النبي الأمي: حقيقة المعنى السائد وإعجاز القرآن


فئة :  مقالات

النبي الأمي: حقيقة المعنى السائد وإعجاز القرآن

 أكثر صعوبةً من محاولة إصلاح مفاهيم أصبحت تعدّ بدهيّةً وسائدةً، ومنها مفهوم الأمية، التي تعني حسب التعريف السائد عدم القدرة على قراءة وكتابة جمل بسيطة في أية لغة. وتطور استخدام هذه الكلمة، ليعطي تصورا ذهنيا معيبا ومهينا للأشخاص الذين اتُّصِفوا بها، أكبر من كونهم لا يعرفون القراءة في كتاب، وباتوا يُتهمون بالجهل أيضا، وأضيف ذلك المعنى في المعاجم الحديثةِ صراحةً، فقالوا : "الأميةُ: مؤنث الأمي، معناه : الغفلةُ أو الجهالة"، وذلك على أساسِ الفهم القاصرِ بأن القراءة من الكتبِ هي الرافدُ الوحيدُ للمعرفة، فنفوا بذلك عن المتصفين بتلك الصفة أي علم و أية حكمة، ثم تجاوز الاستخدام الأفراد إلى أن أصبحت شعوب بكاملها توصف بأنها أمية جاهلة.

ومع أن اختراع الكتابة وتطورها أسهم في بناء الحضارات الإنسانية الأولى، وأسهم في تدوين المعارف والأفكار بأنواعها والحفاظ عليها، وساعد على سرعة انتقالها إلى مراكز جغرافية أخرى، وأن تعلم الكتابة والقراءة والتشجيع عليها يعد أمراً في غاية الأهمية بالنسبة للفرد والمجتمع؛ إلا أن الفضل الأول يرجع لأصاحب الأفكار والحكماء؛ لأن الكتابة ليست فكرا ولا حكمة بذاتها، ولكنها وسيلة من وسائل النقل والحفظ فقط، فمن الممكن أن يكون من هؤلاء العارفين والحكماء العظام من لا يقرأون كتابا ولا يكتبون، بل ويمكن أن يكونوا عميانا غير مبصرين، ولكن حكمتهم ومعارفهم أسهمت في إضاءة الطريق للآخرين، أكثر بكثير من الذين يقرأون ويكتبون بلغات مختلفة.

و بعد أن طال المفهوم الخاطئ لمعنى (الأمي) الرسول محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ، وبعد أن استَخدم المشككون ذلك المفهومِ في محاولاتٍ كثيرةٍ للنيلِ منه، تصدى كثير من الباحثين والمفكرين المسلمين لتلك الهجمة وانبروا للدفاع عن النبي، ولكن كانت ردودهم عامة يغلب عليها العاطفة، ولم نجد تدقيقا موضوعيا في أصل الكلمة واستخداماتها في كتب الأولين قبل مبعث الرسول، ووجدنا أن المفسرين أنفسهم هم من ساعد على فهم وانتشار هذا المفهوم السائد، بعد أن أقره الأوائل منهم وتداولته كتابات الناقلين عنهم، وردده الخطباء على المنابر ولاكته ألسنة العامة جيلا بعد جيل، وأصبح الدعاء المحبب لكثيرين: "اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم"، بلا تدبر للمعنى الحقيقي للأمي.

فإذا كان النبي الأمي تعني النبي الذي لا يقرأ ولا يكتب، والتي تعد نقصاً حسب المفهوم السائد للكلمة، فلماذا نصر على تكرارها في الدعاء ولا نذكره بإحدى شمائله وأخلاقه الحميدة الأخرى؟ ولماذا استخدم القرآن الكريم هذا الوصف في قوله تعالى: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ } [الأعراف (157)]، وكأنه بيانٌ وتمييز له معنى معجز آخر غير المعنى السائد، ولا يمت إلى الكتابة والقراءة بصلة؟ هذا ما سنحاول بيانه في بحثنا هذا، مع بيان مدى الدقة اللغوية والإعجاز في اختيار كلمة (الأمي) للتعريف بالنبي و(الأميين) للتعريف بالقوم المبعوث فيهم.

