثة، ولعل نقد هوسرل بفلسفته الفينومينولجية، قد كان من المشاريع النقدية التي نالت نصيبها من الاستثناء والتفرد؛ إذ إنه لم يذهب مذهب تلك التيارات العدمية والتشاؤمية التي تعلن عن جنازة العقل، وانعدام نجاعته عند محاولة تشخيص الأزمة المعاصرة، بل إن هوسرل قد نأى عنها وعن تشكيكها في العقل، ليسعى بسعي حثيث باحثاً من خلال تحليلاته عن الكفيل بإرجاع القيمة للعقل من إزاء العقل بذاته لاستعادة الثقة فيه أولا، وفي الفلسفة ثانيا، لكي تحمل هذه الأخيرة مشعل النظر في تلك الأزمة. بتوجه هوسرل هذا، يكون قد ربط الأزمة الإنسانية الأوروبية من حيث تشخيصها، بالأسس العلمية التي تقومت بها الفلسفة الحديثة؛ أي “العلم الغاليلي” و”الفلسفة الديكارتية“. والمقصد هنا التشخيص لأزمة من جميع أبعادها حتى الأخلاقية منها؛ فالحداثة عندما كان لها الانبثاق تأسيسا على تلك الأسس، فإنها قد مست بكل ما يمت للفعل الإنساني بصلة من حيث إنها نزعة إنسانية كونية، ومنه فحتى الأخلاق قد تم تأسيسها على نفس تلك الأسس المعرفية العلمية للحداثة. لهذا، فنقد هوسرل لتلك الأسس المعرفية لابد له من أن يكون قد انطوى ولو على نحو ضمني نقدا للأخلاق الحديثة، مادام قد وضع العلم الغاليلي والفلسفة الديكارتية موضوعا لنقده من حيث الأسس.

هذا ما يجعلنا إزاء ضرورة طرح مجموعة من الأسئلة التي تخامرنا بهذا الصدد، والتي يمكن إجمالها في الطرح التالي:

من أي مبدأ توجه هوسرل للأسس العلمية الحديثة بالنقد؟ وعلى ماذا كان نقده؟ وهل مشروع هوسرل في نقده للأسس العلمية للحداثة قد تضمن نقدًا للأخلاق، وإذا كان الأمر على هذا النحو من الاعتبار، فكيف نستشف هذا التضمن؟

قامت الفلسفة المعاصرة على ميكانيزم ثوري في مسألة ارتباط الفلسفة بالعالم. هذا الميكانيزم يتمثل في العودة إلى الأسس من أجل نقد ما هو جذري لفعل التفلسف بذاته والإبستيمولوجيا التي تقوم عليها الفلسفات. لذا، لم يكن النظر النقدي جزئيًا في فلسفة فيلسوف واحد أو في نسق من الأنساق الفلسفية، بل أصبح النقد يستهدف الأسس التي شكلت البنية المنهجية للفكر الحديث. تمظهر ذلك في تنحٍّ واضح عن تلك الادعاءات الكبرى للعقل، وتحديدًا العقل الذي استند إلى المبادئ الحداثية منذ غاليلي وديكارت. إذ بات هناك وعي صريح بأهمية الارتماء المباشر في التباسات العالم بتواشجاته واندلاقاته، التي يستعصي اختزالها في القوالب النسقية التي كان المفكرون في الفترة الحديثة يواجهونها. فالعالم كان متمركزًا حول الذات في منأى عن الموضوعات البرانية، وتمت الاستعاضة عن رد الحاضر إلى الجواهر - الأشياء في ذاتها، المثال، المونادا، الإله - ببحث تناقضات هذا الحاضر في ارتباطه بالعقل1.

