غرايبة: يتعذّر فهم الدين وتجنب التطرف في غياب الفلسفة والفنون


فئة :  حوارات

غرايبة: يتعذّر فهم الدين وتجنب التطرف في غياب الفلسفة والفنون

إبراهيم غرايبة هو كاتب وباحث أردني، من مواليد بلدة الهاشمية في محافظة عجلون العام 1962. حصل على شهادة البكالوريوس في المكتبات والمعلومات من جامعة الملك عبد العزيز في السعودية، ثم شهادة الماجستير في العمل الاجتماعي من الجامعة الأردنية.

عمل في الكتابة الصحفية والبحث منذ العام 1985، وله مقالات منشورة في عدد من الصحف والمجلات والمواقع العربية والأجنبية. صدرت له مجموعة من الكتب والروايات وقصص الأطفال، منها: جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، وشارع الأردن، والخطاب الإسلامي، والأردن القادم، والسراب (رواية)، والصوت (رواية)، وجزيرة العنقاء (رواية للناشئة)، وقطرة ماء تروي قصتها (قصة للأطفال).

قدم مجموعة من الدراسات وأوارق العمل في العديد من المؤتمرات، يعمل في الجامعة الأردنية منذ العام 2009 باحثاً في مركز الدراسات الاستراتيجية، فمديراً للدائرة الثقافية منذ 2011، ورئيساً لتحرير مجلة "أقلام جديدة" الصادرة عن الدائرة.

وغرايبة عضو في نقابة الصحفيين الأردنيين، وجمعية المرصد للتنمية السياسية، والجمعية الأردنية لحقوق الإنسان، والمنتدى العالمي للوسطية.

وفيما يلي نص الحوار:

منى شكري: المتتبّع للمناهج المدرسية في العالم العربي، يلحظ إهمالاً للجانب الإبداعي والفني، من جهة وحظراً للفلسفة والفكر، من جهة أخرى، ما السبب برأيك؟

إبراهيم غرايبة: الواقع أنّه أمر محير، ويبدو أنّ الإجابة واحدة أو أكثر من الاحتمالات التالية: ديني يحرم الفلسفة والفنون على مخططي المناهج والتعليم في وزارات التربية والتعليم. أو احتمال آخر عائد إلى عدم إدراك أو عدم اقتناع بجدوى الفلسفة والفنون والإبداع وأهميتها في التعليم، إلى جانب عجز وضعف في قدرات مخططي التعليم والسياسات العامة ومهاراتهم.

وسبب آخر قد يعود إلى موقف أوليغارشي (أقلية نخبوية احتكارية) استعلائي للنخب المخططة للسياسات العامة والتعليم يعكس عدم احترام للمجتمعات والشعوب، ولا يراها جديرة بثقافة وفنون وآداب رفيعة، ولا يرى المواطنين سوى أتباع لا يحتاجون إلا إلى خبرات ومهارات تقنية، فضلاً عن موقف أوليغارشي خائف من تأثير الفلسفة والفنون السلبي من وجهة نظره في الناس والمواطنين؛ لأنه يدفع إلى التمسك بالحريات والتفكير الناقد ورفض التلقين.

منى شكري: إلى أيّ مدى يمكن لتدريس الفلسفة والفنون أن تحصّن الطلبة من التطرّف؟

إبراهيم غرايبة: لا يمكن فهم الدين فهماً إيجابياً وبالتالي تجنب التطرف والكراهية إلا بالفلسفة والفنون، فالفلسفة هي الأداة المنهجية في معرفة حقائق الأشياء ومن دونها فإنّ اللغة، بما هي وعاء النص الديني، لا تمنح المعنى والدلالة والتأويل، أو أنّه لا يمكن إدراك ذلك إدراكاً صحيحاً. وأمّا الفنون فهي أداة التعبير عن الأفكار والمشاعر والأحاسيس والخيال وتحويلها إلى معرفة ترشد الإنسان وترتقي به، وهكذا لا يمكن فهم الدين فهماً صحيحاً من غير فلسفة ولا يمكن تطبيقه تطبيقاً صحيحاً من غير فنون.

