الوأد الجديد: مقالات في الفتوى وفقه النساء


فئة :  قراءات في كتب

الوأد الجديد: مقالات في الفتوى وفقه النساء

صدر عن دار مسكيلياني للنشر والتوزيع بتونس ودار الرافديْن، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى، 2019 كتاب "الوأد الجديد مقالات في الفتوى وفقه النساء" لزهيّة جويرو. وزهيّة جويرو أستاذة جامعيّة تدرّس بكليّة الآداب والفنون والإنسانيّات، جامعة منّوبة (الجامعة التونسية)، وهي من بين الباحثات المنشغلات بدراسة تاريخ الفكر الإسلامي بصفة عامّة وبدراسة التشريع الإسلامي ومؤسّساته على وجه التحديد. ومن أبرز مؤلّفاتها في هذا الإطار: "الإفتاء بين سياج المذهب وإكراهات التاريخ دراسة في فتاوى ابن رشد الجدّ"، الطبعة الأولى، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت- لبنان، كانون الثاني (يناير) 2014 (هذا المؤلّف في الأصل أطروحة دكتوراه في اللغة والآداب والحضارة العربيّة بإشراف الأستاذ عبد المجيد الشرفي، نوقشت في حزيران/جوان 2003).

وكتاب "الوأد الجديد مقالات في الفتوى وفقه النساء" الذي نقدّم للقرّاء حوى مقدّمة وأربعة أقسام وخاتمة:

* مقدّمة: (ص. ص. 5- 16)، مثّلت تأطيرا عامّا، عرضت فيه الباحثة طبيعة الثقافة العربيّة الإسلاميّة.

* القسم الأوّل: (ص. ص. 17- 46)، وقد عنونته المؤلّفة بـ "مواريث النساء، النصّ والتأويل"، وتأسّس على ثلاثة عناصر أساسيّة درست فيها الباحثة أحكام مواريث النساء من أبعاد متنوّعة، فتوقّفت عند المنظومة التاريخيّة –الاجتماعيّة ومخرجاتها. ثمّ نظرت فيها بين الوحي والتاريخ، لتختم هذا القسم الأوّل بالبحث في مسألة هامّة تتمثّل في أحكام مواريث النساء من النصّ إلى التأويل.

* القسم الثاني: (ص. ص. 47- 82) ومدار القول فيه "قراءات في أحكام الولاية والقوامة"، وقد نظرت الباحثة، في بداية هذا القسم، في ثلاثة جوانب هامّة، تناولت في الأوّل منها "حدود صلاحيّة الكلام الإلهي لكلّ زمان ومكان"، وتطرّقت، في الجانب الثاني إلى معالجة "حدود الفصل بين الإلهي والبشري". أمّا الجانب الثالث فقد تأسّس الخطاب فيه على "الحاجة إلى تأويليّة جديدة للنصّ الديني"، ثمّ سعت إلى دراسة أحكام الولاية والقوامة في سياقيْن مختلفيْن: في سياق التاريخ، وفي سياق النصّ. وذيّلت هذا القسم بـ "أحكام الولاية والقوامة: من أجل قراءة مقاصديّة".

* القسم الثالث: (ص. ص. 83-126)، موسوم بـ: "فتاوى النساء أو «الوأد الجديد»"، تمحور على عنصريْن اثنيْن: "وضع النساء بين القرآن والفقه والفتوى"، و"المرأة موضوع استفتاء ومستفتية".

* القسم الرابع: (ص. ص. 127- 162) ومداره على "الفتوى المعاصرة من النظام إلى خرق النظام"، وقد تناولت فيه الباحثة بالتفصيل ثلاثة عناصر، تعلّق العنصر الأوّل بـ"الإفتاء في النظام أو الفتوى في المدار الحضاري القديم". وكان محور العنصر الثاني "الفتيا المعاصرة وقانون خرق النظام"، ثمّ كان اهتمام الباحثة في العنصر الثالث والأخير من هذا القسم منصبّا على "الفتيا في الدولة المعاصرة: الدينيّ ينازع السياسي سلطانه".