هذا ما قد استوقف هوسرل، لينطلق من منطلق أن ما شهدته الفترة المعاصرة من أزمة للعلوم، لها أطناب منذ الجذور الأولى المؤسسة للفلسفة الحديثة؛ إذ اشتملت تلك الجذور على أزمة علمية، والمقصد هنا أزمة في الكيفية التي تحددت بها مهام العلوم ومناهجها ونتائجها عندئذ 2؛ فالمنهج الذي تم اعتماده منذ الثورة العلمية هو ما تم تسخيره كأداة نموذجية إزاء الفكر الحديث ككل. ولما كان البراديغم عبارة عن نموذج معرفي نفكر وفقا لما يتضمنه من مناهج ونظريات، ومادام سينطوي هذا النموذج على أزمة، فإن كل ما فكر فيه إزاء الفترة الحديثة داخل كلٍّ من مبحث المعرفة والوجود والقيم على نحو المنهج الحديث الذي يتضمن الأزمة، قد كان فيه مجال للمظنة المعرفية، لتنبثق بعدها أزمة معاصرة مادامت هذه الفترة لم تقم إلا على الوضع الذي سبقها.

من هذا المنطلق، كان نقد هوسرل على ركب الدعوة إلى ضرورة تجاوز الحداثة كون تجاوزها فيه تجاوز لما تمخض عنها من أزمة؛ وذلك بالعودة النقدية إلى الأسس العلمية التي قامت الحداثة عليها، تلك الأسس المتمثلة في نموذجي كل من “غاليليه” و”ديكارت”، كون هذا العود ضرورة لابد منها من أجل تأزيم وضع الأزمة المعاصرة. بيد أن هذا النقد لابد له أن يكون بمعية مراعاة لما حققته تلك الأسس العلمية من نجاعة ودقة 3؛ إذ إن الأزمة التي يقصدها هوسرل لا تخص علمية تلك الأسس؛ ذلك لأن علمية النظريات المؤسسة للإبيستيمي الحديث تظل ذات مشروعية ونجاعة من حيث القيمة العلمية، بيد أن الأزمة تنبثق عندما توظف مناهجها على نحو يجعلها نموذج يتوسل به الفكر ككل؛ فالأزمة هنا تكون من حيث دلالة تلك العلوم عند الارتباط بالوضع البشري منهجيا؛ إذ إن العلوم الوضعية قد كان لها الإعراض الجلي عن العالم المعاش، وأخذت في الحيلولة بصرف النظر عما هو إنساني وجودي، حيث لم يتمخض عن هذا الوضع إلا بشر لا يفقهون غير الوقائع في انخراط سطحي يأخذون فقط بما هو قابل للملاحظة الموضوعية في نفي تام لفعل العقل بارتباطه مع الوجود الإنساني، ليتم الانفلات في المقابل إلى مسلك يعامل فيه الإنسان معاملة المادة الطبيعية الخاوية من ضروب الفعل الإنسانية القابلة للتحليل الرياضي؛ في ما معناه أن الأزمة الحديثة تمثلت أساساً في العقل عندما لم يعد يرتبط بالوجود البشري كما يعطى خالصا.

نقد هوسرل للأسس العلمية الغاليلية للحداثة، وما لحقها من الذاتية الديكارتية:

انطلق غاليلي من منطلق ضرورة تحقيق الموضوعية العلمية، فبلور لهندسة رياضية خالصة تطبق على الواقع التجريبي، لتجعل تعدد العالم وتنوعه عبارة عن وحدة محددة مثالية، تكون مثالية ليس فقط من حيث إنها ليست مادية. كما الأمر في فعل الخيال، بل هي مثالية دقيقة مضبوطة، وتحقق كمالا لذلك الممكن التجريبي، طبقا لترييض خالص كرابط ماهوي يضمن المثالية متساوقة مع الدقة، وهذا ما لا يضمنه إلا ترييض مملكة الأشكال ذات الأبعاد الزمنية والمكانية، فتكون ذات طابع عقلي بحت 4. ووفقا لهذه الممارسة يكون تعرف الأجسام العينية عبر تحديد منهجي مطلق الهوية ذهنيًّا، هكذا فإن الهندسة الغاليلية كبوصلة موجهة للتفكير، على نحو ربط التجريبي بحدود رياضية دقيقة، قد صيرت الطبيعة إلى كون رياضي 5. وهنا يكمن عنصر الارتكاس في الأسس العلمية الغاليلية؛ ذلك لأن الأجسام إزاء العملية التجريبية تكون لها كيفيات تربطها ببعضها البعض، تكون حسب الترييض الغاليلي بتوجيه من الحدود الرياضية، هذا التحديد هو ما يجعل معرفة تلك الأجسام التجريبية دقيقة ومثالية. لكن العالم له صورة واحدة فقط، وهي خاصة بالأشكال لا كيفياتها، حيث إن كل الأشكال يكون لها امتداد مجرد كلي كصورة، تتحدد وفق ذلك الترييض، بيد أن تلك الكيفيات الخاصة بالأجسام لا يكون لها الوقع تجريبيا. وبهذا، فتلك الكيفيات التي ترتبط بها الأجسام تجريبيا لا يكون لها معنى مقابل في الترييض، كمعنى يعكس عالم الأشكال 6، ومنه فمحاولة الترييض هذه لن تكون إلا تلفيق خال من المعنى لعالم المثاليات إزاء عالم المجربات العيني.

