الوأد الجديد، مقالات في الفتوى وفقه النساء: قراءة في كتاب زهية جويرو


فئة :  قراءات في كتب

الوأد الجديد، مقالات في الفتوى وفقه النساء: قراءة في كتاب زهية جويرو

 الوأد الجديد، مقالات في الفتوى وفقه النساء*:

قراءة في كتاب زهية جويرو


"الوأد الجديد"[1] ولادةٌ جديدةٌ لا ريب فيها: تجدّد كاتبةِ وميلاد نصّ وانبعاث موؤدة من بين قبور الفتاوى.

1- وإذا الموؤودة انتفضت

يكتشف قارئ كتاب "الوأد الجديد" أنّ مؤلّفة "القصاص في النّصوص المقدسة-قراءة تاريخية[2]" و"الإسلام الشعبي[3]" و"مؤسّسة الإفتاء بين سياج المذهب وإكراهات التّاريخ[4]" لم تمت، كما يقول بارط. فنحن أمام ذات كاتبة تتجدّد وتنتفض ضدّ مؤسّسة الوأد، ليس لأنّ حياة الكاتب وموته ترتبطان بولادة نصّ جديد، بل وعلى خلاف ما يُردّد عن موت المؤلّف لحظة ولادة النصّ، موتِه المحكوم باللغة وسنن الكتابة وتقاليد الثقافة، فإنّكَ إزاء ذات كاتبة تتحدّى نظم سلطة الثقافة التي تنتمي إليها، فتستخدم لغة هذا الوأدِ نفسه وتتوجّه بخطابها إلى هؤلاء الفاعلين المساهمين في ثقافة الوأد.

إنّكَ في "الوأد الجديد" أمام صوت حيّ صادر من ضحيّة محتملة لهذه المؤسّسة الفقهيّة المتكلّسة، وهو أمر جدير أن ننتبه إليه. ففعلُ الكتابة في حدّ ذاته انبعاث من الوأد، وهو بلا شك تحدّ ومقاومة لبنيان فحولة هيمنت بظلّها الكئيب على مرّ القرون. وقراءتُنا هذهِ وقراءتُكَ أنتَ الآن لهذا النصِّ على النصِّ، كلّ ذلكَ صدى لهذا الميلادِ الجديد لهذه "الموؤودة" التي انتفضت، فكتبت.

هذه المؤلّفة المختصّة في تفكيك نصوص التّراث الشائكة والحفرِ فيها متوخيّة المنهج التّاريخي النقدي خصوصاً، قد حرّرت ذاتها الكاتبة المؤنّثة حين قدّمت نفسها منذ المقدّمة ضمن الفاعلات الجدد اللواتي "اكتسبن من الوعي والمهارات ما دفعهن للسّعي نحو أخذ أمرهن بأيديهن"، [5] كاشفة بوضوح عن تعاطفها مع النّساء المقهورات باسم الأعراف والدين. فاطّلاعها على أوضاعهنّ البائسة من خلال ما أتيح لها من دعوات ضمن جمعيّات نسويّة جعلها تدركُ حجم المعاناة التي تعيشها نساء مسلمات أطلقت عليهن اسم "الموؤودات الجدد"، واعتبرت أنّ وائدهنّ قديماً وحديثاً واحدٌ. وهو ما كشفت عنه منذ الجملة الأولى لنصّها، وأكدّت عليه في خاتمة عملها بكونه ذلك "النموذج الرمزي" المتحكّم بالذهنيّات وبالوعي والقائم على بنية ذهنيّة ذكوريّة بامتياز جسّدتها مؤسّسة الإفتاء أفضل تجسيد.

يكتشف القارئ أنّه أمام باحثة تجدّد وسائل تفكيكها وقراءتها لهذا الإرث الهائل الذي يثقلُ ضمير المسلم المعاصر، ويزري بواقعه وواقع النّساء على وجه الخصوص. فقد اعترفت جويرو أنّها لم تكن مقتنعة بجدوى المناهج الجديدة تلك التي تعرّفت إليها من خلال احتكاكها بالمناضلات النسويّات المطالبات بحقوقهن، وأكدت أنّ تلك الخبرات الجديدة وما رأته من بؤس النّساء جعلاها تكتب مقالات كتابها هذا في الوقت الذي كانت تحدث فيه جرائم تنتهك فيها حرمات النّساء باسم الدين والأعراف والشّرف. ولذا يمكن اعتبار هذا الكتاب بالذّات تجدّداً مهمّاً في مسيرة كاتبتنا، خصّصته لتحطيم أصنام الثّقافة الذكوريّة التي تئد النّساء.

