الهجرة الأدبيَّة وفشل توطين السرد


فئة :  مقالات

الهجرة الأدبيَّة وفشل توطين السرد

الهجرة الأدبيَّة وفشل توطين السرد[1]

بورخيس أنموذجاً

عبد الله إبراهيم

 

عُرف عن الكاتب الأرجنتيني بورخيس أنَّه رهن نفسه تابعاً، على المستوى الشخصي، حينما اكتمل عماه، وهو في الخمسين من عمره، فما أظهر نزوعاً إلى التفرُّد في سلوكه الخاص، وبذلك اندرج في تبعيَّة واضحة في حياته الفرديَّة. وتشترط التبعيَّة ملازمة التابع لمتبوعه، وليس ينبغي أن تكون التبعيَّة إجباريَّة، وإن كان العمى يفرض ذلك في الأغلب؛ بل هي انخراط في علاقة غير متكافئة يسلّم فيها التابع كثيراً من شؤونه للمتبوع الذي ينوب عنه في رؤية العالم، ومساعدته في التعبير عنه. وعلى مستوى الأفراد يعود ذلك إلى «عطب» جسدي أو معنوي يحول دون حيازته الحريَّة الكاملة في ما يريد ويفعل، ولكنَّه على مستوى الأمم والثقافات يعود إلى ظروف تاريخيَّة وسياسيَّة واجتماعيَّة تجعل بعض الأمم والثقافات تابعة لأمم وثقافات أخرى، فتندرج في تبعيَّة ثقافيَّة أو اقتصاديَّة أو سياسيَّة تنتهي بها ملحقة بغيرها في كثير من شؤون حياتها. وتكون التبعيَّة مركَّبة حينما تتصل بشخص أضيف إلى تبعيته الفرديَّة انتسابه إلى ثقافة تابعة، فتصبح تبعيته مزيجاً من موارد خاصَّة وعامَّة تترك أثراً في حياته ومدوّناته. وربما يصلح بورخيس أن يكون موضوعاً للحديث حول هذا الضرب من التبعيَّة التي تكشف حال كاتبٍ تعذّرت عليه الإقامة الكاملة في ثقافة بلاده، وأخفقت عمليَّة توطينه، فمكث غريباً عنها، يترحَّل من غير توقّف في الثقافات الإنسانيَّة، وربما يكشف فشل سياسات توطين الأدب في إطار الحدود القوميَّة واللغويَّة.

وإحدى أهم النتائج الخطيرة، التي تمخَّضت عن حالة بورخيس، ما أُثِير من شبهات حول هويَّته الأدبيَّة، فمن المعلوم أن يجري تحديد الهويَّة بناء على اعتبارات وطنيَّة أو قوميَّة أو لغويَّة، لكنَّ هذه الأطر لم تفلح في تحديد هويَّة بورخيس كاتباً أرجنتينياً؛ بل تخطَّاها، حينما أصبح «أوسع تأثيراً من التراث الثقافي الذي ينتمي إليه». والأرجح أنَّه اندرج في أدب ذي سمة عالميَّة، فلا حاجة له بالإشارة الى الأرجنتين وطناً، والإحالة عليها ثقافة، ومبعث ذلك أنَّ صورته، بمواردها الكثيرة، أصبحت «أقوى من صورة الأدب الأرجنتيني»، ما جعله يخسر جزءاً من هويَّته المحليَّة، ويكسب جزءاً من الهويَّة العالميَّة، فمكث عالقاً بين التخوم، فهو كاتب «الحافَّات»، وربَّما تكمن أصالته «في مقاومته أن يكون موجوداً في المكان الذي نبحث فيه عنه»[2]، فلا فائدة من البحث في السمات المحليَّة لأدبه، كما هو الأمر عند معاصريه من كُتَّاب أمريكا الجنوبيَّة، مثل: ماركيز، وفونتيس، ويوسا؛ لأنَّها ضئيلة الحضور، وشبه غائبة، فقد كان بورخيس عابراً للثقافات الكبرى، والأنواع الأدبيَّة الشائعة، واللغات الحديثة، فهو يتّصل بها، وينفصل عنها. حريّته المفرطة في الكتابة أظهرته مقتلعاً لا يتّصل بنسبٍ كتابي وثقافي يُشار إليه بالبنان، وينطبق عليه التعبير الذي اقترحه إدوارد سعيد لوصف حاله بأنَّه «خارج المكان» الذي يتوقَّع الآخرون أن يعثروا عليه فيه. ولم يقع توطينه في الآداب اللاتينيَّة.