كما أن أشكال التجربة الحسية المحددة من خلال الإدراك الحساس، متعارضة تماما مع طابع الهندسة الخالصة التي تنقلها تقنيات القياس بتحديد دقيق موغل في العقلانية المثالية، ولوجود هذا التعارض، فإن ذلك الترييض يكون نفياً تامًّا للعالم المدرك تجريبيا ومعاشيا، كون الاعتبار الرياضي يكمن في أن اختزال العالم في صرح رياضي يكون هو العالم الحقيقي، ومنه فالطبيعة تضحي متمثلة في كلية الموضوعات المنغلقة، لا من خلال الاندفاع المعيشي للكائنات الحية في مجال معيشها الرحب.

وعلى سبيل التنبيه، فعملية العلوم الوضعية المنطلقة من هذا الأساس ليست هي ما تثير التشكيك، وإنما المثير للتشكيك هو مثالية دلالتها المنهجية التي تحجب خاصية الحياة والوجود كمعطى؛ لأن تلك الهندسة الخالصة بذاتها تنأى عن المنبع الأصلي للحدس المباشر؛ أي الحدس الخالص والمعطى الأصلي الذي هو عالم المعيش اليومي، فهذا الأخير يتعارض ويتخالف تماما مع ذلك الحدس الهندسي الذي لا يكون إلا دس للمثالي في العيني مما يورث الريبية والغموض7؛ فالعالم التجريبي كمعطى اصلي تظل ماهيته على حالها الأصلي المباشر. أما المتغير هو ذلك الحدس الهندسي في محاولته تحديد الطبيعة الأصلية بمحددات متناقضة معها، فعوض الانطلاق من الوجود الأصلي ينطلق من الاحتمالية والظنية بمحاولة إضفاء الصلاحية العلمية على فرضيات تظل ضربا من الإمكان إزاء المعطى الأصلي، ومحض افتراض، هكذا فالرياضيات، وعلم الطبيعة كما يعبر عنها هوسرل لا تكون إلا لباس أفكار أو رموز تغلق العالم المعيش بتنكر.

هذا هو تقصير غاليلي؛ إذ لم يتساءل عن المنشأ الارتدادي المانح للمعنى؛ أي المعطى الأصلي والمباشر كأرضية مؤسسة، ليحاول تعديل العالم من خلال تحديدات دقيقة، حتى يجد نفسه في قلب ظنية وريبية، لكون نأن ذلك التحديد الرياضي لا يجد له ما يحتويه في العالم، حيث الوجود الرحب، والمعطى الأصلي الذي يحدد المعنى طبقا له باندلاقاته الدفاقة التي لا تستدعي ضبطا أو تحديدا أو عقلا، في هذا العالم يتوقف كل نظر سواء كان علميا أو فلسفيا، فإذا لم يكرس ذلك النظر جذريا طبع المعطى الأصلي معيشا والحياة المعيشية كمنطلق ومنتهى لبحثه، فإنه سيظل عاجزا قاصرا أبدا عن المعنى الإنساني، لكونه يفصل الذات عن موضوعها ويعمق الهوة بينهما، ولهذا المرد يأتينا هوسرل قائلا في كتابه أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية: ”الإنسان الذي يعيش في هذا العالم وضمنه الإنسان الباحث في الطبيعة لا يمكن أن يضع كل أسئلته النظرية والعملية إلا عليه”؛ أي ليس بمعزل عن عالمه الذي يعيش بإزائه إنسانيته، فهذه الغاية هي ما تم التغاضي عنها من لدن العلوم الوضعية والدقيقة، التي جعلت من أرضية غاليلي مستندا لها، وكان في المقابل صد الموضوع (العالم كواقع معاش) والعدول عن الارتماء المباشر فيه، والبقاء قيد انحصار داخل قوقعة الذاتية المنغلقة على ذاتها.

