المقدس الديني بين احتكار النص ووهم امتلاك السلطة الإلهية


فئة :  مقالات

المقدس الديني بين احتكار النص ووهم امتلاك السلطة الإلهية

المقدس الديني بين احتكار النص ووهم امتلاك السلطة الإلهية

د. جوهرة القدس عكية

باحثة مغربية

إن الدين كلمة عامة تشمل كل ملة يدان بها، يعني وبشكل متبادل الإيمان، ويعرف عادة بأنه الاعتقاد المرتبط بما فوق الطبيعة، وبالأخلاق، والممارسات، إذ يعرفه البعض بالمجموع العام للإجابات التي تفسر علاقة الإنسان بالكون. وعبر مسار تطور الأديان اتخذ الدين عدة أنماط وتمظهرات في ثقافات مختلفة. وفي المعاجم العربية، ينطوي جذر "د. ي. ن" على دلالات قوية تؤشر على الخضوع والذل. فالدين من دان يدين دينا وديانة؛ أي خضع وذل، ودان بكذا، فهي ديانة وهو دين، وتدين به فهو متدين. وفي اللغة نقول: دانه دينا؛ أي ملكه، وحكمه، وساسه، ودبره، وحاسبه، فيتخذ هنا معنى المحاسبة والجزاء، ومنه قوله تعالى: "ملك يوم الدين"؛ أي يوم الحساب. والدين إذا أطلق يراد به؛ ما يتديّن به الرجل، ويدين به من اعتقاد، وبمعنى آخر هو طاعة المرء والتزامه لما يعتنقه من أفكار ومبادئ. وعلى هذا الأساس، فكلمة الدين تحيل على وجود علاقة بين طرفين يعظم أحدهما الآخر، ويخضع له "فإذا وصف بها الطرف الأول كانت خضوعا وانقيادا، وإذا وصف بها الطرف الثاني كانت أمرا وسلطانا وحكما وإلزاما، وإذا نظر إلى الرباط الجامع بين الطرفين كانت كلمة الدين هي الدستور المنظم لتلك العلاقة أو المظهر الذي يعبر عنها"(1). ووفق هذا التحديد، فالدين هو المذهب والطريقة التي يسير عليها المرء بشكل نظري أو علمي.

وبغض النظر عن طبيعة الدين، إذا كان صادرا عن وحي أو عن غير وحي، وثني، أو سماوي، فإنه يستند إلى موقف معين من القيم الدينية بعامة، وقيمة القداسة بخاصة. ومتى عرف الإنسان المؤمن التدرج من منزلة الدنيوي إلى منزلة أخرى أسمى منها، كان التزامه قويا. ويتمظهر ذلك في الطقوس والشعائر التي يؤديها، أو من خلال المعاملات التي يقيمها مع بني جنسه. فالدين هو "الاعتقاد بوجود ذات غيبية علوية، لها شعور واختيار، ولها تصرف وتدبير للشؤون التي تعني الإنسان، اعتقاد من شأنه أن يبعث على مناجاة تلك الذات السامية في رغبة ورهبة، وفي خضوع وتمجيد، وبعبارة موجزة هو الإيمان بذات إلهية جديرة بالطاعة والعبادة"(2). إن هذا التعريف، وإن كان واضح الدلالة، إلا أنه يستثني الأديان الوضعية التي لا تعتقد بذات غيبية علوية، والتي نشأت دون أن يكون لها في تعاليمها الأولى أدنى اعتقاد بوجود هاته الذات العليا.

ومهما يكن من أمر، فالدين هو مجموع العقائد والعبادات والأحكام التي شرعها الله لعباده لتنظيم علاقتهم بربهم وعلاقتهم ببعضهم البعض. ولإقامة الدين شرع الله الأركان الخمس، ولأجل الحفاظ عليه شرع الله الجهاد في سبيله، ونهى عن الابتداع في الدين.

