النيل أبو قرون: الفكر يُقارَع بالفكر، ولكلّ إنسان الحقّ في ما يعتقده


فئة :  حوارات

النيل أبو قرون: الفكر يُقارَع بالفكر، ولكلّ إنسان الحقّ في ما يعتقده

أكّد المفكّر السوداني، والشيخ الصوفي، النيّل عبد القادر أبو قرون أنّ المذهبية من أسباب تفتيت المسلمين، كما أنّ التعصب لها يؤدّي إلى العنف، وإقصاء الآخر، وهذا مخالف للحرية الفكرية والدينية، التي جاء بها الإسلام في محكم قوله تعالى: (قل الحقّ من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) [الكهف: 29]، وقوله تعالى: (لا إكراه في الدين) [البقرة: 256].

وبيّن الشيخ أبو قرون، المقيم في الأردن، في حوارٍ أُجرِيَ معه في عمّان، أنّه مع حرية الفكر، رافضاً التعصّب لمخالفته صالح الأخلاق، التي هي الدين، الذي بُعِث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، مشدّداً على أنّ الفكر "يُقارَع بالفكر، ولكلّ إنسان الحقّ في ما يعتقده، ولا يحاسبه عليه أحد إلا الله، ولا يجوز لأحد أن يأخذ الوكالة عن الله".

ونبّه المفكر إلى أنّ "الفهم الخاطئ" للحكم في الإسلام هو الذي أدّى إلى ترجمة المقصود من الدين إلى الفهم السياسي فحسب، وقداسة الحاكم التي "لا أصل لها في الشرع".

وأوضح أنّه لم يُؤثَر عن أحد الرسل أنّه كان حاكماً، باستثناء سليمان وداود عليهما السلام، وهذه تفيد إمكان قيام دولة سواء تقيّدت أم لم تتقيد بحكم الشرع؛ أي أنّ الحكم الإلهي هو الشرع والقانون، الذي ينتج مجتمعاً فاضلاً، وهو رسالة جميع الرسل صلوات الله عليهم، ولا يتعارض مع وجود دولة سواء حكمت به أم لم تحكم به.

وشدّد أبو قرون على أنّ التنافس على السلطة هو الذي أبعد الناس عن حقيقة الإسلام، لافتاً إلى أنّ كلّ الفرق الإسلامية تنظر إلى الإسلام من منطلق سياسي، وتسعى لفرض دولة إسلامية، بينما الإسلام ليس دولة تحدّها حدود جغرافية، أو أمراً تختصّ به حكومة ذات وزراء، ورئيس وزراء، منوهاً إلى أنّه لا ينبغي لأيّ حكومة أن تصف نفسها بأنّها دينية، فالدين لا حدود له، ولا إجبار لأحد على الدخول فيه، ولأنّه أفضل شيء للإنسانية، وقيام المجتمع الصالح، فإنه لا يحتاج إلى إكراه الناس عليه، فالأفضل جاذب بطبعه، عندما تُعرف حقيقته.

وأكّد الشيخ أنّه لا علاقة للدين بالدولة، ولا توجد في رسالات الأنبياء - عليهم صلوات الله - حكومة وصية على الناس لإجبارهم على نهجٍ، أو مذهب معين. أمّا وجود دولة، فلا بدّ منه لتدبير شؤون الناس في مجتمعهم، في ما يخص التعليم، والصحة، والأمن، والتجارة، والزراعة، وحركة المرور والاتصالات، وغيرها من شؤون الحياة، وهي تقوم على ما يرتضيه الناس في أسلوب اختيارها، وفيما يرتضونه من الشرائع.

وقال الشيخ أبو قرون: "ليس لفهمٍ قدسية"، إنّما القدسية للنص القرآني، والفهم يختلف من شخص إلى آخر، وقد يدخر الله للمتأخرين ما لم يكن للسابقين، فالله - سبحانه - الوهاب الجواد موجود، ولم تقتصر رحمته على السلف، ولم ينضب ما عنده من مددٍ، فالاقتصار على ما كان عليه السلف فحسب "تحجير على الله ورحمته، وهو كفر بنعمة الله".

ودعا المفكر إلى مراجعة الموروث، وذلك من خلال تفسير القرآن على محبوبية الله لرسوله لا على مفهومية القهر، والاعتقاد الصحيح في النبي أنّه في قمّة الإنسانية، ونفي كلّ ما يشير إلى انتقاص في ذاته الشريفة، وصفاته، وعلمه، فضلاً عن رفع القدسية عن فهم السابقين، وأن يعلم الإنسان أنّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت بعثته للأخلاق، كما قال عليه السلام: "إنما بُعِثْتُ لأتمّم صالح الأخلاق".

وتابع الشيخ أنّ الرحمة والفيض الإلهي لم يتوقّفا عند السلف، وما عند الله لم ولن ينفد، إلى جانب أنّ مَن يظنّ أنّه عالم فهو الجاهل، فالإنسان طالب علم من المهد إلى اللحد، فلا يتباهى أحد بعلمه، ولا يكتفي بما عنده، فيحرم، بذلك، نفسه من علم لم يبلغه، ولا يدخل نفسه في قوله تعالى: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) [يونس: 39].

وأشار أبو قرون إلى أنّ المصادر الإسلامية فيها الغثّ والسمين، واعتاد الناس أن يأخذوا من المصادر دون تمحيص. والخروج من هذه الفتنة - في رأيه - يكون بالتبصّر بالمنهج الإسلامي الصحيح، الذي جاء بالحرية التامّة، وقبول الآخر، والاعتراف بصحّة الأديان السابقة، ووجوب الإيمان بها، وبأنّ الإسلام جاء موضحاً لها، وليس لاغياً.

وفسّر الشيخ ظهور الحركات المتطرّفة بأخذ بعضهم من الشريعة نصوصاً «ضعيفة»، وتفسيراً «محدوداً»، وعملوا عليها بفهم قاصر، فكان النتاج ما اتخذته بعض الحركات الإسلامية منهجاً بعيداً عن روح الإسلام وحقيقته.

