بانوراما الفضائيات الدينية


فئة :  مقالات

بانوراما الفضائيات الدينية

لا نعثر، في الغالب الأعم، على دراسات جامعة مانعة عن المشهد الإعلامي الفضائي في المنطقة العربية. ما يتم تداوله هنا أو هناك لا يخرج كثيرا عن كونه تقارير عامة أو مقالات عابرة أو انطباعات، تنقصها المقاربة الشمولية، وتفتقر إلى التناسقية لمعالجة ظاهرة مستجدة حقا، لكنها باتت تؤثث جزءا كبيرا من الفضاء التداولي العام.

في دراسة لنا منشورة، حاولنا أن نعالج بعضا من هذه النقائص، بنظرة عامة، ثم بتقييم للخطاب المروج، لنخلص إلى نتائج بدت لنا في حينه على الأقل، قابلة لأن تكون أرضية للبحث. ولما كان الغرض هو التحسيس بأهمية معالجة هذه الظاهرة، ظاهرة الفضائيات الدينية، يبدو لنا من الضروري التوقف هنا، من جديد، عند بعض العناصر الكبرى التي تطبع سياقاتها وخلفياتها وطبيعة الرسالة التي تثوي خلفها:

أولا: ليس ثمة من شك في أن الطفرة التكنولوجية التي طاولت مجال الإعلام والمعلومات والاتصال في العالم، قد أفادت المجال الإعلامي العربي كثيرا، إذ مكنته، في ظرف من الزمن وجيز، من الانتقال من واقع الندرة الذي كان يعيشه هذا المجال، إلى واقع من الوفرة في الأعتدة والبنى والشبكات، وفسحت لفاعلي المجال إياه من ولوج عوالم جديدة لم تكن متاحة من ذي قبل. ولعل نموذج خلق تلفزيونات فضائية، بتكاليف متواضعة وسبل ربح مرتفعة، لهو تعبير جلي عن هذه العوالم، وعن الجدوى المتزايدة لولوجه من لدن الأفراد كما من لدن المؤسسات.

وعليه، فإن تكاثر الفضائيات العربية، الجامع منها كما المتخصص، وتنوع مضامينها، لا بل وتغطيتها لكل أشكال التعبير، إنما يشي بأن أطروحة تخلف العرب عن ركب موجة التكنولوجيا الجديدة قد باتت مسألة متجاوزة وإلى حد بعيد، أو لنقل تدقيقا، لم تعد بالحدة نفسها التي كانت سائدة زمن "الندرة التكنولوجية" التي لازمت المشهد التلفزيوني بكل بلدان العالم.

لقد بات الفضاء الإعلامي العربي يموج بالقنوات الفضائية، حتى تجاوز عددها في ظرف وجيز الألف قناة، بين جامع ومتخصص، بين عمومي وخاص، بين ثقافي/معرفي وترفيهي، بين خدمة عمومية شاملة وقطاع خاص يتغيا الربحية ويتطلع بنهم للإشهار، وهكذا.

لقد ظهرت القنوات الفضائية الدينية العربية، في هذا المناخ، فازداد عددها هي أيضا، وتنوعت التوجهات داخلها، بين عمومي وخاص، وبين جامع ومتخصص، وتعددت مرجعياتها، واختلفت انتماءاتها، وتباينت أنساقها التحريرية، على الرغم من أنها تنهل من نفس المعين، معين الدين، جزئيا بالنسبة للقنوات الجامعة، وكليا بالنسبة للقنوات الدينية المتخصصة.

ثانيا: ومع أن التباين قائم وثابت بين الفضائيات الدينية العربية، فإنها مع ذلك تبقى محكومة ببنية برامجية تطغى من بين ظهرانيها (حسب مستويات تخصص هذه القناة أو تلك) المواد التفسيرية/التحليلية، والمواضيع التلقينية ذات الخاصية التعليمية، والمحتويات الإخبارية، ناهيك عن برامج الترويح من إنشاد وأذكار وأمداح وما سواها.