بالبحث في الموروث الثقافي العربي المتواتر بطرقه المعروفة والمتعددة، لم نجد ما يشير إلى تداول كلمة أمي بمفهومها السائد الآن في أي نص من النصوص الأدبية القديمة.

ولم تكن تلك الكلمة متداولة على عهد الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بهذا المعنى، وفي الحديث أن سيدنا جبريل، عندما قال للرسول: (اقرأ)، أجابه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (ما أنا بقارئ). الآن عندما تسأل أي شخص هل تعرف القراءة والكتابة؟ فسيجيبك بالنفي أو الإثبات، ولن تجد أحدا يجيبك: أنا أمي، وهذا الموروث الشفوي المتوارث عند العرب يتماشى مع المعنى نفسه في اللغات الأخرى، المشتق من عدم معرفة حروف الهجاء التي ليس لها علاقة مع كلمة أم ؛ ففي الإنجليزية يستخدمون كلمة (Illiteracy ) والمشتقة من حروف الكتابة وليس من أم (mother)، وكذلك في الفرنسية (L'analphabetisme)، والألمانية (unwissenheit) وغيرها.

وإنما ساد استخدام هذه الكلمة بهذا المعنى بعد ورودها في كتب التفسير كأحد المعاني المقصودة من قوله تعالى:{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ } [الأعراف (157)]، وفهموا من الآية أنه الرسول النبي الذي لا يقرأ ولا يكتب.

يقول السعدي في تفسيره للآية: { ووصفه بالأمي، لأنه من العرب الأمة الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب، وليس عندها قبل القرآن كتاب، ويؤكد ابن كثير ذلك فيقول في سياق تفسيره للآية: (وهذه صفة محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في كتب الأنبياء، بشروا أممهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم).

وقال القرطبي : قوله تعالى "الأمي" هو منسوب إلى الأمة الأمية، التي هي على أصل ولادتها، لم تتعلم الكتابة ولا القراءة، وذكر النحاس أنه نسبة إلى مكة أم القرى، وذكر البغوي: أي هو على ما ولدته أمه، وقيل: هو منسوب لأمته، أصله (أمتي) فسقطت التاء في النسبة كما سقطت في المكي والمدني (أي أصلها مكية ومدنية)، وقيل هو منسوب إلى أم القرى، وهي مكة.

والأُمِّي: الذي لا يَكْتُبُ، قال الزجاج: " الأُمِّيُّ الذي على خِلْقَة الأُمَّةِ لم يَتَعَلَّم الكِتاب، فهو على جِبِلَّتِه، وفي التنزيل العزيز: "ومنهم أُمِّيُّون لا يَعلَمون الكتابَ إلاّ أَمَانِيَّ"، قال أَبو إسحق: "معنى الأُمِّيّ المَنْسُوب إلى ما عليه جَبَلَتْه أُمُّه؛ أي لا يَكتبُ فهو في أَنه لا يَكتب أُمِّيٌّ؛ لأن الكِتابة هي مُكْتسَبَةٌ، فكأَنه نُسِب إلى ما يُولد عليه؛ أي على ما وَلَدَته عليه أمُّه".

وعندما وصفت الأمة كلها بالأمية، زاد الأمر التباسا عند المفسرين، قال تعالى: "الذي بعث في الأميين رسولا منهم "، فكيف ذلك والرسول بعث وسط العرب الذين اشتهروا بالبلاغة والفصاحة؟ وفي مكة مكان البيت الحرام، والتي كانت مركز تجارتهم وأنديتهم وملتقاهم الثقافي والحضاري الأهم وكان من بينهم الكثيرون من الذين يقرأون ويكتبون؟ ولعل المعلقات الشعرية الشهيرة والأحلاف المكتوبة دليل بسيط على ذلك، وربما لو قارنا نسبة الذين يقرأون ويكتبون من تلك الأمة لزادت على مثيلاتها في الأمم المعاصرة لها شرقا وغربا، بالإضافة إلى أن الرسول بعث للناس كافة وليس لقريش أو العرب فقط، ليس كغيره من الأنبياء الذين بعث كل منهم لقومه فقط، فكيف نفهم أن الناس كافة أميون بالمعنى السائد؟