منى شكري: يرى كثيرون أنّ الخطاب التنويري، ما يزال نخبوياً، كيف يمكن نشر الفكر التنويري بين شرائح المجتمع المختلفة؟

إبراهيم غرايبة: الفكر التنويري بما هو مستمد من الفكر والمناهج العلمية ويعتمد كثيراً على الفلسفة والفنون ويحتاج إلى مجهود فكري وارتقاء روحي ونفسي يكون بطبيعة الحال فيه صعوبة وربما قسوة وملل، والمشكلة الأخرى في الفكر التنويري أنّه في تعرضه للتهميش والإقصاء من قبل السلطات السياسية ومخططي السياسات التعليمية والثقافية لم يتح له تطوير نفسه ليكون في محتوى قابل للاستيعاب والتدريس في المدارس والجامعات، ولكن إذا تشكلت إرادة سياسية واجتماعية للاهتمام بالفكر التنويري فسوف يكون ممكناً في مدة زمنية قصيرة أن ينتج نفسه في صيغ وأدوات قابلة للاستيعاب في كل المستويات العمرية والتعليمية، بل ويمكن تصميم ألعاب للأطفال وقواعد للسلوك الاجتماعي واليومي مستمدة من الفكر التنويري والفلسفة والتراث العلمي والفني العربي والعالمي.

منى شكري: للجامعات دور تنويري، كيف تشخص واقع الجامعات العربية حاليّاً بهذا الخصوص، هل فقدت وظيفتها التنويرية وهل تعيش جامعاتنا حالة غياب ثقافي؟

إبراهيم غرايبة: الفكرة الظاهرة - وأرجو أن أكون مخطئاً- أنّ الجامعات العربية لم تَعُد تؤدي دوراً تنويريّاً ولا تساهم في بناء الثقافة والفنون والإبداع لدى الطلبة، ولا تقدم أو تنتج مشروعات للخدمة العامة والاجتماعية والعمل التطوعي، ليس ثمة نشاط ثقافي ومسرحي وفني حقيقي يمكن ملاحظته في الجامعات الأردنية ولا يبدو ثمة إقبال على الأنشطة والبرامج الثقافية القليلة التي تنظم في الجامعات.

وبالطبع فإنّ الجامعات جزء من الدولة والمجتمعات، وليست معزولة عن سياقها الاجتماعي والثقافي، بل هي تعكس الحالة الاجتماعية والثقافية السائدة، ولا يمكن الحديث عن أداء وتقدم ثقافي وفني من غير دوافع فردية واجتماعية نحو الثقافة والفنون.

منى شكري: لماذا ينفر كثير من المتديّنين من أيّ خطاب ديني مستنير؟

إبراهيم غرايبة: ربما يعكس النفور المنتسب إلى الدين من الخطاب المستنير مصالح مؤسسات وأفراد قائمة على التبعية والتقليد، ففي ظل حالة من التفكير العلمي والمنهجي وإخضاع فهم الدين وتطبيقه ودراسته للمناهج العلمية واستخدام المصادر المعرفية والعلمية المتعددة في فهم الدين سيجري أيضاً تغيير جوهري في طبيعة المؤسسة الدينية والمشتغلين في العلوم والوظائف الدينية ودورهم، وفي التراكم الطويل والراسخ للعداء للفلسفة والتنوير تشكل فهم منتسب إلى الدين يحرم المناهج العقلانية والفلسفية في قراءة الدين.

منى شكري: لجأت بعض الدول منها؛ مصر والأردن لمنع كتب ابن تيمية باعتبارها بيئة خصبة لتفريخ متطرفين حيث تضم في ثناياها فتاوى تحض على التكفير والقتل، في حين رفض آخرون المنع باعتباره مصادرة لحرية الفكر وأنّ ما تضمه كتب ابن تيمية فيه الكثير من الإيجابيات؟ في حين وقف بعضهم على الحياد معتبرين أنّ الفكر يُقارَع بالفكر لا بالمنع أو الحرق؟ أين يقف إبراهيم غرايبة من هذا؟

