بُعْدُ الزمن في المعرفة الرافدينيَّة


فئة :  مقالات

بُعْدُ الزمن في المعرفة الرافدينيَّة

الزمن من المفاهيم المهمّة في فهم علاقة الإنسان بالحضارة، ويمثّل مقولة تمتلك جاذبية إلى جانب العدد والمكان؛ لأنّها من المقولات المهمّة في حياتنا المعاصرة، لأنّ الزمن يتوافق مع الظواهر الفيزيائية الفلكية والأرضية، ولكلّ مجتمع إضافاته التي تتوافق مع حضارته، فالزمن ارتبط بتحدي وعي العصر، وسلوك البشر وإدراكهم، وإيقاع الحياة التي يعيشون فيها.

طبعاً هناك في الوقت الحاضر تصورات معقده للزمن: زمن فيزيائي، وزمن نفسي، وزمن موضوعي، وزمن تاريخي، وزمن فني.. إلخ، ولو رجعنا إلى الفهم الفلسفي للزمن، نجد ابن سينا يعرّفه: "هو مقدار للحركة، إلا أنه ليس له وضع، إذ لا توجد أجزاؤه معاً، وإن كان له اتصال، إذ ماضيه ومستقبله يتّحدان بطريقة هو الآن"، هذا التعريف للزمن يقف بين التصور العلمي المعاصر: - ما بعد نيوتن- وهو زمن تواصلي يمتاز بالتجانس واللارجعة، ويخضع للقياس بوحدات متساوية القيمة، وقد يتغلغل هذا الفهم للزمن في الحضارة المعاصرة برمّتها، أمّا التصور القديم الذي يجهل الزمن بل لديه (حساب للوقت)، وهذا يظهر في الفهم الرافديني للزمن كما في تصور بلاد الرافدين الذي من الممكن أن نستدلّ عليه من الحفر في الوعي البابلي المتجلي في المفردات اللغوية في اللغة الأكدية، وفي النصوص الأسطورية وغيرها التي كانت مجالاً للحفر الأركيولوجي الذي يعود بنا إلى البداية الموغلة في القدم، فقد تركت تأثيراً عميقاً في الذهن البشري بشكلٍ عام، وذلك لما قدّمه المنجز الرافديني في تدوين التاريخ من إبداع شكّل رهاناً حضاريّاً بامتياز، فقد كانت البداية مع البابليين- وهم أحد شعوب وادي الرافدين وحلقة مهمّة من تطور الحضارة الرافدينية- باختراع نظام الأرقام المُسمّى (الأعداد)، الذي استُعمِل قديماً في بلاد الرافدين، وهو نظام مكتوب بالمسمارية، وقد دُوِّن هذا النظام على ألواح طينية رطبة باستعمال مُرقِمات من القصب، ثم يتمّ تعريض الألواح للشمس لكي تتصلب، وهي طريقة التدوين الشائعة آنذاك. فعنده كانت السنة 360 يوماً موزعة على 12 شهراً قمرياً، وكان الأول من نيسان هو اليوم الأول من السنة مع الاعتدال الربيعي، أمّا حساب اليوم فقد كان اليوم في بابل يبدأ مع غروب الشمس ويتألف من النهار (أو مو اورو umu umu) والليل (Musu) ويقسم الليل والنهار إلى ثلاثة أجزاء: ثلاثة في النهار وثلاثة في الليل، وتقسم هذه الوحدة الزمنية بدورها إلى جزأين بشكل (beru)، وكان الفلكيون يطلقون على هذه الوحدة الزمنية (الساعة المزدوجة)، وكلّ (ساعة مزدوجة) تتألف من 30 (us)، وهي الوحدة الزمنية الصغرى التي تعادل أربع دقائق. ويبدو أنّ هذا التصور الذي عرضنا له هنا عند البابليين مرتبط أيضاً بالسومريين، إذ تمّ تقسيم اليوم لديهم إلى 12 ساعة نهاراً و12 ساعة ليلاً، وتقسيم السنة إلى 12 شهراً. وكان نظام الأعداد عندهم مع قاعدة العدد 60. ومن هذا المنطلق قاموا بتقسيم اليوم إلى 12 ساعة ضوء و12 ساعة ظلام. والغريب في التقسيم أنّ الساعات كانت مختلفة بأوقاتها حسب فصل السنة، إلى أن استقر عند البابليين الذين ورثوه بدورهم من السومريين.