أما من ناحية دقة القرآن وإعجازه اللغوي، فإننا نجد نماذج متعددة تبين الدقة المتناهية في اختيار التعابير واستخدام الألفاظ المحكمة الدلالة؛ فعندما يصف القرآن قوما بأنهم قوم سوء، لا بد أن يكون القوم جميعهم قوم سوء، كقوله تعالى : "وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ" [الأنبياء (77)] فالآية تخبرنا بأنهم قوم سوء بلا استثناء، وتفيد بهلاكهم أجمعين بالغرق، وقوله أيضا: "وقَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ" [الذاريات (32)]، وهنا أيضا القوم المجرمون تدل على عموم صفة الإجرام بين هؤلاء القوم، فإذا كان هناك استثناء يحتاج إلى بيان نجد أن القرآن يوضح ذلك كقوله تعالى: "فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ". [الذاريات (36)] وقوله أيضا: "فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ" [الأعراف (83)].

ويقاس على ذلك أن القرآن إذا وصف الأمة التي بعث منها الرسول بالأميين؛ فلا بد أن يكونوا جميعا متصفين بالأمية على الإجمال وبدون استثناء، ونحن نعرف يقينا أن كتبة الوحي من الصحابة وغيرهم نماذج من أمته، فإذا كانت صفة الأميين تعني عدم القدرة على القراءة والكتابة كما هو سائد الآن، لأخبرنا القرآن بأن قوم محمد أميون إلا قلة تقرأ وتكتب، ولكن القرآن شملهم جميعا بصفة الأميين.

ونستنتج من ذلك أنه من المستبعد أن يكون المقصود من قوله تعالى النبي الأمي، أنه النبي الذي لا يقرأ ولا يكتب، وكذلك من المستبعد أيضا أن الأميين تعني الذين لا يقرأون ولا يكتبون.

و يكون المعنى أكثر وضوحا ً بتدبر قول الله تعالى: "فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ" [آل عمران (20)]، فقد قسمت الآية الناس إلى قسمين الأول (الذين أوتوا الكتاب)، والقسم الثاني (الأميين)؛ أي أن الأميين هم : (من هم غير الذين أوتوا الكتاب). واستخدم علماء بني إسرائيل هذا التعبير قبل نزول القرآن بقرون، وكانت النظرة اليهودية، ولا زالت تميّز اليهود عن الأغيار، فكثيرون اعتبروا أن ما جاء في سفر (أشعياء- إصحاح 61\5-6): "ويقف الأجانب ويرعون غنمكم ويكون بنو الغريب حراثيكم وكراميكم. أما أنتم فتدعون كهنة الرب تسمون خدام إلهنا، تأكلون ثروة الأمم وعلى مجدهم تتأمرون"، اعتبروا أنفسهم فقط خدام الله وغيرهم سخرهم الله لخدمتهم، وذلك حسب قولهم، وكرسوا هذا التقسيم في كل شرائعهم بعد ذلك، والذي ساعدهم على ذلك هو ميراثهم للكتاب وانفرادهم بعبادة الله واختصاصهم برسالته فترة طويلة ومجاورتهم لأمم وثنية متعددة في ذلك الوقت، ولكنهم لم يقبلوا أي جديد، ولم يعوا بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء منهم أو من غيرهم.

فقد تحدث التلمود عن الفرق بين اليهودي وغير اليهودي، فيذكر أن الإسرائيلي معتبر عند الله أكثر من الملائكة، وأن اليهودي جزء من الله، فإذا ضرب أممي إسرائيليا، فكأنه ضرب العزة الإلهية، وعلى الأمميين أن يعملوا ولليهود أن يأخذوا نتاج هذا العمل، وأن الله لا يغفر ذنبا ليهودي يرد للأممي ماله المفقود.

ونحن هنا لا نعلق على النصوص من الناحية الدينية، ولكننا نستخدم النصوص لنشير إلى الاستخدام الشائع لتعبيرالأمميين بين علماء بني إسرائيل والمدون في كتبهم المقدسة المتوارثة للإشارة إلى الأمم الأخرى من غير اليهود من قبل أن ينزل القرآن بقرون وحتى الآن.

يقول موريس صمويل في كتابه (أنتم أيها الأمميون) إن الفجوة بين اليهود والأمميين لا يمكن أن تسد أبدا، ويقول أيضاً: "ومهما فعلتم (أيها الأمميون) فلن يلبي ذلك حاجاتنا ومطالبنا"، وتجد أيضاً: العميان والأغبياء والذين في الظلمة كان يقصد بهم الأممين، وكان اليهود تستهويهم الألقاب".