وشدّد أبو قرون على أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - "لم يحارب قطّ لفرض الإسلام"، منوّهاً إلى أنّ حروبه مع اليهود كانت «دفاعية»، ولم يأمر أحداً بترك دينه أو الدخول في الإسلام؛ لأنّ الإسلام جاء «مصدقاً، لا لاغياً» للديانات السابقة، وحتى كفار مكة حين فتحها لم يفرض عليهم الإسلام؛ بل حتى لم يقل لهم: قولوا لا إله إلا الله، مما يبطل صحة حديث "أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله". فلو كان أمرَ بذلك، لقال لهم: قولوا لا إله إلا الله، بدل اذهبوا فأنتم الطلقاء. وبما أنّه لا إكراهَ في الدين، فلا يوجد مبرّر لحروب الدول لإدخالها وإجبارها على الإسلام، والله لم يأمر بذلك (إنه لا يحب المعتدين) [الأعراف: 55].

يذكر أنّ الشيخ النيّل عبد القادر أبو قرون مفكّر سوداني، تربّى في بيت علم وتصوّف في السودان. درس القانون في جامعة الخرطوم، وكان أوّل أعضاء اللجنة الثلاثية، التي قامت بصياغة قوانين الشريعة الإسلامية، في عهد الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري، وتولى وزارة الشؤون القانونية آنذاك، وهو عضو في هيئة علماء السودان، وعضو المجلس الأعلى للدعوة. تعرض لمحن ومضايقات، والعديد من المحاكمات لآرائه الجريئة، ومقارباته الفكرية، وأطروحاته المغايرة للسائد، فضلاً عن منع معظم كتبه في عدد من البلاد.

أصدر مجموعة من المؤلفات؛ منها: مراجعات في الفكر الإسلامي، الإسلام والدولة، شفاء الذمم من اتهامات المسلمين للنبي الأعظم، في رحاب الرسالة، نبي من بلاد السودان، كلية الإنسان، بوراق الحب، وهو شعر في المدح النبوي.

وفيما يأتي نصّ الحوار كاملاً:

منى شكري: المتتبّع لفكركم، من خلال مؤلفاتكم، ولاسيما الأخيرة منها، يحار في تحديد التيار الديني، أو الفكري، الذي تنتسبون إليه. أين يصنّف الشيخ النيل أبو قرون نفسه مذهبياً؟

الشيخ النيل أبو قرون: المذهبية من أسباب تفتيت المسلمين، كما أنّ التعصب لها يؤدّي إلى العنف، وإقصاء الآخر، وبهذا يكون مخالفاً للحرية الفكرية والدينية، التي جاء بها الإسلام في محكم قوله تعالى: (قل الحق من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) [الكهف: 29]، وقوله تعالى: )لا إكراه في الدين( [البقرة: 256]، والمذهبية والتعصب يعنيان رفض قبول غير المذهب، أو محاولة فرض المذهب على الآخرين، وهو خلاف صريح لقوله تعالى: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) [يونس: 99]، ولذلك لا أضع نفسي تحت مذهب؛ بل مع الحق حيث دار، مع أنّي أنتمي إلى بيت تصوّف عريق في السودان.

منى شكري: في عهد الرئيس السوداني الراحل، جعفر النميري، قمتم بالمساهمة في وضع قوانين «سبتمبر» (الشريعة الإسلامية)، بعضهم يرى أنّ هذه الخطوة لم تكن موفقة؛ لأنه لم يتمّ الإعداد لها، ولأنّها لا تعدو كونها محاولة أخيرة لإنقاذ نظام متهالك، ولضرب الخصوم السياسيين، كيف تقيّمون هذه التجربة اليوم؟ وهل أنتم من دعاة الدولة الثيوقراطية؟

الشيخ النيل أبو قرون: ليس أصلح للإنسانية على وجه الأرض من حكم الشرع الرباني، الذي يضمن للإنسان حقّ التعامل في المجتمع، دون تفرقة بين أمير وفقير، وحكم الشرع في كتاب الله لا يعني غير القضاء، ولا علاقة له بالحكم السياسي، أو تكوين دولة. لكنّ الفهم الخاطئ للحكم في الإسلام هو الذي أدى إلى ترجمة المقصود من الدين إلى الفهم السياسي فحسب، وقداسة الحاكم، التي لا أصل لها في الشرع. فالإسلام هو دين للناس كافة، وليس لتكوين دولة تحدها حدود جغرافية. يقول تعالى، في حقّ نبي الله موسى عليه السلام: (ولما بلغ أشدّه واستوى آتيناه حكماً وعلما...) [القصص: 14]، وحينما كان يخاطب فرعون قال: (ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين) [الشعراء: 21]، فلا يعني الحكم هنا غير الرسالة بالشرع، وليس حكم مصر.

وقال تعالى، في حقّ لوط عليه السلام: (ولوطا آتيناه حكماً وعلماً ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين) [الأنبياء: 74]، وقال تعالى، في حقّ إبراهيم عليه السلام: (ربّ هبْ لي حكماً وألحقني بالصالحين) [الشعراء: 83].

ومعلوم أن موسى - عليه السلام - لم يكن حاكماً، وكذلك لوط لم يكن حاكماً؛ بل كان في حالة ضعف في قومه، وإبراهيم - عليه السلام - لم يكن حاكماً. ومحمد - صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله - لم يكن حاكماً ولم يكوّن حكومة لترعى الدين من بعده.

ولم يُؤثَر عن أحد الرسل أنه كان حاكماً باستثناء سليمان وداود عليهما السلام، وهذه تفيد إمكان قيام دولة، سواء تقيّدت أم لم تتقيد بحكم الشرع؛ أي أن الحكم الإلهي هو الشرع والقانون، الذي ينتج مجتمعاً فاضلاً، وهو رسالة جميع الرسل - صلوات الله عليهم - ولا يتعارض مع وجود دولة سواء حكمت به أم لم تحكم به. وما يراه بعض المسلمين من أنّ أبا بكر - رضي الله عنه، قد أخذ حقّ علي عليه السلام بأنه صار الخليفة الأوّل للمسلمين ليس صحيحاً؛ لأنّ أبا بكر - رضي الله عنه - لم يأخذ من علي - عليه السلام - شيئاً، فما أعطاه النبي لعليّ - عليه السلام - هو الولاية الدينية، وليس الولاية السياسية: "من كنت مولاه فعلي مولاه"، وهي الولاية على المسلمين، كولاية النبي صلى الله وبارك عليه وعلى والديه وآله إلى يوم القيامة. لذلك لم يطالب عليّ بالحكومة لعلمه بأنّه ليس لها علاقة بالدين. أمّا أبو بكر، فقد اختاره المسلمون خليفة لهم للحكم، فهو خليفتهم الأول للحكم، وعلي - عليه السلام - خليفة رسول الله صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله في الدين.