* الخاتمة: (ص. ص. 163- 168)

* قائمة المصادر والمراجع: (ص. ص. 169- 173)

* الفهرس: (ص. ص. 175- 176)

يندرج هذا المؤلّف ضمن الدراسات النقديّة المعاصرة المنشغلة بالبحث في الموروث الديني الإسلامي بصفة عامّة والموروث الفقهي على وجه التحديد، وقد انتقت المؤلِّفة النظر في قضايا فقهيّة حسّاسة متّصلة أساسا بحقوق المرأة. سنعمل في تقديمنا هذا المؤلَّف على الوقوف عند أمريْن أساسيّيْن أوّلهما: توضيح المنهج الذي اعتمدت المؤلِّفة في تحليل القضايا التي طرحت، وثانيهما سنعمل على إبراز أهمّ ما انشغلت بدراسته من قضايا فقهيّة مرتبطة بحقوق المرأة في الإسلام وبكيفيّة تشكيلها من قِبِل مؤسّسات الفقه وبالمؤثّرات التي وجّهت مسارها التاريخي.

نشير إلى أنْ لا وجود لقالب منهجيّ جاهز يمكن أن يعتمد الباحث في تحليل نصّ تراثيّ دينيّ، وإنّما هناك مناويل منهجيّة عديدة ومتنوّعة يمكن أن يُتوسّل بها وتُستغلّ أدواتها الإجرائيّة بحسب ما يقتضي الموضوع. إضافة إلى ذلك، إنّ أيّ نصّ دينيّ سواء أكان نصّا تأسيسيّا (القرآن) أم نصوصا حافّة لا يمكن فصلها عن سياقاتها المتنوّعة والمتعدّدة، اللغويّة منها والتاريخيّة والاجتماعيّة والعمرانيّة والثقافيّة وغيرها. وفي هذا الإطار، تتنزّل قراءة الباحثة زهيّة جويرو لمسائل فقهيّة مرتبطة بميراث النساء في نصّ الوحي النصّ الأصل، وفي النصوص الثواني، وهي قراءة متعدّدة الأبعاد، إذ لا تروم إعادة إنتاج الموروث الديني القديم، وإنّما تتجاوز أطر القراءات التفسيريّة والتشريعيّة القديمة المحكومة بميول أصحابها على تنوّعها وبمواقفهم التي تراكمت عبر عصور متتالية وكانت وليدة صراعات متنوّعة يطغى عليها السياسي والماديّ من ناحية، وتتأسّس على الانفتاح على العصر وقضاياه وعلى توظيف المكاسب المعرفيّة في مختلف العلوم، ولا سيما العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، باعتبارها أداة من أدوات فهم الظواهر على تنوّعها. لذلك، انطلقت المؤلِّفة من مقدّمات نظريّة إجرائيّة ومن مسلّمات علميّة لإبراز كيفيّة تعامل المؤسّسة الفقهيّة مع النصّ الموحى ومع المجتمع ومع التاريخ.

في القسم الأوّل من الكتاب الموسوم بـ"مواريث النساء النصّ والتأويل"، انبنى العنصر الأوّل "أحكام مواريث النساء في منظومتها التاريخيّة- الاجتماعيّة" على رؤية نقديّة مؤدّاها أنّ القراءات التشريعيّة الإسلاميّة الأولى في جانب مواريث النساء تحكمها أهواء مؤلّفيها المنبثقة أساسا عن ظروف تاريخيّة واجتماعيّة وثقافيّة معيّنة، ومن ثمّ، لم يكن نصّ الوحي حاضرا جوهرا وروحا، وإنّما كان مجرّد ستار رمزيّ تشرعن من خلاله المؤسّسات الدينيّة التشريعيّة أحكامها الفقهيّة. ولقد بيّنت المؤلِّفة أنّ هذه القراءات التراثية الأولى المتشكّلة نصوصا استحالت مسلّمات مطلقة ومؤسّسة تخترق كلّ العصور، وتجبر كلّ المجتمعات الإسلاميّة على اختلاف ظروفها على الالتزام بما شرّعت، فلا إمكان بعد ما أقرّ السلف من تشريعات في قراءة القرآن قراءة شاملة تتأسّس على أبعاد متنوّعة وتراعي المعطيات الحضاريّة على تنوّعها واختلافها.

