الترادف في اللغة والقرآن بين التشابه والمطابقة

فئة :  مقالات

الترادف في اللغة والقرآن بين التشابه والمطابقة

الترادف في اللغة والقرآن بين التشابه والمطابقة

يُعد الترادف من الظواهر اللغوية الغنية في اللغة العربية، وقد شغل حيّزًا واسعًا من اهتمام النحاة واللغويين قديمًا وحديثًا. وقضية الترادف قضية لغوية، لها عظيم الأثر في تفسير كتاب الله جل وعلا، وفهم معانيه، وغالبًا ما يُفهم الترادف على أنه «المطابقة التامة» بين كلمتين أو أكثر في المعنى، لكنّ هذا الفهم يحتاج إلى تدقيق؛ إذ إن الترادف لا يعني دائمًا التماثل الكامل بين الألفاظ، بل قد يحمل كل لفظ منها ظلًا معنويًا خاصًا، أو سياقًا يُفضَّل فيه على غيره. وإنما سمي المرادف مرادفًا؛ لأنه يلي المعنى الأصلي في المعنى ولكن يبقي المعنى الأول هو الأصيل، ويستعان بالمعنى المرادف فقط، لتسهيل فهم معاني الكلمات الأصيلة للأعاجم وغيرهم ممن لا يعرف معناها.

الترادف لغةً

في لسان العرب "الرِّدْفُ ما تَبِعَ الشيءَ وكل شيء تَبِع شيئًا فهو رِدْفُه وإذا تَتابع شيء خلف شيء، فهو التَّرادُفُ" وفي الحديث عن ابن عباس قال: كنت ردف رسول الله فالتفت إليّ فقال: يا غلام احفظ الله يحفظك" وكنت ردف رسول الله أي راكبا خلفه على دابة".

ما هو الترادف في اللغة ؟

الترادف في أبسط تعريفاته هو: تشابه المعاني بين كلمتين أو أكثر. كأن نقول: "سعيد" و"فرِح"، أو "قعد" و"جلس". ولكن عند التأمل نجد أن هناك فروقًا دقيقة في الاستخدام قد تجعل كل لفظ يحمل دلالة خاصة لا يؤديها غيره بالطريقة نفسها.

هل هناك ترادف تام في اللغة؟

ذهب بعض العلماء إلى إنكار وجود الترادف التام، وعلى رأسهم الجاحظ، الذي كان يرى أن لكل كلمة طابعها واستخدامها وسياقها. وهذا الرأي يستند إلى أن الله تعالى لا يضع في اللغة شيئًا عبثًا، فلو كانت كل كلمتين مترادفتين تمامًا، لكان إحداهما فضلة عن الأخرى، وهذا ما لا يليق بفصاحة اللغة وكمالها.

والتفريق بين كل شيئين يقتضي: التفريق بين الكلمات المتقاربة، وتحديد المعنى الدقيق لكـل كلمة، وبيان موضعها وتحديده، واختياره بحكمة بالغة، وإحكامه في موضعه، ومنعه مــــن الاختلاط مع غيره، ثم تفصيله وتمييزه من غيره؛ وذلك باختيار المكان الأنسب له، وبذلك تصبح آيات القـرآن وكلماته معجزة بيانية خارقة في: تنسيقها، وترتيبهـا، واختيار مواضعها، وتفصيلهـا التفصيل المناسب، تفصيلاً لائقًا مناسبًا معجزًا، حيث لو أردنا أن نستبدل كلمة بغيرها لما وجدنا ما يسد مسدّها من الكلمات العربية الأخرى.

وهذا الترادف لا يعني أبدا المساواة، ولكن يبقى المعنى البليغ الأصلي دالاً على المعنى المراد دون غيره.

واللسان العربي المبين ليس فيه تساوٍ لحرفين أو كلمتين، ولكن اصطلح على استخدام الترادف لتقريب المعاني، الذي ابتدعه الأولون لتوضيح معنى كلمة بذكر معنى مرادف آخر، وليس استعمالها مكانها في اللغة، ولكن أساء فهمه كثير من المتأخرين، وخاصة في القرآن الكريم وهو كلام الله المنزل، لا يجوز لنا أن نفهم من كلماته المبينة البليغة، أن يكون فيها تساوٍ أو تكرار للمعاني أو زيادة أو اختلاف، لأنهم وفي كثير من الأحيان التي حصل فيها الخلط لم يتتبعوا استخدامات المفردات القرآنية، حسب مدلولها في أي سياق، ولم يلحظوا الفروق الدقيقة بين الكلمات المتقاربة، ولعلهم يلتفتون إلى القدر المشترك من المعنى العام بين تلك الألفاظ المتقاربة، ولم يدركوا أن كل كلمة منتقاة بدقة متناهية، وموضوعة في سبك رائع قوي يظهر معه استواء كل كلمة في محلها اللائق بها، وساعد علي عدم إدراك ذلك التساهل في استعمال الألفاظ المترادفة في توضيح معنى آيات كثيرة للعامة على أنها تحمل معنىً واحد. وخصوصا بعد ذكر كلمة أي، مثل دحاها قال القرطبي أي بسطها، ولا يمكن أن تكون دحى تعني بسط، وقالوا طحاها أي بسطها.