في علاقة المقدس بالديني:

مما لا شك فيه أن الدين بما هو قيم أخلاقية وروحية، شكل عنصر استقطاب وتميز عبر التاريخ البشري، فقد لعب دورا مفصليا في معارك الشعوب ضد أعدائها وفي استنهاض الهمم وشحذها، غير أن هذا الدور الطلائعي للدين كان له بالغ الأثر في نفوس معتنقيه، مما يكنّوه من قدسية واحترام نابعين من تسليمهم المطلق بالرموز المقدسة إيمانا وتبجيلا ودفاعا عنها حتى الاستشهاد. ولئن كنا "لا نعايش المقدس إلا رمزيا، فإنه يتحول في ذاته إلى قوة فعالة، ويصاحب العلاقات الإنسانية في حركتها الدائبة دون توقف"(3)؛ ذلك أن ترميز المعايشة مع المقدس هو ما يجعل منه قوة يصعب اختراقها. فاستحضار المقدس لم يكن قط مغيبا عن الحياة الاجتماعية، فأينما يممنا إلا ونجد الدين أو بعضا من رموزه حاضرة في معيشنا اليومي، "إن الرب يتغلغل في نسيج حياتنا ويشكل عنصرا محوريا في نمط تفكيرنا وعقلنا وشعورنا الواعي وغير الواعي، وإنه معنا في اليقظة وفي المنام، في البيت وفي العمل، في التجارة وفي السياسة، في سلوكنا الخير وفي سلوكنا الشرير. إنه بشكل آخر اللازمة التي تميز عقلنا العربي الإسلامي من غيره"(4). وعلى هذا الأساس، يتم حصر مظاهر التقديس على أساسيات الإسلام التي لا خلاف عليها، فالدين ليس ربّا يعبد ولا نصا يحفظ، وإنما هذا الإنسان الذي من أجله وجد الدين ليرفعه من دركات الدنيوي إلى أسمى درجات الكمال المحقق لوجوده، والمتماشي وجوهر الإسلام.

إن قدسية المقدس تستمد من قدرته على خدمة الإنسان والمجتمع بشكل لا يتناقض وروح الدين وقيمه السامية، ذلك أن الدين ظل لعقود طويلة مجالا مقدسا وطابوها لا يمكن الخوض فيه، بل وحكرا على الفقهاء والأئمة والعلماء ممن يرون في أنفسهم الأهلية لفهم الدين وتفسيره، وتوظيفه أحيانا وفق ما يخدم أغراض المؤسسة الفقهية ومصالح السلطة الحاكمة، الشيء الذي حال دون الفهم الحقيقي للدين وإدراك معانيه العميقة. ولئن كان الدين سابقا على قيام المؤسسة الفقهية ونزول الكتب المقدسة، مصداقا لقوله تعالى: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ"(5)، فإن الدين ليس فقها، بل شريعة تحرم الخلاف الفقهي من أساسه، لقوله تعالى: "شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ"(6). فالدين ليس فقها يتلقاه الإنسان من فقيه أو عالم أو شيخ أو إمام، بل فطرة جبل الإنسان عليها، ورسالة عمل الأنبياء على تبليغها بالدعوة إلى عبادة الله الأحد، وعدم الشرك به، والإيمان بجميع الرسل والكتب المنزلة. وإذا كان الدين الإسلامي قد آخى بين جميع المسلمين، وجمع كلمتهم، وأنقذهم من ظلمات الجهالة وهداهم إلى طريق الرشاد، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، فلأنه خلافا للديانات السماوية السابقة دين كوني متكامل. فهو لم يشرع العبادات والعقائد فحسب، بل لم يدع جانبا من جوانب السلوك والأخلاق الرفيعة إلا شرعه.

ومن ثم، فإن المقدس ليس حكرا على الدين فحسب - حتى وإن كانت جذوره دينية - وإنما يمتد إلى مجالات غير دينية في أساسها، فهو يتجلى في العادات اليومية، والتقاليد، والأعراف، والموروث الثقافي والفني، والعلاقات الأسرية، ومختلف أنماط السلوك الاجتماعي.