وتبقى محكومة أيضا، على الرغم من التباين إياه، برسالة موحدة، تجد ترجمتها (في العديد من الفضائيات) في التطلع للحفاظ على الهوية العربية/الإسلامية، في المراهنة على ضمان الأمن الروحي للمتلقين، وفي العمل على تقديم مادة دينية لا تنشد الغلو والتطرف، بل تتطلع إلى نشر قيم التواصل والتسامح. بالمقابل، فإن مراهنة بعض من الفضائيات الدينية على تقديم المذهب والطائفة على الدين، وتماهي بعضها مع الثاوين خلفها تمويلا أو إشرافا، قد حد من مفعول الرسالة إياها، حتى وإن لم يقوضها بالكامل.

ثالثا: إن نجاح هذه الفضائية الدينية أو تلك، في خدمة الرسالة أعلاه، لا يجب أن يسائل من زاوية نوايا القائمين عليها، أو من خلال النظر في دفاتر التحملات التي صمموها، بل يجب أن يطرح إشكالية الموسطة الإعلامية للدين، باعتبارها (الموسطة أقصد) هي الآلية التي نستطيع من خلالها تلمس علاقة الإعلام بالدين، لا سيما في الجانب التلفزيوني للمعادلة.

إن الموسطة الإعلامية للدين، والتي تعبر عنها الفضائيات الدينية بامتياز، إنما تبين بأن العلاقة بين الإعلام والدين هي علاقة تنافر وتضاد، على اعتبار احتكار المسجد والفقيه "للشأن الديني"، وهي أيضا علاقة تواصل وتكامل، تفتح في المجال واسعا لرواج "الرسالة الدينية"، وتكسير الحواجز وأدوات الرقابة التي انتصبت أمام ذات الرواج لقرون من الزمن عدة.

إن الموسطة الإعلامية التي نؤثرها كمدخل لدراسة ظاهرة الفضائيات الدينية، قد أسهمت كثيرا، ليس فقط في تغيير العلاقة بالديني، باعتبار هذا الأخير إيمانا وعبادة وتشريعا، بل أسهمت أيضا في إعادة بناء المجال الديني كمجال اجتماعي بامتياز، في إطار ما يسمى بالفضاء العام الديني.

ونزعم، من جهة أخرى، بأن هذه الموسطة، وإن فتحت المجال واسعا أمام انتشار الديني، ولا سيما في ظل العولمة وانفتاح الفضاءات الاقتصادية والثقافية، فإنها قد حملت في جوفها معالم تدين "جديد" يرفع لواء الفردانية والشخصنة، حيث لم يعد الدين في ظلها شأنا جماعيا، بل بات شأنا فرديا في تمثله كما في الطقوس المترتبة عنه.

رابعا: مجمل محاور الخطاب الديني في الفضائيات العربية، بات مشكلا على أساس العناصر السابقة. لكنه بقي على الرغم ذلك، محكوما بطبيعة وسياق الرسالة التي كان يقدمها الداعية في المسجد أو الفقيه في المناسبات أو المرشد في اللقاءات وحلقيات التوعية. فبقي في معظمه متمحورا حول الإرشاد والوعظ والفتاوى، ولم يتمثل الموسطة الإعلامية إلا في جزء قليل منه. إنه، بصيغة أخرى، خطاب من على استوديوهات الفضائيات، لكنه بقي محكوما بخطاب المسجد والمناسبة الدينية وغيرها، تماما كما كان عليه الحال زمن التلفزيونات العمومية الأرضية، ذات التغطية المجالية المحدودة.

ولذلك، فلو سلمنا بنجاح عملية الموسطة الفضائية للدين، فإنها بقيت مشدودة في خطابها بما يقدم على الأرض، أعني بوسائط التواصل التقليدية. وهذه مفارقة لا يتم الانتباه إليها كثيرا: غيرنا الحامل وانتقلنا للفضاء، لكننا بقينا مشدودين لنفس الخطاب الذي ألفناه زمن الندرة التكنولوجية؛ أي المساجد واللقاءات المباشرة و"الوعظ وجها لوجه".