ولم ينشأ الخلاف بين فرق المسلمين إلا لجعلهم الدين هو الدولة، وهذا سبب الاحتراب، والاقتتال، والعنف. وقصدي من تحكيم الشرع، في عهد الرئيس الأسبق جعفر النميري، هو مفهومي لما سبق أن ذكرته، ولكنّ الفهم الخاطئ عند المسلمين بأنّ الإسلام هو الدولة، هو الذي أدّى ويؤدي إلى سوء فهم الحكم في الإسلام، ولو قُدِّرَ لحكم الرئيس نميري الاستمرار، لكنا بيّنا الأمر، فقد كنت وزيراً للشئون القانونية آنذاك. لكنّ الفهمَ الخاطئ للإسلام - كما سبق أن قلت - جعل بعضهم يسمّونها «قوانين سبتمبر»، وبعضهم الآخر اعتقد أنّ القصد منها إطالة عمر النظام، مع أنّ الحكم بيد الله (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) [آل عمران: 26]، فليس لأحد إمكانية تولية أو نزع ملك، أو إطالة عمره، فذلك لله وحده. فما ذكرته آنفاً يبيّن رأيي في وجود دولة ثيوقراطية.

منى شكري: في عام 1985م، نُفِّذ حكم الإعدام بالمفكر السوداني محمود محمد طه بتهمة «الردّة»، بعد تعديل تهمته السياسية بإثارة الكراهية ضدّ الدولة. وقد دافعت عن فكر الرجل بعد رحيله، ألا تعتقد أنّكم تتحمّلون جزءاً من المسؤولية؛ لأنّكم كنتم في السلطة آنذاك من ناحية، ولأنّ الراحل كان ضحيّة قوانين «سبتمبر»، التي أُسيء استغلالها؟

الشيخ النيل أبو قرون: قوانين الشريعة، التي شاركتُ في صياغتها، لم يكن فيها مادة تحاكم بتهمة الردّة، وما عملناه هو تقنين للشرع. وقد حوكم الراحل الأستاذ محمود محمد طه بتهمة الردّة، وقد كانت القضية في بدايتها ضدّ بعض تلاميذه في منشورٍ وزّعوه، لكنّ القاضي أدخله في القضية، حين ظهوره في المحكمة، وطلبه الانضمام إلى القضية، وحُكم عليه بالردة، وأيّدتْ ذلك محكمة الاستئناف، وتمّ إلغاء الحكم في المحكمة الأعلى، ولكن كان ذلك بعد تنفيذ الحكم. ولم أكن، في ذلك الوقت، في السلك القضائي، ولا يوجد في الشرع الإلهي محاكمة للفكر، وهذا واضح في القوانين التي صغناها، حيث لا يُوجد فيها أيّ مواد تحاكم الفكر. والقضية، أساساً، لم تكن ضدّ محمود محمد طه؛ بل ضدّ بعض تلاميذه، لتوزيعهم منشوراً ضدّ الدولة، ولذلك فإنّ إدخال الأستاذ محمود محمد طه في القضية، ومحاكمته، لم يكن صحيحاً، كما بيّنت ذلك المحكمة الأعلى. وحكم الشرع، الذي جاء به كلّ الرسل، إنما هو لخلق المجتمع الفاضل، دون إكراه لأحد، قال تعالى: (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا) [الشورى: 48]، وقال تعالى: (وما أنت عليهم بوكيل).

فالرسالة الخاتمة جاءت شاملةً لما سبقها من رسالات، ومهيمنة، وموضّحة، وليس لاغية لها، قال تعالى: (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه...) [النحل: 64]. وما أشرت إليه في السؤال عن دفاعي عن أفكار الأستاذ محمود محمد طه هو حقيقة دفاع عن حرية الفكر، وليس دفاعاً عن أفكار بعينها.

منى شكري: تقيم في الأردن منذ سنوات، هل كانت الإقامة في المملكة بسبب الظروف المعادية لفكرك في السودان؟ وما المناخ، الذي توافر لك هنا في المملكة، ولم يتوافر في بلدك؟ هلّا أطلعتنا على الانتقادات الموجهة إليك، لاسيّما أنّك أُحِلْت إلى القضاء، ومُنِعَت بعض كتبك؟

الشيخ النيل أبو قرون: الإقامة في الأردن إقامة في أرض مباركة، قال تعالى: (... المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) [الإسراء: 1]، كما أنّ الأخلاق الأردنية فيها من المحاسن ما يجذب الإنسان إليها، وفيها مراقد الأنبياء والصحابة، كما يوجد فيها حكم القانون أكثر ممّا يوجد في أيّ بلد عربي آخر. أمّا معاداة الفكر، فلا يُشترط فيها الإقامة في بلد معين، وهي، في الدول العربية، ظاهرة، لوجود التحزّب والمذهبية. بالنسبة إلى السودان، أنا أنتمي إلى إحدى أكبر العائلات الصوفية. والقرية، التي أقيم فيها، أسّسها جدّي الشيخ محمد أبو قرون، ولذلك سُمِّيَت باسمه (قرية الشيخ أبو قرون). ولطريقتنا الصوفية، في السودان وخارجه، عدد هائل من المريدين، كما أنّ القبيلة، التي أنتمي إليها، من أكبر القبائل في السودان، ولذلك فإنّ وضعي في السودان لا يتأثّر بالمعارضة الفكرية، ولا الحزبية، ولا المذهبية. وبما أنّي آليت على نفسي أن أقف مع الحقّ حيث كان، وأتقصّى المراجع، فقد يوجد في منهجي ما يخالف ما اعتاده الناس في ما أخذوه من المراجع، دون تمحيص وتدقيق، وضاعت الحقيقة عند أكثرهم (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) [يوسف: 103]، وقال تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) [الأنعام: 116]. فأخرجت من هذه المراجع والمصادر التاريخية ما يبين الحقيقة فيها، وما يدحض ما فيها من مخالفات، فهي جامعة للغثّ والسمين. ولكنّ المتبصّر إذا وضع ميزانه القرآن الكريم، وعصمة النبي - صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله - يتبيّن له، في هذه المصادر، الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فيجد مطلوبه من الحق واضحاً، وتتضح له صورة حبيب الله، وأكمل الخلق محمد بن عبد الله، فلا يضع في مساواته أحداً، ولا سنّة لأحد كسنّته؛ لأنّه الرحمة المهداة؛ ولأنه حقّ، كما قال تعالى: (وشهدوا أن الرسول حق) [آل عمران: 86].

