بمناسبة ذكرى رحيل محمد أركون : محمد أركون وتوسيع فضاء النقد في الفكر العربي


فئة :  مقالات

بمناسبة ذكرى رحيل محمد أركون : محمد أركون وتوسيع فضاء النقد في الفكر العربي

بمناسبة ذكرى رحيل محمد أركون :

محمد أركون وتوسيع فضاء النقد في الفكر العربي


انطلق محمد أركون في بناء مشروعه في نقد العقل الإسلامي في نهاية الستينيات، وشخَّص عناوين نقده الكبرى في مصنفه نحو نقد العقل الإسلامي، (الصادر بالفرنسية سنة 1984)، ثم في باقي مصنفاته التي اعتنى فيها بما كان يسميه الإسلاميات التطبيقية، وهو المجال الذي سعى فيه لتدشين القول النقدي في نصوص الفكر الإسلامي المختلفة والمتعددة، النصوص السياسية والفقه والتصوف، ومختلف منتوجات العقل التراثي والذاكرة التراثية، منطلقاً من أن الإسلاميات التطبيقية عبارة عن مباحث تروم مُحَاصرة نظام النظر الإسلامي الوسيطي، وكَشْفِ منطقه الداخلي ومحدوديته النظرية والتاريخية. وهي تتأسس في أعماله بواسطة عمليات الاستيعاب الإيجابية لمكاسب العقل المنهجي المعاصر، حيث تتيح هذه المكاسب في نظره إمكانية إنجاز فتوح نظرية جديدة في مجال معرفة الذات في مظاهرها المختلفة.

يفسح أركون المجال في أعماله لمفاهيم الفكر النقدي، باعتبارها وسائل وأدوات مناسبة لمحاصرة الفكر القطعي النصي واليقيني بمختلف صوره، وذلك لتعزيز وترسيخ صور العقلانية في النظر، والنسبية في المعرفة، والتاريخ في الوجود.

يتجه العمل في مشروع نقد العقل الإسلامي، لإبراز أهمية الروح النقدية الحداثية في الفكر المعاصر وفي العالم المعاصر. ولهذا تنحو مقارباته منحى جذريا، وهي ترتب بدورها نوعاً من القطيعة مع آليات في النظر عتيقة، آليات ما تزال مهيمنة على أساليبنا في التفكير وفي العمل، في العالم العربي مشرقه ومغربه، وفي مختلف أرجاء الفضاء المحكوم بسياج العقل الإسلامي كما تشكل في عصورنا الوسطى.

وعندما نتابع بعناية منجزه النظري الذي استوعبته مؤلفاته العديدة بالفرنسية والإنجليزية، وفي بعض الترجمات العربية التي قدمت للأعمال المذكورة، نجد أن العقل الإسلامي في نظره لم يعد محصوراً في مجال محدد ونهائي. لقد انحل في آثار نصية وممارسات تاريخية، يستوعبها موضوع أشمل هو الخيال الاجتماعي والتاريخي.

إن المشروع النقدي الذي أسسه المرحوم محمد أركون، وهو يقارب مجال الفكر الإسلامي محاولا تركيب دراسات تطبيقية يقوم فيها بتجريب واستثمار أكبر قدر ممكن من الوسائل المنهجية، من أجل قراءة جديدة لبنية العقل الإسلامي، وهي قراءة لا تكتفي بنسخ المفاهيم، بقدر ما تولدها وتوسعها وتحولها في ضوء ملابسات وشروط إنتاج العقل الإسلامي.

لقد كان محمد أركون يجتهد في فتح نوافذ جديدة في التعامل مع الحدث الإسلامي، حيث ينتج المقالة الأنثربولوجية، ويحاول التفكير في بعض جوانب الظاهرة من زاوية لسانية، كما ينفتح على طرق وأساليب المقاربة السوسيولوجية، وهذا الأمر منح أبحاثه المقاربة المركبة.