حول سؤال بورخيس عن كونه كاتباً أرجنتينياً عانى تجربة الانسلاخ الثقافي في استخدامه اللغة الإسبانيَّة، أجاب: «إنَّه لأمر صحيح أنَّني، كأرجنتيني، شعرت بوجود مسافة ما تفصلني عن التيار الإسباني الرئيس. لقد وُلدت في الأرجنتين، وثمَّة ألفة كبيرة مع الثقافة الإنجليزيَّة والفرنسيَّة، مثلما هي الألفة مع الثقافة الإسبانيَّة. لذا أفترض أنَّني كاتب مُضاعَف (حتى بالنسبة إلى الإسبانيَّة، اللغة التي أكتبها من موقع اللاانتماء الدقيق) هي ذاتها تتموضع على هامش التيار الرئيس لتقاليد الأدب الأوربي»[3]. وحجَّته أنَّه «ليس هناك صفاء عرقي أو قومي، وحتى لو وُجد هذا الصفاء؛ فإنَّ الخيال كفيل بتجاوز تحديداته. ولهذا السبب أقول إنَّ القوميَّة والأدب عدوَّان طبيعيان. فأنا لا أؤمن بوجود ثقافة أرجنتينيَّة خاصَّة يمكن تسميتها «لاتينيَّة/أميركية» أو «إسبانيَّة/أمريكية»، الأمريكيون الحقيقيون الوحيدون هم الهنود، والبقيَّة أوربيون. لذلك يروق لي اعتبار نفسي كاتباً أوروبيَّاً في المنفى. لست إسبانياً ولا أمريكياً، ولست، كذلك، إسبانياً/أمريكياً؛ وإنَّما أنا أوربيٌّ منفي»[4].

لم يخفَ على كثيرين ذلك الترفُّع المزعج الذي مارسه بورخيس على شؤون الأرجنتين، وسائر أمريكا اللاتينيَّة، فقد رأى أنَّه منفي ومترحّل لم يقع استيعابه، وكان أَوْلى به أن يكون مستوطناً في بلادٍ ما شعر بانتمائه إليها، وذلك نقض إحساسه بالانتماء، فهو «مقيم مستغلق في برجه العاجي»، فلم يستجب لأغلبيَّة القرّاء من مواطنيه الذين «كانوا حريصين على أن يكون كتّابهم مخبرين صرحاء عن المشهد الواقعي الوطني، وما كانوا ليغفروا لبورخيس ما شكّل، بالضبط، إحدى أعظم فضائله: جهده المتفوّق في تحويل ظروفه الحياتيَّة الخاصَّة إلى فنّ عالمي وأشكال بالغة الدقة»[5].