في تعالق الديني بالسياسي: قضية الخلافة والإمامة في الإسلام

إن قضية الخلافة وأسلوب الحكم من القضايا الشائكة على امتداد التاريخ الإسلامي، وهي مثار جدل شديد وصراع مرير، ابتدأ منذ وفاة الرسول - وقبل أن يوارى جثمانه الثرى- واستمر إلى نهاية الخلافة الإسلامية على عهد العثمانيين في القرن الرابع عشر الهجري. لقد تشكلت أولى ملامح الأزمة على إثر وفاة الرسول، فاجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة لترشيح من يتولى إمارتهم، وإدارة شؤون المسلمين. وتضاربت الآراء بين من ارتأى مبايعة سعد بن عبادة كبير الخزرج أميرا على المسلمين، أو توزيع السلطة بين أمير قرشي من المهاجرين وأمير من الأنصار. وعلى الطرف النقيض أصر المهاجرون ممن وجدوا في السقيفة على وحدة الإمارة تعبيرا عن وحدة الأمة، حيث صرح عمر بن الخطاب ردا على الحباب بن المنذر الأنصاري قائلا: "منا أمير ومنكم أمير، هيهات أن يجتمع اثنان في قرن"، وفي رواية أخرى: "لا يجتمع سيفان في غمد". وبعد أخذ ورد أسفر اجتماع السقيفة على توافق بين المجتمعين، وتأكيد مبدأ الشورى الذي حث عليه الشرع الإسلامي في كتاب الله وسنة رسوله، واستقرار البيعة على أبي بكر الذي آلت إليه الخلافة في نهاية المطاف.

وعلى هذا الأساس، ثار الجدل حول وجوب الخلافة بين فريق يوجبها بالعقل دون الشرع، وآخر يقر بوجوبها بالشرع دون العقل "لأن الإمام يقوم بأمور شرعية قد كان مجوزا في العقل أن لا يرد التعبد بها، فلم يكن العقل موجبا لها، وإنما أوجب العقل أن يمنع كل واحد نفسه من العقلاء عن التظالم ... ولكن جاء الشرع بتفويض الأمور إلى وليه في الدين"(7). غير أن هناك من يرى الخلافة أو إمارة المسلمين واحبة بالشرع وبالعقل، إذ لا يقام الدين إلا بها، ومصالح الناس وأمور دنياهم متوقفة عليها، فالأصل في وضعها خلفة النبي وحراسة الدين وسياسة الدنيا.

إن مبدأ الشورى الذي يتأسس عليه اختيار الخليفة، مورس خلال اجتماع السقيفة وتولية أبي بكر. وعلى أساس الشورى أيضا جاءت خلافة عمر بن الخطاب كاستمرار لخلافة أبي بكر، فقد سمى أبو بكر عمرا خليفة له قبيل موته وتمت له البيعة، غير أن هذا النهج الذي اعتمد في تولية الخلفاء بعد الرسول سيتم استخدامه في حكم الأمويين بنوع من التجاوز والشطط في تحويل الخلافة إلى ملك، وتوريثها من خلال تسمية ولي العهد في حياة الخليفة، إذ "الثابت أن الحكومة الأموية نظام وراثي ملكي أبعد ما يكون عن الديموقراطية، والتعصب للعنصر العربي وإيثاره على بقية العناصر الإسلامية الأخرى"(8). فنظام الشورى الديموقراطي، باعتباره أساس الحكم والسياسة يتنافى وتقويض الخلافة، غير أنه ورغم ما شاب النظام السياسي من تجاوزات، فإن المسلمين رضخوا للوضع الجديد تحت ضغط عاملين اثنين: أولهما الحرص على تحصين وحدة الأمة وتجاوز أجواء الفتن والحروب وحقنا للدماء، وثانيهما هيمنة بطش السلطان وانتشار الخوف من سطوته.

وباستعراضنا لفصول وأطوار الخلافة الإسلامية، تستوقفنا مسألة أساس في عهد عمر بن الخطاب ترتبط بالانتقال من تسمية منصب الخلافة إلى إمارة المؤمنين، وهي تسمية تحمل مدلولا أدق لطبيعة علاقة هذا المنصب بالمؤمنين وشؤونهم ومصالحهم، باعتبارهم أتباع الدولة الإسلامية، وأن الحاكم المسلم يستمد شرعيته من هؤلاء المؤمنين. كما أنه، وإلى حدود منتصف القرن الأول الهجري، شهدت قضية الخلافة أزهى مراحلها، غير أنها عرفت خلال نفس الفترة الفتنة الكبرى عقب مصرع الخليفة عثمان بن عفان وامتدت إلى مقتل الحسين بن علي. وفي هذا الصدد يقول الشهرستاني: "إن أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة"(9). وفي اعتقادنا، فإن الخلاف بين مكونات المجتمع الإسلامي وقادتهم حول الإمامة كان طبيعيا بحكم أهمية وخطورة هذا المنصب الذي يستظل بظل الدين. وبالمقابل تختلف نظرة الشيعة إلى الإمامة اختلافا جذريا عن التي لدى أهل السنة، فالشيعة تقول: "إن الإمامة أصل من أصول الدين لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها"(10)، وهي بذلك تصبح ركنا من أركان الدين "إلى جانب الصلاة والزكاة والصوم والحج تكون فرائض الله الخمس"(11)، بل كالنبوة التي يودعها الله من يشاء من خلقه، والإمام كالنبي معصوم من الخطأ والذنوب، منزه عن كل النقائص والعيوب، متصف بصفات الكمال. وإذا كانت هذه هي صفات الإمام في اعتقاد الشيعة فطاعته واجبة، والخروج عنه مروق وكفر وخروج عن الدين، ذلك أن الأئمة "هم أولو الأمر الذين أمر الله تعالى بطاعتهم، وأنهم الشهداء على الناس، وأنهم أبواب الله والسبيل إليه"(12).