وإذا كانت الباحثة منخرطة من قبل في مشروع تجديد قراءة النصّ القرآني من أجل تحرير العقل العربي فإنّها حين رأت بأمّ عينيها قساوة الممارسات التي تضطهد النّساء باسم المؤسّسة الدينية كانت ردّة فعلها كتابة هذه المقالات التي جمعتها في هذا الكتاب. تهدف من خلالها إلى تحرير المرأة من قيود مؤسّسة الإفتاء. إنّه مندرج بلا شك ضمن هذه الصّرخات التي تطلقها النّساء المنتميات إلى ثقافة عربية مسلمة، ليست صرخات البكاء أو الشكوى بل هي صرخات النقد والتحطيم لصنم صنع في التاريخ، وآنَ الأوانُ لأن تنزع عنه القداسة: صنمُ المؤسّسة الدينيّة ممثّلة هذه المرّة في مؤسّسة الإفتاء. لذلك يبدو الكتابُ -للوهلة الأولى- مندرجاً بكليّته ضمن ما كتب عن النّساء بأقلام النّساء، وضمن ما كتب عن الإسلام بأقلام النّساء، أي ضمن ما يُسمّى بالنسويّة الإسلاميّة، ذلك الإسلام محدّقاً إليه بعيون امرأة تنتمي إلى ثقافته ولكنّها تحرّرت من قداسته وأحكامه، وتحاول أن تتوجّه إلى القرّاء ناقدة هذه الفتاوى كاشفة بشريّتها وتاريخيّتها.

لكنّ المتمعّن في متن المقالات يلاحظ أنّ الكاتبة اتّخذت لنفسها منهجاً تاريخيّاً نقديّاً خاصّاً، فقارعت حجج الفقهاء بحجج تاريخيّة- سوسيولوجيّة، واعتمدت على التأويل لتجتهد هي بدورها في تفسير مقاصديّة بعض الأحكام التي تحدّثت عنها في الكتاب والمتعلقة بالمواريث والقوامة والولاية. ولم تعتمد زهيّة جويرو في متن مقالاتها على مرجعيّات من النّصوص والبحوث التي سبقتها إليها كاتبات خضن في مثل هذه المواضيع. فقد أشارت إليهنّ في المقدّمة، ولكنّها لم تعتمد على بحوثهن في المتن. فقد ارتكزت في بناء قولها على نصيّن أساسيين: الأوّل هو المدونة الفقهية التي تسعى إلى تحطيم قيودها، والثاني هو نصّ القرآن الذي تحاول أن تحرّره من الفهم التاريخي الذي ارتبط به على أنّه فهم متعالٍ مقدّس. ولذلك لا يمكن فعلاً الجزم بأنّ كاتبتنا تتوخى سبيلاً نسويّاً في التفكيك، وإنّما يمكن القول إنّها في هذا الكتاب بالذّات صرّحت بأنّ ما تشتغل به من مشروع تفكيك العقل الفقهي المتيبّس لا يمكن أن يتحقّق إذا لم تستطع المرأة أن تتولى بنفسها عملية التأويل لتخلّص نفسها بنفسها من براثن المؤسّسة الذكوريّة الجامدة.

لقد أشارت الكاتبة إلى المنظور الذي تنطلق منه بعبارة"تأويلية" دون أن تعتبر تلك التأويلية "نسوية"، بل وسّعت دائرتها فنزّلتها ضمن الفكر الإصلاحي الحديث وضمن المدرسة التونسية تحديداً، ثم أشارت إلى مجموعة من النّساء المثقفات الرائدات في تفكيك الخطاب الديني المشرّع لأحكام تخصّ النّساء كنظيرة زين الدين وآمنة ودود وأسماء برلاس ورفعت حسن ومنى فياض وغيرهن، وهو المنظور الذي ارتأت الكاتبة نفسها أن تدرج عملها ضمنه، إذ تقول: "في هذه المقالات محاولة أخرى للبرهنة على أنّ فهماً آخر وقراءة أخرى لتلك النّصوص ممكنة، وعلى أنّ الفصل بين النصّ الإلهي وسائر النصوص البشريّة التي تشكّلت حوله ضرورة حيويّة إذا أردنا أن نجعل من الإسلام كما كان في عصره الأوّل قوّة بناء وتقدّم"[6].