وفي شرح العهد الجديد تفسير الرسالة إلى أهل رومية الإصحاح الثاني: "فالمسيحي الذي بلا حياة هو شر من الأممي واليهودي (عب1:2-3 + عب26:10-32 )، وبولس بدأ بالأمم، حتى لا يتهمه اليهود بالخيانة لشعبه، وستأتيكم ثروات الأمميين، وسيبني أبناء الغرباء جدرانكم وسيحكمكم ملوكهم، وسترضعون لبن الأمميين، وستنعمون في مجدهم..).

وفي نص آخر: "ولكن بولس حين قال إن الله سيعامل اليهودي كما الأممي، وأن الكل واحد أمام الله، تصوَّر أن اليهود في ثورتهم سيتساءلون: ألم يكرم الله اليهود ويعطيهم الختان كعلامة عضوية (تث29:33 + خر5:19 + أش8:41). وفي موضع آخر: "والناموس أسماه الكتاب أقوال حيَّة (أع38:7)، والكتاب بلغتهم والأنبياء منهم، إذًن، إن كان الله سيعامل اليهودي كالأممي، فلماذا الناموس؟ وفي شرح آية أخرى : إذا كان الأممي قادرًا على أن يرضي الله إن عمل أعمالًا صالحة وذلك بواسطة الناموس الطبيعي المُعطَى له. وما دام الكل قد سقط في الدينونة، سواء أمم (بمخالفتهم الناموس الطبيعي) أو يهود (بمخالفتهم لناموس موسى) فما فائدة الختان؟ أو ماذا يميز اليهود؟

وفي شرح آية أخرى: "أول مزايا اليهود أن الله استأمنهم على أقواله، إذًا هم كانوا أفضل من الأمم أمام الله؛ فالله لم يكن ليستأمن أحدا على أقواله إن لم يكن جديرًا بذلك. وكان اليهود هم أول من يستأمنهم الله على كلامه."

وفي آية أخرى، "هوذا أنت تسمي يهوديًا= كان اسم يهودي يثير عند صاحبه الكبرياء؛ فهم يظنون في أنفسهم أنهم أفضل من باقي الناس، محبوبون عند الله، مكرمون؛ لذلك كانوا يصلون: "اللهم أشكرك أنك لم تخلقني أمميًا ولا امرأة ولا عبدًا"، فهو يشعر أنه فوق العالم.

وفي تفسير أعمال الرسل 10 - تفسير سفر أعمال الرسل الأصحاح العاشر - تفاسير العهد الجديد" تحقيق هذا الأمر فيه صعوبة، فقد حرم الناموس الاختلاط بالأممين مهما كان سلوكهم كان لابد من أمر إلهي يصدر للرسل... وفي كتاب (تأملات في سفر يونان النبي) للبابا شنوده الثالث الفصل السادس بعنوان " البحارة أُمَميّون كانوا أفضل من نبي".

ومما سبق، يتضح لنا أن اليهود استخدموا تعبير (الأممين) وكانوا يتعاملون معهم معاملة مختلفة على أساس أنهم ليسوا أهل كتاب،؛ فكل من ينتمي إلى أمة غير اليهود، يعتبر من الأغيار أو من الأممين، أو الأميين ويتم معاملتهم بطريقة مختلفة.

فالتجارة بين طرفين أحدهم يهودي والآخر أممي تختلف عن التجارة بين طرفين كلاهما يهودي.

وتذكر دائرة المعارف اليهودية أن التفسير (الرباني) للفقرة (31) من حزقيال (34) والقائل: (وأنتم يا قطيعي، قطيع مرعاي، أنتم الآدميون) يعني أن اليهود فقط هم الآدميون. وهذا التفسير يضع الأمميين في منزلة دون منزلة الآدميين: ولا يحق للآدميين الادعاء بشيء أمام محكمة اليهود المدنية. تقول دائرة المعارف اليهودية: (وبالتالي فالأمميون مستثنون من القوانين المدنية الموسوية العامة) وتنص (المشنا) (مجموعة القوانين المشكلة لأساس التلمود) على أنه إذا ادعى أممي على إسرائيلي يصدر الحكم لصالح المدعى عليه. أما إذا كان المدعي إسرائيلياً ضد أممي، يأخذ الإسرائيلي تعويضاً كاملاً. وهذا تصديق لقول الله تعالى: "وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" [آل عمران (75)].