منى شكري: ذكرتم، في كتابكم (شفاء الذمم)، أنّه جاء رداً على "الإساءات"، التي أُلصقت بالرسول الكريم، في كتب الحديث والتفاسير، مستنداً إلى العصمة المطلقة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم. ألا ترون أنّ هذا الطرح يصطدم ببعض الآيات القرآنية؛ مثل: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) [الفتح: 2]؟

الشيخ النيل أبو قرون: الذنوب منها ما لا يُغتفر كالشرك بالله، ومنها الكبائر كالسحر، ومنها الصغائر كالقبلة، ومنها المكروهات كتأخير الواجب، ومنها غير المستحبات كترك فضيلة، ومنها ما تركه حسنة، فيسمّى ذنباً كعدم غضّ الطرف، ومنها ما هو حسن، ويسمّى ذنباً. لذلك قال بعض العارفين: "حسنات الأبرار سيئات المقربين"، وهذا مثل طلبك الأجر من الله في ذكرك له. فالعارفون يقولون: "كيف تطلب الأجر على فعلٍ لا حول لك فيه ولا قوة"، فصار الفعل، هنا، ذنباً عندهم؛ لأنه بقصد طلب الأجر ممّن أعطاك الحول والقوة، وقالوا: أتطلب أجراً على الطاعة؟ ألا يكفيك أنّه رضي أن تكون لها أهلاً. ومثل هذه الغفلة تُعَدُّ ذنباً، على الرغم من أنها حسنة. وهذه قد تكون من تفسيرات هذه الآية؛ لأن تفسير كلام الله ليس له حدود. وليس لمفسرٍ للقرآن، أو شارحٍ، قدسيّةُ فهمٍ يفرضها على الآخرين، فكلام الله لا يحصيه مفسّر، ولا يحقّ لأحد أن يقول: تفسير هذه الآية هو كذا؛ بل يجب أن يقول: من تفسير هذه الآية كذا، والله أعلم. كما أنّ الأولى هو تدبّر القرآن، وليس تفسير القرآن. قال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن...) [محمد: 24]. وبما أنّ الرسول حقّ كما قال تعالى: (وشهدوا أنّ الرسول حق) [آل عمران: 86]، فليس له ذنب كعامة البشر، وإن وُجِدَ طلب للأجر الذي هو ذنب - كما ذكرنا - فهو مغفورٌ له، قبل الرسالة وما بعدها.

منى شكري: وفي الكتاب نفسه، برّأت الرسول - صلى الله عليه وسلم - من اتهامات أُلصِقت به، وهي مبثوثة في كتب التفاسير والأحاديث. ما الخطر من استمرار تداول هذه الاتهامات، لاسيما أنّها قدّمت صورة للآخر عن شخصية النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وعن الدين الذي جاء به؟

الشيخ النيل أبو قرون: الرسول - صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله - لا يحتاج إلى تبرئة من أحد، فهو الحقّ المُبرَّأ من كلّ سوء، وهو الفرد الجامع للمحاسن أجمع، وهو الإنسان الكامل، الذي تصبو الإنسانية إلى كمالها من وجوده، وهو المعلم الأكبر، الذي ترجم كلام الله، الذي ليس بجارحة، ولا صوت، إلى لسان عربي مبين، وهو صاحب الخلق العظيم، الذي مدحه به مَن خلقه، فهو الأسوة الحسنة. لذلك كان حبّه هو الإيمان. قال - صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله -: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين". فحبّ النبي شرط الإيمان، والناقد ليس محباً لمن ينتقد، ناهيك عن الذي يلصق تهمة بمن يدعى حبه، والله سبحانه يقول: (فما أنت بملوم) [الذاريات: 54]. فوجود هذه الاتهامات تنفي الإيمان، فقصدت تبرئة الذمم منها. وهي التي أدّت إلى وجود المستهزئين بشخصيّة النبي الكريم عند غير المسلمين، ولذلك ظهرت الرسوم الكاريكاتورية مستندة إلى تلك الاتهامات.

منى شكري: لماذا عند الصلاة على النبي الكريم تعطفون عليه والديه، وآله، وتتجنّبون أصحابه؟

الشيخ النيل أبو قرون: النصّ الوارد في الصلاة على النبي - صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله - هو حينما سأله أصحابه: كيف نصلّي عليك، قال قولوا: "اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد..."، ولم يرد فيها ذكر الصحابة، ولا التابعين. والصحبة لا تنفي النفاق، ولا الكفر. قال تعالى مخاطباً الكفار: (وما صاحبكم بمجنون) [التكوير: 22]. وقال - صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله -: "في أصحابي اثنا عشر منافقاً"، فالصلاة على الصحابة أجمعين تشمل المنافقين، وليس لها سند. أمّا إضافة والديه، فلقوله - صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله -: "أنا خيار من خيار"، ثم إنّه يستحيل أن يكون النبيّ قد خرج من رحم غير طاهر، أو صلب رجس. وإذا كان المرء مع من أحبّ، فلا يدّعي أحد حبّ النبيّ أكثر من أمّه آمنة عليها السلام.

منى شكري: من يقرأ كتاباتك عامةً، يلحظ انتقادك لتقديس كلّ ما جاء به «السلف والموروث». بماذا تفسّر استمرار تكريس التقليد والنقل حتى اليوم؟ وكيف نراجع الفكر الإسلامي، في ظلّ عقلية تقدّس الموروث، وهو ما أشرت إليه في كتابك (مراجعات في الفكر الإسلامي)؟