فهي إذن تفكّك البنى الذكوريّة التي تحدّثت عنها منذ المقدّمة ضمن المنظور الإصلاحي الاجتهادي المقاصدي واعتماداً على مقدّمات هذا الفكر التأويلي الذي قدّمت له الكاتبة أهمّ أسسه ولخّصت أهمّ نماذجه ممثّلاً خاصّة في ما قدّمته أمينة ودود.

ويمكن بدورنا أن نلخّص تلك الأسس التي ذكرتها الكاتبة في نقطتين أساسيتين:

أوّلاً: التمييز بين الظاهرة القرآنيّة والفقه والقراءة التقليدية المعهودة

ثانياً: دحض فكرة أنّ القرآن يقيم تمييزاً أنطولوجيّاً بين الرّجل والمرأة

وانطلاقاً من هذه الأسس قدّمت زهية جويرو مقالاتها في الفتوى وفقه النساء.

2ـ الوأد والوأد المضادّ

إذا كانت الفتاوى بالنّسبة إلى زهيّة جويرو عمليّة وأد للعقل وللمرأة، فإنّ انتفاضة تلك المرأة واستفاقة ذلك العقل هما الوأد المضادّ، فهما كفيلان بتحطيم أصنام هذه المؤسّسة المكبّلة وردمها تحت معاول الحفر التّاريخي والقراءة السيميائيّة والأنثروبولوجية. وضمن هذه التأويلية ولد النصُّ، وفيما يلي عناوين المقالات التي تكوّن منها الكتاب وهي:

1ـ مواريث النّساء: النصّ والتأويل

2ـ فتاوى النّساء أو الوأد الجديد

3ـ الفتوى المعاصرة من النّظام إلى خرق النّظام

4 ـ قراءات في أحكام الولاية والقوامة

ونلاحظ أنّ مدار هذه المقالات على ثالوث يمثّل وجهاً من وجوه السّلطة التي احتكرها المجتمع للذّكور على حساب الإناث: هي سلطة المال والقوامة، وليست الفتاوى حسب ما حلّلت الباحثة سوى الآليّة التي تمّ عبرها تكريس هذا الظلم والقهر التّاريخيين. وسنحاول فيما يلي عرض أطروحة الكاتبة واستعراض منهجها في الوأد المضادّ ضمن محورين هما:

- تاريخيّة أحكام المواريث والقوامة والولاية

- تداعي مؤسّسة الإفتاء

1.2- تاريخيّة أحكام المواريث والولاية والقوامة

ـ المواريث:

تتمثّل أطروحة الكاتبة في كون نظام أحكام المواريث كما استقرّ في الفقه لم يعد صالحاً لزماننا وعصرنا، ولا يطابق مقاصد القرآن المتعلقة بالعدل بين البشر وعدم التمييز بين النّاس. وتعتمد في بناء خطتها الحجاجيّة أسلوباً تفسيريّاً يقوم على المراجعة التاريخيّة لأحكام المواريث التي أقرّت فيما أقرّت للذّكر مثل حظ الأنثيين. فتشكّك في ما ترسّخ في السُنّة الثقافية الإسلامية من كونِ المرأة كانت قبل الإسلام محرومة من نصيبها من الأموال، مبيّنة ارتباط المواريث بتوزيع الأموال عامّة وبالاختلاف بين اقتصاد البداوة القائم على الغزو والقتال واقتصاد المدن الحضريّة القائم على التّجارة أساساً، ممّا أفرز وضعين مختلفين للنّساء لا وضعاً واحداً، تميّز بثبوت كون المرأة الحضريّة كان لها نصيب من أموال التّجارة حتى قبل مجيء الإسلام. وهو ما يفسّر مطالبة هؤلاء النّسوة بنصيبهنّ من الأموال على عهد الرّسول محمّد.