وأوضحت أنّ الإرث الفقهي الإسلامي ظلّ ثابتا في النقطة التي نشأ فيها، فلم يقع النظر فيه بما هو وليد ظروف تاريخيّة متنوّعة، ولا يمكن أن يكون الفهم الوحيد والمطلق لما ورد في نصّ الوحي، إضافة إلى أنّه لم يقع الأخذ بعين الاعتبار التحوّلات الحضاريّة الطارئة على المجتمعات. ومن هذا المنطلق، فإنّه من الضروريّ إعادة قراءة نصّ الوحي من ناحية، والنظر في الموروث الفقهي الإسلامي بمناهج علميّة تتميّز طبيعة وجوهرا.

ولكي تفسّر مقدّماتها النظريّة وتبرهن على أهدافها عمدت الباحثة إلى عرض مثال إجرائيّ يندرج في سياق ما عُرِف في الفقه الإسلامي بأحكام الفرائض أو أحكام المواريث. ومن خلاله سعت إلى دحض المزاعم والمسلّمات المطلقة الرافضة مبدأ إعادة قراءة أحكام الفرائض، ومن ثمّ تكسير القواعد الفقهيّة التي يعتقد أصحابها بأنّها أحكام مستندة إلى «دليل نصّي قطعيّ الورود وقطعيّ الدلالة»[1]. ولهذا الدحض آليّاته، وتتمثّل في تنزيل الأحكام المسلّم بها في منظومتها التاريخيّة- الاجتماعيّة لفهم منطق اشتغالها وتبيّن طبيعة علاقتها بسياقها على «قاعدة استحالة فصل الخطاب، أيّا كانت طبيعته ومصدره، في السياق الذي جاء فيه طالما أنّه يشكّل عاملا فاعلا في نظامه إنتاجا وتلقيّا»[2]. ومن هذا المنطلق، لا يمكن فصل نظام المواريث عن بيئته الثقافيّة؛ أي لا يمكن النظر فيه بمعزل عن نظام توزيع الأموال وطبيعة النظام الاقتصادي الاجتماعي السائد في شبه الجزيرة العربيّة زمن نزول الوحي، فلا يمكن اقتطاع نظام الميراث في الإسلام عن سائر المبادئ المنظّمة لتوزيع الأموال.

ولقد أكّدت الباحثة من خلال أمثلة عديدة أنّ نظام الإرث كان محكوما بالتحوّلات العمرانيّة وطبيعة النظام الاقتصادي. ففي الجاهليّة كان محكومًا بأعراف البدو المتمثّلة في "الحرب والغنيمة"، فالإرث كان حكرا على من كان على ظهور الخيل وحاز الغنيمة وقد ترتّب عن ذلك حرمان النساء من الميراث، بينما تغيّر في المناطق الحضريّة، وأصبح محكوما بطبيعة الاقتصاد السائد الذي تحوّل من اعتماد الغزو إلى الارتكاز على التجارة التي تستدعي نمط الملكيّة الفرديّة. وقد أدّى هذا التغيّر البنيوي في صلب المجتمع إلى تخصيص الأبناء والآباء بالإرث دون سائر الأقارب وهو ما نتج عنه بروز عدد من النساء كنّ ذوات أموال وثروات مثل خديجة زوج الرسول.

ثمّ برهنت على أنّ الإسلام قد أحدث نقلة نوعيّة نموذجيّة في نظام توزيع الأموال الموروثة بمقتضاها أصبحت المرأة فردا ذا نصيب مقدّر ومفروض ومستقلّ عن الميول والرغبات مهما كان مأتاها وعن التقاليد والأعراف الجارية. وفي السياق نفسه، كان للنساء وعي بوضعيّتهنّ الاجتماعيّة التي استوجبت منهنّ تململا وتعبيرا عن لرفضهنّ لما تمّ إقراره لهنّ من أنصبة، وكانت لديهنّ رغبة في تقاسم الأدوار مع الرجال بالتساوي.

