النفري ومكيدة العبارة الضيقة


فئة :  قراءات في كتب

النفري ومكيدة العبارة الضيقة

للأقدار فسح وفجوات وهوامش، تفتح بين الفينة والأخرى فرصًا للتسلل وقلب معادلة النقد داخل المكتوب العربي الإسلامي، ذلك النقد الذي غالبته شحوب قراءات أو محاولات قراءة تسمها السماجة والتسطيح، سمات كثيرًا ما تدفع لاستثارة أذواق الرفض عند القارئ، ورفع مستوى الحساسية لديه إزاء ما ينشر من مجاورات الفكر والأدب والفلسفة...

وسط صورة كهذه، وعبر فجوة من فجوات المعنى، باغتنا كعادته الناقد والباحث العراقي الجاد "سعيد الغانمي" ليطالعنا بمؤلف يبهج مسيرته النقدية والفكرية، كما يتوجها في اتجاه الرصانة والصنعة المبدعة. عمل يعيد النظر نقديًّا فيما طبع من أعمال العارف العراقي الكبير "النفري"، معنونا إياه بـ "الأعمال الصوفية" ضمن منشورات الجمل بألمانيا (2007 م).

لم يكتف الباحث في هذه المراجعة التحقيقية – إن صح التعبير – بمجرد تصوير أعمال النفّري التي سبق ونشرت من قبل آربري والأب نويا، اللذيْن يعود إليهما الفضل الكبير في الكشف عن هذا الموروث الفلسفي العرفاني الهام، نعم، يستعيد الغانمي كل ذلك الجهد بجمعه للمواقف والمخاطبات ضمن مؤلف واحد، لكن إضافته تجلت بالتحديد في تزويده هذه النسخة بجهاز تحقيقي آخر، مستدركًا به أخطاء الطبعات الأولى سالفة الذكر، ومعيدًا كذلك النظر في نظام التنقيط والضبط بالشكل، ولم لا، اقتراح بدائل قراءات مغايرة، إلى جانب ترجمته لمقدمات الطبعات الأولى لأعمال النفري سواء ما كتب منها بالإنجليزية أو الفرنسية لآربري ونويا.

يقدّم الغانمي لهذا العمل بمدخل يقارب فيه نصوص النفري وحياته – ابن قريته نفر –، مقاربة تفصح عن محاولة جادة حصيفة في التأمل، ودربة مبهرة في وصال النص الصوفي، ومعاناة وجودية هي أقرب لمعايشة التجربة الصوفية - في معناها الواسع - قبل أن تكون تجربة مع مكتوب هذا العارف أو غيره.

ينتمي النفري إلى قرية "نفر" العراقية، وهي أقدم مدينة سومرية في التاريخ، تعد وريثة أول معبد وهو "الإيكور"، وأول مكتبة مسمارية في العالم لم تكتمل معالم الكشف عنها بعد، عاش النفري الجزء الأكبر من حياته في منتصف القرن الرابع الهجري، وعاصر الفارابي والتوحيدي والمتنبي وغيرهم. بلغت أعماله المغرب عن طريق الشيخ الأكبر ابن عربي الذي التقاه في المشرق، وعلى وجه التحديد في الشام، وكذلك عبر "إسماعيل بن سودكين" تلميذ مولانا الأكبر، وهو ما يخالف الرؤية السائدة التي اعتبرت أنّ الشيخ الأكبر قد تعرف على النفري في المغرب لا في المشرق، وهي رؤية أكد الغانمي خلافها في مقدمته عبر جرد معطيات تاريخية لحياة كل من العلمين الصوفيين البارزين.

النفري والكتابة: ترحال وله وخيانة لغوية

للنفري مع الكتابة أو الحروف جدل خاص، وحوارية لامتناهية، رفض هو نفسه أن تدون أو يؤرخ لها... كأنّها قصة تبتدئ من اللانهاية لتنتهي إلى اللانهاية، فاللغة في نظر النفري حجاب، وحد، فاللغة عاجزة في الوصول إلى ما لايتناهى، أو كتابة ما لاينقال، إذ الكتابة عنده نوعان: كتابة ما ينقال، وكتابة ما لاينقال.