وتذكّر الكاتبة بكون تلك الاحتجاجات كانت سبباً لنزول آيات المواريث. فهي إذن تميّز بين تلك الآيات التي نزلت بواقعة أو سؤال والآيات التي لم ترتبط بمكان أو زمان، والتي تمثّل جوهر الرّسالة القرآنية، أي تلك المقاصد التي من أجلها نزل الوحي. والكاتبة هنا وفيّة للفكر الإصلاحي الحديث والتونسي تحديداً تذكّرنا مقاربتها بقول الطاهر الحداد في امرأتنا في الشريعة والمجتمع: "يجب أن نعتبر الفرق الكبير البيّن بين ما أتى به الإسلام وما جاء من أجله"، فما أتى به في هذا السّياق يرتبط حسب جويرو باحتجاجات النّساء التي نُقلت عن عائشة والتي باتّفاق كتّاب أسباب النزول كانت سبباً لنزول آيات سورة النساء. فالأصل هو إنصاف النّساء، ولكنّ المؤسّسة الفقهيّة كرّست تحت ضغط الواقع الذي تتحكّم فيه بنى ذكورية أحكاماً تتعارض في رأي الكاتبة مع القصد القرآني الأصلي.

ـ القوامة والولاية:

سعت جويرو إلى تأكيد نسبيّة نظام القوامة والولاية من خلال الكشف عن تاريخيّته، وكونه ناتجاً لتلبية حاجات إنسان ما قبل الإسلام. وهو نظام له أوجه ماديّة ورمزيّة تدعمه دعت الباحثة إلى تفكيكها لفهم العلاقات التي أنتجتها. وفسّرت هذه البنى بالعودة إلى الفترة السابقة للإسلام، لتثبت أنّ النظام الاجتماعي السائد والقائم عموماً على البداوة وبعض المناطق الحضريّة يستجيب لعلاقات قرابة واقتصاد رعويّ أو مرتبط بالغزو والتجارة حتّم توزيعاً خاصّاً للأدوار وللوظائف داخل المجموعة ليحدث الانسجام بينها والتآلف والبقاء. وقد ميّزت جويرو بين المناطق الرعوية والمناطق الحضريّة لتؤكّد على أنّ النظم الاجتماعيّة تفسّرها علاقة الإنسان ببيئته، وأنّ القيم ليست في منأى عن نمط العيش. لقد أشارت الكاتبة إلى ارتباط بنى القرابة بتنظيمات المجتمع والمؤسّسات الناشئة إثر تفكّك الرّوابط القبليّة من قبيل ظهور مؤسّسة الأسرة وتكوّن شكل قانوني ملائم لهذه التحولات التي فيها جاء الإسلام واتّسع وتأسس.

وخلاصة القول إنّ نظام القوامة والولاية لم ينزّل من السّماء، وإنّما نشأ في التّاريخ، وكان في خدمة المجتمع، وترجّح الكاتبة أن تكون الولاية في أصلها في خدمة استقرار زواج المرأة لا قهراً لها. وهي الوظيفة التي ستفقد مع تطوّر الزّمن، لتصبح الولاية شكلاً من أشكال تهديد النساء.

لقد واجهت الكاتبة تناقض الآيات القرآنية تلك التي تقرّ أهليّة النّساء من جهة، وتلك التي يشرّع بها للقوامة من جهة ثانية، فاعتمدت على المقاصديّة لتفكّ ما يبدو تناقضاً مؤكدة على مسؤولية الفقهاء في ترسيخ أحكام لا ترى موجباً لاستمرارها مادامت في الأصل مرتبطة بظروف تاريخيّة. ولم تشر في هذا السياق إلى قضايا تدوين القرآن وترتيبه وجمعه، ولا خاضت في قضايا هذه الآيات المتناقضة التي يجمعها نصّ واحد، بل اكتفت بالتذكير بأنّ للآيات أسباب نزول، وأنّ القراءة هي التي تحدّد معاني النصّ في ضوء المقاصد الإسلاميّة الكبرى.

2.2- تداعي مؤسّسة الإفتاء

تُميّز زهيّة جويرو بين الفتاوى القديمة والفتاوى المعاصرة تمييزاً إبستيمولوجيّاً، فهي تعتقد أنّ الفتاوى المعاصرة، وإن كانت في الظّاهر امتداداً لبنيان معرفي قديم، إلا أنّها تنتمي إلى نظام معرفي واجتماعي مختلف تماماً عن النّظام المعرفي والاجتماعي الذي أنتج الفتاوى القديمة. ولا يسعنا إلا الإقرار بأهميّة هذا التمييز الإبستيمولوجي الذي أقامته والذي دعّمته بشواهد ومقارنات بين فتاوى قديمة وفتاوى معاصرة، مستدلّة على أطروحتها تلك بجملة من الحجج المتنوّعة منها ما هو تاريخي ومنها ما هو نظري ومنطقي.