على أنّ تأثير هذه النقلة النوعيّة لم يكن عميقا لاعتبارات عديدة، لعلّ من أهمّها أنّ عقليّة المسلمين الاجتماعيّة في فترة نزول الوحي وفي فترات لاحقة لم تكن متهيّئة لتقبّل هذا التحوّل في تقسيم الميراث، من ناحية أولى، وأنّ الظروف الموضوعيّة اقتصاديّا واجتماعيّا لم يطرأ عليها تحوّل فعليّ يجعل من تلك الأحكام «واقعا عينيّا»، من ناحية ثانية، وأنّ طبيعة المجتمع «بما هو مجتمع أبوي وبواسطة المؤسّسة الفقهيّة التي هي مؤسّسة ذكوريّة خالصة، قد عمل على التصرّف في تلك الأحكام بهدف استنباط الحلول التي انتظر نزولها من السماء ولم تنزل، والتي تمكّنه في الآن ذاته من التقيّد «بواجب ما منه بدّ»»[3]. لقد كرّست المؤسّسة الفقهيّة منذ بداية تشكّلها "الهيمنة الذكوريّة"، تجسّد ذلك من خلال تعطيل العمل ببعض ما ورد في القرآن من أحكام ردّت بعض الاعتبار للنساء، ومن خلال تشريع منظومة من الأحكام تكرّس التمييز ضدّ النساء مثل فرض ولاية الأب على الابنة البكر وإباحة تحبيس الأموال على الأولاد وإخراج البنات منه وشرعنتها بالرجوع إلى الممارسات المنسوبة إلى الصحابة والتابعين.

ثمّ في سياق ثان، في "أحكام مواريث النساء بين الوحي والتاريخ" عملت المؤلِّفة على إبراز نسبيّة الأحكام القرآنيّة في ما يتعلّق بالميراث وآنيّتها انطلاقا من وضعيّات متنوّعة مقابل، فتوقّفت عند عدّة معطيات منها وعي النساء بوجودهنّ الاجتماعي وما يفرضه من ضرورة تغيير منظومة التشريع المرتبطة بأحكام الميراث، وقد تجسّد هذا الوعي في تلك الأسئلة التي كنّ يطرحنها على الرسول والمطالبة في جوهرها في حقّهنّ في الحصول على نصيب، ومنها كذلك الأعراف الجاهليّة المتأسّسة على حرمان النساء من الميراث. وكانت آيات الميراث أجوبة لما كان يُطرح على الرسول من أسئلة. واعتبرت أنّ آيات الميراث تقرّ «من جهة مبدإ التسوية بين الرجال والنساء في الحصول على نصيب ممّا يترك الولدان والأقربون، ولتحدِّد من جهة أخرى، أنصبة معيّنة تحدَّدت على أساس الانسجام مع طبيعة النظام العائلي والاجتماعي السائد، دون أن يكون المقصد في تحديدها ضبط نظام صارم ومتكامل وقادر على الإحاطة بكلّ الوضعيّات الممكنة، دليلنا على ذلك محدوديّة هذه الآيات من جهة، وسكوتها عن وضعيّات مشكلة كثيرة من جهة أخرى»[4]. وانتهت في هذا العنصر إلى أنّ المؤسّسة الفقهيّة كان دأبها تفصيل ما هو مجمل وإطلاق ما هو نسبيّ وتأبيده وإضفاء طابعا من القداسة عليه بشتّى الآليّات.

ثمّ ختمت القسم الأوّل بعنصر ثالث وسمته بـ"أحكام مواريث النساء من النصّ إلى التأويل". وكان مداره النظر في آي القرآن في إطار عمليّة التأويل، فعالجت طبيعة النصّ بين التخيير والإلزام، وأرجعت اختلاف الفقهاء في تقدير عدد آيات الأحكام إلى العلامات اللغويّة وكيفيّة تشكّل الدلالة عبر مختلف الصيغ، ثمّ نظرت في عمليّة التأويل بين الفصل والوصل؛ فاعتبرت أنّ نقطة ضعف المنظومة الفقهيّة تتمثّل أساسا في اقتطاع الآيات عن السياق العامّ النصّي والتاريخي. فإذا كان القرآن رسالة روحيّة تروم إرساء قيم إنسانيّة تتأسّس على المساواة الروحيّة بين المسلمين، فإنّه ـــ شأنه في ذلك شأن أغلب الأديان ـــ لا يمكن اقتطاعه من بيئته الاجتماعيّة ولا يمكن إعدام تفاعله مع الواقع وانخراطه فيه. إنّ روح الإشكال في هذا السياق تتمثّل في كيفيّة قراءة آيات وطرائق تأويلها.