وفي حالات كثيرة وقع المفسرون الأوائل في خطأ المساواة بين المترادفات، مما ساقهم إلى الدخول في دائرة من الغلط عند استعمال هذه المرادفات لتحل محل المعنى الأصلي في آيات أخرى، وكان يجب عدم التخمين والاكتفاء بذكر ما تيسر من فهم، والإشارة إلى القضايا التي لم يتوصلوا إلى تفسير قاطع لها، لعلها تتضح فيما بعد، كما نجده مثلا في أقوال المفسرين عند شرح معاني الأحرف المقطعة في افتتاحيات بعض السور.

وفي كثير من المواضع، ونتيجة لعدم التوصل إلى الفهم الصحيح بناء على المعلومات المتوافرة آنذاك، تم ادعاء مقاصد أخرى، ثم تم البناء على ذلك الغلط في أمور أخرى، وأصبحت أكثر رسوخًا وضررًا مع مرور الزمان واختلاف المكان.

وإنما ساعد على ذلك تصدي بعض المفسرين منفردين لنيل شرف إنجاز تفسير القرآن بأكمله، وفي كثير من الأحيان كان للسباق الطائفي والمذهبي والسياسي دور في صبغ آيات وأحاديث بعينها بصبغة هذه الفرقة أو تلك، وادعاء مقاصد تبعد عن النص الصريح الواضح، كذلك لم يتوقف كثير منهم عند التعبيرات القرآنية التي صعب فهمها على البعض، وتم نقل آراء غير جازمة وكأنها قاطعة، انتشرت فيما بعد.

وعلى قدر المجهود الجليل الذي بذله العلماء الأوائل -رضي الله عنهم- فإن براعة أحدهم في فرع من فروع العلوم، لا يمكن أن يقاس عليها براعته في فروع العلم الأخرى، ولا يمكن أن يكون نبوغه في فرع يقاس عليه في اجتهاداته العامة، ويستحيل أن يدعي بشر العلم الذي يؤهله لأن يفسر القرآن كاملاً، وخصوصًا إذا كان يعمل بمفرده، ومع احترامنا الكامل للاجتهادات المبذولة، لكن المكتسبات المعرفية والعلمية والعملية عند أي من المفسرين، لا يمكن أن ترقى للتصدي لشرح الوحي الإلهي كاملاً. وكان يجب الاعتراف بذلك.

وعلى الرغم من ظهور علماء أجلّاء في القرن الماضي، استفادوا من التراكمات المعرفية عبر الأجيال، وانتشار المجامع اللغوية والمراكز البحثية داخل الجامعات وخارجها، وتوافر الإمكانيات وإنشاء المكتبات الشاملة، في كثير من البلدان شرقًا وغربًا، وانتشار التفسيرات الحديثة وأبحاث وخواطر العلماء حول معاني القرآن، ورغم كل ذلك كانت الإشكالية الكبيرة عند كثير منهم، ليست في نشر الأفكار والآراء الجديدة، ولكن في كيفية التعامل مع هذا الكم من الموروث السائد والمتضارب في أحيان كثيرة، فتجد جلّ كتاباتهم وشروحاتهم ومجهوداتهم كانت في محاولة شرح الالتباس الوارد من تضارب الآراء القديمة حول معانٍ بسيطة رسخت وأحدثت لبسًا وأعطت للمبطلين مدخلاً كان يمكن تفاديه.

ودائما ما كان إعجاز القرآن اللغوي والعلمي يتمثل في وصول العلماء واللغوين بعلومهم واكتشافاتهم إلى الحقائق التي أخبر عنها القرآن بتعبيره البسيط وتشبيهاته الدقيقة، فتجد المعاني السهلة البسيطة قريبة من الفهم، ولا تحتاج كل ذلك العناء الذي دار، كثيرًا، في أفلاك بعيدة عن المعنى، كقوله تعالي: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: 30]، التي لا تحتاج كل هذا التأويل الذي تراه في كتب التفسير، فالدحية معروفة، وهي شكل البيضة التي أظهرت صور الأقمار الصناعية الحديثة أنها أقرب تشبيه لمجسم الأرض، حتى إن تشبيه الأرض بالكرة لم يعد دقيقًا الآن، وقوله ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [الرعد: 41]، (الأرض ننقصها) من أطرافها حقيقة علمية لم تكتشف إلا حديثًا، وكذلك كثير من الآيات الكونية والعلمية.