إنّ خطاب زهيّة جويرو يتراوح بين الحجاج والتفسير، ويرتكز بلا شكّ على قراءة تاريخيّة للظواهر التي تقاربها، وهي تتدرّج بهذا الخطاب من القراءة التاريخيّة إلى دعم ملاحظاتها بجملة من المعارف النظريّة السوسيولوجية والإنثروبولوجية، مستنفرة في سبيل التفسير كلّ خططها الهجومية ذات الطابع المعرفي العلمي. ولذلك أقامت الكاتبة تمييزاً واضحاً بين نظام الفتوى الكلاسيكي الذي نشأت ضمنه مؤسّسة الإفتاء لتلبي حاجة المجتمع إلى تشريعات تتجدّد بتجدّد السّياقات، وبين نظام الفتاوى المعاصرة. فـ"وعي المجتمع تغيّر"، وإن كانت الفتاوى توهم بأنّ هذا "المجتمع لم يتغيّر"، وتستدل الكاتبة بأمثلة واضحة على أنّ هذا الوهم غير صحيح. فقد حدثت تغييرات عميقة في المجتمع وقيمه وتصوّراته دون أن يتفطن المجتمع نفسه إلى حدوث ذلك.

وتفسّر جويرو ذلك التغيير بدور الوسائط التي غيّرت طبيعة الفتوى ووظائفها وعلاقة المفتي بالمستفتي، مرتكزة في تحليلها على خلفية لسانية سيميائية تحدّد للخطاب أركاناً، إذ يتغيّر معناه بمجرّد تغير ركن من تلك الأركان، ومن بينها قناة الاتصال بين الباث والمتقبل، أي الوسيط الذي أصبح وسيطاً افتراضياً رقمياً بعد أن كان في مرحلة أولى شفوياً ثم انتقل إلى المكتوب. ولم تكتف الباحثة بهذه الخلفيّة لتقنع بأطروحتها بل وظفت إلى جانب ذلك ما رسّخته علوم الميديا من كون أيّ تغيير في طبيعة الوسيط يغيّر حتماً من طبيعة الرسالة ووظائفها.

وهي تعتبر أن تحوّل الفتوى من وسيط كتابي إلى وسيط سيبرانيتيقي وحده كافٍ لكي نعِيَ حجم التغييرات الناتجة عن مثل هذا التجديد. ذلك أنّ للتقنيات الحديثة دوراً محدداً للقيم التي تتفاعل لإنتاج معنى ما: وتستدل جويرو في هذا السياق بكون المرأة المستفتية التي لم تكن تشارك في الفضاء العام في النظام القديم، صارت اليوم تشارك في الفضاء العام من جهة حضورها، لكنّها تستبطن مفاهيم الحريم في ذهنيّتها، ممّا يجعل إدراكها قاصراً عن استيعاب دلالة تلك المشاركة في الفضاء العام من جهة، ومن جهة ثانية تلك المشاركة عبر الفضاآت السيبارنيتيقية تجعلها أكثر حضوراً وجرأة وتفاعلاً في طرح الأسئلة التي لم تكن قادرة من قبل على طرحها على الفقهاء أو المفتين، ذلك أنّ التقنيات الحديثة تجعلها أكثر تفاعلاً وأكثر نجاعة في التعبير عن همومها، ولكن هي لا تدرك في الآن نفسه أنها في الوقت الذي تستعمل فيه الوسيط الحديث تعتقد أنها تنتمي إلى عالم قديم، مع أنّها في الواقع بنت هذه التقنيات الحديثة.

وينتج عن هذه المفارقة ضرب من الانفصام يجعل من هذه الفتاوى المعاصرة اغتيالاً لحرية هؤلاء النسوة اللواتي تغيّر واقعهن ولكنّهن بقين قاصرات عن إدراك هذه الحقيقة. إنّه إذن الوأد الجديد...، إنّه الوأد الجديد الذي لا يتمّ بمعاول الحفر اليدويّة وعبر الرّدم في التراب أو رمال الحجاز، بل عبر آخر صيحات التقنيات الحديثة وعبر هذه الصحراء الرقمية ورمالها الهوجاء، فهو وأد سيبرانيتيقي تسهم فيه النساء بقصورهن عن الإدراك.