إلى حد ما حقق الأساس العلمي الحداثي نوعا من الطموح الفلسفي التراجيدي؛ إذ إنه، ولما كانت الفلسفة منذ فجرها الأول على طموح الانتقال من مرتع فضفضة المفاهيم إلى الدقة، فإن هذا ما بلوره العلم من خلال إمكانية استقراء العالم واختزاله في طبع مثالي واضح ودقيق. من هذا المبدأ، كان التفلسف إزاء الفلسفة الحديثة يقوم على إدراج المثالي إلى جانب المعطيات التجريبية، ومن ثم بلورة نزعة إنسانية كانت شعارًا للحداثة، فقد باتت للإنسان مكنة اختزال العالم وعقله، فأضحى متملكا لما يكفل له السيطرة على الوجود بصيرورته الدفاقة. هذا التمركز والتبجيل الذاتي للذات في انفصال عن الموضوع، هو ما وطد لنزعة ما سماه هوسرل ب نزعة “الإنسان الإله“9، التي جعلت الإنسان يروض العالم ليصبح ربًّا وسيّداً عليه.

لم تكن هذه النزعة الذاتية إلا نتاجا لذلك المخاض العلمي الذي أرساه غاليليو، هذا الأخير، وإن كان أول من أثر على علاقتنا بالعالم من خلال إحداث هوة فاصلة بيننا وبين موضوعات المعيش، فإن ديكارت هو ما كان له تعميق تلك الهوة ما بين الذات والعالم بتجسيده لفكرة الذاتي على نحو شامل لكل ما يمت بالارتباط للفعل الإنساني سواء في ضربه الأنطولوجي، أو المعرفي وكذا القيمي الأخلاقي. فالإنسان منطلقا من أناه في منأى عن العالم وانفصال عنه يعرف ذاته ويثبت وجودها، ومن ثمة يعرف العالم ويثبت وجوده. واستلزاما من ذلك، فإنه من ذاته سيكون له تسويغ ما عليه من التزام أخلاقي اتجاه العالم -هذا الطرح الأخلاقي سيكون لنا الخوض في مسألته في شق ثان - على نحو قبلي مفارق للموضوعات، تكون فيه الأسبقية للذات عن الموضوع. فديكارت قد اكتشف الذات المفكرة، لكنه كان من المتسببين في أزمة الحداثة، حينما ذهب للأخذ بتمركز متطرف حول الذات قبليًّا عن الموضوع، بل وجعل تلك الذات حاكمة على العالم؛ إذ ينبري ذلك بجلاء من خلال ثنائية النفس والجسد، التي تجعل العالم الواحد الذي هو المعطى الأصلي عبارة على عالمين؛ عالم الأنا الثابت المثالي واللامتناهي، الممايز بالطبع لعالم ثان، خاص بالأجسام المتغيرة والمتناهية. هنا إن كان ديكارت يبحث عن اليقين، فإنه لم يعط إلا أسباباً أخرى للتوجس المعرفي والارتياب مثله مثل جاليلي، من حيث إن الوجود المعيش الذي يندفع فيه المعنى الإنساني ويعطى فيه المعنى كمعطى أصلي قد تم التغاضي عنه وجعله ثانويا، والتمركز حول حدس العقل بذاته من دون الارتماء في العالم. لهذا فكل ما يعرفه هذا العقل المنفصل عن موضوعه من دلالة، ومعنى للوجود الإنساني، سيكون مثاراً للمظنة 10.