إنّ السؤال في هذا القسم الأوّل سؤال في انفتاح الخطاب القرآني على إمكانات من التأويل متعدّدة ومتنوّعة تجاري التطوّرات التاريخيّة على تنوّعها، وهو سؤال في نشأة الفقه الإسلامي ومدى تطوّره والآليّات التي خضع لها، وفي خصوصيّات الفكر الدينيّ وآليّات اشتغاله.

في القسم الثاني "قراءات في أحكام الولاية والقوامة"، كان الاهتمام بثلاثة جوانب، تناولت في الأوّل منها "حدود صلاحيّة الكلام الإلهي لكلّ زمان ومكان"؛ فالضمير الجمعي الديني الإسلامي يعتبر أنّ كلام الله صالح لكلّ زمان ومكان، ومن ثمّة فإنّ الأحكام الشرعيّة المنبثقة عنه مطلقة وثابتة لا يمكن أن تتغيّر مهما تطوّرت الظروف التاريخيّة، ومهما تحوّلت المجتمعات وتغيّرت أوضاعها. إنّ هذه المسلّمات لا تتماشى مع الضمير الإنساني المؤمن «بالحقّ في المساواة بكلّ أبعادها القانونيّة والاجتماعيّة والمدنيّة...بين كلّ البشر مهما كانت اختلافاتهم الجنسيّة والعرقيّة والدينيّة وغيرها»[5]، إضافة إلى أنّها تجعل الإنسان في تبعيّة مطلقة إلى الكلام الإلهي التشريعي، وتخلط بين أسس العقيدة التعبديّة الثابتة وأسس المعاملات المتغيّرة بتغيّر الأوضاع.

في الجانب الثاني، كان جوهر الخطاب "حدود الفصل بين الإلهي والبشري". وارتكز على إبراز مصادر التشريع الإسلامي وكيفيّة التعامل معها، فتبيّن أنّ المنظومة التشريعيّة قائمة على مصدريْن اثنيْن متداخليْن هما التشريع القرآني والتشاريع الوضعيّة. وتكمن أهميّة هذه النقطة في إظهار الفروق الجوهريّة بين المصدريْن. فأمّا التشريع القرآني فهو إلهيّ، وأمّا التشريعات الوضعيّة، فهي بشريّة خاضعة لظروف المؤوّل التاريخيّة ولأدواته المعرفيّة. تتمثّل قيمة هذا التمييز المقارني في إبراز حدود التشريعات الوضعيّة ونسبيّتها، باعتبارها منزّلة في سياقات تاريخيّة معلومة، الأمر الذي يشرّع حتما مراجعتها ونقدها وفق تغيّر الظروف وتبدّل الآليّات المعرفيّة.

إنّ مشاغل المؤلّفة في هذا الإطار تتمثّل في تحديث مقاربة النصوص التشريعيّة الإسلاميّة المرتبطة بالأحكام مقاربة نقديّة تنأى عن تقديس الموروث وتأبيده من ناحية، وتميّز بين مصادر منظومة التشريع الإسلامي، وهو ما يؤدّي حتما إلى إعادة استنباط أحكام فقهيّة مرنة تتماشى مع المكتسبات الحقوقيّة الكونيّة. إنّ المؤمن من هذا المنطلق، وفي إطار النظر في أحكام المواريث في "حاجة إلى تأويليّة جديدة للنصّ الديني" تتأسّس على قراءة تاريخيّة ماديّة شاملة وقراءة سياقيّة تنزّل الأحكام في سياقها النصّي الأصلي المرتبط بتنظيم العلاقات بين الرجال والنساء في إطار العائلة والمجتمع.