لقد ضربت الكاتبة أمثلة دقيقة بيّنت من خلالها مأساوية هذا الوأد الذي تجاوز وأد المرأة إلى وأد الإنسان عموماً، امرأة كان أم رجلاً. فحين تكون مشاعر الأفراد وحاجاتهم الواقعيّة في وادٍ ويكون ذهنهم واعتقادهم عن ذلك الواقع في وادٍ ثانٍ فإنّ هذا الانفصام لا يمكن إلا أن يكون بمثابة التراجيديا الحزينة لإنسان يئد نفسه بنفسه، بتقديسه مؤسّسة تاريخيّة يعتقد وهماً أنّها فوق التاريخ، وأنّها توفّر حلولاً لكلّ مشاكله، في الوقت الذي أثبتت الكاتبة أنّها تزيد تعقيد مشاكله تعقيداً. فإذا الموؤود هو العقلُ، وإذا العقلُ لا جنس له. إنّه بالنّسبة إلى الكاتبة عقل المسلم العاجز عن أن يفكّر داخل التاريخ ويدركَ تاريخيّته وشروط حريّته من الوهم. إنّ الإنسان المسلم شقيّ يعيش تقابلاً حادّاً، تزيد مؤسّسة الإفتاء تأجيج نيرانه الحارقة.

الخاتمة: النص المفتوح

أكّدت زهية جويرو على تاريخيّة مؤسسة الإفتاء وكشفت تناقضاتها وتهافتها، ورسمت من خلال بعض المقدّمات النظريّة ملامح مشروع في نقد العقل الفقهي الجامد بمعاول علوم الإنسان الحديثة وأحدث المقاربات العلمية واللسانية. فبالنسبة إليها ليس القرآن حكراً على القدامى ولا على الذكور، بل هو نصّ مفتوحٌ، وقد تقدّمت نحوه لا لتحرر النساء فقط، بل لتحرّره من قراءة حرفية تأسّست كما لو كانت قد نزلت من السّماء.

لا شكّ في أنّ القارئ يجد نصّ محاولتها هذه أليفاً؛ فيه من ابن خلدون شيء يبدو واضحاً من خلال اعتماد الكاتبة في أوّل كلّ مقال على التمييز بين المناطق الحضرية والبدوية وربط القيم بالمناخ ونمط الاقتصاد وبنى الاجتماع، وفي نصّها من ابن رشد وعقلانيته التي لا تنسف فكرة السّبب الأوّل باعتباره المحرّك الذي يحرّك ولا يتحرّك، وفي نصّها من مقاصديّة الفكر الإصلاحي وروح تجديد الطاهر الحدّاد، وامتداد لما ترسّخ للمرأة التونسية من مكاسب فرضت على المجتمع بقوة القانون، فاستبطنتها النساء ولم يعد بالإمكان التراجع عنها.

لقد اختارت جويرو أن تفكك أحكام المواريث ونظام القوامة والولاية، وهي أحكام ما تزال في القوانين التونسيّة مظهراً من مظاهر اللامساواة بين المواطنين وشكلاً من أشكال التمييز بينهم على أساس الجنس. والحقيقة أنّ في طرقها هذا الموضوع بالذات شجاعة، لأنّ كلّ متابع للشأن التونسي يلاحظ السخرية والعنف الرمزي الذي تتعرض له المثقّفات والباحثات منهن تحديداً كلما دافعن عن مبدأ المساواة في المواريث.

فمن هذه النّاحية لا تُعدّ الكتابة في هذا الموضوع مساهمة في تحرير الموؤودة من ثقافة القبور والوأد فحسب، وإنّما هو تعبير عن موقف سياسي وتموقع خدمة للعدالة والمساواة التامة بين الجنسين. ولكنّ اللافت في هذا الكتاب والباعث على التأمّل والحيرة هو ضرب من المفارقة الشديدة بين أمرين:

- أوّلاً: استدعاء الكاتبة القيم الكونية ومنظومة حقوق الإنسان من جهة.

ـ ثانياً: مطالبتها بالعودة إلى رسالة القرآن والدعوة إلى إسلام حديث لا يعارض العصر والمساواة والحقوق الإنسانية.