هكذا، كان لزاما تحديد الفرق بين معنى الإمامة عند الشيعة، ومعناها عند أهل السنة الذي يتطابق مع الخلافة، هذا الفرق الذي تحدده طبيعة الإمامة؛ الإمامة الاثني عشرية نسبة إلى أئمة الشيعة الاثني عشر، والإمامة التي تفيد الخلافة، أي استخلاف النبوة وحراسة الدين وتطبيق الشرع، وسياسة شؤون المسلمين ورعاية مصالحهم وأمور دنياهم.

في تجاذبات النص الديني وتدفق الصراع السياسي:

في البناء التشكيلي للسلطة أو نظام الحكم في الإسلام يبرز بشكل، أو بآخر، ذلك الجدل القائم بين القرآن والواقع السياسي الديني الذي أتى بعده، فالواقع السياسي الديني أضفى على النص القرآني وخاصة في قضية السلطة أبعادا تأويلية جديدة ودخيلة عما كانت في وقت التنزيل، فقد انبرت كل طائفة من طوائف الصراع المتمخض عن الفتنة، خاصة الشيعة وأهل السنة، إلى تأويل آي القرآن بشكل يتطابق ويتماشى وتمثلاتها، بل ويزكي نظريتها السياسية في السلطة، متخلية عن حقيقة "السكوت القرآني" فيما يرتبط بهذه القضية. وفي سكوت القرآن ما يفيد أن السلطة في الإسلام لم تتشكل من خلال النص، وإنما تشكلت من خلال التاريخ، بل الأكثر من ذلك ما لعبه تاريخ السلطة من دور جوهري في تشكيل النص. "لقد فعلت السلطة كثيرا في التاريخ، وفعل التاريخ كثيرا في العقل، وبشكل مباشر وغير مباشر، صار العقل المسلم أسير الفعلين كليهما، لفعل السلطة في التاريخ؛ أي لتاريخ السلطة، ولفعل التاريخ في العقل؛ أي لسلطة التاريخ. فأما تاريخ السلطة، فقد أورث هذا العقل خضوعا شبه كلي للحكومة بالمعنى المطلق، وأما سلطة التاريخ، فقد أورثته خضوعا شبه كلي للماضي بالمعنى المطلق"(13). يقدم، إذن، عبد الجواد ياسين تصورا يبرز الدور الحاسم والمفصلي الذي لعبته السلطة عبر تاريخ الإسلام في تشكيل العقل السياسي الإسلامي، بل وحتى العقل الجمعي الإسلامي العام على حد تعبيره، انطلاقا من اعتبار التاريخ مفتاح العقل، والسلطة مفتاح التاريخ.

من هذا المنطلق تحديدا، ادعت الشيعة أن القرآن يثبت بنصوص الوصية لعلي ونسله من بعده، في حين ذهب أهل السنة إلى تأكيد أن القرآن يدعم ويؤيد خلافة أبي بكر، ومنهم من اكتفى بالقول، إن القرآن يدعم النظرية السنية في الخلافة. والواقع أن الشيعة كانوا الفرقة الأكثر تأويلا لآيات القرآن في باب الخلافة، كما كانوا الأسبق في استخدام التأويل، ليعمد أهل السنة إلى التأويل كرد فعل على الشيعة في تعاطي التأويل. وعليه، تم التأسيس لما أضحى يعرف بنظرية الخلافة. هذا ويؤكد عبد الجواد ياسين على ضرورة التمييز وعدم الخلط بين "المحتوى الموضوعي" للخلافة الذي يقر بوجوب ممارسة الحكم بمنهاج الإسلام، وبين "النسق الشكلي" الذي تتبلور فيه تلك الممارسة. فالخلافة كمحتوى موضوعي فريضة لازمة بالنصين القرآني والسني، وأما الخلافة كنسق شكلي فلا وجود لها، لا في نصوص الوحي ولا في تاريخ الإسلام؛ ذلك أن هذا التاريخ لم يفرز نسقا شكليا واحدا مطردا، بل أفرز أنساقا متعددة ومتباينة.