لا يصلح بورخيس أن يكون شاهداً، وشهادة الأعمى غير مقبولة، وليس من المعهود أن ينظر إلى البصيرة على أنَّها منتجة لشهادة موغلة في الواقع، وعلى هذا عبَّر بورخيس عمَّا كان عليه، فإذا جاهر المبصرون باتهامه بعدم انتمائه، فما ذلك لأنَّه ليس بكاتب مرموق، وإنَّما لأنَّه لم يستجب لتوقّعاتهم، فهو ذو بصيرة تنأى عن أبصارهم العمياء. فكتابته تتنكَّب لشروط العلاقة المعهودة بين الخطاب السردي ومرجعياته؛ بل هي تنقضها؛ لأنَّها جاءت باعتبارها ردّ فعل عقليّ متطرّف على «فوضى الواقع المباشر وعرضيّته، وإلحاحها الجذري على تمزيق الصلة بالعالم المعطى، واقتراح عالم بديل»[6]. وبكلّ ذلك استبدل بورخيس شكَّاً بالعالم الخارجي، وريبة بالتاريخ الرسمي، فجعل من مماحكة العقل موضوعاً لكتابة لا تني تدور حول موضوعها كما يدور الأعمى حول نفسه، فلا غرابة في أن ينتبذ ركناً يرى فيه نفسه من الداخل في عالم يزداد عتمة، فصمَّ أذنيه عن نداءات التواصل مع الآخرين، ورفض الإقامة النفسيَّة بينهم، فما كان كلّ ذلك من شأنه، إذا كان يغوص في ذات تتعدَّد بالأحلام، والكوابيس، والمتاهات، والكتب، فيقترح لنفسه موقعاً غير منظور، يستكشف فيه تأملاته دونما رغبة في جعلها وسيلة حاملة لهموم الآخرين وتصوراتهم عن العالم، فقد انطوى العالم في نفسه، فصار ينفث خطراته إلى الداخل؛ إذ لا حكمة لضرير بأن يتباهى بحواسه التي تصور للآخرين ما يرون فيما توارى كلّ ذلك عنه. كان يرى نفسه كاتباً مقتلعاً وقد رمته التجربة الاستعماريَّة في أرض الهنود.

غير أنَّ الروائي ماريو فارغاس يوسا فصَّل في موضوع تبعيَّة الكاتب المترحّل بدءاً بالواقع وانتهاء بالهويَّة مروراً باللغة، فقال: إنَّ بورخيس يمثّل «انسحاب الفنان من العالم ولجوئه إلى عالم الفكر، المعرفة الواسعة، الفنتازيا، الكاتب الذي يحتقر السياسة والتاريخ والواقع، ويعرض، دون شعور بالعار، شكَّه واحتقاره الساخر لأيّ شيء لا ينبعث من الكتب»، فبورخيس يتميز بـ«رشاقة ودقة نثره، ونقاء قصصه، وكمال صنعته»، وأدبه من بين الأدب المكتوب بالإسبانيَّة الأكثر حضوراً في «الذاكرة»، وما يتفرَّد به بورخيس قدرته الخاصَّة على «تحويل الواقع الحقيقي إلى واقع خيالي»، ثمَّ وصل يوسا إلى تثبيت الحقيقة الآتية: «لم يكن بورخيس كاتباً مسجوناً خلف القضبان الثقيلة للتراث القومي»؛ بل هو كاتب يتطلع إلى أن «يبني الماضي على أساس قومي وأجنبي»؛ ذلك أنَّ انخراطه «المتوتّر في الأدب الأوربي طريقة لتشكيل جغرافيته الشخصيَّة وخصوصيته»، ولأنَّه غذَّى الإسبانيَّة بموارد اللغات الحيَّة، فقد عُدَّ بورخيس «أحد الكتَّاب الذين نجحوا، بشكل كامل، في أن يضعوا ختمهم الشخصي على اللغة الإسبانيَّة»، وتتجلى العبقريَّة في أنَّ نثره «يحتوي تقريباً على أفكار بقدر ما يحتوي على كلمات؛ ذلك أنَّ دقته واقتصاده في التعبير يصلان إلى الكمال»، ولأنَّه تأثر بالإنجليزيَّة والفرنسيَّة، فقد «كان يخالف بعمق الميل الطبيعي للغة الإسبانيَّة نحو الإفراط»، فالإسبانيَّة معه أصبحت لغة «ذكيَّة»[7].