خامسا: اعتبارا لما سبق، فإننا نعتقد بأنه بصرف النظر عن الملامح الكبرى للخطاب الديني بالفضائيات العربة، وبغض الطرف عن خصائصه ومميزاته، فإن الثابت أن هذا الخطاب إنما يحمل في جوفه عناصر عدم التخصص وضعف الدراية وتقلص مستوى المهنية، ليس فقط، لأنه يبقى رهين الحامل التقليدي لتمرير الرسالة، ولكن أيضا لأنه يتعامل كما لو أنه بإزاء جمهور محلي أو وطني، في حين أن البث يخضع لمعايير عالمية، من المفروض أن تصاغ الرسالة إياها على أساسها؛ أي أن تصاغ الرسالة وفق مرجعية دينية، لكن مرجعية مبنية على القيم وليس على العبادات والطقوس...إذا لم يكن لأبناء الدين الواحد والمذهب الواحد، فعلى الأقل عندما تصاغ الرسالة "للآخر"، أجنبيا كان أو متبنيا لديانة أخرى.

وهو أمر يسهل التأكد منه من خلال استقراء ومتابعة المضامين الأساس للخطاب الديني الذي تروجه الفضائيات العربية، سواء الجامعة أو المتخصصة، وتبني عليه رسالتها آناء الليل وأطراف النهار.

سادسا: نحن إذن بإزاء خطاب ديني، يرفع لواء الوعظ والإرشاد والفتوى، ولا يختلف كثيرا عما يقدم بالمسجد أو بالمنابر التقليدية المعتادة، ولكأننا لم ننتقل حقا للبث عبر الأقمار الصناعية أو كوابل الألياف البصرية. ونحن أيضا وبالآن ذاته، بإزاء خطاب جديد، رفعه دعاة شباب (بمصر تحديدا وببعض دول الخليج)، لا يرفع ذات اللواء، بل لا يقدم الدين كزجر وتخويف وترهيب، بل كمحبة وسلوك ثم كمعاملة. وهو ما ثوت خلفه ظاهرة الدعاة الجدد.

إلا أن تركيز هؤلاء على مبادئ الخلاص الفردي، وركوب ناصية المزاوجة بين ضرورات الدين ومتطلبات الحياة، فيما يشبه أدبيات التطوير الذاتي المشاعة بالشركات والمؤسسات الكبرى، إنما يشي بأننا بتنا حقا بإزاء تسليع للدين وخوصصة للتدين، إذ أضحت البرامج الدينية سلعا يجب ترويجها والرفع من منسوب ربحيتها، وبات المقدم/الداعية منشطا تلفزيونيا، العبرة من تقديم برنامجه تقاس بحجم جمهوره، وما يدره من إيرادات على القناة، وليس بمضمون أو أهمية ما يقدم من مواد ومضامين.

بالتالي، فقد بتنا، والحالة هذه، بإزاء خطابين متجاورين، حاملهما المشترك القناة الفضائية:

خطاب تقليدي، مرتكز على الوعظ والإرشاد والفتوى، يثوي خلفه دعاة تقليديون، لا يخرجون عن المتعارف عليه من متن قرآني وسير وما سواهما. وخطاب "حداثي" لا ينهل من نفس المعين، بل يقدم الدين في كونه شأنا فرديا خالصا، لا بل (في صيغة تبشيرية واضحة) في كونه مصدر الخلاص الفردي في الدنيا والآخرة.

إننا إذن بإزاء خطابين متنافرين إلى حد بعيد، في مرجعيتهما وفي فلسفتهما وفي أسلوب عرضهما. وبإزاء نمطين في التدين مختلفين أيما يكن الاختلاف. لكن الذي يجمعهما معا، إنما خاصية ابتعادهما عن السياسة وقضايا الشأن العام، كما لو أنهما يشتغلان في فضاء لا دور فيه للسياسة، ولا تأثير فيه للدين على السياسة.