تأسيسا على ما سبق، يتضح أن إشكالية السلطة تكمن - في اعتقادنا- خلف جل الأزمات التي تنخر جسد الحضارة الإسلامية على مستوى العقيدة والفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع، فضلا عن العلم واللغة والفن. على نحو، تم تأويل النص الديني وتوظيفه لخدمة الإيديولوجيا السياسية المستهدفة بالترويج لها أو الدفاع عنها، حسب ما يمليه الموقع السياسي أو الفكري من السلطة أو المعارضة. ومن ثم، فإن قراءة النص القرآني في ضوء التاريخ، ليست إلا قراءة في التأويل السياسي للنص الخالص.

من مصادرة الأثر الأدبي إلى وأد التاريخ الديني:

أثارت العديد من الكتابات في زمانها ضجات صاخبة، وجدالات ونقاشات حادة، انتهت بالبعض من أصحابها إلى محاكمة قضائية، أو مصادرة للأثر الأدبي، أو نعت بالكفر والإلحاد والمروق والفسوق، لا لشيء إلا لأنها تناولت أحد المقدسات، أو خاضت في التعليق على أحداث من التاريخ الإسلامي، وفق منظور مخالف لما هو سائد. فغالبا ما يتخذ السجال حول المقدس بعدا فكريا، لكن بمضمون سياسي، نعتبره صراعا فكريا بقفازات سياسية ناعمة.

إن الحملات التي شنت على بعض كتب كل من "طه حسين"، و"علي عبد الرازق"، و"صادق جلال العظم"، و"عبد الجواد ياسين"، و"محمد شحرور"، لم تحدث للقيمة التي تحملها هاته الكتب، وإنما جاءت من خلال عنصر الإثارة وإعمال المنهج؛ ذلك أن الناس لم يعتادوا أن يسمعوا في حق الدين أقوالا تصل إلى هذه الجرأة في مخالفة النص الديني، والتعرض للصحابة.

وفي واقع الأمر، نعتقد أن هاته الأعمال؛ "في الشعر الجاهلي"، و"نقد الفكر الديني"، و"الإسلام وأصول الحكم"، و"السلطة في الإسلام"، و"الكتاب والقرآن"، ليست إلا معارضة جريئة للفكر المهيمن على المؤسسات الفقهية، وللمناهج المعتمدة في تناول قضايا العصر وامتداداتها الفكرية والثقافية.

وعلى العموم، فإن خصوصية الوضع السياسي المحلي والدولي تشكل العنصر الحاسم في تحويل أي من هذه الكتب إلى قضية محلية محدودة، أو إلى قضية عالمية كبرى -كما هو حال رواية "الآيات الشيطانية"- التي أثارت ضجة دولية لا سابق لها، خصوصا، بعد صدور فتوى قتل صاحبها، فعرفت حينها بـ "قضية سلمان رشدي". هذا وقد اعتبرت "الآيات الشيطانية" رواية عابرة للقارات، بل وللحضارات والثقافات والديانات واللغات، تسنت لها الشهرة بموازاة مع التحريم. وعلى هذا الأساس، نظر إليها كحدث ثقافي وأدبي وفكري وديني، فضلا عن تناولها بجرأة بالغة الخوارق والمفارقات التي انطوى عليها النص الديني.

ومهما يكن من أمر، فإن مقاربة الدين في تعالقه بالسياسي يصحب معه الكثير من الالتباس والمغالطات، خاصة حين الاصطدام مع أساسيات الدين الإسلامي. وفي السياق ذاته، تعرض علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم" لنقد مفهوم الخلافة عن طريق وضعه في سياق السياسة، وإخراجه من نطاق الدين، "إن الخلافة ليست نظاما دينيا، والقرآن لم يأمر بها ولم يشر، وأن الدين الإسلامي بريء من نظام الخلافة"(14)؛ ذلك أن الخلافة الإسلامية قامت على نظام البيعة المرتكز على الشورى، وتأسست على العدل باعتباره أساس الحكم وجوهره، فالعدل هو المبدأ العام الذي قام عليه الإسلام.