وفي سنة 1800 ق.م بدأ حكام الدولة البابلية القديمة يُدخلون مقياس الزمن الثابت. وقد لعب كُلٌّ من إله الشمس (شمش) وإله القمر(سين) عند البابليين دوراً كبيراً في انتخاب وحدات تقسيم الزمن إلى أوقات متعاقبة. وعليه فإنّ الشعب في بلاد الرافدين كان أوّل من بدأ بتطبيق سنة قمرية مرتبطة، أي بمعنى الترابط والتزامن بِمكوّناتها مع السنة الشمسية التي صارت بعد ذلك نموذجاً للشعوب المجاورة، ومن أشهرها التقويم اليهودي المعروف بـ(الشمس القمري) الذي ما يزال يُستعمل إلى الآن، كذلك أيضاً تقاويم الكنائس الشرقية عند احتساب أيام الفصح والقيامة، وعليه أوجدوا من 2000 سنة ق.م حلاًّ لأجل التطابق الأفضل مع فصول السنة، وهو ابتكار الشهر الثالث عشر، والذي سمّوه (إيتي ديريخ) أي بمعنى وجوب التمديد والإطالة، وهي كلمات سومرية أو أكدية قريبة التشابه مع الآشورية الحديثة.

يبقى طول الليل والنهار على وفق التقويم متغيراً، ويتذبذب بحسب تبدّل الفصول، كما أنّ قيمة الوحدات الزمنية كانت تتغير كذلك، أي وحدة زمنية حقيقية، وإذا كان الجوهر نغماً فهل كانت هذه شائعة الاستعمال؟ والى أي مدى؟ وللجواب على ذلك نقول: إنّ آليات البابليين في قياس الزمن تنوّعت، فقد كانت هناك أنواع مختلفة من الساعات التي اعتمدت في القياس منها: الساعة المائية bib dibbu وهي عبارة عن إناء ذي ثقب صغير يتسرّب منه الماء، وكان وزن الماء المتسرّب من الإناء يُقاس بوحدة وزن تعرف بال (من)، وكلمة (من) ما زالت حاضرة في تعاملات الناس اليوم في بعض القرى بما يوازي 12 كغم تقريباً، وقد عرف البابليون أيضاً نوعاً آخر من الساعات، وهو إناء مثقوب يغطس في الماء خلال فترة محددة من الزمن، ثم هناك قطعة صغيرة مصنوعة من عظم الفيل على هيئة الموشور فيها قوائم عددية وأسماء الأشهر، إلا أنَّ العلماء يتفقون - كما يقول كلشكوف صاحب كتاب "الحياة الروحية في بابل" - على أنّ الأرقام تشير إلى طول الليل والنهار في أوقات مختلفة من السنة، وقد تمّ قياسها وتحديدها باستعمال ساعة متساوية القيم (ساعة حقيقية). من هذا العرض يظهر الجهد الذي بذل من قبل الإنسان البابلي في تحديد طول السنة والأشهر القمرية، والعلاقة بينهما بدقة متناهية.

إلا أنَّ الزمن هنا زمنٌ يأخذ بُعْداً حسابيّاً، وله مؤشر على وعي به بوصفه مفهوم امتداد بحت مجرد، بل في علاقة الملحمة بتيار الأحداث، التي تساهم بها سلسلة من الأجيال، عبر ارتباطها بحدث مهم.

ومن هنا فقد اشتهر البابليون برصدهم الفلكي وبالحساب، وقد تجلى هذا الجهد في رصد الأحداث، وتطور التدوين من خلال حدث يدور عن مواقع النجوم والكواكب، وغروب الشمس وشروقها... ، ومساعدهم في ذلك نظام العد الستيني وهو نظام عدٍّ موضعيٍّ موروث من الحضارتين السومرية والأكدية. ولم يكن أي من الأنظمة السابقة لهذا النظام أنظمة موضعية.

بدأ ظهور هذا النظام في 3100 ق.م. ويعزى إليه الفضل بوصفه أول نظام عد موضعي حتى الآن، حيث أنّ القيمة تعتمد على الرقم موضعه من العدد. وكان هذا النظام تطوراً مهما للغاية؛ لأنّ القيم اللاموضعية تتطلب رموزاً خاصّة لكل قوة (كالعشرة، والمائة، والألف، وما إلى ذلك)، وهو ما يجعل الحساب أكثر صعوبة. هذا الحساب لا يعني أنه يقارب الزمن بمعناه المعاصر أو الفلسفي، لكن كان بداية البحث في الزمن والجهد الذي بذلته الإنسانية في هذا المضمار، وقد جاء في قصة الخليقة البابلية:

جعل نانا يستطيع، وأوكل له الليل

جعله حلبة لليل وليحدد الأيام

أن اطلع كلّ شهر دون انقطاع مكللاً بالتاج

في أول الشهر عندما تشرق على البلاد

استطع بقرنيك لتعيين ستة أيام

وفي اليوم السابع يكتمل نصف التاج.