فقولهم ليس علينا في الأميين سبيل لا يمكن أن تفهم بأنها تعني ليس لنا على من لا يعرف القراءة والكتابة سبيل، أو ليس لنا على العرب سبيل؛ لأنهم كانوا يتعاملون مع أمم كثيرة غير العرب، وكان ينطبق عليهم المعاملة نفسها كالحثيين والآموريين والكنعانيين والفرس والروم، ولكن المعنى الذي يشمل كل هؤلاء : ليس علينا في غير أهل الكتاب سبيل؛ أي ليس علينا في غيرنا سبيل، والعرب سموا من هم غير العرب عجم، وذكر القرآن الكريم هذا المعنى في أكثر من موضع، قال تعالى: "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ" [النحل (103)]، وقال أيضا "وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ" [فصلت (44)].

وفي لسان العرب: "العُجْمُ والعَجَمُ: خِلافُ العُرْبِ والعَرَبِ، يقال عَجَمِيٌّ وجمعه عَجَمٌ، وخلافه عَرَبيّ وجمعه عَرَبٌ، قال: سَلُّومُ، لو أَصْبَحْتِ وَسْطَ الأعْجَمِ في الرُّومِ أَو فارِسَ، أَو في الدَّيْلَمِ، إذاً لَزُرناكِ ولو بسُلَّمِ".

واستخدام القرآن الكريم كلمة (أميين) هو تعبير معجز يؤكد للمشككين، بأن القرآن نزل من عند الله تعالى، بدليل أن هذا التعبير المتعارف عليه بين أهل الكتاب لم يكن معروفا للنبي ولا لقومه ولا للمفسرين في القرون الأولى للإسلام.

* وبتدبر قول الله تعالى: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوعَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ" [الجمعة (2)] نصل إلى المفهوم العام والأشمل بأن الرسول بعث للعالم أجمع وإلى الأميين بأجناسهم المختلفة، وكان اليهود ينتظرون أن يبعث النبي منهم، ويتفاخرون على العرب وغيرهم بأنهم سيسودون به عليهم، ولكن بعثه الله من غيرهم؛ أي من الأميين، ولم يعجبهم ذلك، ولم يؤمنوا. قال تعالى: "وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ" [البقرة (89)].

وبين لنا القرآن بأن الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ـ أي من غير أهل الكتاب ـ للدلالة على أنه النبي الخاتم، فلا تنتظروا نبيا بعده من عندكم، وأنه هو المذكور في التوراة والإنجيل، فمن آمن به واتبع النور الذي أنزل معه فقد أفلح، قال تعالى: "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [الأعراف (157)].

وهذا ما أكدت عليه الآية أن محمدا رسول الله للناس جميعا، "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" [الأعراف (158)]، ويؤكد على وصف رسوله بالأمي مرة أخرى على أنه من غير أهل الكتاب فلا تنتظروا وسارعوا إلى الإيمان به.

ومن هنا ندعو القائمين على إصدار المعاجم والقائمين على إعداد الكتب المدرسية، لاستدراك هذا المفهوم المتوارث، والبحث عن مصطلح آخر يصف من لا يعرف الحروف الأبجدية، مثل اللغات الأخرى.

نهيب بوسائل الإعلام وخطباء المساجد والباحثين في بيان المعنى الحقيقي للأمي، وإلى أي مدى وصلت دقة اختيار الألفاظ في القرآن الكريم.

والله من وراء القصد، وهو يهدي إلى سواء السبيل.

المراجع:

-لسان العرب لابن منظور.

-أحمد شلبي مقارنة الأديان ص 268و269

-شرح الكتاب المقدس ـ العهد الجديد ـ القس أنطونيوس فكري - الرسالة إلى أهل رومية 2 - تفسير رسالة رومية

-الموقع الرسمي لكنيسة الأنبا تكلاهيمانوت القبطية الأرثوذكسية اﻹسكندرية، مصر

-تفاسير القرآن الكريم.


مقالات ذات صلة

المزيد