هكذا يبدو أن ديكارت وغاليلي لا يتعارضان في الاتجاه إلا ظاهريًّا، بتعارض الذاتية المتعالية العقلانية مع الموضوعية العلمية، فأحدهما مفتتن بالدقة العلمية، والآخر مفتتن بالذات الترنسندنتالية المتطرفة عن عين وجودها الأصلي، في حين أنهما متوافقان تماما، بل ويستلهمان من بعضهما البعض تعميق ذلك الفتق الفاصل ما بين الذات والموضوع والتمركز الذاتي على حساب العالم.

ولعل هذا ما كان تقصيرًا للحداثة ككل بالتخلي عن العالم المعيش، في حين يكون فيه هذا ألأخير هو ما يمنح المعنى للإنسان. فأزمة العلوم تلك استتبعتها أزمة إنسانية خلال القرن العشرين، وهذا مرده لما خلفته النزعة الموضوعية المتعالية من معاملة الأنسان كمعاملة الطبيعة العلمية، فضاع المعنى الإنساني وتبدد، لهذا فليس هناك من مناص للعودة بالمعنى للإنسان وفعله الفكري إلا بتجاوز ذلك الفصل الثنائي، والارتماء على نحو تباشري في المعيش المدرك، حيث الفضاء الرحب للإنسان.

بهذا التوجه النقدي الذي نسف أسس الحداثة ومن خلاله تم تسليط الضوء على جذور الأزمة المعاصرة الإنسانية وفكرها، أعلن هوسرل فتح البوابة أمام التيارات النقدية من أجل الحفر والتقويض وهدم كل ما سبق وقد انبرى مع أقانيم الحداثة.

مكانة الأخلاق في نقد إدموند هوسرل للأسس العلمية للحداثة- نموذج كانط-:

إن ما أرسي من أسس للعلمية منذ غاليلي، وحظي بتطعيم وتوطيد ديكارت، قد نحت براديغما فكريا مفكرا من خلاله؛ في ما معناه أن ذلك الفصل ما بين الذات والموضوع على نحو أسبقية أحدهما عن الآخر قد كان له الحضور في جل الفلسفات الحداثية في تمظهر جلي لأزمة الحداثة، ولعل الأخلاق لم تنفلت هي الأخرى من هذه الأزمة، بل إنه ومن خلال قراءة النقد الهوسرلي للحداثة، يمكن تفهم أنه ومن بين طيات ذلك النقد هناك نقد مضمر للأخلاقوية الحديثة من حيث إنها قد عنيت بتلك الأزمة الحديثة، ولم تسلم من شراكها.

هنا سنأخذ نموذج “كانط” الذي كان أكثر من توفق في عكس النموذج الأخلاقي للحداثة؛ إذ سيكون النظر إلى مسألة الأخلاق لديه من منظور ذلك النقد الهوسرلي الذي وجه لما يؤسس للحداثة من ثوابت.

يستهل كانط من مستهل البحث عن أساس مؤسَّس للأخلاق، تأسيساً ترنسندنتاليا، وهذا الأساس لا يمكن أن يكون من الطبيعة التجريبية، إنما قبليًّا عنها؛ لأن الإرادة في مجالها المشترك، ترتبط بالطبيعة الغريزية للإنسان، فيمسي كل ما يريده المريد هوما تمليه عليه غريزته الطبيعية حول ما سيحول به للبقاء الطبيعي والإعجاب بضروبه11، غير أن هذه الطبيعة تتغير وتتعدد، ومنه فحتى تلك الإرادة ستتغير وتتعدد بهذا التعدد، ولكون الأساس لا يمكن أن يكون على هذا التعدد الذي يتبعه التمايز، بل لابد له من الثبات والتأسس على ما هو ثابت لا يتغير، فيكون الأصح أن تؤسس الأخلاق على أساس ذي طابع شمولي، وثابت، ومطلق، هذا الأساس هو إرادة لها أس العقل الخالص، لا تكون مرتبطة بمتغيرات الطبع، بل ينبثق عنها فعل أخلاقي واجب فعله ليس لغايات محددة مشروطة بما هو إمبريقي، إنما يكون بموجب ما تمليه الإرادة الخيرة بذاتها من منطلق العقل الخالص المتعالي عن العالم التجريبي، حيث يستفحل الحس المشترك، فهذا العقل الخالص هو الضامن لعدم انفلات الافعال الأخلاقية إلى ما يبدد أخلاقيتها، بالجنوح إلى الميولات التجريبية12.