فقد جاء في قصة موسى عليه السلام وصفًا لعصى موسى، فمرة وصفها القرآن حية تسعى وفي المرة الثانية وصفها ثُعبـان مبين، والحية أصغر من الثعبان، فكـل لفظة نقلت الصورة المطابقة للقصة، كذلك فإن حروف الثُعبان أثقل وزنًا وأعلى لفظًا من حروف الحية في أصول فقه الحروف كمـا هو معروف، قال الله تعالى في سورة طه ﴿ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)﴾ وقال الله تعالى في سورة الشعراء ﴿ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ﴾

وعليه، فإنهُ من الواضح الجَلي أن القرآن الكريم عالج أركان اللغة وأعاد تصحيح مسارها بعد أن اعوج عمودها وتهدّلت أطرافها.

إن أهل اللغة الأصلاء يعرفون الكثير من الفوارق بين المعاني المترادفة، فيعرفون: أن نظر غير أبصر، وغير شاهد، وغير رأى، ويعرفون: أن أكل غير طعم، وأن شرب غير ارتوى، وكذلك أن للأسد أسماء متعددة ليست بمعنى واحد، ولكنها تصف حالات مختلفة للأسد مثل: السبع والليث والضرغام والقسورة وغيرها، وكذلك الإبل: فلها أسماء متعددة، مختلفة المعاني، كالهجن والبعير والظعائن والنوق إلى آخره، ومن لا يعرف يحسبها واحدة.

أمثلة أخرى على الفروق الدقيقة بين المترادفات

  • "قتل" و"ذبح": كلاهما يدل على إزهاق الروح، لكن الذبح له دلالة على القطع من جهة مخصوصة، وغالبًا ما يُستخدم في سياق الذبائح، بينما "قتل" أعمّ.
  • "علم" و"عرف": العلم غالبًا ما يدل على إدراك الشيء على وجه اليقين. أما المعرفة، فقد تكون أوسع وأقل يقينًا.
  • "نظر" و"رأى": "نظر" يُفهم منه بذل الجهد في الإبصار، أما "رأى" فقد تأتي بمعنى الرؤية المباشرة أو الإدراك العقلي أيضًا.

أهمية فهم الفروق

فهم هذه الفروق الدقيقة يُثري الذوق اللغوي، ويساعد في تفسير النصوص الشرعية والأدبية بشكل أعمق، كما يحفظ المعنى من أن يُفهم بشكل سطحي أو غير دقيق.

وقد أخبرنا الله تعالى في كتابه، وله المثل الأعلى، أن له أسماءً حسنى متعددة، وهذه الأسماء جميعها تتصف بعدم التساوي أو التكرار أو التشابه.

ولا تكاد تخلو آية من آيات القرآن من إعجاز لغوي يبين ويثبت أن القرآن ليس منتهى علوم اللغة فقط، ولكنه منتهى كل العلوم، كما أشار تعالى لذلك في قوله: ﴿وتفصيل كل شيء﴾ [يوسف/111]، وقوله: ﴿تبيانا لكل شيء﴾ [النحل/89]، ويمكن أن نلاحظ في قول الله تعالي ﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ﴾[يونس: 35] فقوله: "يهدي إلى الحق" لا بد أن لها معنى غير يهدي للحق، وعدم الوصول للمراد الإلهي لا يعني التسرع والقول إنهما متساويان، وكذلك الفرق بين تسطع وتستطيع في قوله تعالى: ﴿ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 78]، وقوله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: 82]، فإذا كان المعنى يتغير بتغير حرف واحد في الكلمة، بل ويتغير بتغير تشكيلة على حرف، فكيف لنا أن نقول: يقرأ تعني يتلو، أو أن يخطه بيمينه تعني يكتبه بيمينه.

وعدم وصول البعض للفروقات بين المعاني والمدلولات، إنما جاء بسبب عدم تمكنهم من اللغة، لأسباب متعددة، ولكن نذكر منها على سبيل التوضيح أن علماء اللغة الأوائل كالنحو والصرف والعروض، وكذلك المفسرين الأوائل الذين جمعوا التفاسير، كانت العربية تمثل بالنسبة إليهم لسانهم الثاني، كما أننا يجب ألا نغفل الأثر اللغوي لانتشار مراكز ثقافية إسلامية خارج المدينة المنورة، وبعيدة عن شبه الجزيرة العربية وانتقال الثقل الثقافي الإسلامي إلى العواصم الجديدة التي تميزت باختلاط الأعراق والأنساب.

الخلاصة

الترادف في اللغة العربية ظاهرة ثرية، لكنه لا يعني دائمًا التطابق التام؛ فكل لفظ له روحه الخاصة وسياقه، وقد تُترجم الفروق الدقيقة إلى معانٍ بلاغية أو شرعية مهمة. والوعي بهذه الفروق هو مفتاح من مفاتيح الفهم العميق للغة.