أمَّا الروائي كارلوس فوينتس، وهو معاصر لبورخيس، فقد عالج موضوع استضافة الأدب بنقاء أكمل؛ حيث بنى تحليله على القول إنَّ بورخيس هو «أوَّل قصَّاص كبير مدنيّ تماماً في أمريكا اللاتينيَّة». ثم استطرد في وصف السمة المدنيَّة في لغته التي منحت المدينة هويتها المفقودة: «يُعدُّ بورخيس أوَّل قصَّاص استقرَّ بشكل نهائي بالمدينة»، ولكنَّ المدينة التي استقرَّ بها، وهي بوينس آيرس، لم تكن لها هويَّة راسخة لإسكانه، فكانت تريد أن تبني هويتها بالألفاظ بسبب غياب العمق التاريخي لها. وعلى هذا، إنَّ لغة الأرجنتين تُعدّ جواباً لمتطلبات مدينة تريد أن «تُحوّل إلى ألفاظ»؛ لكي تثبت ذاتها الوهميَّة. وما دام الأمر كذلك، كما يقول فوينتس، فـ«هراء أولئك الذين يتهمون بورخيس بـ«المتعلّق بالأجانب» أو«المتأورب»، فهل هنالك شيء أرجنتيني أكثر من هذه الضرورة لملء الفراغ لغوياً، ومن التردُّد على كلّ خزانات العالم لملء كتاب الأرجنتين الأبيض؟ لكن عندما قام بورخيس بهذا واجه، بالإضافة إلى ذلك، مجموع اللغة القشتالية بكلّ نواقصها، ومن ثَمَّ بكلَّ نسبيتها. فهذا النثر المبهر، والبارد جداً حتى أنَّه يحرق الشفتين، هو أوَّل ما يربط بيننا، هو الذي يغيضنا، هو الذي يلقي بنا إلى العالم، والذي عندما يجعلنا نسبيين فإنَّه لا يُنقص منا بل يؤسسنا؟ فالمعنى النهائي، إذاً، لنثر بورخيس (الذي لولاه، ببساطة، لما كانت الرواية الإسبانوأمريكيَّة الجديدة) هو إثبات أنَّ أمريكا اللاتينيَّة تفتقر إلى اللغة، ومن ثَمَّ يجب عليها تأسيسها. ولكي يقوم بورخيس بذلك، فإنَّه يخلط كلَّ الأصناف الأدبيَّة، وينقد كلَّ التقاليد، ويقتل كلَّ العادات السيئة، ويخلق نظاماً جديداً من الضرورة والصرامة يمكن أن تقوم على أساسه السخرية، والهزل، والتورية، نعم، ولكن كذلك ثورة عميقة تسوي الحريَّة مع الخيال، وبِكِلَيْهما يؤسس بورخيس لغة أمريكيَّة لاتينيَّة جديدة تكشف، بتباين صرف، عن أكذوبة وخضوع وبهتان ما كان يُسمَّى عندنا عادة «اللغة». إنَّ النقص الكبير في نثر بورخيس، وهذا نعرفه، هو نقص ذو منحى نقدي. لكنَّ الانتقال من وثيقة الإدانة إلى تركيب نقدي للمجتمع والخيال لم يكن ممكناً لولا هذا الحدث المركزي والتأسيسي لنثر بورخيس»[8].

وفي كتابه الكبير (ذاكرة النار) خصَّ إدواردو غاليانو بورخيس بالأسطر القليلة الآتية، التي كشفت رأيه بالكاتب الذي تعذّر عليه التوطُّن الثقافي في بلاده: «كان يشعر بالرعب من كلّ ما يجمع البشر سويَّة ككرة القدم أو السياسة، ومن كلّ شيء يكثر عددهم كالمرأة وفعل الحب. لم يعترف بأيّ واقع إلا ذاك الذي وُجد في الماضي، ماضي أجداده، وفي كتب ألّفها أولئك الذين كانوا يعرفون كيف يفسّرون ذلك الواقع. ما تبقى دخان. بدقّة عظيمة وذكاء حاد، روى خورخي لويس بورخيس التاريخ الكوني للعار، لكنَّه لم يتحقّق مطلقاً من العار القومي الذي كان يحيط به»[9].