الشيخ النيل أبو قرون: ليس لفهمٍ قدسيّة، إنّما القدسيّة للنص القرآني، والفهم يختلف من شخص إلى آخر، وقد يدّخر الله للمتأخرين ما لم يكن للسابقين، فالله - سبحانه الوهاب الجواد - موجود، ولم تقتصر رحمته على السلف، ولم ينضب ما عنده من مدد، فالاقتصار على ما كان عليه السلف فحسب تحجير على الله ورحمته، وهو كفر بنعمة الله. أمّا مراجعة الموروث، فهي تكون بالآتي: أولاً؛ تفسير القرآن على محبوبية الله لرسوله، لا على مفهومية القهر. ثانياً؛ الاعتقاد الصحيح في النبي أنه في قمة الإنسانية، ونفي كلّ ما يشير إلى انتقاصٍ في ذاته الشريفة، وصفاته، وعلمه، ولا يكون الكلام عنه إلا عن طريق الحب، وأنه هو المعلم الذي لا ينتقد والمحبوب المعشوق. ثالثاً؛ رفع القدسيّة عن فهم السابقين. رابعاً؛ أن يعلم الإنسان أن الرسول - صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله - كانت بعثته للأخلاق، كما قال - صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله -: "إنّما بُعِثت لأتمّم صالح الأخلاق". خامساً؛ أنّ الرحمة والفيض الإلهي لم يتوقّف عند السلف، وما عند الله لم ولن ينفد. سادساً؛ مَن يظنّ أنّه عالم هو الجاهل، فالإنسان طالب علم من المهد إلى اللحد، فلا يتباهى أحد بعلمه، ولا يكتفي بما عنده، فيحرِمُ بذلك نفسه من علمٍ لم يبلغه، ولا يدخل نفسه في قوله تعالى: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه).

منى شكري: بعد إصدار كتابك (نبي من بلاد السودان)، تعالت الأصوات المطالبة بإحراق كتبك، ما الذي تريد أن تصل إليه من هذا الكتاب، لاسيما أنّه مختلف في طرحه لقصة النبي موسى وفرعون؟

الشيخ النيل أبو قرون: لم آتِ بجديدٍ في كتابي (نبي من بلاد السودان)، إنّما بيّنت من القرآن، وما هو موجود في المتاحف والآثار، ما يوضّح حقيقة قصّة نبي الله موسى عليه السلام، وفرعون. فمن كان على علمٍ وافقني في ما طرحته. أمّا أهل تقديس فهم السلف، وهم الأكثرية، فذهبوا إلى الشتم، وإلقاء التهم، دون النقد الموضوعي، والبحث المطلوب من كلّ من ينتقد.

منى شكري: تنادي بعض الأصوات بحرق كتب التراث، بعد ما اقترفه تنظيم «داعش» من فظاعات. ما رأيك في هذه المطالبات؟

الشيخ النيل أبو قرون: أنا أؤمن بحرية الفكر، ولا أؤيّد التعصّب والعنف؛ لمخالفته صالح الأخلاق، التي هي الدين، الذي بعث به رسول الله صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله. فالفكر يُقارَع بالفكر، ولكلّ إنسان الحقّ في ما يعتقده، ولا يحاسبه عليه أحد إلا الله في الآخرة. ولا يجوز لأحد أن يأخذ الوكالة عن الله، فيفعل ما سيفعله الله في الآخرة، وينفذه في هذه الدنيا. فالله - سبحانه وتعالى - يؤخّر المخالفين ليوم تشخص فيه الأبصار، ولم يتّخذ وكيلاً له في هذه الدنيا، ولا من رسله. وإذا كان الاعتقاد أنّ الإسلام أفضل شيء للإنسانية - وهو اعتقاد صحيح في الحقيقة - فإنّ الأفضل جاذبٌ بطبعه، ولا يحتاج إلى أن يكره عليه أحد، فمن أين جاؤوا بالإكراه، والتعذيب، والتقتيل. ولم تأتِ رسالة من السماء، ولا جاء أحد من الرسل، بفرض رسالته، وقتل مخالفيه، ولا يجوز أن يُقتَل كافر لكفره، ولم ينزل العذاب من الله على الكفار لمجرّد رفضهم ما جاء به الرسل، إنّما كان ينزل العذاب على الكفار، حينما يحاولون الاعتداء على الرسل، قال تعالى: (وهمت كلّ أمة برسولهم ليأخذوه) [غافر: 5]. فما نزل العذاب على قوم لوط إلا حينما حاولوا الاعتداء عليه عند مجيء الملائكة. وما نزل العذاب على قوم صالح إلا بعد اعتدائهم على الناقة. وما نزل العذاب على فرعون وقومه إلا بعد محاولة الاعتداء على موسى وقومه. أمّا رسول الله - صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله - فقد هاجر من مكة رحمةً بهم؛ لأن الاعتداء عليه يُوجب عليهم العذاب. فما كان الرسل - صلوات الله عليهم - يتعاملون مع من خالفهم فكرياً، ولو برفض ما جاؤوا به من عند الله، بغير اللطف وحسن الخلق. قال تعالى لموسى وهارون لمّا أرسلهما إلى فرعون: (فقولا له قولاً لينا) [طه: 44]. ولم يتعامل موسى مع السامري بغير اللطف، على الرغم من أنه أشرك، وحرّض الناس على الشرك، وقال له: (فاذهب فإنّ لك في الحياة أن تقول لا مساس) [طه: 97].

منى شكري: ما تفسيرك لظهور «داعش»؟ وما السبيل للخروج من متاهات التكفير والتطرّف؟

الشيخ النيل أبو قرون: كما ذكرت آنفاً، إنّ المصادر الإسلامية فيها الغثّ والسمين، واعتاد الناس أن يأخذوا من المصادر دون تمحيص، ولو أنهم وضعوا ميزان عصمة النبي، والقرآن العظيم، وأن بعثته هي لإتمام صالح الأخلاق، لما كان هناك ابتعاد عن الحق، وبعدٌ عن المنهج النبوي القويم. والخروج من هذه الفتنة - في رأيي - يكون بالتبصر بالمنهج الإسلامي الصحيح، الذي جاء بالحرية التامة، وقبول الآخر، والاعتراف بصحّة الأديان السابقة، ووجوب الإيمان بها، وأن الإسلام جاء موضحاً لها، وليس لاغياً، قال تعالى: (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه( [النحل: 64]؛ لأنه جاء (مصدقاً لما بين يديه من الكتاب...) [المائدة: 48].

منى شكري: ألا ترى أنّ اختصار الشريعة بإقامة الحدود لا يختلف عمّا تمارسه الحركات المتطرّفة اليوم، وأنّنا بحاجة إلى مشروع أكبر من ذلك؟

الشيخ النيل أبو قرون: فهم الناس من الحدود قطعَ اليد، ورجمَ الزاني، وقتل المرتدّ، بناء على أحاديث بعيدة عن الصحة، وتفاسير يُوجد ما يخالفها، فحديث "من بدل دينه فاقتلوه"، مثلاً، غير صحيح، ولو صحّ، فإنّ اليهودي، الذي يبدل دينه إلى الإسلام يُقتل. وتفسير قطع اليد قد لا يعني البتر، فقد جاء عن نسوة المدينة اللائي رأينَ يوسف عليه السلام: (فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن) [يوسف: 31]، ولم يُؤثَر أنَّهنَّ بترنَ أيديهنَّ. فأخذ بعض الناس من الشريعة نصوصاً ضعيفة، وتفسيراً محدوداً، وعملوا عليها بفهم قاصر، فكان النتاج ما اتخذته بعض الحركات الإسلامية منهجاً بعيداً عن روح الإسلام، وحقيقته. فالشريعة ليست كما أخذها بعض الناس بهذا الفهم القاصر؛ بل هي إصلاح للإنسانية، وخلق للمجتمع الفاضل، وإضفاء المحبة والسلام على البشرية كافة.