إبراهيم غرايبة: الأصل أنّ الدولة محايدة تجاه الدين، وليس لها دور ديني في المساجد والمؤسسات الدينية أو في المؤسسات التعليمية وكذلك في الإدارة والسياسة العامة، وليس مطلوباً من الدولة أن تدير الشأن الديني حتى لو كان هذا الدور تنويريّاً، والمفترض أن تكون الاتجاهات الدينية هي اتجاهات مجتمعية وفردية مستقلة عن الدولة ومؤسساتها، ومن الناحية التقنية فإنّه لم يعد ممكناً حظر كتاب من التداول، ولكن الدولة بامتناعها عن أداء دور ديني فإنّها في طبيعة الحال تجفف جزءاً كبيراً من مصادر التطرف والتعصب، وإن بقيت في إطار تداول اجتماعي غير رسمي فإنّ الدولة تملك بدون حظر المصادر التراثية بحسناتها وسيئاتها أن تشجع وتهيئ المجال لبيئة اجتماعية وثقافية قائمة على الجدل والتفكير الحر المستقل، ويمكن أن تمنع الدول بالقانون الدعوة إلى التعصب والكراهية في الإعلام والتعليم والنشر، وإن اختارت فئة بعد ذلك وجهة متشددة في فهم الدين فإنّها بحكم القانون يحظر عليها أن تدعو إلى التعصب والكراهية.

منى شكري: نعاني -إن استطعنا القول- من "أزمة تصنيم الأشخاص" ولا ينطبق هذا الأمر على الرموز الدينية فحسب، بل يتعداه إلى بعض الشخصيات السياسية والثقافية وحتى الفنية؟ فمن ينتقد شخصية ما تصوب سريعاً أصابع الاتهام نحوه، وتبدأ حملات التخوين والتكفير...إلى آخره من تهم مُعلَّبة. إلامَ تحيل هذا "التصنيم"؟

إبراهيم غرايبة: تتشكل "عبادة الأشخاص" في بيئة من ضحالة التعليم والثقافة والفنون وضعف المدن والمجتمعات وعدم تمكينها من إدارة شؤونها وولايتها على احتياجاتها ومؤسساتها .. وتنظيمها، وبذلك لا تنشأ مشاركة ثقافية واجتماعية عامة تمنح المواطنين ثقة بالنفس وشعوراً بالمساواة والمسؤولية.

منى شكري: شئنا أم أبينا الموقف السياسي للمبدع العربي له ثمن لا بد أن يدفعه، متى يمكن أن يتوقف دفع هذه الفاتورة؟

إبراهيم غرايبة: ما قيل عن الشأن الديني يقال أيضاً عن الشأن الثقافي والفني فذلك مسؤولية المجتمعات وليس الدولة، وعندما تدير المجتمعات شأنها الثقافي فإنّها تنشئ مواردها ومؤسساتها المستقلة عن السلطة وتحمي بذلك المثقفين والمبدعين من تهديد السلطة ومن إغوائها أيضاً، لا يمكن الحديث عن حماية المثقفين من غير حماية الثقافة نفسها، وإذا لم تبادر المجتمعات إلى إنشاء منظومتها الاقتصادية والاجتماعية المستقلة عن السلطة فإنّها تفقد وجودها وتتحول إلى دائرة حكومية، وليس متوقعاً في هذه الحالة من الحكومة إلا أن تنحاز لمصالحها ومواقفها، حتى في حال حظيت المجتمعات بمسؤولين حكوميين متحمسين للثقافة والإبداع فإنّها حالة تظل تحت رحمة مزاج السلطة.

منى شكري: في زمن الحرب الذي نعيش أنّى لثقافة الحب أن تنتشر لنزع بذور الحقد والكراهية؟ من أين نبدأ بعد أن وصل السيل الزبى؟

إبراهيم غرايبة: يبدأ التقدم بمشاركة المجتمعات على قدم المساواة مع الحكومات والشركات في تنظيم (وإدارة) الموارد والتشكلات التي تجري حولها؛ المدن والأسواق والمؤسسات، وأن تمكن الحكومات المدن والمجتمعات من المشاركة والولاية على شؤونها واحتياجاتها وخدماتها الأساسية، وفي ذلك تنشئ المجتمعات القيم والثقافة التي تحمي مصالحها وتطور مواردها؛ أي عندما يتحول الحب والتضامن والازدهار إلى مصلحة مباشرة تسعى إليها المجتمعات وتحميها، إذ يجب أن تلاحظ المجتمعات العلاقة بين مصالحها وتقدمها وبين الاعتدال والتقبل والسلام والتعددية والتنوع، وأن تدرك عملياً ضرورة المشاركة العالمية وأن تكون جزءاً من العالم يتقبلها وتتقبله، وسوف تلاحظ بالتأكيد أنّ التطرف والكراهية يلحقان بها ضرراً كبيراً وتدفعان بها إلى العزلة والتهميش، وفي عبارة مختصرة يبدأ الاعتدال والتقدم أيضاً بتنظيم المجتمعات وتشكلها حول مواردها ومؤسساتها.