لم يكتفِ غاليانو بذلك؛ بل استطرد يشرح تلك الفقرة الغامضة حول عزلة بورخيس وانطوائه الثقافي والنفسي، الذي لم يحتل أيَّة مكانة في قلبه، فما شعر بتلك الذبذبة الكهربائيَّة المتدفقة بالحياة في أعماله الأدبيَّة، إنَّما وجدها تستجيب للانطواء، وقد نال منه باعتباره هاوياً للطغاة والعزلة، ونفر منه كونه عنصرياً لا ينتمي إلا إلى شريحة معزولة من المجتمع الأرجنتيني، لكنَّه لم يبخسه الذكاء ودقة الأسلوب: «أقدّر كثيراً أسلوبه وحذقه ورفقته، وهو مثقف كبير قطعاً، لكنَّني أراه رجلاً بمحض رأس وحسب، رأس لامع في غاية الذكاء، وأراه نخبوياً غارقاً في نخبويته وعنصرياً ونكوصياً يعتاش على حنينه الدائم والممض للدكتاتوريين العسكريين مثل جنرال فيديلا في الأرجنتين، وجنرال بينوشيت في تشيلي، ولا أشعر بأيّ قرب تجاهه، وهو لي مجرَّد مثقف قابع في مكتبة»[10].

ويدفع بنا هذا السجال إلى القول إنَّ بورخيس انطلق من الطرف الجغرافي البعيد إلى المركز الثقافي في قلب العالم، ثم عاد إليه حاملاً صفته العالميَّة بتلاقح كامل مع التركة الثقافيَّة الإنسانيَّة عبر العصور، وبما أنَّه «يتصوَّر الكتابة على أنَّها نوع من القراءة»[11]، فقد مارس دمجاً متواصلاً لكلّ ما طوته ذاكرته، وكان ينسخ ما يروق له، ويعيد كتابة نصوص الآخرين، فما أقرَّ بفكرة الانتحال في الأدب، في نوع من القراءة التفاعليَّة مع النصوص الواردة إليه من ثقافات متنوعة، وأزمنة مختلفة، ويعفيه من الحرج اعتقاده بأنَّ الآداب لا تقوم بتمثيل مرجعياتها الاجتماعيَّة، إنَّما هي قراءات على قراءات، وتأويلات لاحقة على تأويلات سابقة. ولعل التشابه بينه كاتباً والأرجنتين بلاداً يفسّر جانباً من كلّ ذلك؛ فلا تخفى المماثلة العامَّة بين التشكيل الاجتماعي للأرجنتين بموارده العرقيَّة والدينيَّة والثقافيَّة واللغويّة باعتباره خزيناً للمهاجرين والمستعمرين الأوائل والسكَّان الأصليين، والتبعية الاقتصاديَّة والثقافيَّة للمركز الغربي، وبين التشكيل الأدبي لبورخيس بموارده اللغويَّة والأسلوبيَّة والموضوعيَّة المستعارة من الآخرين، فلا مشروعيَّة للبحث عن أصالة صافية في البلاد ولا في الكاتب، إنَّما عن التنوع والترحُّل الذي شمل الطرفين، فالبلاد التي ربضت على حافة العالم ضمَّت خليطاً من الأجناس المترحلة والثقافات المهجَّنة كما ضمت آثار بورخيس مزيجاً من الموارد والمؤثرات.