يبدو أنّ هذا النص الذي يمثّل وعياً أسطوريّاً يعكس الجهد الذي قام به الإنسان في مراقبة تحولات القمر التي جعل منها مناسبات رصد الأيام وتعيينها؛ لهذا نجد أنّ adannu التي تترجم أحياناً (زمن) لا تعني في الواقع إلا كلمة (أجل) بمعنى مدّة محدّدة من الوقت، بمعنى لحظة في نهاية مدّة زمنية محددة، وأصل الكلمة (شيء ما مقدّر أو محدد)، ويبدو أنّ البابلي كان يدوّن حياته المعاشة بكلّ تجلياتها المادية؛ إلا أنها أيضاً تتضمن معتقداته التي سوف تظهر آثارها فيما بعد أثناء حديثنا، فهذه الحياة المادية تظهر في الكلمات الآتية:

Eburu- حصاد / umsu- قيظ / butu ـ حر / kussu ـ برد

أمّا في أجزاء اليوم فهناك المفردات الآتية: bar muss uartسهرة معتمة، وmuss uartu sat سهرة الانبلاج، وsihit samsi بزوغ الشمس.

ويظهر أيضاً الطابع المادي في الفهم البابلي للأزل والخلود dayu-daritu تتفق مع: (إلى الأبد / على الدوام / مدى الدهر).

كما يرصد أو. واد في كتابه "الأصول السومرية للحضارة المصرية" بقوله: المخطوطات الرافدينية، وقوائم الملوك الرسمية الشعب الأقدم حضارة معروفة، إلا أنّ كلشكوف يرصد تطور ظهور التقويم في بلاد الرافدين، فيذكر الأمثلة الآتية:

ـ التقويم الذي كان في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، حيث جرت محاولة لوضع تقويم تاريخي ثابت، فبعد فتح مدينة أيسن على يد ريمسن ملك لارسا، وذلك في السنة الثلاثين من حكمه، اعتُبِر هذا الفتح حدثاً عظيماً، وقد أرّخ الملك السنوات الثلاثين التي تلت هذا، إلا أنّ هذا التقويم أُلغِي بعد موت الملك وسقوط لارسا.

ـ وقد ترك السومريون تأثيراً عميقاً على التقاويم التاريخية والمصطلحات الزمانية البابلية، وابتداءً من العصر الكاشي انتشرت في بابل صيغة ابتدعها لتاريخ الأحداث بسنوات حكم الملوك. ومن الأمثلة في الوثائق الحديثة نسبياً "اليوم في الخامس والعشرين، شهر أيلول، العام الرابع عشر من حكم فلان..."

ـ في التقويم الآشوري هناك صيغتان: الأولى تعتمد على العصر الآشوري القديم على حسب (الإيبونيم) أي الشخص الذي تُسمّى باسمه القبيلة أو البلد، حيث كان وثيق الصلة بشيء ما يحدث، ثمّ يصبح اسمه رمزاً لذلك الشيء، ونذكر مثلاً: "شهر تنمارتو: اليوم العاشر، أبونيم سا- حدد- نينو"، وفي نهاية الألف الثاني ابتدأ حساب الزمن في آشور على أساس سنوات حكم الملك مثلاً: "في السنة الثانية عشرة من الحكم اجتزت نهر الفرات للمرة السادسة عشرة".

هذه الأشكال التي عرضنا لها تبيّن التطور التدريجي الذي مرّ به الفكر الرافديني بما يتعلق بالزمن وحسابه، الذي أخذ أشكالاً وصيغاً متنوعة واعتمد آليات، وأُطلِقَت مسمياتٌ لها حضورُها في اللغة، وعكست أيضاً نمط التفكير القديم الذي استمرّ إلى يومنا هذا، وهذا ما شكّل حضوراً مهيمناً على الرغم من تغيرات الزمن الحداثي الذي جاء به العلم.

إضاءات في الفهم البابلي للزمن: من السمات المهمّة للفهم البابلي على الزمن هي:

1ـ الطابع الخطي، وفقاً لهذا الخط يكون نشوء الكون بأحداث مهمّة مثل: ولادة الآلهة، وخلق العالم، وخلق الإنسان، ونزول الحكم من السماء، والطوفان، ويبدو أنّ الزمن في المدة المحصورة بين الأحداث الجسام بالنسبة للبابلي يختلف جذرياً عن الفهم الدوري الذي كان معروفاً عند الهنود القدامى، ممّا يعني أنّ فكرة الدورية أو فكرة الخلق المتكرر بلا نهاية (الوجود - هلاك العالم) كانت غريبة عن البابليين حتى أنّ هناك نصّاً يمكن أن يشير إلى الفكرة الدورية.