منى شكري: كيف ترى العلاقة القائمة بين الدين الإسلامي والعادات؟ وهل امتدت العادات لتطغى على التعاليم الدينية، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؟

الشيخ النيل أبو قرون: الإسلام يحترم العادات ما لم تكن مخالفة للأخلاق؛ لأن الأخلاق هي الضابط، وهي التي بعث بها رسول الله. قال - صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله -: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق". فالفهم الخاطئ للدين هو الذي جعل بعض الناس يعتبرون، ويلتزمون بعاداتهم، ولو كانت مخالفة لأصل الدين؛ بل حتى بعض النصوص الموجودة في بعض المراجع فيها من المخالفات التي أُلصِقت بالدين، وما هي منه.

منى شكري: كيف تقرأ قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم) [المائدة: 3]، في ظلّ تنازع المسلمين، وشيوع الفتن، وظهور الفرق والمذاهب، بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم؟

الشيخ النيل أبو قرون: التنافس على السلطة هو الذي أبعد الناس عن حقيقة الإسلام، فكما ذكرت، لم يكن النبي حاكماً، ولم يعيّن حكومة لاستمرارية حكم قائم، إلا أنّ الفهم، الذي اعتمده المسلمون، هو ضرورة وجود الحكم لاستمرارية الدين، فقدّسوا الحاكم، وجعلوه في مقام النبوة، وحرّموا مخالفته، وجاؤوا بنصوص تؤيّد ما ذهبوا إليه، بينما الرسول - صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله - يقول "إنّ السلطان والقرآن سيفترقان"، وقال: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به بعدي لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض"، وهذا دليل على أنّ الحكومات لا يُشترط فيها العلاقة بالقرآن. والفقه والاختلاف المذهبي والتعصّب له ابتعد بالناس عن أصول الدين، الذي يجمع، ولا يفرق.

منى شكري: أكثر الاتهامات التي طالتك، تفسيرك لسورة (عبس)، واعتبارك ابن أبي سلول مؤمناً، باستشهادك بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صلَّى عليه، ألا تعتقد أنّ التصدي لمثل هذه المسائل يثير مشكلات أكثر ممّا يقدم حلولاً؟ ما الذي يدفعك إلى إثارة مثل هذه القضايا المثيرة للجدل؟

الشيخ النيل أبو قرون: أنا لا أثير قضايا مثيرة للجدل؛ بل أوضّح حقائق هي من أصل الدين، وقد جَهِلَها، أو تَجاهلها، مَن يصفون أنفسهم بهيئة علماء المسلمين، فالله - سبحانه وتعالى - الذي وصف نبيه بعظيم الأخلاق بقول مباشر، مخاطباً إياه: (وإنك لعلى خلق عظيم) [القلم: 4]، يستحيل أن يصفه بما وصف به غيره منافقاً كان أم كافراً في قوله تعالى: (ثمّ عبس وبسر * ثمّ أدبر واستكبر) [المدثر: 22-23]، فالعبوس والإدبار شأن المنافقين والكفار، ولذلك كان قوله تعالى في سورة (عبس) خطاب للكافر، الذي كان يعرض عليه النبي الإسلام، فعبس وتولّى كما هو شأن الكفار والمنافقين، حين يُعرض عليهم الإسلام. وكان ذلك حينما اهتمّ النبي بالأعمى، الذي جاءه يسأله عمّا بعث به (الذي هو صالح الأخلاق). فاستعظم الكافر اهتمام النبي، والتفاته إلى مَن رآه الكافر من المستضعفين، الذين لا ينبغي الاهتمام بهم في حضرته، فاستغنى عن متابعة ما كان بينه وبين النبي. وبيّن الله - سبحانه وتعالى - للكافر أنّ هذا المُستضعف في نظره إنما جاء ليتزكّى، فجاء قوله تعالى عارضاً لصورة الكافر، وسوء أخلاقه، فقال تعالى: (عبس وتولى* أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى) [عبس: 1-4]، ومواسياً النبي في عدم قبول الكافر للإسلام، واستغنائه، على الرغم من محاولة النبي، وتصديه له، حرصاً عليه، فقال تعالى: (أمّا من استغنى فأنت له تصدى* وما عليك أن لا يزكى) [عبس: 5-6]؛ أي لا تُشقي نفسك بعدم قبوله للإسلام. قال تعالى: (طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) [طه: 1-2]، وقال تعالى: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) [الكهف: 6]، وقال تعالى: (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات...) [فاطر: 8]. وبيّن سبحانه وتعالى أنّ النبي - صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله - لم يكن ليصدر منه ما صدر من الكافر، ويعبس في وجه من لا يبصر، فقال تعالى: (وأما من جاءك يسعى* وهو يخشى* فأنت عنه تلهى* كلا) [عبس: 8-11].

وأمّا ابن سلول، فقد قال تعالى: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم) [التوبة: 101]، فباتفاق جميع العلماء، المنافقون لا يعلمهم إلا الله، ولم يعلم بهم أحد غير نبيّه صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله، ولم يبلّغ النبيّ أحداً غيرَ حذيفة بهم. ولا يوجد أثر، ولو حديثاً موضوعاً، يقول إنّ النبي قال إنّ ابن سلول من المنافقين، ولم يُؤثَر ذلك عن حذيفة، الذي يستحيل أن يبيح بسرّ رسول الله صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله. أمّا وصفه بأنّه تولّى كبر حادثة الإفك، فلا أصل له في كلّ المراجع. وما جاء في بعض التفاسير، لا يستند إلى حقّ، إنما هي اجتهادات، وتفاسير فاسدة. فقد جاء في البخاري عن مسروق أنّه قال: دخلنا على عائشة، فوجدنا عندها حسان بن ثابت ينشد شعراً، يتشبّب، فقلت لها: لم أذنت له، وقد قال تعالى: (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم). فقالت: وأيّ عذاب أشدّ من العمى، وهو إقرار منها بأنّ حسان، الذي أصابه العمى، هو من تولّى كبر الإفك. والذين جلدوا، في حادث الإفك، هم حسان، وحمنة، ومسطح، ولم يكن ابن سلول منهم. أضف إلى ذلك أنّ النبي - صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله - كفّن ابن سلول بثوبه، وصلى عليه، فهل يصلّي النبي على منافق؟ وهو الذي نهى حذيفة عن الصلاة على المنافقين. وهل لا توجد شفاعة لرسول الله؟ والصلاة دعاء، واستغفار، واستشفاع للميت.