لقد حوى ما تبقّى من هذا القسم الثاني على دراسة أحكام الولاية والقوامة في سياقيْن مختلفيْن: في سياق التاريخ، وفي سياق النصّ. ففي سياق التاريخ، سعت إلى التفريق بين النظم الاجتماعيّة التي كانت متحكّمة في تحديد أحكام الولاية والقوامة، وأبرزت اختلافها من نظام البداوة إلى نظام الحضر وتأثير كلّ نظام على منظومة التشريع. وبيّنت أنّ من أهداف الدين الجديد كسر رابطة الدم لحساب رابطة العقيدة الجديدة. لكنّ المنظومة الفقهيّة بنت أحكامها على أساس المجتمع القبلي-العشائري المحكوم بروابط الدم وبمنطق مفاضلة الرجل على المرأة.

أمّا في سياق النصّ، فالأمر يبدو مختلفا إذ أقرّ القرآن بأهليّة المرأة القانونيّة في التصرّف والتملّك وحقّ الولاية على أموالها، ونظّم العلاقات الزوجيّة على أصول جديدة مخالفة لتلك التي كانت سائدة، إلاّ أنّ الفقيه- المفسّر سيّج معاني الآيات القرآنيّة بما كان يفرضه عليه النظام الاجتماعي السائد، واستحالت تأويلاته مقدّسة قداسة القرآن ذاته.

انتهى هذا القسم الثاني بالبحث في "أحكام الولاية والقوامة: من أجل قراءة مقاصديّة". بدا تغيير الفهم السائد من آيات الولاية والقوامة ضروريّا، فوجب تحويله من دائرة تأبيد استرقاق المرأة وقصورها إلى دائرة المودّة والرحمة والعدل والإنصاف سواء في تنظيم العلاقات الزوجيّة أو بين الآباء والأبناء.

في القسم الثالث: المعنون بـ: "فتاوى النساء أو «الوأد الجديد»"، وقع البحث في مقام أوّل في "وضع النساء بين القرآن والفقه والفتوى"، فاتّضح الفرق بين النصّ القرآني المؤسّس والنصوص الفقهيّة الحافّة به. ورغم المرونة التي بدت في الخطاب القرآني والتي تبشّر، ولو نسبيّا، بوضع جديد مخالف لذاك الذي كانت تعيش المرأة على وقعه في الجاهليّة، إلاّ أنّ "الفهم البشريّ- الفقهيّ" أسقط السائد ثقافيّا ليحمّل المرأة مسؤوليّة شقاء البشريّة، ومن ثمّ معاقبتها على ما ارتكبت. لقد كان للسائد الأسطوري والوافد من ثقافات دينيّة سبقت الإسلام تأثيره الكبير في توجيه العقل الفقهي ضدّ المرأة، وبالتالي تحديد مكانتها الاجتماعيّة والقانونيّة والعقائديّة. إنّ المشغل المركزي في هذا العنصر يتمثّل في تأثير الموروث العقائدي والتأويلات التي تراكمت حول النصّ القرآني في سياقات ثقافيّة معلومة وكيفيّة تحطيم أطر إعادة إنتاج هذه التراكمات.

وفي عنصر "المرأة موضوع استفتاء ومستفتية"، انفتحت الباحثة على قضايا العصر ونظرت في قضايا عديدة مرتبطة بوجود النساء منها قضايا الزواج برؤية نقديّة تنبني على أسس البناء الاجتماعي وكيفيّات تشكّله. وتطرّقت إلى طرائق الاستفتاء/الأسئلة والأجوبة، وخلُصت إلى أنّ الأسئلة دليل قاطع على تملّص من المسؤوليّة، وأنّ الأجوبة ليست إلاّ استرجاعا لما استقرّ في الذاكرة التشريعيّة من أحكام فقهيّة امتلكت عبر الزمن حصانة مطلقة.

لقد كان سؤال الباحثة في هذا السياق متأسّسا على وجاهة الفتوى وجدواها وعلى مسؤوليّة المستفتي وعلى مرجعيّة الفتوى.