وفي هذا الإطار، يشير علي عبد الرازق إلى أن "زعامة" النبي، هي "زعامة دينية" جاءت عن طريق الرسالة، وبموت النبي انتهت الرسالة، وأيضا "الزعامة الدينية"؛ ذلك أن كل "زعامة" بين أصحاب النبي بعد وفاته، إنما هي "زعامة سياسية" لا دينية، فخلافة أبي بكر للرسول لم تكن بمعنى خليفة الله، بل خليفة رسول الله، ما حمل البعض على الانقياد لإمارته انقيادا دينيا، فكان الخروج عليه في اعتقادهم الراسخ خروجا عن الدين، وارتدادا عن الإسلام. ولعل "منشأ قولهم أن الذين رفضوا إطاعة أبي بكر كانوا مرتدين، وتسميتهم حروب أبي بكر معهم حروب الردة"(15). إن هؤلاء المرتدين - حسب قول علي عبد الرازق - ما كانوا كلهم مرتدين، بل كان منهم من بقي على إسلامه، لكنه رفض بيعة أبي بكر والانضمام تحت إمارته أو الامتناع عن أداء الزكاة، وأن محاربتهم لم تكن باسم الدين، وإنما هي حروب سياسية بشعارات دينية.

يتبين، إذن، أن العلاقة بين الدين والسياسة هي علاقة التمايز لا علاقة الانفصال والانفصام؛ ذلك أن النظرية السياسية في الإسلام لم يؤسس لها النص، بل أنشأها التاريخ بأحداثه التي صبغها بصبغة دينية، لتستغل في تبرير تلك النظرية السياسية. ويشير هذا المعطى إلى أن النص الديني هو مكمن الحقيقة المقدسة والمنزلة؛ أي حقيقة المقدس، بمعنى أن النص القرآني يستقي شرعيته من تعاليه ومصدره الإلهي. وأن سيطرة الواقع التاريخي وغلبته على النص الديني قرآنا وسنة، فرض نفسه على معطيات الصراع السياسي في عصور الإسلام الأولى، ما أدى إلى محاولة تأويل النص ليتلاءم مع الواقع بما يخدم أهداف السلطة والجهة الحاكمة، فضلا عن تسييج التراث العربي الإسلامي، واعتباره محرما من المحرمات، ووأد الذاكرتين الأدبية والتاريخية.

 

الهوامش:

1- محمد عبد الله دراز: الدين، دار القلم، الكويت، (د.ت)، ص: 31

2- المرجع نفسه، ص: 52

3- عبد الهادي عبد الرحمن: عرش المقدس؛ الدين في الثقافة والثقافة في الدين، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2000، ص: 18

4- إبراهيم أبراش: حول حدود استحضار المقدس في الأمور الدنيوية: ملاحظات منهاجية، المستقبل العربي، العدد 180، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1994، ص: 7

5- سورة آل عمران، الآية: 65

6 - سورة الشورى، الآية: 13

7- أبو الحسن الماوردي : الأحكام السلطانية، والولايات الدينية، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978، ص: 494

8- محمود اسماعيل: الحركات السرية في الإسلام، دار سينا للنشر ومؤسسة الانتشار العربي، الطبعة الخامسة، القاهرة - بيروت، 1997، ص: 14

9- أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني: الملل والنحل، الجزء الأول، تحقيق أمير علي مهنا وعلي حسن فاعور، دار المعرفة، الطبعة الثالثة، 1993، ص:140

10- محمد رضا مظفر: عقائد الإمامية، سلسلة الكتب الإهدائية، مركز الأبحاث العقائدية، قم – إيران، 1422 هـ، ص: 73

11- أبو جعفر الكيليني: فروع الكافي، الجزء الثالث، دار الأضواء للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 1992، ص: 291

12- محمد رضا مظفر: عقائد الإمامية، ص: 78

13- عبد الجواد ياسين: السلطة في الإسلام؛ العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، الدار البيضاء، 2000، ص:8

14- علي عبد الرازق: الإسلام وأصول الحكم، دراسة وتوثيق؛ محمد عمارة، المؤسسة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، 1972، ص: 92

15- المرجع نفسه، ص: 178