يعد مجال العقل الإسلامي في منظور محمد أركون حدثاً لغوياً تاريخياً، متعدد الأبعاد والدلالات. وقد عمل محمد أركون في دراسته التراثية على رفض طرق التأريخ التمجيدي، كما رفض الطرق التي تمارس التقطيع التاريخي المعروف والمنجز من طرف أصحاب الفرق والطبقات والملل والنحل. إنه في جملة واحدة يتخلى عن التاريخ المعتمد على مسلمة التعالي والقداسة المستقرة فوق التاريخ. وتسلح بدل كل ذلك برؤية تنفتح على التأريخ الإشكالي، مستعينة بمفاهيم تنتمي إلى حقول معرفية متعددة، من أجل محاولة الإمساك الدقيق بمجال العقل التاريخي، كما تبلور في المجال الإسلامي منذ تجربة المدينة، إلى تجارب الإخفاق المتعددة التي عرفها ومازال يعرفها العالم الإسلامي حتى يومنا هذا...

لقد أدرك محمد أركون جيداً أهمية التحولات المنهجية الأساسية التي تجري في مجال الفكر المعاصر ابتداء من الخمسينيات، خاصة التطورات التي حصلت في اللسانيات وفي التاريخ والأنثربولوجيا والفلسفة. وحاول في ضوئها التفكير في كيفية الاستفادة من مكاسبها المنهجية دون أن يتناسى شروط إنتاج المعرفة العلمية، وشروط إخصاب حقل الدراسات الإسلامية بواسطة استعارة المفاهيم التي يمكن أن تكفل مساهمة جديدة وجيدة في باب قراءة الحدث القرآني...لهذا السبب يحفل مرجع النص الأركوني بأسماء أهم المفكرين المعاصرين، كما يحفل بمفاهيم مستمدة من حقل العلوم الإنسانية مثل رأس المال الرمزي، الزمن الطويل، التقطيع الميثي، التاريخية، الخطاب السيميائي، اللامفكر فيه، المنسي، المكبوت، البنية العميقة، الإبستمي إلخ...يوظف أركون هذه المفاهيم دون أن يستنسخها، إنه يتمثلها، وينتج بواسطتها نتائج جديدة حاسمة في باب الإسلاميات التطبيقية.

لا يستعير محمد أركون المفاهيم المذكورة من باب الافتتان والانجذاب بالمنجزات الفكرية الغربية، إنه يغامر باستدعاء هذه المفاهيم، أو هذه السلطات المعرفية المرجعية من زاوية رغبته في تدشين عهد جديد في التعامل مع الإسلام. إنه يستثمرها ليوسعها ويغنيها ويغني بواسطتها الوقت نفسه حقل دراسة الإسلام والقول الإسلامي.

عندما تحضر سنوياً ذكرى وفاته، نشعر بضرورة مواصلة ما بدأه، وذلك من أجل بلوغ ما كان يتوخى تحقيقه، فقد انتبه إلى حصول تباعد كبير بين الإسلام والظاهرة الإسلامية والتحول المعرفي الذي تأسس وما زال يتأسس في الفكر المعاصر، وهو يريد أن يقيم تصالحاً معرفياً بين الإسلام ومنجزات الفلسفة وعلوم الإنسان، وهو تصالح يرمي إلى هدف نقدي كبير هو خلخلة الموروث بلغة جديدة، لغة لا تكتفي بالحماسة الإيديولوجية الرافضة، بقدر ما ترمي إلى تأسيس خطاب جديد حول الحدث الإسلامي، خطاب يلغي أزمنة الوصف والتكرار والمديح والتاريخية الرومانسية، ويعيد القول الإسلامي (مجال تمظهر الخيال الإسلامي) للتمكن من اكتشاف لغة جديدة ورؤية جديدة في الوجود. التصالح هنا إبعاد للغربة، ووسيلة للتجاوز، وأفق لكونية معرفية بلا حدود.

وإذا كنا نشعر بكثير من الأسى بسبب فقدانه، فإن عزاءنا مرة أخرى، يكمن في النوافذ والبؤر التي ولَّدتها أعماله في الفكر العربي، حيث تواصل أعماله مواجهة كثير من التصورات وكثير من صور الضجيج الإيديولوجي التي تهيمن اليوم على أغلب المواقف السائدة عن التراث وعن التراث الإسلامي بالذات.