فهل غفلت جويرو عن هذا التعارض، وهي التي وظفت في متن نصّها الأنثروبولوجيا التشريعية وفكّكت البنى الميثية التي تقوم عليها أحكام الشريعة الإسلامية؟ وهل خفي عنها أنّ علوم الإنسان وحقوقه وقيم الحداثة قامت على قطيعة إبستيمولوجية مع نظام المعرفة القديم، وهي التي ميزت بدقة بين نظام المعرفة القديم وخصائصه ونظام المعرفة الحديث وخصائصه؟ هل هذا التمييز الجوهري الذي تبنته زهية جويرو وورثته عن المصلحين الأوائل وعن مصلحي تونس وعن التيار التأويلي النسوي الإسلامي ذلك التمييز بين النصّ القرآني ورسالته المطلقة وبين التفسير الذي رسّخته مؤسّسات السلطة الذكوريّة الثقافيّة ذات الوجه الديني، هل هذا التمييز قناعة حقيقيّة لدى الكاتبة المطّلعة على فلسفة القانون وأنثروبولوجيا التشريع والميدولوجيا، والتي وظفت مفاهيم كلود ليفي ستروس عن أنظمة القرابة ودلالات الطوطم أم هي خطة للإقناع ومنهجية مقصودة للتدرج بالمتقبّل نحو أفق أرحب لتخليصه تدريجياً من مخاوفه ومقدّساته الواهمة؟

لقد خيّرت زهيّة جويرو ألا تمارس نقدها التاريخي على النصّ القرآني، وسكتت عن تدوينه وترتيبه وجمعه وجلّ الظروف التاريخيّة المحيطة بعملية تحويله إلى دفتي كتاب. فلمَ اختارت أن تبقي قضيّة تاريخيّة النصّ القرآني خارج مدار حجاجها وإقناعها؟ ألأنّها تكتبُ لقارئ مخصوص لا ترغب في أن تصدمه بل تسايره في مسلّماته لتقنعه من داخل المنظومة نفسها بكونه عالقاً في الوهم؟[7]

اختارت جويرو أن تنزل نصّها ضمن الفكر الإصلاحي المقاصدي التأويلي، ولا أعتقد أنّها في قرارة فكرها تقف عند تلك الحدود، فهي تصرّح بما تشاء، والنصّ يشي بها كما يشاءُ. وقد حدّث نصها في مفاصل عدة من الكتاب عن جرأتها الفكرية العميقة وثورتها الجذرية على ثقافة وسمتها بكونها تحمل عقلاً مختلّ البنيان.

لقد تبدّت لنا جرأتها وهي تراجع مفهوم العقل التشريعي مثلاً وتسلّط عليه ضوء ما توصّلت إليه الأبحاث فتكشف عن نموذج الخضوع الذي تسير في فلكه تصورات ميثية ورموز تكوّن مجتمعة بنياناً يستمد منه القانون مشروعيته. بدت لنا زهية جويرو في تلك الصفحات من الكتاب[8] منهالة بفأس التحطيم لا على المؤسسة الفقهية كما تدّعي في تقديم كتابها وفي تمهيداتها النظرية وخواتم مقالاتها، بل على رأس تلك المؤسسة بأسرها، أي النماذج الأصلية المحركة لها الكامنة في المخيال والمعبّر عنها بمعتقدات: "الله" و"الوحي" و"النبوّة". إنّ عطف الكاتبة على تلك المعارف العميقة بقولها في خاتمة عملها: "لقد جاء هذا المسار التاريخي المزدوج ليلغي الفرصة التي أتاحتها رسالة الإسلام لصالح المرأة بما جاء به القرآن من قيم كان يمكنها أن تحدث تغييراً في واقع النساء وفي الصورة التي يحملها عنها الوعي الجماعي، وليستبدل تلك الفرصة بتكريس نقيضها عبر الاستئثار بسلطة التفسير والتشريع والإدارة، وكان لمؤسّستي الفقه والفتوى دور كبير في ذلك المسار". إنّ الحديث عن مسار تاريخي مزدوج وعن رسالة الإسلام التي جاء بها القرآن وعن الله الذي أنصف المرأة، إنّ هذه العبارات بالنسبة إليّ ارتكاسات تعمّدتها الكاتبة لأنّها اختارت لنصّها وظيفة تعليمية بيداغوجية لتخرج قراءها المحتملين من ظلمات الجمود إلى نور التفكير.