فالذات الولهة، والوله هنا وله بالرحلة والكشف، لا لطلب الشيخ وإنّما الرحلة للرحلة في حد ذاتها وفي تجريبيتها الكشفية غير المتوقعة دائمًا، فهذه الذات بعد أن هامت في أسئلتها الوجودية وبعد أن تخطت عتبات المعرفة والعلم اللذين أحست بضيقهما، ستكتشف ضيق العالم أيضًا، وهكذا تبتدئ مسيرة الرحلة لديها من جديد وفي سيرورة لا متناهية نحو عوالم أوسع، محاولة الإمساك بما هو متيقن استحالة الإمساك به مقدمًا. إنّه الترحال من اللغة إلى اللالغة، وإن عبرت بها، ومن المكان إلى اللامكان، وإن بقيت خاضعة لشرطياته، وفي عمق الوعي بقيمة الماهوي وعوالم الفراغ الداخلية واللامرئية تترسخ أبعاد أخرى واعية بعمق أزمة الحرف لكتابة كل ذلك الغنى المنفتح والمتوالد باستمرار، إنّها شاغل مشكلته تكمن في تناهي الكشف والوصف والإفصاح، لهذا عايش النفري مذاق المعاناة من مكيدة العبارة الضيقة، وخرس الحروف وضياع الكلمات... "لأنّ اللغة إذ تنفتح على ما لا يتناهى تنغلق في الوقت نفسه على عالمها اللغوي الداخلي، لتصبح لغة لا لغوية، هكذا تضطر اللغة إلى خيانة طبيعتها اللغوية من أجل استقبال ما لا يتناهى والانفتاح عليه، وهنا بالتحديد، ترتكب كتابة ما لا يتناهى تناقضها الجوهري". (ص 17)

كل هذا الكمّ المعرفي الوله، يضعنا في المحصلة أمام تجربة جاذبة وفريدة بالنسبة إلى المهتم، تجربة حاولت إخراج الكتابة من حدودها الاتصالية والأداتية لترتقي بها نحو مشارفة القبض على المستحيل، بل حاولت – في لامفكراتها - تعرية راهنيات العقل اللغوي آنذاك، تحت ضغط من كشوفات التوحد المعرفي؛ الجامع لحالة رتبتها لا تراتبية ودرجتها لا تعترف بالدرجات، ولكن تجوزًا نعرفها بـ "الوقفة اللغوية"، وقفة كسرت أعرافًا لغوية كثيرة وحملت في طياتها بوادر تأسيس فلسفة لغوية جديدة، أو لنقل كانت وقفتنا اللغوية هذه طفرة أمام سيل الأسئلة المتراصفة والمتناسلة من سيل الوجود ومعانيه الولهة المحيرة. لا نريد بهذا التقريض المختزل إسقاط نظريات لغوية حديثة على التجربة كما يفعل الكثيرون، لكن نقرر دون وجل أنّها شطحة لغوية – بمعنى إيجابي للشطحة –، شكلت بلغة الفتوحات المكية، فتحًا ستليه فتوح مع الشيخ الأكبر ومن سيليه... الخ، ولعله ذلك المعنى المنفلت ما دفع النفري إلى البوح بأثره المشهور "إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"، وبعبارة الغانمي لقد شكلت تجربة النفري في الكتابة استنطاقا للصمت قصد الوصول به إلى مشارف اللغة المعبرة عما يستعصي التعبير عنه وما يجل عن التسمية. (انظر ص 18)

إنّنا إجمالاً أمام نص مفتوح، ليس لانفتاحه على براح التأويل والقراءة حدود، كيف ذلك، وهو الذي أنشا كشوفه على كسر ما حده وراصفه أمامه الأولون. إنّنا أمام هدية ثمينة للباحثين والمهتمين بجواهر العقل المسلم في استلهامه لمعارف عصره ولغته ولغة غيره ومعارفهم، حيث راكب بين كل ذلك قصد توليده لمستقبليات وفتوح معرفة ستشكل رؤيته الخاصة للعالم.

إنّنا أمام صياغة/بنية فلسفية فريدة من نوعها، تتعدى حدود المفاصلة والندية الصورية، لترسم مقروءًا أكثر انسجامًا ومعقولية، تركيب وتأمل يأبيان الاعتراف بما يمارسانه، "لذلك في مثل هذا السياق الذي تصير فيه اللغة حجابًا "العبارة ستر" من العسير أن نصنف معارف النفري، فهو يتفلسف وينكر الفلسفة ويعانق الحجاب ليستطيع الكشف، ويداخل بين الغيب والشهادة، والصمت والنطق، والوسوسة واليقين، بلاغة النفري هي بلاغة إنكار الحرفية" لأنّ الحرف يعجز أن يخبر عن نفسه، فكيف يخبر عني؟". (ص 30)