هكذا وإن نظرنا إلى تصور كانط الاخلاقي من منظور الأزمة الحداثية كما شخصها هوسرل، فإن تصور كانط لم يسلم من عنصر الارتكاس، وبالتالي هذا ما يجعله يعكس تلك الأزمة الحديثة؛ إذ نحت التصور الكانطي على أساس تمركز واضح المعالم على الذات، وفي المقابل هناك تبد بمثل ذلك الوضوح لإهمال العالم، بجعل هذا الأخير مرتعا للمتغيرات والمتناقضات الطبيعية، ومن ثمة أخذ هذا كمسوغ لنفي الطبيعة حيث المعيش، والارتماء إلى ذلك العقل الخالص كمؤسس لأساس الأخلاق.

إن تعدد وتغاير الطبيعة قد يكون مسوغ لإعمال العقل، وهذه ضرورة واضحة المعالم، لكن ليس على نحو تأسيس الأخلاق على العقل الخالص بتفرده؛ فالإنسان شخصه يكون بالمعية؛ أي مع الشخوص الآخرين والعالم بفضائه الرحب، هذا الفضاء هو ما ينطوي على معنى المعيش الإنساني، وهو المعطى الأصلي، كما أن الأخلاق ضرورة تمارس إزاء هذا المعيش في إطار علاقات اجتماعية، وما العلاقات البينية ما بين شخص وشخص إلا نسق من المتحكمات والأحكام، لها مبادئ قيمية تراكم بالمعية، لا بالتفرد واعتزال العالم. ومادام شخص الإنسان، يبلور في تعاطيه مع هذا الحدس الأصلي والمباشر للعالم، ليس على نحو أسبقية فعله العقلي على العالم، ولا أسبقية العالم عن العقل، بل يكون ذلك على نحو آني مباشر يراعي خاصية الوجود المندفعة، فتلك الإرادة المؤسسة على العقل وحسب لا يمكن لها أن تكون أساس لأخلاق الإنسان، كون المعنى الإنساني يناط بتواجد الإنسان بالمعنى، في الآن نفسه، وما إن يبتعد عن الآخر حتى يتبدد معنى كل منهما.

فكانط وهو يحاول التأسيس للفعل الأخلاقي من أجل إضفاء الطابع الكلي على الأخلاق، توارى خلف مبرر العقل الخالص كمبدأ، بوصفه العقل المشترك الشمولي، إلا أنه درأ الوجود الإنساني كمعطى أصلي، رغم أنه كان الأولى في الكلية والشمول. وفي ذلك، جنوح صريح إلى ما تم توارثه من لدن السلف، من وحدوية الأنا وذاتية ترنسندنتالية متعالية عن العالم، ليجد كانط نفسه في المآل على جزئية وتحديدية؛ إذ يقصي العالم كله لينخرط إلى عقل ذاتي خاص.