وقد فصَّل فوينتس التركيب الاجتماعي المتنوع الذي أفقد الأرجنتين هويتها، في كتاب شائق بعنوان (المرآة الدفينة) وصفه ساراماغو بأنَّه «عمل أساسي لا غنى عنه لأيّ فهم حسَّاس وواعٍ لأمريكا اللاتينيَّة»[12]، فأكَّد فيه أنَّ الأرجنتين كانت قبلة الوافدين الأوربيين الذين خاضوا حرباً لاستئصال ماضي البلاد، ولكنَّهم بدل أن «يسكنوا البراري ويعمروها» استقروا في المدن، وزاولوا التجارة التي اعتمدت على تصدير المواد الخام، واستيراد بعض المواد الصناعيَّة التي لم تسهم في نموّ القاعدة الإنتاجيَّة، وقد استأثر الإنجليز بمجمل النشاط الاقتصادي، فكان أن «تحوّلت البلاد إلى شبه مستعمرة تابعة للإمبراطوريَّة الإنجليزيَّة»، وتأتّى عن ذلك أنَّ «كفة الأرباح الظاهريَّة للتحديث في الأرجنتين أخذت تتقلّص في نهاية المطاف بسبب ما عليه المؤسسات السياسيَّة من ضعف وغياب الهويَّة الثقافيَّة والتبعيَّة الزائدة للعوامل الخارجيَّة»، فالأرجنتين، الذي تتوافر له كلُّ الإمكانات الاقتصاديَّة والبشريَّة للتطوُّر، «لم يكن قادراً على بلوغ العظمة القوميَّة الحقيقيَّة». ونتج عن ذلك أن «ظلت الهويَّة الثقافيَّة غير واضحة الملامح»[13]، فبورخيس عاش في بلاد اضمحلّ فيها مفهوم الهويَّة التقليديَّة الراسخة، فانقسمت إلى طرف يهفو قلبه إلى الماضي الهندي، وطرف يتبع عقله الحاضر الأوربي، ولم تنصهر المكوّنات الاجتماعيَّة والثقافيَّة لتنبثق مفاهيم الانتماء والهويَّة، وهي عماد الاستقرار والاستيطان، ولم يبرأ بورخيس من هذا المفهوم المركَّب للهويَّة النازحة، فمُنح امتيازاً من حيث كان ينبغي أن يُدان.

[1]- يتفكرون العدد 11

[2] ـ سارلو، بياتريث، بورخيس: كاتب على الحافّة، ترجمة خليل كلفت، الملجس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2004، ص25، 31

[3] ـ كيرني، ريتشارد، جَدَل العقل، ترجمة إلياس فركوح وحنان شرايخة، دار أزمنة، عمَّان، 2015، ص141

[4] ـ المرجع نفسه، ص142

[5] ـ بورخيس، خ. ل.، المرايا والمتاهات، ترجمة إبراهيم الخطيب، دار توبقال، الدار البيضاء، 1987، انظر مقدّمة المترجم، ص10.

[6] ـ المصدر نفسه، انظر مقدّمة المترجم، ص5

[7] ـ بورخس، خورخي لويس، ذاكرة شكسبير، ترجمة مها رفعت عطفة، دار الطليعة الجديدة، دمشق، 2001. انظر مقدمة يوسا، ص4، 6، 7، 10، 12، 13، 16

[8]ـ فوينطيس، كارلوس، الرواية الأمريكيَّة اللاتينيَّة الجديدة، ترجمة صالحي محمد، وبونو عبد المنعم، منشورات الحوار الأكاديمي، المغرب، 1990، ص19

[9] ـ غاليانو، إدواردو، ذاكرة النار: قرن الريح، ترجمة أسامة إسبر، دار الطليعة الجديدة، دمشق، ج3، ص89

[10] ـ حوار مع إدواردو غاليانو، انظر: «أصوات الرواية: حوارات مع نخبة من الروائيين والروائيات، ترجمة لطفية الدليمي، دار الصدى، دبي، 2015، ص126

[11] ـ سارلو، بياتريث، بورخيس: كاتب على الحافّة، ص31

[12] ـ ساراماغو، خوسيه، المفكّرة، ترجمة عدنان حسين، دال للنشر، دمشق، 2014، ص50

[13] ـ فوينتس، كارلوس، المرآة الدفينة، ترجمة علي إبراهيم منوفي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2012، ص361، 362