ذلك التفكير الذي تودّ أن تعلّمه للمتلقيّن كان يمكن أن يكون أكثر جرأة لولا أنّ الكاتبة، في رأيي، قمعته وجعلته تفكيراً خاضعاً بدوره لعقلانية ابن رشد وابن خلدون والطاهر الحداد وابن عاشور. فإذا بالموؤودة تنتفض على جمود مؤسّسة الإفتاء لتقع بين يدي عقلانيّة يسيّجها الإيمان فلا فكاك من براثنه ولا هروب.

فهل بإمكاننا حقاً أن ننجو من الوأد إذا لم نحطم الصنم الأكبر ونردم بقاياه تحت الأنقاض؟ هل بإمكاننا أن نتحدّث عن حقوق الإنسان ولا حديث أمام الله إلا عن عبودية مطلقة للواحد الديان؟ هل الموؤودةُ بإمكانها أن تحيا إذا لم تراجع هذا النصّ القابل لكلّ تأويل والذي أنتجته هو بدوره ثقافة أبويّة لم تقسّم السلطة بعدل؟

إذا الموؤدة انتفضت على الفتاوى وعلى فقه النساء فعليها أن تختار بينَ المغامرة بكلّ شيء والحريّة وبين الإبقاء على ظلّ قاتلها والموت بين طيّات ثقافته الذكوريّة المجحفة. إنّ الرضا بسياسة المراحل لا يحرّر القتيلة بل يؤجّل دفنها، فإذا امرأتنا الجديدة ما تزال امرأة الشريعة والقرآن، وإذا هي إذن بين فكي بنيان الفحولة نفسه.

وخلاصة القول إنّ المؤلّفة كتبت قراءتها للنصّ القرآني، ويقتضي ذلك أنّها تعتبر القرآن نصّاً مفتوحاً قابلاً لتعدّد القراءات، فتحدّت بذلك التأويل الحرفيّ الظالم لحقوق النّساء في ما يخصّ المواريث والقوامة والولاية على وجه الخصوص، محاولة سحب بساط الشرعيّة القرآنية من تحت أقدام عقل فقهي يدّعي الألوهيّة في حين أنّه بشري مصنوع في التاريخ. ولذلك اعتبرنا أنّ "الوأد الجديد" ولادة جديدة لا ريب فيها، فامرأة جديدة هي امرأة تكتبُ تاريخها بيديها، هي وليدةٌ من رحمِ الموؤودةِ. فليت هذه المرأة الجديدة تتنفس خارج كلّ نصّ فتستمدّ حقوقها من عقد بشري لا إلهي، وحينئذ يتمّ ميلادها الجديد بحقّ.


* نشر هذا المقال في: "النسوية الإسلامية"، إشراف وتنسيق بسام الجمل وأنس الطريقي، سلسلة ملفات بحثية، قسم الدراسات الدينية، منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.

[1]ـ زهيّة جويرو، الوأد الجديد: مقالات في الفتوى وفقه النساء، دار مسكلياني للنشر، ط1، 2014

[2]ـ زهية جويرو، القصاص في النصوص المقدسة، قراءة تاريخية، دار المعرفة للنشر، 2007

[3]ـ زهية جويرو، الإسلام الشعبي، دار الطليعة، 2007

[4]ـ زهية جويرو، الإفتاء بين سياج المذهب وإكراهات التاريخ، دراسة في فتاوى ابن رشد الجد، بيروت، دار الطليعة، 2014

[5]ـ الوأد الجديد، ص 10

[6]- الوأد الجديد، ص 15

[7]ـ ولذلك تقول الكاتبة في مقدمة الكتاب: "إنّ أسلم طريق يسمح للنساء أن يدركن حقهن في العدالة والمساواة هو إقامة الدليل من داخل النصوص التأسيسية نفسها على أنّ هذا المطلب لا يتنافى معها ولا مع القيم الإنسانية والتوحيدية التي تمثّل جوهر الإسلام"، الوأد الجديد، ص14. وقد بررت ذلك بـ "انعدام المنظومة السياسية والاجتماعية والقانونية وحتى الثقافية المناسبة لإقامة نظام جديد في أغلب البلدان الإسلامية يسمح للنساء بأن يتمتعن بحقوقهن كافة"، وبـ "هيمنة الوعي والمعرفة الفقهيين".

[8]- الوأد الجديد، الصفحة 64 وما بعدها مثلاً.