ومن منظور نقد هوسرل، سيكون هذا الأساس بدوره غير مؤسس، فالأساس الوحيد الذي يمكن قبوله كأساس للأخلاق هو ما يكرس الإنسانية في معناها الوجودي الأصلي. أما القول بأساس عقل خالص متعال عن هذا العالم، فيملي علينا ما ينبغي عمله وجوبا، وفي ذلك نكران تام لخاصية الوجود الإنساني وماهيته؛ فالفعل الإنساني هو فعل تحكمه ضرورة استثناءاته، التي تتباين فيها معايير الحكم على الأفعال إذا ما كانت أخلاقية من عدمها. فالعالم ليس ثابتا كمجال علم وضعي يجوز فيه التعميم والإلزام والتقنين؛ فالأساس الصائب هو اللاأساس؛ في ما معناه الانخراط والاندلاق مع فيض الوجود، ودفقاته في صيرورته وتغيره كما هو من دون إعطاء أسبقية للذات على حساب عالمها المعيش أو العكس من ذلك، على صوب تكون فيه الذات منخرطة مع موضوعها في تناسب زماني مكاني، فلا يكون المبدأ الأخلاقي المسوغ لإطلاق الأحكام الأخلاقية إلا من جنس ذلك التساوق المباشر والتلقائي، ما بين الذات وموضوعها.

يتحصل مما تم بيانه آنفا، أن نقد هوسرل للحداثة في أساساتها العلمية، والنقد الأخلاقي من منظوره كقراءة لنا، كانت لهما سمة جلية الظهور، تنبري من ثناياها الخاصية التي ستسم اتجاه ما بعد الحداثة فيما بعد، الثائر على كل ما تم تكريسه من أقانيم إبيستيمية خلال الفترة الحديثة، تلك السمة هي سمة الانصراف إلى الوجود الإنساني. فهوسرل كان ذا صرح نقدي واضح المعالم من حيث تقومه بمقوم مفاده أن كل ما قد كان عليه السلف من الفترة الحديثة قد نأى عن الوجود كمعطى أصلي، على نحو يتم فيه الفصل ما بين الوعي الذاتي، والعالم المعاش، بمنح الأولوية لأحدهما دون الآخر، كما كان متجليا مع كوجيتو ديكارت، وكتلك الذاتية الكانطية في مسألة الأخلاق، غيرأن أي طموح فكري كطموح العلوم والفلسفات الى الدقة، أو طموح التأسيس للأخلاق، لا يكون عبر إحداث الشروخ والفتوق، والانتقال إلى جانب في منأى عن الآخر أو التواري خلف ذاتية متطرفة، بل يكون من خلال نحت ذاتية واعية ترنسندنتالية، تعاليها لا يكمن في الترفع عن الوجود الإنساني، بل يكون من خلال الوعي بالظواهر الوجودية كما هي خالصة متعالية عن أي أطناب تتفرد بالذات وفقط، من اجل بلوغ ماهية تلك الظواهر في تباشر فينومينولوجي، وهنا لا يكون الضامن لهذا المطلب إلا منهج فينومينولوجي كمنهج يستجيب ويتناسب مع دفقات المعيش التي تعكس الطبع الوجودي للفعل الإنساني.

  المراجع المعتمدة:

1. كتاب جماعي، فلسفات الحاضر مساءلة الميتافيزيقا في الفلسفة المعاصرة، تنسيق وتقديم يوسف مريمي، سلسة الفكر الفلسفي، فاس، دار بصمة لصناعة الكتاب، الطبعة الأولى 2023، ص8

2. إدموند هوسرل، أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية، ترجمة إسماعيل المصدق، بيروت، المنظمة العربية للترجمة الطبعة الأولى 2008 ص41

3. نفس المرجع، ص43

4. نفس المرجع، ص 63

5. نفس المرجع، ص 75

6. نفس المرجع، ص 83

7. إدموند هوسرل، أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية، ترجمة إسماعيل المصدق، بيروت، المنظمة العربية للترجمة الطبعة الأولى 2008، ص104

8. نفس المرجع، ص 106

9. نفس المرجع، ص127

10. محمد سود، نقد الحداثة عند هوسرل، مجلة التنويري العدد 3 ديسمبر 2023

11. إيمانويل كانط، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة عبد الغفار مكاوي، كولونيا المانيا، منشورات الجمل 2003، ص41

12. نفس المرجع، ص ص60، 61