منى شكري: ما النهج الذي تتبعه عموماً في الردّ على الخصوم، ومَن يختلف معك في التفسير؟

الشيخ النيل أبو قرون: بالرجوع إلى المصادر، ووضع الميزان، الذي نتفق عليه في الحوار، دون إثارة، أو شتائم، مع استعدادي لقبول الحق إن كان مع الخصم، ولا ألزم أحداً بما أحمل من فكر؛ لأنّ الإنكار ليس علماً، فلا أنكر معلومة لم تكن عندي، ولو خالفت ما أنا عليه؛ بل أبحث عن مصدرها، وصحّتها، مع الميزان المتفق عليه وهو عندي القرآن العظيم، وتفسيره بحب الله لنبيه، مع استصحاب عصمة النبي صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله.

منى شكري: من يقرأ مؤلفاتك، ويتأمّل طريقة تفكيرك، يقف عند تفسير مختلف لآيات القرآن الكريم، ما المرجعية - في رأيك - لتفسير آيات كتاب الله؟ وهل ثمّة حاجة إلى إعادة قراءة القرآن، لاسيما تلك المرتبطة بأحداث تاريخية؟

الشيخ النيل أبو قرون: القرآن كلام الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه. والمشكلة هي في تفسيره الذي يكون في وسع المفسر، وفي عصره، مع أنّ تفسير كلام الله لا يحيط به عقل، فلا ينبغي أن يلزم أحد أحداً بتفسيره. ولا قداسة لفهم، أو تفسير من السلف، أو غيرهم، الذين كثيراً ما تفتقد تفاسيرهم الميزان الذي أعتمده، وهو - كما ذكرت - تدبر القرآن بنظرة المحبوبية؛ أي بمحبة الله لرسوله لا عن طريق القهر، وكذلك عصمة النبي، وأن يكون شخصه الكريم فوق النقد؛ لأنه لا يوجد عقل أرجح من عقله، ولا يمكن أن ينسب إليه خطأً في ما أرسل به. كما أنّ الذي أرى هو التدبّر في القرآن، كما قال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن) [محمد: 24]، فالتدبّر لا يقيّده عصر، ولا شارح، ولا أسباب نزول.

منى شكري: في كتابك (الإسلام والدولة)، رفضت أن يكون الرسول والمسلمون قد غزوا، وأنّ مصطلح "غزوة" ليس صحيحاً، وأنّ تلك المعارك فُرِضت على المسلمين فرضاً، كما أطلقت على "الفتوحات الاسلامية" اسم "الاستعمار العربي"، هلّا أوضحت موقفك من هذا الأمر؟

الشيخ النيل أبو قرون: الناظر إلى ما سمّي «غزوة بدر» يجد أنّها كانت دفاعاً، والغازون هم أهل مكة، ولم يكن خروج المسلمين من المدينة ليغزوا الكفار لفرض الإسلام عليهم؛ بل كان القصد العير لاسترجاع ما سُلِب من المسلمين في مكة، فلم تكن لفرض الإسلام، ولم تكن غزوة. أمّا "أُحد"، فهو جبل في المدينة، وجاء الكفار غزاةً على المسلمين، فكانت معركة دفاع، ولم تكن غزوة. أمّا «الخندق»، فكيف يسمّى مَن يحفر خندقاً حوله غازياً؟ فالنبي - صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله - لم يحارب قطّ لفرض الإسلام، وحروبه مع اليهود كانت دفاعية، ولم يأمر أحداً بترك دينه، أو الدخول في الإسلام؛ لأن الإسلام جاء مصدقاً، لا لاغياً للديانات السابقة، حتى كفار مكة، حين فتحها، لم يفرض عليهم الإسلام؛ بل حتى لم يقل لهم قولوا لا إله إلا الله، ما يبطل صحة حديث "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله". فلو كان أمر كذلك، لقال لهم قولوا لا إله إلا الله، بدل: اذهبوا فأنتم الطلقاء. وبما أنّه لا إكراه في الدين، لا يوجد مبرّر لحروب الدول لإدخالها وإجبارها على الإسلام، والله لم يأمر بذلك (إنّه لا يحب المعتدين)[الأعراف: 55].

منى شكري: عطفاً على ما سبق، وردت أحاديث في الصحيحين تتناقض مع شخصية الرسول - حاشا لله - الذي بُعِثَ ليتمّم مكارم الأخلاق، ورحمة للعالمين، كما تتعارض مع كلام الله، على شاكلة "أمرت أن أقاتل الناس"، "من بدل دينه فاقتلوه"، "جعل رزقي تحت رمحي"، "اذهبوا فأنتم الطلقاء"...، كما تتناقض مع حرية الدين، التي ركّز عليها القرآن بقوله تعالى: (لكم دينكم ولي دين)، فضلاً عن أنّ من خصائص الرسالة العالمية الخاتمة والمستمرة ألّا تكرس للعداءات، والمرارات، والدماء، كما أوردت في كتابك (الإسلام والدولة). أين التفكير وإعمال العقل فيما سبق؟

الشيخ النيل أبو قرون: كما ذكرت آنفاً، إنّ الميزان هو القرآن العظيم، والتدبّر فيه بالمحبوبية، وعصمة الذات الشريفة المحمدية، فالناظر بهذا الميزان لا يمكن أن يقبل حديث إكراه الناس على الدين، أو قتالهم عليه، وبين يديه قول الله تعالى: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)، مع إعطاء الله الناس الحرية الكاملة لما يختارون في الدين، أو الكفر: (قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). ولا يمكن قبول حديث "جعل رزقي تحت رمحي" مهما يكن مصدره، وراويه، وبين أيدينا قول الله تعالى: (لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى)[طه: 132]. والقرآن احترم حرية الإنسان في الاعتقاد، ولو كان دينه الكفر: (لكم دينكم ولي دين) [الكافرون: 6].