في القسم الرابع الموسوم بـ"الفتوى المعاصرة من النظام إلى خرق النظام"، انتظم الخطاب على ثلاثة عناصر، اهتمّت بكيفيّة مقاربة الفتوى المعاصرة: هل يمكن أن نقاربها بمثل الآليّات التي يقارب بها الباحث الفتوى في القديم على مستوى المفاهيم المنهجيّة والتصوّرات الإجرائيّة؟ مع الأخذ بعين الاعتبار «قضيّة الوضع المعرفي والاجتماعي لمؤسّسة الفتيا، وقضيّة وظائفها ماضيا وحاضرا»[6].

إنّ المجتمع ذو طبيعة دينيّة. والدين هو المرجعيّة الأساسيّة لتنظيم شؤون الناس وتدبير اجتماعهم، وهو «القطب الذي تدور عليه كلّ أعماله وعلاقاته والمرجع الذي يحتكم إليه في كلّ شؤونه»[7]. وتأكّدت حاجة المسلمين إلى مؤسّسة منبثقة من صلب هذا الدين ناطقة باسمه كفيلة بأن تجيبهم عمّا يطرأ عليهم من نوازل ووضعيّات تنهض بوظيفة الوسيط الذي «يقرّب أحكام من فهوم العوام ويفعّلها في معيشهم، ويقترح عليهم الحلول لما يستجدّ من طوارئ لم تكن أحكامها مقرّرة بشكل صريح في المصادر المعلومة»[8]. وامتلك المفتي سلطة معرفيّة تتحكّم في أغلب ميادين الحياة. وقد ترتّب عن ذلك استحالة نشأة منظومة قانونيّة من خارج المرجعيّة التشريعيّة.

وفي سياق دراستها مكانة الفتوى في المجتمعات المعاصرة، أقرّت المؤلّفة بوجود تحوّلات جذريّة في بنى التفكير والوعي أصبح الدين فيها فاعلا من مجموعة فواعل متعدّدة ومتنوّعة. وأصبحت الفتوى في دائرة الاتّهام من المستفتي نفسه رغم أنّ المفتي يستميت في إعادة إنتاج المنظومة الفقهيّة القديمة والتمسّك بأحكامها. وقد قدّمت أمثلة حيّة على ذلك انطلاقا من الفتاوى المطروحة على مواقع الأنترنت والمتعلّقة بعدّة مواضيع حسّاسة (العلاقات الزوجيّة...). وتوصّلت إلى عدّة استنتاجات منها ما يرتبط بالمفتي ومنها ما له صلة بالمستفتي. وختمت بحثها بالتركيز على القلق الذي يمكن أن تحدث الفتوى بوصفها نظاما ساد في فترة تاريخيّة، انتهت إذا ما تعارضت مع نظام واع بمقتضيات اللحظة الراهنة.

لقد سعت الباحثة في هذا المؤلَّف إلى النظر في أحكام الميراث ومقاربتها مقاربة أنثروبولوجيّة، توقّفت من خلالها عند عدّة مسائل، لعلّ أبرزها مرجعيّات منظومة الفقه الإسلامي والظروف التاريخيّة الحافّة بها وآليّات اشتغال العقل الفقهي ومنطلقاته وطبيعة المجتمع العربي بما هو مجتمع ذكوريّ يؤبّد استرقاق النساء وتهميشهنّ. وأوضحت ميول الضمير الجمعي إلى التديّن في الواقع الإسلامي على حساب جوهر الرسالة الإسلاميّة منذ نزول الوحي. لقد سعت المؤلّفة، من خلال البحث في أحكام الميراث من زاوية نظر نقديّة تبتعد عن النظرة التمجيديّة، إلى تنزيل الموروث الديني في سياقه الحضاري الذي نشأ فيه. وقد تمكّنت من إثارة مسائل هامّة ما زالت قيد الممنوع أو المسكوت عنه.


[1] زهيّة جويرو، "الوأد الجديد مقالات في الفتوى وفقه النساء"، ط. 1، دار مسكيلياني للنشر والتوزيع بتونس ودار الرافديْن، بيروت- لبنان، 2019، ص. 19

[2] م. ن.، ص. 19

[3] م. ن.، ص. 24

[4] م. ن.، ص. 30

[5] م. ن.، ص. ص. 47- 48

[6] م. ن.، ص. 127

[7] م. ن.، ص. 134

[8] م. ن.، ص. 131