2ـ الزمن عند البابليين يتّسم بعدم التجانس، بمعنى أنّ الزمن لا يتجسّد الوعي الاجتماعي بوصفه مدّة من الوقت، بل يتوقف كثيراً على الشيء الذي يملأه، فالتفكير الأسطوري لا يعرف الزمن بوصفه مدّة متجانسة، أو تتابع لحظات متجانسة نوعياً، فالإنسان القديم لم يميز بين مفهوم الزمن أو الشعور بالزمن؛ لذلك فإنّ الزمن الاجتماعي يبقى غير متجانس وغير قابل للقسمة إلى وحدات زمنية متساوية القيمة (ونؤكد هنا، ليس متساوية، بل متساوية القيمة كمياً)، وهنا نجد فهماً للزمن بوصفه تجلياً للسعد والنحس، وهذا يأخذ طابعاً سحرياً ما زال حاضراً في الذهن الشرقي القديم والوسيط، وكان لهذا التصور حضورٌ في السيمياء اليونانية والقبالة اليهودية والسيمياء المسيحية والإسلامية. وما يتعلق بمعرفة المستقبل هناك كتب كثيرة.

3ـ هناك ظاهرة في الزمن البابلي، وهي الخيال أو (الفنتازي) في النصوص القديمة الذي يزداد كلما توغلنا في أعماق التاريخ، وتحتل (قائمة الملوك) أهمية استثنائية في هذا المجال، فبعد أن أنزلت الملكية أو الحكم من السماء أصبحت أريدو مركزاً للحكم، وحكم الوليم في أريدو 2800 سنة وامتد حكمه 2600سنة... هذه المدّة الطويلة تبدو خيالية، وقد تركت هذه الطريقة حضوراً في التوراة في تقسيمها للزمن. لكن يبدو أنّ قائمة الملوك التي يعرض لها كريمر في كتابه: "السومريون تاريخهم وحضارتهم وخصائصهم" يستعرض فيها نزول الملكية من السماء وتحولاتها بين المدن كما في قائمة الملوك السومرية، كانت بنظر كلشكون: "مجرد تأملات إسكولاستيكية (إعلامية) كمجموعة من العلماء، بل كانت قد صيغت على أسس روايات تاريخية، أي اعتمدت المعلومات والتصورات السائدة عن الماضي، الكامنة في الوعي الاجتماعي، في ذاكرة الشعب"، بمعنى أنّها، شأنها شأن التوراة، كانت عبارة عن ميراث شفهي مخزون في الذاكرة الجمعية، تمّ جمعه وتدوينه.

4ـ هناك إذا ثلاثة مستويات من الزمن في الفكر البابلي القديم:

أ- الزمن التاريخي: هو الماضي، الذي يتذكر عنه الشعب بيانات موثوقة نسبياً، إليه تقود خيوط السلالات الملكية، إنّه الزمن الذي كان يدرك بالدرجة نفسها نوعاً ما، التي يدرك بها الزمن الذي كانوا يعيشون فيه.

ب- الزمن المحيطي: هو الماضي الذي يقف عند حدود الذاكرة الاجتماعية (بالقرب من المحيط)، الذكريات عن هذا الزمن ضبابية مشوشة، ولا يستطيع الناس تصور تتابع الأحداث والعلاقات بينها تصوراً جيداً. زمن المعجزات الخارقة وغير مألوفة، زمن أبطال الملاحم والحضارات.

ج- الزمن الأسطوري: هو الزمن الذي يقع خارج محيط الذاكرة الشعبية، إنّه زمن الآلهة (زمن مقدّس)، وهنا من الصعب تحديد ما إذا كانت هذه الحادثة قد وقعت قبل الحادثة الأخرى أم لا؛ لأنّ الأحداث في هذا الزمن تسبح في هلام، وبتعبير أدق، تقع خارج الزمن، وهذا الزمن يمتدّ من موعد نزول الحكم من السماء لأول مرّة حتى أعماق التاريخ، حيث خلق العالم والإنسان زمن البدايات.

نستخلص من كلِّ ما ذكرناه أنّ مقولة الزمن ـ على وفق الرؤية الرافدينية - ما زالت حاضرة في عمق الفكر الشرقي والمنظومات الدينية التي مازالت تعتمدها في منح رؤيتها استمرارية.

 

1ـ كلشكوف، الحياة الروحية في بابل، ت: عدنان عاكف حمودي، المدى، ط1، دمشق، 1995

2ـ صموئيل نوح كريمر، السومريون، ت: فضل الوائلي، المركز العلمي العراقي، ط1، بغداد، 2012

3- قصي منصور عبدالكريم، الجذور الأولى لعلمي التاريخ والجغرافيا في الفكر الرافديني القديم، موقع.