منى شكري: المتتبّع لما تكتب، يجد أنّك تركّز أكثر ما تركّز، في نقدك، على الأحاديث الواردة عن عائشة، رضي الله عنها، بالشكّ في صحتها، وتلك الواردة عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حتى إنك أوردت في كتابك (الإسلام والدولة) ما أسميته غرائب في مناقب عمر؟ ما تفسيرك لذلك؟ ألا ترى أنّ هذا كان سبباً في اتهامك باعتناق التشيّع، والمطالبة بمنع نشر فكرك؟

الشيخ النيل أبو قرون: أنا لا أتتبّع أحاديث شخصٍ بعينه، ولكن أنظر إلى الحديث بالميزان الذي ذكرته آنفاً، وهو عصمة الذات الشريفة المحمدية المقدّسة، والقرآن العظيم، فما خالف الميزان رددته، ولا أطعن في صحابيّ، أو في أمهات المؤمنين، رضي الله عنهم، ولا أظنّ أنّ صحابياً لو وُصِف بمعارضته للنبي سيكون مسروراً، وهو ما نسبوه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

منى شكري: نخلص في كتابك (الإسلام والدولة) إلى نتيجة مفادها أنّ الدولة = سلطان + مال + إكراه... هل ترى أنّ صورة الإسلام الراهنة قارّة بهذا المفهوم، لاسيما في نظر الآخر؟ وما الرابط بين الدولة والرسالة؟ وما الدافع إلى إنشاء دولة باسم الدين؟

الشيخ النيل أبو قرون: كلّ الفرق الإسلامية تنظر إلى الإسلام من منطلق سياسي، وتسعى لفرض دولة إسلامية، بينما الإسلام ليس دولة تحدّها حدود جغرافية، أو امراً تختص به حكومة ذات وزراء، ورئيس وزراء. وأيّ حكومة لا بُدّ لها من إجبار الناس على قراراتها، وفرض الضرائب عليهم، وإجبارهم على اتباع القوانين التي تسنّها. فما ينبغي لأيّ حكومة أن تصف نفسها بأنّها دينية، فالدين لا حدود له، ولا إجبار لأحد على الدخول فيه، ولأنّه أفضل شيء للإنسانية، وقيام المجتمع الصالح، فإنّه لا يحتاج إلى إكراه الناس عليه، فالأفضل جاذبٌ بطبعه، عندما تعرف حقيقته.

لا علاقة للدين بالدولة، ولا توجد في رسالات الأنبياء - عليهم صلوات الله - حكومة وصية على الناس لإجبارهم على نهج، أو مذهب معين. أمّا وجود دولة، فلابد منه لتدبير شؤون الناس في مجتمعهم، في ما يخص التعليم، والصحة، والأمن، والتجارة، والزراعة، وحركة المرور، والاتصالات، وغيرها من شؤون الحياة، وهي تقوم على ما يرتضيه الناس في أسلوب اختيارها، وفيما يرتضونه من الشرائع.

منى شكري: ينادي بعضهم، في ظلّ ما نعيشه من عنفٍ جهادي، بالحاجة إلى النفخ في مدرسة التصوّف، باعتبارها بديلاً، ما رأيك في ذلك؟

الشيخ النيل أبو قرون: مدرسة التصوّف هي التي لا يوجد فيها إكراه؛ لأنها بعيدة عن السياسة، ولا تهدف إلى الحكم، على الرغم من أنّ كثيراً منهم يأخذون من المراجع كلّ ما جاء فيها من غثّ وسمين، دون تمحيص، ولا يوجد فيها عنف، والجهاد عندهم مرجعيّته قوله تعالى: (فمن جاهد إنما يجاهد لنفسه)[العنكبوت: 6]، فجهاد النفس هو الجهاد الأكبر.

منى شكري: ليس من السهل على الفكر التنويري، أو التجديدي، أن يخترق المساجد، والمدارس، والإعلام. كيف يمكن لهذا الفكر أن يشقّ طريقه الفكري والتنويري في تلك الساحات؟

الشيخ النيل أبو قرون: إذا كان الحقّ مع الفكر، فلا بدّ له من الانتصار، ولا عبرة في الكثرة. قال تعالى: (لقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) [آل عمران: 123]. فإذا كان أصحاب الفكر على حقّ، فلابدّ لفكرهم من أن يسود.

منى شكري: كيف يمكن للدين أن يكون مصدر سلام وتعايشٍ مجتمعي، لا مصدر احتراب، وتمايز دينيّ، أو مذهبيّ؟

الشيخ النيل أبو قرون: بالرجوع إلى الأصل في الميزان الصحيح الذي ذكرته آنفاً، فإنّ الدين، أصلاً، لخلق المجتمع الفاضل، وهو أصل للسلام، والمحبة، والدعوة فيه، أو إليه، تكون كما قال رسول الله - صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله -: "حببوا الناس في الله يحببكم الله"، وقال، مشيراً إلى أمّ تحمل طفلها: "أترون أنّ هذه ملقية بطفلها في النار"، قالوا: كلا يا رسول الله، قال: "إنّ الله لأرأف بعباده من هذه بولدها". وقال: "بشروا، ولا تنفروا، ويسروا، ولا تعسروا".

منى شكري: في كلمة أخيرة، ما المشروع الذي يسعى الشيخ النيل أبو قرون لإنجازه إكمالاً لمسيرته في مراجعة الفكر الإسلامي والتجديد الديني؟

الشيخ النيل أبو قرون: ليس لي مشروع ولا هدف إلا تبيان الحق في ما وصل إلينا من المصادر الإسلامية، ولا يُسمّى ذلك تجديداً؛ بل رجعيّة للحق، ولكنّه قصد تبرئة الذمم؛ حتى لا يقع المسلمون في إلقاء اللوم على الذات المحمدية الشريفة. قال تعالى: (... فما أنت بملوم) [الذاريات: 54]، أو توجيه النقد إليها، فالناقد - وإن لم يدر - وصل إلى كبرياء تعالى فيه على قدر النبوة في ما يرى ما عنده من عقل، و"لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر". فما طرد إبليس لمخالفته؛ بل لأنه استكبر، ولم يُطرد آدم، على الرغم من مخالفته، لتواضعه.